مسارات أردنية … مسار الميسا .. بداية المدنية على جبال بلا قمم (صور) / عبد الرحيم العرجان
جبال بلا قمم سمراء كالبراكين، كانت ملاذاً للإنسان الاول لإنشاء المدنية والاستقرار في البادية الاردنية. أم الخبايا وبداية التاريخ.
بعد أن فرغنا من مخيمنا قرب سد راجل تسابقنا وأشعة الشمس الاولى على متن سيارات الدفع الرباعي نحو سد القطافي لكسب الوقت قبل ان يشتد الحر، مجتازين العديد من العوائق ببراعة القيادة والمحاورة بطرق حرة غير معبده تعتمد على مهارة السائق وتوجيهات قائد الرتل بالتعامل مع تباين الارتفاعات ومدى قساوة التربة.
القطافي
بلغنا غايتنا سد القطافي بعد قيادة ٤٠ كلم سفاري ودخولنا مرحلة انقطاع شبكات اتصال الجوال معتمدين بترحالنا على ترسيم المسار وتطبيقات التموضع وجهاز جارمن للملاحة الارضية، وبعد افطارنا على جسم السد الركامي ابتدأ مسارنا الراجل نحو جبال مايتلاند ميسا المنسوب اسمها لموثقها الطيار البريطاني في بدايات القرن الماضي ١٩٢٦ م، مجتازين القاع على مد البصر كثير الشعاب والروافد شدني مدى نقاء تربته والتي من الممكن استخدامها بصناعة الصلصال واجود انواع الخزف والمنتجات التذكارية، وللشمال منه بئر بذات الاسم وكذلك طود عظيم.
جبال الميسا
مكان يثير الدهشة لجبال سمراء غطاها البازلت كالبراكين بمعدل ارتفاع مائة متر بين القمة والقاعدة، تشدك تفاصيله واي طريق تسلك لبلوغ قمته من بين صفائح وكتل صخرية لا تحتاج لادوات خاصة للتسلق، فأول ما شاهدناه عند القاعدة منزل او مستودع مرصوف لم يتجاوز ارتفاع مدخله المتر الواحد والموثق بتقرير التنقيبات بأدق تفاصيله.
وعلى القمة الجرداء كان الذهول من هول مشهد الطبيعة وكيف تشكلت بذكاء، فإن تركت لنفسك عنان الخيال لآلاف سنين خلت سوف ترى الحمم تتساقط من السماء او براكين تثور وتشعل الارض ناراً، وهذا ما يريد ان يغنم به مخرج أفلام سينمائية في حال اهتدى للمكان او منتج برامج وثائقية بتقرير مختلف يبهر العالم، كما هي ارض السيول والفيضان بفصل الشتاء فلا ملاذ منه الا لاطراف الجبال.
قمة محصنة محدودة المساحة أحيطت بأبراج ومدافن اسطوانية وسواتر صخرية بمنفذ وحيد يوصل إليها وجدت بها البعثات الاثرية التي لم تتنبه للعمل فيه إلا قبل أعوام، لصعوبة التضاريس وقسوة المكان، فعثروا على قواطع حجرية لرؤوس سهام وحراب وادوات راضّه ومزالق طحن للحبوب، إلى جانب مدافن اسطوانية ضخمة وبيوت كأن ساكنيها غادروها بالامس القريب جمعت بطراز بنائها بين الحجارة العامودية والمسطحة دون تشذيب او طين.
وهذا الجبل واحد من عشرين طود موثق علمياً بالمسوحات الاثرية صعدنا منها سته الا أنه كان اكثرها تكاملا لمستوطنة بشرية أنشئت قبل ما يقارب ٨٠٠٠ عام و التي قد تكون بداية المدنية والاستقرار الاجتماعي المتجاور وبناء القبيلة بمكان ثابت مع انه خلى من النقوش التي وجدنا العديد منها على الجبال الاخرى التي صعدناها ضمن مسارنا البالغ ١٤ كلم.
وادي الصبحي
وبعد إتمام صعود ستة جبال ومسير جزء من القاع أتممنا رحلتنا الى وادي الصبحي مقصد الرعاة وخلوة البداوة بفارق ارتفاع مائة متر عن وادي القطافي بتنوع فطري وغطاء نباتي اكثر كثافة مختلف كلياً عن شقيقه الذي كنا فيه، فهو مرعى معروف بجودة وطيب لحوم ماشيته ولذة انتاجها من لبن وجميد وسمن، و مما يشدك هذا المدى من التنوع باحتوائه على رمال وردية كرمال وادي رم حملتها الرياح من حسما وصحراء الربع الخالي، نبت برطوبتها فطر الطرثون المعروف بعلاجه لعقم الرجال المحفز لزيادة عدد الحيوانات المنوية بان يتم تناول لبّه طازجا مع العسل، وبين التلال كانت متعتنا بركوب الزلاجة الرملية متنافسين من يتوازن عليها لمسافة اطول.
اتخذنا مخيمنا بين شعاب دافئ يقينا شيئا من برد أيار الجاف ليلا وقد قيل فيه مثل “برد السبل يهد الجبل” وليس ببعيد عن مراعِ الرعاة الذين جاؤوا بشهامة ليتفقدوا بترحاب من نصب خيامه وجاورهم وحديث المكان وخباياه وسبب التسميات فية، ليعودا الينا مع الصباح بكرم اهل البادية على تشارك طعام الافطار بما جادوا به من جبن وسمن بلدي من انتاج ماشيتهم.
الشميسانيات
ودّعنا مضيفينا متجهين بسياراتنا نحو الشرق عبر طريق ترابي موازي لجدران وسناسل حجرية فردية وثنائية متوازية على مدى البصر تختلف كلياً عن المصائد التاريخية وأيضا بفارق ارتفاع ١٠٠ متر وهو الحد الفاصل بين الطبقات الارضية التي تفسخت وانفصلت قبل ملايين السنين بفعل الزلازل والبراكين المعروف بصدع الفلوق.
النبلغ ” الشميسانيات” الجبال الثلاث الوحيدات بالسهل الوردي الممتد شرقا نحو الحدود السعودية بمسافة ١٥ كلم، واجتمعت مع جبال الميسا بما احتوته من نقوش مختلفه عما وجدناه في جبل قرما بتقنية التشكيل من حيث الحفر، فقد استخدم أسلوب الحت والكشط بالخطوط بشكل واضح او محددة الرسم وبعدها مفرّغ بالنقر، ومما شدّ انتباهنا فيها رسم مجموعات لنعام وجمال بالحجر الواحد كانه يشير الى كثافة وجودها في ذلك الزمن ومنها ما كان معتزاً بفروسيته راكباً الخيل وبيده حبل اللجام او ممتطياً الجمل شاهراً رمحه او يراقص بعيره كما هو واضح من حركة الارجل ومن غير المستبعد ان فن الصوت ورقصة الدحية قد بدأت من هناك مستمدة نبراتها من زئير الأسود.
وبعد اتمام صعود الجبال الثلاثة البالغ ارتفاعها ٨٥٠ متر بفارق ١٥٠ متر عن القاعدة وجدنا بالصدفة مكانا ليس ببعيد عنه بعض كسر لقطع فخارية تعود للحقبة الرومانية استدلالاً من اسلوب الحرق.
لنعود بعدها لنقطة بدايتنا قلعة الازرق باتمام رحلة شيقة من المتعه والمغامرة جمعت ما بين ١٧٠ كلم سفاري و ٤٦ كلم سيراً على الاقدام بمراحل مختلفة الصعوبة من المشي والقيادة وخلوة ليلتين باجواء البادية وقد وصلنا فيها لأماكن نادرا من زارها.
التعليقات مغلقة.