هل تستحق (دويلة) غزة كل هذا الثمن الفادح؟ / د. ابراهيم أبراش
د. ابراهيم أبراش ( فلسطين ) – الخميس 8/6/2023 م …
جهود مكثفة في القاهرة لتثبيت الوضع القائم في قطاع غزة بعد التزام حركة حماس والفصائل الفلسطينية بهدنة طويلة المدى، ومع تقديرنا لذوي النوايا الحسنة لبعض المشاركين في هذه المفاوضات، إلا أنه في سياق تحكيم العقل والمنطق في قضيتنا الوطنية نطرح التساؤلات التالية: هل الهدنة الآن بعد فشل عملية التسوية وتكثيف إسرائيل لعمليات الاستيطان والتهويد وتدنيس الأقصى… تخدم القضية الوطنية؟ وهل خرجت غزة عن سياقها الوطني وانتهى دورها المقاوِم؟ وهل دويلة غزة التي خططت لها إسرائيل حتى قبل سيطرة حماس على غزة تستحق كل هذا الثمن الفادح، من تدمير المشروع الوطني والانقسام السياسي والمجتمعي وأكثر من سبعة حروب مدمرة على القطاع أدت بحياة أكثر من أربعة آلاف شهيد وآلاف الجرحى والأسرى وحصار القطاع بالإضافة الى إبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس لأن الهدنة كما تريدها إسرائيل تتضمن وقف العمليات العسكرية لحركة حماس في الضفة وداخل 48؟
في تبرير بعض قادة حماس لالتزامها بالهدنة وعدم المشاركة في المواجهتين الأخيرتين يتحدثون عن الواقعية السياسية وتحكيم العقل في موضوع الحرب وحرصهم على أرواح المواطنين وهذا كلام صحيح ولكن، إن كانت عقلانية وواقعية فلماذا الآن بعد سيطرة حماس على القطاع واستقرار الأمر لها بموافقة إسرائيل؟ بينما كانت ترفض كل الدعوات من القيادة الفلسطينية، في عهد أبو عمار وفي عهد أبو مازن، التي كانت تترجاها بالقبول بهدنة ولو مؤقتة؟
فهل قبل سيطرة حماس على القطاع كانت المقاومة، من خلال إطلاق الصواريخ من غزة وبناء الأنفاق التي كلفت مئات ملايين الدولارات وطنية ومشروعة ومقدسة والآن بعد سيطرتها على القطاع والتزامها بالهدنة أصبحت المقاومة مشبوهة وغير وطنية وفي غير مصلحة الشعب في غزة وتغطي على جرائم الاحتلال في الضفة والقدس الخ؟! وبعد أن أوقفت حماس إطلاق الصواريخ انطلاقا من قطاع غزة فما هو دور ووظيفة حماس وفصائل المقاومة في غزة بالنضال الوطني بشكل عام؟ أيضا ماذا لو توقفت المنحة القطرية ومنحة الشؤون الاجتماعية وأوقفت إسرائيل دخول العمال من القطاع وكل أشكال التمويل المرتبطة بمعادلة (الأمن مقابل الاقتصاد، فهل سيعود إطلاق الصواريخ والارباك الليلي؟ وكيف سيفسر العالم ذلك؟
قد يبدو هذه التساؤلات مستفزة بالنسبة للبعض لكونها يثير شكوكا حول هدنة (توافقت) عليها الفصائل الفلسطينية وحول الهدف من وراء المنحة القطرية ودخول العمال من القطاع لإسرائيل، وقد يقول قائل لماذا تشكك بالهدنة، وهل أتريد أن تستمر إسرائيل بقتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم في قطاع غزة؟ ولن تعوز الذين باتوا اليوم من اشد الداعين للهدنة والتهدئة مع العدو الأدلة والبراهين من النصوص الدينية وحتى من القانون الدولي والشرعية الدولية لدعم موقفهم من الهدنة بعد أن كانوا يكفِّرون ويخَوِّنون الداعين لها سابقا.
منذ بداية وجود السلطة وعندما كانت المفاوضات تجري بجدية وكانت إسرائيل تتعرض لضغوط دولية لتنفيذ بنود التسوية والانسحاب من بعض الأراضي المحتلة، كان الرئيس الراحل أبو عمار يناشد فصائل المقاومة بالالتزام بهدنة مؤقتة دون أن يسئ الرئيس للمقاومة أو يخونها ولم ينزع سلاحها، بل كان يناشد الفصائل بالتهدئة حتى لا تستغل إسرائيل عمليات المقاومة وخصوصا العمليات داخل أراضي 48 لتتهرب مما عليها من استحقاقات.
لم يكن يحلو لفصائل المقاومة وخصوصا حركة حماس القيام بعملياتها إلا عندما تكون المفاوضات وصلت لمرحلة حاسمة مطلوب فيها من إسرائيل الانسحاب من أراضي فلسطينية أو إزالة حواجز، وكان رد إسرائيل على هذه العمليات وقف المفاوضات والتوجه للرأي العام العالمي و الدول التي ترعى عملية السلام باكية شاكية بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام وأن أمنها مهدد وأن أبو عمار غير صادق أو غير قادر على ضبط الأمور الخ، ولا تكتفي إسرائيل بتهربها مما عليها من التزامات بل تقوم ببناء الجدار العنصري تحت ذريعة حماية أمنها وتزرع أراضي الضفة بالحواجز وتكثيف عمليات الاستيطان والتهويد وتدمر مقرات السلطة الوطنية، وهي تعلم أن الذين قاموا بالعمليات الفدائية من خصوم السلطة !.
وعندما جاء الرئيس أبو مازن ناشد فصائل المقاومة الالتزام بتهدئة مؤقتة وبشروط مشرفة حتى لا تستعمل إسرائيل الصواريخ التي تنطلق من غزة كذرائع لتدمير ما تبقى من مؤسسات ومراكز السلطة وحتى لا توظفها لبناء مزيد من المستوطنات، ولم تستجب له الفصائل التي كانت تطلق أحيانا صواريخ لا تصيب هدفا ولا تُوّقِع مقتلا بالعد، فقط للتخريب على جهود الرئيس أبو مازن واستجلاب أموال من جهات خارجية معنية بإفشال عملية التسوية و لإحراج الرئيس وإظهاره بمظهر الضعيف، ومع ذلك لم يأمر الرئيس أبو مازن بجمع سلاح المقاومة أو اعتقال مجاهدين وكان أقصى ما قاله إنها صواريخ عبثية، وفعلا كانت، وبعد سيطرة حماس على غزة رفض الرئيس أبو مازن أي صدام مسلح ضدها كما ندد بكل عدوان إسرائيلي على غزة.
لم تستمع حركة حماس وبقية الفصائل المسلحة للرئيس أبو مازن كما لم تستمع من قبل للرئيس أبو عمار، وعندما كانت تضطر للرد على الضغوط الداخلية والخارجية التي تطالبها بالقبول بالهدنة كانت تضع شروطا كالقول بأنها مستعدة للالتزام بهدنة لمدة خمسة عشر عاما ولكن بعد انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي المحتلة عام 67 وإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وكانت تعتبر أن الهدنة مع عدو يحتل الأرض ويدنس المقدسات نوعا من الخيانة ،خيانة الوطن وخيانة دماء الشهداء، وما زالت شعاراتهم بهذا الخصوص مكتوبة على الجدران وموثقة في وسائط التواصل الاجتماعي، فما الذي جرى وصيَّر الحال إلى عكسه؟.
لم تكن سيطرة حركة حماس على قطاع غزة مجرد انقلاب على السلطة وعلى منظمة التحرير والمشروع الوطني ومشروع التسوية بل كان أيضا انقلابا على فكر ونهج المقاومة بمفهومها الوطني وعلى شعارات حركة حماس ذاتها، وبقدرة قادر باتت الهدنة مصلحة وطنية، واغرب ما في هذه الهدنة أنها ملزمة لفصائل المقاومة وغير ملزمة لإسرائيل، وأصبح ناطقون باسم حركات المقاومة يقولون إن فصائل المقاومة ستلتزم بالهدنة ما دامت إسرائيل لا تعتدي على قطاع غزة! وكأن هدف الفصائل فقط الدفاع عن القطاع ولا يعنيهم ما يجري في بقية فلسطين!
وهنا نتساءل بعد 16 سنة من سيطرة حماس على القطاع، هل بات قطاع غزة كيانا مستقلا قائما بذاته وبالتالي يجوز له الاتفاق على هدنة مع إسرائيل بمعزل عما يجري في الضفة والقدس ولا نريد القول بما يجري في فلسطين 48 التي قامت حركات المقاومة أصلا لتحريرها؟ أليست الضفة والقدس أراضي محتلة والعدوان متواصل هناك بشكل أبشع مما يجري في غزة؟ وهل حلت غزة محل فلسطين؟ وهل خرجت غزة من ساحة المواجهة مع العدو وهي التي كانت تاريخيا شوكة في خاصرة العدو؟
ما يجري في قطاع غزة مخطط مرسوم يخدم مصلحة إسرائيل وقد سبق أن تحدثنا عنه مطولا – يمكن الرجوع لكتابنا (صناعة الانقسام النكبة الفلسطينية الثانية– دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2015) وطبعة أخرى عن منشورات الزمن في الرباط المغرب، وطبعة ثالثة عن دار الكلمة في غزة – مخطط يريد اختزال فلسطين بغزة وإنهاء الحالة الوطنية النضالية في الضفة الغربية وغزة، ونخشى أن تؤدي الهدنة لترسيم حدود بين غزة وإسرائيل وبالتالي إخراج قطاع غزة من ساحة العمل الوطني.
إن أية هدنة مع إسرائيل يجب أن تكون في إطار استراتيجية وطنية شمولية وأن تشمل الضفة وغزة، بمعنى أن التزام فصائل المقاومة بالهدنة يقابله وقف الاستيطان في الضفة والقدس ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى مع وجود أفق لحل سياسي عادل، وفي حالة عدم التزام إسرائيل بوقف عدوانها في الضفة وغزة تتحرر فصائل المقاومة من الهدنة.
لو كان هذا الثمن الباهظ مقابل قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في قطاع غزة لكان من الممكن التفكير بالأمر، ولكن وحتى الآن الأمر يتعلق فقط بسلطة ناقصة السيادة ومحاصرة تحكمها حركة حماس، أما أن يصل الأمر لدولة أو دويلة ذات سيادة تتحكم في البحر والجو وفي المعابر فهذا ما لن تقدمه إسرائيل لحماس أو لغيرها إلا بأثمان ستكون أكبر وأخطر مما تم تقديمه حتى الآن وسيؤخذ الثمن من القدس والأقصى والضفة.
وأخيرا، المفاوضات التي تجري في القاهرة منذ أيام ليس من أجل المصالحة والوحدة الوطنية بل لتثبيت هدنة ستكرس الانقسام وتمهد الطريق لدويلة غزة. بموافقة كل الفضائل في قطاع غزة بما فيها تنظيم حركة فتح وتقاسم مغانم السلطة في القطاع بين فصائل غزة، وبالتالي إخراج غزة عن سياقها الوطني، وكل الحديث عن مصالحة وطنية شاملة مجرد ذر الرماد في العيون.
—
التعليقات مغلقة.