لماذا الاشتراكيّة هي الحل اليوم؟ / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – السبت 17/6/2023 م …
أنا على ثقة تامة بأن هناك الكثير ممن سيقرأ عنوان هذه الدراسة سيضحك بقرارة نفسه وهو يقول: هل من المعقول ان الدكتور عدنان عويّد لا زال يؤمن بهذه الترهات الفكريّة بعد أن أثبت التاريخ فشلها على مستوى الممارسة؟. على العموم هي قناعة ربما لا تختلف عن قناعة الذين لازالوا يعتقدن بأن الدين الإسلامي هو الحل لمشاكلنا اليوم, رغم الفشل الذريع الذي أصاب تطبيقاته العمليّة ماضياً وحاضرا. ولكن الفرق بيني وبين من يفكر بعودة الدولة الإسلامية, أن دعاة الحاكميّة ينطلقون من نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من تحتها, فهي نصوص مطلقة غير قابلة للإلغاء والتعديل أو المراجعة. أما دعوتي أنا فهي لا تنطلق من النصوص المقدس, بل من الواقع ومدى ملاءمة الفكر الوضعي لهذا الواقع. فأفكار الاشتراكيّة ورؤاها وضعيّة في معطياتها, وهي قابلة للتعديل والمراجعة وحتى الالغاء إذا اقتضت مصلحة الواقع أي مصلحة الفرد والمجتمع. ولهذا السبب أقول: بأني لا أريد في بحثي هذا أن أقنع جميع من يطلع عليه أن يأخذ به, فالحقيقة نسبية وكل منا ينظر إليها من مصلحته ودرجة ثقافته ومدى اهتمامه بمصالح الفرد والمجتمع. لذلك أقول بأني لا أريد أن أقنع بما جئت عليه هنا, إلا هؤلاء الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة وحريّة الفرد المشروط بالوعي وبالمسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه المجتمع. أي هؤلاء الذين سيتخلون عن أنانيتهم ومصالحهم الفرديّة الضيقة, والنظر والعمل معاً لمصلح الدولة والمجتمع وحب الوطن والسمو به.
في صيف عام 2001وفي العدد (27) من مجلة “النهج” التي كان يرأس تحريرها السيد “فخري كريم”, كان محور العدد فيها (هل للاشتراكيّة مستقبل ؟). وقد ساهم في هذا المحور كل من الكتاب والمفكرين “كريم مروة” و” حسين عبد الرازق” و”الدكتور قدري جميل” و” حامد خليل” و ” مصطفى الحسيني” وكان لي شرف المشاركة في هذا المحور بدراسة تحت عنوان: (الاشتراكيّة قابلة للتجديد والتطور).
لقد بينت يومها في تلك الدراسة المطوّلة بأن الاشتراكيّة – والمقصود بها ” الاشتراكية العلميّة” – قابلة للتجدّد والتطور, كونها تحمل في جوهرها فهما وممارسة, الحل العقلانيّ والمنطقيّ لتجاوز الشعوب المتخلفة والمضطهدة والمستعمرة معاناتها إذا ما توفرت المقدمات الموضوعيّة المتعلقة بدرجة تطور قوى وعلاقات الانتاج, والمقدمات الذاتيّة المتعلقة بالحامل الاجتماعيّ لها, والمسلح بفكر وتنظيم ثوريين هدفهما بناء الإنسان وتقدمه.
اليوم وبعد اثنين وعشرين عاماً على نشر تلك الدراسة, وبعد كل تلك التحولات العميقة والواسعة التي انتابت العالم تحت مظلة النظام العالمي الجديد, وبعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة ذاتها في العديد من الدول التي سارت على الخط الاشتراكيّ في التنمية, وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي, أجد بأن السؤال ذاته (هل للاشتراكيّة مستقبل؟.), لم يزل قابلاً للطرح من جديد, بل وبإلحاح شديد, خاصة بعد أن تكشفت لنا الكثير من القضايا اللاإنسانيّة التي بشرت بها الليبراليّة الجديدة وعالم ما بعد الحداثة.
دعونا بداية نتعرف على أهم ما أفرزه النظام العالمي الجديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وسيادة القطب الواحد.
إن من تابع حركة النظام العالمي الجديد من نهاية العقد الثامن من القرن العشرين, إلى نهاية القرن العشرين, كيف أخذت الولايات المتحدة الأمريكيّة تفرض نفسها على السياسة العالميّة بشكل عام, وعلى سياسات الدول الأوربية ذاتها وخاصة الدول الحليفة لها في المعسكر الغربي وهما فرنسا وبريطانيا بشكل خاص.
مؤتمر يالطا:
قام المشاركون في مؤتمر يالطا في 2 – 3 ديسمبر 1989 طرح ومناقشة النظام العالمي الجديد, بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, وظهرت مفاهيم وعناصر جديدة مختلفة في هذا النظام العالمي الجديد, حيث توقع المتابعون للحركة السياسيّة العالميّة بأن سياسة الاحتواء يمكن أن تُستبدل بتعاون القوى العظمى. وقد يعالج هذا التعاون مشاكل مثل الحد من التسلح ونشر القوات، وتسوية النزاعات الإقليميّة، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتقليل القيود التجاريّة بين الشرق والغرب، وإدماج العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق في المؤسسات الاقتصاديّة الدوليّة وحماية البيئة. ووفقًا لتعاون القوى العظمى، تم توقع دور جديد لحلف الناتو، حيث اعتقد الكثير من المؤتمرين سيكون الحل الشامل لحلف الناتو وحلف وارسو, ومع ذلك، كان من المتوقع أيضاً أن يساعد الوجود العسكري الأمريكي المتواجد في أوروبا على احتواء “العداوات التاريخيّة”، مما يجعل من الممكن وجود نظام أوروبي جديد خارج عالم الحرب الباردة. (1).
بيد أن الذي تم على أرض الواقع غير ذلك تماما, حيث تبين بعد سنوات قليلة من سقوط المنظومة الاشتراكيّة بأن ما سمي بـ” النظام العالمي الجديد”, هو ليس أكثر من حكومة عالميّة دكتاتوريّة سريّة ناشئة تقودها طبقة رأسماليّة متوحشة من خلال نظريات المؤامرة المختلفة. فجوهر الموضوع المشترك في (نظريات المؤامرة) في عالم النظام العالمي الجديد, هو أن نخبة القوة السريّة ذات الأجندة العالميّة, راحت تخطط لوضع خرائط طريق لحكم العالم في نهاية المطاف, من خلال حكومة عالميّة استبداديّة ستحل بالضرورة وفي نهاية المطاف, محل الدول القوميّة المركزيّة ذات السيادة, ومن خلال بروباغندا شاملة تعمل أيديولوجيتها عل تشييد هذا النظام العالمي الجديد باعتباره تتويجا لتقدم التاريخ أو نهايته. لذلك، تبين أن العديد من الشخصيات المعاصرة والمؤثرة على المستوى الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ بأنساقه الفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة, راحت تُنَظِرُ وتبشر بهذا النظام العالمي الجديد, باعتبارها جزءاً من عصابة تقودها الطبقة الرأسماليّة المتوحشة, التي بدأت تعمل من خلال العديد من المنظمات الدوليّة على تنظيم الأحداث السياسيّة والفكريّة والماليّة الهامة، عبر خلق أزمات نظاميّة على المستويين الوطني والدولي، كخطوات مستمرة في تقدمها وتآمرها لتحقيق الهيمنة على العالم. (2).
ماهي أهم التجليات العمليّة للنظام العالمي الجديد.؟:
1- على المستوى السياسي: استغلال الأجهزة الرئيسة والفاعلة لهيئة الأمم المتحدة ومجالسها, وفي مقدمتها مجلس الأمن, ومحكمة العدل الدوليّة. بحيث استطاعت أمريكا عبر تحكمها بأعضاء مجلس الأمن, أن تَقَرِرَ الكثير من القرارات الدوليّة التي تخدم الطبقية الرأسماليّة المتوحشة المتحكمة في الاقتصاد العالمي, بل وعند الضرورة كانت تمارس أعمالاً ذات طبيعة عدوانيّة على الدول الأخرى دون أخذ موافقة مجلس الأمن كما جرى في احتلالها للعراق. أما محكمة العدل الدوليّة فهي سلاح آخر تهدد به الأنظمة التي لا تتفق ومصالحها, تحت ذريعة غياب الديمقراطيّة في هذه الأنظمة وممارسة حكوماتها الدكتاتورية ضد شعوبها.
أو بتعبير آخر نقول: لقد تحولت الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجالسها أدوات ضغط بيد الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العظمى, تمارس عبرها فرض هيمنتها على دول العالم, والعمل على تفتيت الدول المركزيّة, وإجبار من تريد أن تخضعه من الدول لإرادتها بالترغيب أو الترهيب, حتى ولو كانت دولة من الدول العظمى, كما يجري اليوم في محاصرة روسيا من خلال الحرب الروسيّة الأوكرانيّة.
2- على المستوى الاقتصاديّ: نمو الشركات المتعددة الجنسيات وتضخم أعمالها على مستوى العالم, وإدخال دول العالم تحت مظلة أسواقها عبر خلق منظمات وصناديق دولية تمارس من خلالها فرض هيمنتها على دول العالم, وتحويل بلادها إلى أسواق تعمل لخدمة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة التي تحولت إلى طبقة عالميّة, فوجد في هذا النظام العالمي منظمة الجات, أو السوق الحرة بكل أشكاله على مستوى العالم, إضافة إلى وجود السوق الأوربية المشتركة, وصندوق البنك الدولي للأعمار والتنمية, وصندوق النقد الدولي, وغير ذلك من اتفاقات ومعاهدات اقتصاديّة تفرض على هذه الدولة أو تلك لتحول بلادها إلى أسواق تخدم السوق الرأسماليّة العالميّة. هذا وقد أصبح لهذه الشركات المتعددة الجنسيات دوراً في التأثير على سياسة الدول الداخليّة وفرض هيمنتها على اقتصاد وسياسة بلادها, ولا تتوانى عند الضرورة من خلق مؤامرات وانقلابات على أنظمة حكم غير موالية لسياساتها إذا اقتضت الحاجة من أجل ربط دولها بعجلة اقتصاد السوق العلمية.
3- وعلى المستوى الثقافيّ بكل أنساقة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة والدينيّة: راح كباتنة النظام العالمي الجديد يعملون على تحطيم كل قيم الحداثة ممثلة بقيم عصر التنوير, حيث اعتبروا كل هذه القيم قد تجاوزها الزمن, ولم تحقق شيئاً للفرد والمجتمع والدليل على ذلك بنظرهم قيام الحربين العالميتين وما تركته من نتائج مدمرة, متناسين أو مبعدين الأسباب الحقيقيّة التي كانت وراء قيام هاتين الحربين وهي الطبقة البرجوازيّة في مرحلتها الإمبرياليّة.
عبر هذا الهجوم على قيم الحداثة والتنوير بكل أبعادها الفلسفيّة والسياسيّة والدينيّة والفنيّة والأدبيّة, المشبعة بقيم العدالة والمساوة وحب الإنسان وتنميته, راحت تُطرح قيم الموت والنهايات, فالتاريخ انتهت حركته لتقف عند النظام العالمي الجديد, وعلى مستوى الفن طرح موت الفن وكذلك موت الأدب والدين وكل القيم النبيلة, وعلى المستوى الفلسفي تم التركيز على الفرديّة وحريّة الفرد وإرادته في تحقيق ذاته, وضرب كل ما يمت للروح والقيم الجماعيّة, فالفرد وقيمه المصلحيّة النابعة من ذاته هي القيم المطلوبة, وهي قيم لا يحددها العقل بقدر ما تحددها الرغبة الذاتيّة وجوانيّة الفرد وغرائزه, هذا وإن كل الأيديولوجيات التي تدعوا إلى دور ومكانة الكتلة الاجتماعيّة, هي أيديولوجيات ربطت من قبلهم بالفاشيّة والنازيّة والشيوعيّة. وبناءً على هذه التوجهات ساد الضياع واللامعقول والعبث والوجوديّة بشقيها المادي والروحي عالم الفرد, فتذرر المجتمع وتنمذج الفرد, وأصبحت اللذّة والشهوة الغريزيّة هي المحرك لطوح الإنسان وإثبات ذاته, التي فقدت لونها وشكلها وقيمها وكل ما يعبر عن إنسانيتها.
هكذا نرى إذن, باسم الحريّة الفرديّة والإرادة الحرّة, راحت قوى النظام العالمي الجديد تعمل على إعادة هيكلة الإنسان عبر كل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والفكريّة, وفي كل مجالات حياته, من أجل قبول ما خططت له هذه القوى من قبله, وبخاصة زرع قيم الحريّة الفرديّة, وجعل الفرد سيد نفسه وهو وحده من يقرر مصيره بيده.
بعد كل هذا الذي جئنا إليه في تحليلنا لطبيعة النظام العالمي الجديد, وما يصبوا إلى تحقيقه هذا النظام على مستوى الفرد والمجتمع, بل وإعادة هيكلة العالم وفقاً لمصالح الطبقة المتحكمة اليوم بهذا النظام, يأتي السؤال المشروع ليطرح نفسه علينا من جديد وهو:
لماذا الاشتراكيّة هي الحل:
نقول: باسم الحريّة والإرادة الحرة في النظام العالمي الجديد ضاع الفرد والمجتمع وفقد الإنسان إنسانيته وقيمه النبيلة, أي استلب وغرّب وشيّء وهجّن ونمذج, وباسم الديمقراطيّة سيطرت حريّة السوق اللامشروطة على حياة الناس بقيادة زعماء الشركات المتعددة الجنسيات. كما غاب دور الدولة ومؤسساتها والمواطنة والقانون, بعد أن أعيد صياغة مضامينها وفقاً لمصالح قادة هذا النظام, إذ باسمها يمارس ويتحكم كباتنة الرأسمال على حياة الإنسان وتحديد مسارتها الماديّة والروحيّة كما بينا أعلاه. وهذا يعني أن النظام العالمي الجديد أصبح ضد الإنسان وعدوه اللدود. لذك لا بد من البحث عن نظام آخر يحقق للإنسان ذاته ويعيد له جوهر إنسانيته التي استلبها منه النظام الرأسماليّ منذ دخول الطبقة الرأسماليّة مرحلة الإمبرياليّة وصولاً إلى النظام العالمي الجديد. وهذا لن يتحقق برأيي إلا بالنظام الاشتراكيّ الذي حورب سابقاً تحت أجندات دعائيّة عديدة منها: اتهامه بقتل الروح الفرديّة لدى الإنسان باسم تحقيق المصلحة الجماعيّة, ومحاربة حريّة الفرد والمجتمع, وبالتالي اعتبار النظريّة الاشتراكيّة ومفاهيمها, لا تختلف من حيث الجوهر عن الروح الفاشيّة والنازيّة, وكذلك اعتبروا أن الاشتراكيّة تعمل على قتل روح المبادرة والإبداع, بسبب محاصرتها للسوق الحرّة, ففي السوق الحرّة تتجلى ابداعات الإنسان كما يدعون. هذا مع تأكيدهم بأن الفكر الذي تتبناه الاشتراكيّة هو ضد الدين, إن كان من حيث تحجيم دور الملكيّة الخاصة التي يبشر بها الدين, أو من حيث البنية الفلسفيّة لفكرها الذي يدعوا إلى الإلحاد, وعلى هذا الموقف وظفوا لمحاربة الاشتراكيّة التي نعتوها بالشيوعيّة كلاً من الكنسية والجامع, وكل القوى الأصوليّة الجهاديّة.
انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتأثيرها على دعم واستمراريّة النظام الرأسماليّ بصيغة النظام العالمي الجديد:
لاشك أن سقوط المنظومة الاشتراكيّة التي لعبت عوامل كثيرة إن على مستوى داخل الدول المتبنية للاشتراكيّة نفسها, أو على مستوى الخارج ممثلاً بالدول التي حاربت الاشتراكيّة, وخاصة المعسكر الغربي, كان له التأثير الكبير على دعم واستفحال آليّة النظام العالمي الجديد والعمل للسيطرة على العالم. ومن أهم هذه العوامل التي ساهمت في سقوط المنظومة الاشتراكيّة التالي:
على مستوى الداخل:
غياب الحامل الاجتماعي الممثل الحقيقي للمشروع الاشتراكي, إن كان على المستوى الطبقيّ, حيث غابت هنا الطبقة العاملة كوجود مادي بسبب غياب مكونات وجودها, أي التطور الصناعي, فكثير من الدول التي تبنت النظام الاشتراكي أسلوب حياة, هي دول فقيرة متعددة الانماط الانتاجيّة وفي أضعف حالاتها, وبالتالي ساد فيها التعدد الطبقي في صيغته الهجينة, فكان الفلاح عموده الفقري, وهو يمثل قوى طبقيّة فقيرة ومجهلة وجبريّة في تفكيرها, ومعظمها يعمل لدى ملاكين لم يكتسبوا أصلاً ملامح الطبقة الاقطاعيّة الأصيلة في ملكيتها وطبيعة عملها في الدولة والمجتمع, وعندما استلمت الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة السلطة, قامت بإجراء الإصلاح الزراعي, فحولت الجميع الاقطاعي والفلاح معاً إلى ملاكين صغار ومنتجين, وفي بعض الدول ومنها الاتحاد السوفيات عملت الكولخوزات والسوفخوزات, فسادت الملكيّة العامة للدولة في الزراعة وغيرها من قضايا الاقتصاد. فالملكية الأرض الصغيرة الموزع بقانون الاصلاح راحت تصغر مع مرور الأيام, ولم تعد كافية في إنتاجها بسبب تقسيمها بين الورثة, وهذا ما ساهم في دفع الفلاح إلى الهجرة الداخليّة والخارجيّة معا, ففي الهجرة الداخليّة تريفت المدن التي هي أقرب إلى المدن الريفيّة أساساً منها إلى المدينة, فعم الفقر في الريف وانتشرت الأحياء الفقيرة في المدينة. أما الذين هاجروا إلى الخارج, فراحت أموالهم تتجه إلى بناء الفيلات وتعدد الزوجات وبعض المشاريع الاقتصاديّة الصغيرة وخاصة مشاريع البناء السكني. وهنا دخلت الدولة في مآزق كثيرة في الجانب الاقتصادي, في الوقت الذي يتطلب منها النظام الاشتراكي تأمين التعليم والصحة والعمالة المجانيّة, وبناء قاعدة خدماتية مثل تأمين الكهرباء والمياه النقيّة, ومد طرق المواصلات وغير ذلك, وفي مثل هذه الأجواء تَحَمَلَ عبء مسؤوليّة قيادة الدولة والمجتمع ضباط الجيش وبعض النخب السياسيّة المثقفة, وهي بمعظمها لا تمتلك الثقافة الحقيقيّة لمعنى الاشتراكيّة, ولا أسلوب تطبيقها, الأمر الذي أدى إلى سيادة البيروقراطيّة في قيادة الدولة, رغم الانجازات الكبيرة التي حققتها هذه القيادات لشعوبها في هذه الدول على كافة المستويات مقارنة لما كانت تعيشه قبل التطبيق الاشتراكي.
أن شهوة السلطة التي تبلورت عند قيادات الأحزاب الاشتراكيّة, ساهمت في خلق طبقة جديدة من القيادين على مستوى الدولة والحزب, أخذت تهتم بمصالحها الخاصة, ووجدت في السماسرة أو الفئة الطفيليّة, ما يساعدها على سرقة الكثير من أموال الدولة والمجتمع, وبالتالي إدخال الدولة في عالم من الفساد, وهذا تطلب من القوى الحاكمة أن تمارس القمع وإرهاب الشعب كي لا يتحرك ضدها, فانتشر الكذب والتزلف والرياء والمطبلون والمزمرون والانتهازيون, وعبادة الشخص وغياب الديمقراطيّة بعد تحويل المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة إلى حزام ناقل للسلطة, وليس لخدمة الشعب أو المكونات التنظيميّة لهذه المنظمات والنقابات, وبناءً على ذلك تكلست السلطة والأيديولوجيات التي تحملها معاً. وهكذا راحت البلاد تُحكم بالحديد والنار, وأخذت تتسع الهوة بين الشعب والسلطة والأحزاب الحاكمة, الأمر الذي أدى إلى انهيار معظم هذه المنظومة الاشتراكيّة, وبخاصة الاتحاد السوفيتي, العمود الفقري لهذه المنظومة, أو تحول بعضها إلى اقتصاد السوق الاجتماعي, أو اقتصاد السوق ودخول عالم النظام الجديد, ومنها من ثارت الشعوب ضدها وأجبرت الطبقة الحاكمة على تغيير نهجها تحت ضغط الشعوب وباسم التحولات الديمقراطيّة, بيد أن الطبقة الغنية من البيروقراطيين والطفيليين هي من استمر في قيادة الدولة والمجتمع بطريقة أسوأ من الماضي.
على المستوى الخارجية:
لقد لعبت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي, كما عرف سياسياً, دوراً كبيراً في إضعاف المعسكر الشرقي وإنهاكه, وترك دوله في النهاية تبحث عن تأمين لقمة العيش قبل البحت عن خلق تنمية متطورة ومستدامة في بلادها. فالحرب الباردة اتسعت مجالات نشاطها ودعمها الماديّ والمعنويّ بين المعسكرين, وصرفت مليارات الدولارات خدمة لهذه الحرب. هذا وقد عمل قادة هذا النظام على إعادة هيكلة الكثير من الدول وفق عمل السوق الرأسماليّة الحرة لمنافسة الدول الاشتراكيّة وإظهار التقدم التي حققته هذه الدول المدعومة بكل وسائل الدعم المادي والتكنولوجيّ والمهارات, كما جرى لدول النمور مثلاً, أمام دول المنظومة الاشتراكيّة المتخلفة.
فعلى المستوى العسكري: اشتغل قادة النظام العالمي الجديد على تطوير الأسلحة الفتاكة بكل اشكالها وفي مقدمتها السلاح النووي, والأسلحة الذكيّة الموجهة عن بعد, حيث وصلت فكرة هذا التطوير إلى ما سمي بحرب النجوم.
وعلى المستوى الاقتصادي: عملت وبكل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والمعنويّة على تجذير وتعميم اقتصاد السوق الحرة عالميّا, وتعميق دوره في حياة الدول والمجتمعات, والعمل على الدعاية لهذه السوق إعلاميّا وتعليميّاً وثقافيّا وفنيّاً وخلق العديد من المعاهد والمؤسسات التي تشغل لمصلحة هذه السوق واقناع الفرد والمجتمع على تبنيه, بل جعله أنموذجا للحريّة الفرديّة التي سيجد فيها الفرد ذاته وقدرته على الإبداع.
وعلى المستوى الثقافي بعمومه: اشتغل قادة هذا النظام على تجسيد قيم الفرديّة المطلقة التي تدفع الفرد ليمارس حياته وفقاً لغرائزه وأهوائه ورغباته, فلا شيء يحد من هذه الحريّة الفرديّة التي ساهمت في تجميد العقل والمنطق واقصاء القيم الإنسانيّة على مستوى الفرد ذاته وعلى مستوى الكتلة, وما النظريات الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة التي روج لها إلا لتحقيق هذه الغاية. فكل المداس المعروفة بالتفكيكيّة والبنيويّة والسرياليّة والوجوديّة والحدسيّة والوضعيّة والوضعيّة الجديدة .. وغيرها ليست إلا مشاريع فكريّة هدفها إعادة هيكلة البنية النفسيّة والعقليّة والأخلاقيّة للفرد بما يتفق وعالم اقتصاد السوق الحرة. أي نمذجة الإنسان وتعليبه خدمةً لهذه السوق التي أصبحت حتى غرائز الإنسان سلعاً تباع وتشترى فيه.
أما على المستوى السياسي: لقد أصبح حكام البيت الأبيض وبقيّة حكام الدول الموالية له, طيور جوارح في عالم الشركات المتعددة الجنسيات وأسواقها, وبالتالي راح هؤلاء الحكام يستخدمون جيوش دولهم ومنظمات ومجالس الهيئة العامة للأمم المتحدة خدمة لمصالح عالم الرأسمال الاحتكاريّ المتوحش, وهذا ما لمسناه في العديد من دول العالم, وخاصة الدول التي لا ترضي مصالح قادة وأصحاب هذا الرأسمال, وهم الذين شكلوا حكومات الظل في هذه الدول العظمى.
ملاك القول:
أمام كل ما جئنا إليه أعلاه, من حيث قراءتنا وتحليلنا لمنظومة الدول الاشتراكيّة ومنظومة الدول الغربيّة الرأسماليّة, وكيف آلت إليه الأمور في كلا المنظومتين, إن كان من حيث سقوط المنظومة الاشتراكيّة, أو من حيث تشكيل وظهور النظام العالمي الجديد من صلب المنظومة الغربيّة, وكيف استطاع هذا النظام العالمي الجديد ان يعيد هيكلة العالم وفقاً لاقتصاد السوق الرأسماليّ المتوحش بكل تجلياته وأساليب عمله.
إن نظرة أوليّة لما جئنا إليه, يبين لنا أنه, باسم الديمقراطيّة والحريّة الفرديّة في الغرب دمّر الإنسان ذاته وشيء وغرب ونُمذج وذرر, وبالتالي فقد قيمه وسلع, وفسح في المجال واسعا أمام الطبقة الرأسماليّة العالميّة المتوحشة أن تفرض سيطرتها ووجودها ومصالحها على الساحة العالميّة. في الوقت الذي تحولت فيه الكثير من دول المنظومة الاشتراكيّة إلى ذيل تابع لمصالح هذه الطبقة, وراح الفساد وقيم اقتصاد السوق تعمل على تحطيم الإنسان ذاته وكل مابنته الأنظمة الاشتراكيّة على كافة المستويات سابقاً, بل أن الكثير من هذه الدول دخلت في صراعات دامية بين الحكومات وشعوبها حرقت الأخضر واليابس كما يقال.
نعود مرة أخرى لسؤالنا المشروع وهو: (لماذا الاشتراكيّة اليوم؟. ), أوهل الاشتراكيّة صالحة للمستقبل؟.
أقول: نعم هي صالحة, بل هي الحل الوحيد لخروج العالم بشكل عام من هيمنة وسيطرة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة بشكل عام, وهي الحل لعودة الإنسان إلى مرجعيته الإنسانيّة التي استلبت منه وخاصة في دول المنظومة الاشتراكيّة السابقة بشكل خاص.
إن ما تحقق من انجازات عظيمة لشعوب المنظومة الاشتراكيّة على كافة المستويات, رغم كل ما عانته دول هذه المنظومة من الداخل والخارج كما بينا في موقع سابق, لهو أمر على درجة عالية من الأهميّة, ومن الضرورة بمكان العودة للنظر برؤية عقلانيّة نقديّة إلى ما كنت عليه المنظومة الاشتراكيّة قبل انهيارها, وما آلت إليه اليوم. فعندما نقول الاشتراكيّة هي الحل, فقولنا هذا مبني على موقف منهجي عقلانيّ ينطلق من أن الاشتراكيّة بكل عيوبها هي نظام يحمل في طياته الكثير من العدالة لكل مكونات المجتمع, وهو النظام الذي يضع مصلحة الفرد والمجتمع موضع الاهتمام على كافة المستويات الماديّة والروحية معا. وعلى هذا فإن مسألة القول بأن السعي لعودة النظام الاشتراكيّ تشكل اليوم برأيي مطلباً عقلانيّا, وذلك انطلاقاً من فهمنا العميق لدور الاشتراكيّة والديمقراطيّة في تنمية المجتمع وتطوره. فمقولة: (مزيداً من الاشتراكية تعني مزيداً من الديمقراطيّة). لهي أكثر حيويّة وحاجة لعالمنا اليوم. فكلاهما مترابطتان مع بعضهما, ويعنيان بناء الدولة المدنيّة .. دولة المواطنة.. دولة القانون والمؤسسات والمشاركة. فالاشتراكيّة تحقق العدالة والمساواة وتكافئ الفرص واحترام المرأة ونشر التعليم بكل مستوياته وبناء قاعدة اقتصادية متينة, والديمقراطية تحقق العدالة والمشاركة واحترام الرأي والرأي الآخر, مثلما تمثل العلمانية التي تحترم الدين ولاترضى زجه في عالم السياسة, فالدين لله والوطن للجميع, وهذا يبعد المجتمع عن حروب طائفيّة ومذهبيّة, واعتبار المواطنة مرجعا أساس لوحدة مكونات المجتمع.. والديمقراطّية والاشتراكيّة كلاهما يدعوان إلى التقسم العادل للثروة الوطنيّة, وكلاهما يؤمنان بدور المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة في المراقبة والدعوة لمحاسبة المسيء, وتفعيل آلية الانتاج وتحقيق التنمية.. وكلاهما يؤمنان بدولة تقوم مرجعياتها الإداريّة والسلطوية للشعب, وفق دستور يقره الشعب.
هذه هي معطيات الاشتراكية, وهذا مآلها.
* كاتب وباحث من سوريّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (راجع موقع معرفة – النظام العالمي الجديد – سياسة).
2- ). (الويكيبيديا – النظام العالمي الجديد – نظرية المؤامرة).
التعليقات مغلقة.