الشهيد خضر عدنان شهيداً: قتلوا المناضل المثال!




الأردن العربي – الأحد 7/5/2023 م …

روح الشيخ خضر عدنان المقاتلة التي لا تلوِّثها اعتبارات السياسة والفصائل والانتماءات والمصالح هي بالذات ما أرّق الاحتلال. كان شيخاً تقياً منفتحاً وعاملاً خبّازاً يعمل في مخبزه في بلدته عرّابة، وناشطاً مناضلاً يحمل بكالوريوس في الرياضيات الاقتصادية ويعطي دورات مجانية لطلاب جامعة بيرزيت في رام الله.
2023-05-02
* صورة للشيخ خضر عدنان مع أطفاله بعد نيل حريته في 17 نيسان 2012 وذلك بعد أن خاض معركته ضد الاحتلال بالإضراب عن الطعام 66 يوما …

ربما استيقظ معظمنا بعد عطلة عيد العمال متثاقلين، وأغلب الظن أن أكثرنا كان يحضّر قهوته ويقلِّب في هاتفه لاهياً عندما ظهر على الشاشة وجه الشيخ خضر عدنان. بضع كلمات تحت الصورة تقول أنه استشهد بعد 87 يوماً من الإضراب عن الطعام. يا لتقصيرنا، يا لتفاهة يومياتنا وغباء جدالاتنا العقيمة.

ما أحزن هذا الصباح الذي يحوي خسارة على هذه الدرجة من الفداحة. ليس هيناً خسران مناضل ثوري انشغل فعلاً، لا قولاً، بناسه وشعبه وبالأسرى والمقاومين، في أيام عَزّ فيها الفاعلون وكثر القوّالون، كان هناك من يحرّم على نفسه الراحة لمعرفته بوجود مظلومين وضعفاء يحتاجون إلى صوته.

استشهد الشيخ الأسير خضر عدنان، ابن بلدة عرّابة جنوب غرب مدينة جنين والقيادي في “حركة الجهاد الإسلامي”، في سجون الاحتلال فجر يوم الثلاثاء في 2 أيار/ مايو 2023 عن عمر 44 عاماً، اعتُقل خلالها 13 مرة، فأمضى ما مجموعة 8 سنوات من عمره في الأسر، وقد كان سلاحه الوحيد خلال سنوات أسره جسده ولحمه الحيّ، إذ خاض بنجاح 5 إضرابات عن الطعام أفضت إلى إطلاق سلطات الاحتلال سراحه، قبل أن تعاود اعتقاله، حتى كان الإضراب السادس والأخير الذي بدأه يوم 5 شباط/ فبراير 2023، وارتقى به شهيداً.

* خضر عدنان محمولاً على الأكتاف بعد إطلاق سراحه في 12 تموز يوليو 2015 (أسوشيتد برس) …

رفض خضر عدنان اعتقاله الاعتباطي، وهو كان أسيراً بلا تهمة ولا محاكمة، في اعتقال إداري اعتادت سلطات الاحتلال اللجوء إليه بشكل ممنهج عقاباً للمناضلين، فيُحتجز الأسرى لفترات تصل إلى ستة أشهر قابلة للتجديد لعدد غير محدد من المرّات، ودون أن يعرفوا تهمتهم أو تتم محاكمتهم. أما عدنان، الذي لطالما اعتبر الحرية قيمته العليا التي لا يقبل المساس بها، فقد كان مستعداً لاستخدام جسده سلاحاً أخيراً في وجه من يسعون لسلبه أي نوعٍ من الحرية، وهو القائل “لم نعتد إلّا أن نكون أحراراً”. ينقل عنه محبوه وعائلته أنه قال قوله هذا بالفعل أيضاً، فكانت حياته كلها مصداقاً لسعيه الدائم إلى الحرية، لنفسه ولكل أبناء شعبه. لم يكن يقاتل لنفسه فحسب، بل من أجل الجميع.

كل الأجواء المحيطة باستشهاد الشيخ خضر عدنان تؤكد موته اغتيالاً، رغم مناشدات زوجته المتكررة للتحرك لإنقاذه والتحذير من احتمال وفاته بدون أن يُستجاب لندائها حتى استشهاده.

يومَ خاضَ الأسير هشام أبو هواش إضرابه عن الطعام وحيداً، وقف الشيخ خضر عدنان في وسط ساحة سوقٍ في رام الله حاملاً صورة الأسير ومنادياً لنصرة معركة الأمعاء الخاوية. نادى أولاً على “الشباب والبنات”، أبناء فلسطين المستقبل، ونادى على أصحاب المحلات والمتسوقين.

“يا من تبحثون عن الأرزاق، هناك من يبحث عما هو أثمن من الأرزاق. يبحث عن حريتنا وعزتنا وكرامتنا. الكرامة لا تُشترى ولا تُباع، بل تُنتزع انتزاعاً. الأسير، بأمعائه الخاوية، يبحث عن شرفي وشرفك… لماذا نترك هشام؟ ولمن نترك هشام؟ … لوحوشهم؟” ثمّ يشكر عدنان كلّ من تحرك لإنقاذه ويضيف “لا شكر لكل مقصّر ولا عذر لكلّ مقصّر”. يشرح خضر عدنان في تظاهرته وحيداً أن هدف الأسرى هو الحياة، لا الموت، ويؤكد “لا نريد إخوتنا وأبناءنا محمولين شهداء”، وإن كانت الشهادة شرفاً. هذا هو المنطق النضالي للشهيد خضر عدنان، ألّا يُترك أسيرٌ يناضل في معركة حريةٍ تعني الجميع ليموت وحيداً، أن يُعلي الصوت ولو كان وحده لا يملك سوى صوته وسط ساحة سوقٍ في يوم عادي آخر…

هذه الروح المقاتلة التي لا تلوِّثها اعتبارات السياسة والفصائل والانتماءات والمصالح هي بالذات ما أزعج الاحتلال وحرض غضبه على الشيخ. لقد كان الاحتلال مصرّاً على كسرِ عزيمة خضر عدنان و”تأديبه” على تمرّده على أساليبهم العقابية، اعتقالاً بعد آخر. لم تنفع أكثر محاولاتهم حقارة بثني الرجل عن متابعة نضاله، فكان أن اغتالوه بالإهمال المتعمَّد، وسط قطع زيارات العائلة عنه في الأيام الأخيرة، والامتناع عن نقله إلى أي مستشفى مدني.

الشهيد خضر عدنان هو أول أسير يرحل في معركة فردية للإضراب عن الطعام، وبرحيله ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 237 شهيداً، منذ العام 1967 حتى اليوم.

وقد كانت الطبيبة لينا حسان، رئيسة الهيئة الإدارية لجمعية أطباء لحقوق الإنسان، زارت الأسير قبل أيام من استشهاده ونقلت عنه أنه كان يشعر بخطر الوفاة يقترب، قائلة: “أصابته قبل أيام من فحصي له حالة تقيؤ بدون توقف وأغمي عليه وتراءت له صورة والديه وهما متوفيان وحدّثاه ونطق بالشهادة، ووصف لي مشاعر الموت. للأسف لم نستطع منع هذه الكارثة، وأنا ألقي بالذنب على مصلحة السجون، ولكن ليس فقط عليها بل أيضاً على جميع الأطباء في المستشفيات المدنية الإسرائيلية التي وصلها خضر عدنان وقرروا إعادته إلى عيادة السجن على الرغم من معرفتهم بأن عيادة السجن لا توفِّر الرعاية الصحية اللازمة، كيف يمكن لطبيب قرر إعادة مُضرِب عن الطعام بهذا الوضع، النوم، أين ضميره المهني؟”. وهو ما أكدته المتحدثة باسم نادي الأسير الفلسطيني أماني سراحنة، حيث أنّ كل المستشفيات الإسرائيلية المدنية رفضت استقبال خضر عدنان حتى بعدما ساء وضعه الصحي، فاحتجز الشهيد عدنان على مدار الفترة الماضية في زنزانة عيادة سجن الرملة!

* غرافيتي على احد جدران غزة …

كل الأجواء المحيطة باستشهاد الشيخ خضر عدنان تؤكد موته اغتيالاً، رغم مناشدات زوجته المتكررة للتحرك لإنقاذه والتحذير من احتمال وفاته بدون أن يُستجاب لندائها حتى استشهاده. وقد قالت رندة موسى، زوجة الشهيد، كلمة بليغة جبارة أمام بيت العائلة في عرَّابة: “هذا ما كان يريده خضر، أن يكون حياً بينكم في كل وقت. أن يكون داخل نفوسكم في كل وقت”. واعتبرت أن بيتها لن يُفتح للعزاء، لأن شهادة زوجها “فخر وتاج على الرؤوس”. وقد وجّهت رسالة لاذعة للفصائل الفلسطينية المختلفة، معاتِبة كثراً ممن لم يصدِّقوها إذ حاولت إقناعهم بأن زوجها يموت، وهو ما كان الشهيد يردده دائماً حين يذكر بأن الأسرى المضربين عن الطعام “هم أبناء الجميع: السلطة، والمعارضة، واليسار واليمين”…

***

كتب الأسير الشهيد خضر عدنان وصيته في اليوم الـ58 لإضرابه عن الطعام. خطّ كلماته الأخيرة في زنزانته في سجن الرملة، وجاء فيها: “الحمد لله رب العالمين أنّ وفقني للإضراب عن الطعام للحرية (…) أبعث لكم بكلماتي هذه وقد ذاب شحمي ولحمي ونخر عظمي وضعفت قواي من سجني في الرملة الحبيبة الفلسطينية الأصيلة…

ولعائلته قال: “سامحوني على أي تقصير في جنبكم وأنا أغادر هذه الحياة الدنيا، ولكن تأكدوا أنني ما شُغلت عنكم بإذن الله إلا الواجب”.

خاتماً “سلامي لسادتنا ذوي الشهداء، والأسرى، وتحياتي لهم ولكل الأحرار والثوار(…) يا شعبنا الأبيّ، أبعث لك هذه الوصية تحية ومحبة، وكلي ثقة برحمته تعالى ونصره وتمكينه، هذه أرض الله ولنا فيها وعدٌ منه، إنه وعد الآخرة، لا تيأسوا، فمهما فعل المحتلون وتطاولوا في احتلالهم وظلمهم وغيهم فنصر الله قريب، ووعده لعباده بالنصر والتمكين أقرب. دعواتكم أن يتقبلني الله شهيداً مخلصاً لوجهه الكريم”.

* خضر عدنان في مخبزه في بلدته صانعاً الخبز…

***

الشهيد خضر عدنان هو أول أسير يرحل في معركة فردية للإضراب عن الطعام، وبرحيله ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 237 شهيداً، منذ العام 1967 حتى اليوم.

لقد كان خضر عدنان زوجاً وأباً لتسعة أطفال يحبونه، أكبرهم يبلغ من العمر 14 عاماً، وشيخاً تقياً منفتحاً وعاملاً خبّازاً يعمل في مخبزه في بلدته عرابة، وناشطاً مناضلاً يحمل بكالوريوس في الرياضيات الاقتصادية ويعطي دورات مجانية لطلاب جامعة بيرزيت في رام الله. لقد كان أنقى أصناف المناضلين المؤمنين بجدوى نضالهم وعطائهم دون مقابل، وقد اغتاله الاحتلال الإسرائيلي الذي يسميه العالم “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، بكامل ترسانته العسكرية والحكومية والقانونية، في خرق سافر لحقوق الإنسان لن تلتفت إليه الدول الكبرى والمنظمات الدولية العظمى. لقد كان خضر عدنان رجلاً واحداً بيدين ملطختين بالطحين وكان الاحتلال كثيراً ذي أذرع متطاولة أمامه. إذاً نعرف جيداً من كان البطل ومن كان الوحش..

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.