جنازة حب ( أحافير في الحب ) –  د. سمير محمد ايوب

د. سمير محمد ايوب  ( الأردن ) – الإثنين 22/5/2023 م …
حين أحبَبْتها، كانت قد سرَت في كلِّ تضاريسي، وحين ضمَمْتها كانت قد صارت جوابا لأسئِلتي، فقد كان لأبجدية عينيها سحرٌ يفوق سحرَ أبجديَّةِ الشفاه. إستقامت قلوبُنا واقتربنا حتى نَسينا أنَّ بيننا حدود، حَمَلنا بعضنا ومَضينا بحبٍّ غيرَ مرتَّبِ الأولويات.



وفي الخمسين بعد ربع قرنٍ منَ الزواج، تعثَّرت أعمالي وقلَّ مالِيَ، فاحْتلَّني ضغطٌ وسكَّرٌ عنيدين، وعناقيدٌ منْ توابع لا تقلُّ عِنادا، تضامَنَت مع أعباءِ ديونٍ استبدَّت بقسوةٍ بيَ هي الأخرى.
لَمْ تعُد تَقرَؤني جيدا كما اعتادت، ولم تَعُد تَفهمُني بصبرٍ كما اعْتَدْتُ. غَدَت عَونا للنَّوائب بدل أن تكونَ عَونا عليها. باتَت مُحتجةً ناقمةً ساخطةً مُتذمِّرَةً نَقّاقةً، لا الوردُ يُرضيها ولا الموسيقى ولا ضَوءُ القمر. كلُّ جمالياتها الباطنية أُصيبَت بالذبحة أوالسكتة، والمُعلَن من تلك الجماليات أُصيبَ هو الآخر بالكُساح وشلَلِ الأطفال.
محتارا سألتُ صديقيَ الشاكي قبل أن يجلس قبالتي على ضفة من ضفاف البحر الميت عصر الأمس: أأقول خانت؟ وتابعتُ دون ان امهله لقول جواب،  إن تكُن قد خانت يا صاحبي، فهي ليست أول مَنْ خان من النساء ولا مِنَ الرجال، ولن تكون الأخيرة بالطبع. فالحياةُ مُكتظة بالخَوَنِ ومُزيَّنةٌ بالخُلَّصِ الأوفياء مِنَ النساء ومِنَ الرجال، أيضا وأيضا.
أغمضَ عينية بكفَّيه وهو يقول بألم غاضب ومُشيحا بعينيه عني: بعد أن أصيب قلبُها بالزهايمر وانتحر عقلُها، تغيَّرَت وسقطَتْ بعضُ أقنعتها حتى بانَ الكثيرُ من حقيقتها، وبِتنا نُقيمُ في فاجعةٍ تُرهقُنا. نُحملِق في عتمِ فراغٍ قبيحٍ مُرتَفِعة جُدُرُهُ، لَمْ نَعُد نُشبه بعضا، ولَم تَعد أصواتنا لنا، بل بِتنا نَتبرَّأ مِن مسؤولية ضجيجها، لمْ تَعد الطرق التي نسلكها واحدة ولا تتقاطع، ولَم تَعُد خُطانا التي شاخَت تلتقي حتى في حوافِّ دِهليز أو زِقاق، هجَرْنا الزمن وصِرنا مع البُعد غُرباء لا نَصلُح للقليل من مراسمِ وداعٍ بائس.
سألته وأنا أناوله فنجال القهوة التي طلبها من النادل: أوَلَم تُحاول لَملَمة الأمور وتَرمِيمها منْ جديدٍ لعلَّ وعسى؟!
قال وهو بعصبية يشعل لفافتة الأولى : لأني ما كنتُ أتمنى أن يموتَ ما تباهَيتُ به يوماً، حمَلْت على عاتقي ما يفوق طاقتي، حاولتُ رغم مُتواليات التَّنكُّرِ، الحفاظَ على شعرة معاوية، فتركتُ حيِّزاً لاستيعاب مضاعفات الخَيبة. ولكن في طريقي لاستعارة شيء من غدٍ سِريٍّ، سقَطتُ في فخاخ أمسٍ حزين، فصرتُ مُكتظا بغضبٍ مُتعدد الأسباب والرؤوس، وأنا المعجونُ بالصبر الجميل ، ما عُدتُ أُتْقِن العِتاب، ولم يَعد بوسعِ قلبيَ أن يَصرُخَ أكثر، ولأني لمْ أعُد أطيق البقاء على قَيدِ الوجع ولا الموت وأنا على قيد الحياة، جِئْتُكَ يا شيخي سائلا عمَّا يُنْجيَني منْ خَيبة الخاسرين بكلِّ وساوِسها، الجريئة منها والمُتسلِّلَة.
في محاولة مني بائسة للمواساة قلتُ: أعرف أنها لعنةٌ كبرى أن تبقى وحيدا بلا شراكة. ولكن ما  يدهشني في الأمر، هو دهشتك من هذا العقوق، لا تتضايق إن لم يحزن عليك أحدٌ، فهذا الفضاء مُثقل بغبارِ النِّفاقِ وأوهامِ الطواويس، وتابعت وانا انظر في عينيه ناصحا: انها مهزلة، إن كنت لا تعلم بأن فصل الخريف يبدأ بالأشخاص لا بأوراق الشجر، ما دامت قد باتت ماضٍ مضى وانقضى، وما تبقى منها صار أشلاءً، والمستقبلُ معها باتَ وهماً، فلماذا كل هذا الحزن يا صديقي؟!
فقال باستنكار مُتَمهِّلٍ: بعضُ الوجع يبدأ من ليلٍ ينامُ عتمُه مُبكرا كلّ مساء، ويترُكُني وحديَ لسهرٍ بلا نِسيان، يُذكِّرُني بالكثيرِ مما بات أشلاءً سفيهةَ الهذيان، ولكن رغم تغيُّرِ بِحاري وكُفرِ مَوْجِها، فأنا لستُ بخائنٍ جِلف أو غدَّارٍ مارقٍ، مُذْ غادَرَتْ بِلا وداعٍ يليق، بقي كلُّ شيءٍ في العَتمِ إلا قلبي، فلَم يَعُد وراءَه شيءٌ إلا الوَراء، وما احتشد فيه من نقصِ مناعةٍ ماليةٍ وصحيةٍ وعاطفية.
مُحتاراً سألتَه عن البديل. فقال: صحيحٌ أنَّني لمْ أعُدْ مُؤهَّلا للحب كما يليقُ بالحب أن يكون، إلا أنَّني مثقلٌ برغبةٍ لمُعاودة مُعانقةِ الحياة منْ جديد. أعرِفُ أنَّ الطريق إلى ذلك طويلٌ ومُتعِبٌ، إلا أنني أعيش  بين كَثرةٍ من قلوبٍ قد أرتَطِمُ بواحدٍ مِنها يُشْبِهُني ودَرْبُه يؤدّي إلى قلبي.
وإن كان لا مناصّ منْ مُعايَشَةِ هذا الواقع المُميت الذي لا يموت، فلا بد من التعامل مع أبوابه المُقفلَة برضا، وما أن يطلَّ َمن البَعيد طيفُها ذاتَ عتْمٍ، سأعْلِنُ رسميا رَحيلها، وبِتَمَهل أستحضر جُثمانَها، وأعدَّ له جنازةً تليق بشيءٍ جميلٍ مِمّا كان بيننا ذات يوم، ثم أتَهيأ كجنديِّ مراسمٍ، ومع لحن الرجوع أسير وراء النعش مُغلقا كلَّ عيوني، وأبْكي بمرارة.
وأعدك وأنا على يقينٍ لن ينضب، بأنني لستُ شَيطانا لَعَّاناً ولا نبيَّاً ببيناتٍ وآيات، أن أضحك بعدَها وأنا أرَدِّد: إنها الحياة، السعادة فيها كوخزِ القَتاد، ولن تاتي السعادةُ بالعدوى أبدا.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.