أي ديمقراطية في المجتمع الرأسمالي؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 20/6/2023 م …
سمح انتشار استخدام الشبكة الإلكترونية (إنترنت) بتجميع حجم هائل من المعلومات عن اتجاهات وميول المواطنين السياسية والإستهلاكية، كما سمح بنشر العديد من المعلومات – غَيْر المُعَدّة للنّشر – بشأن حصول الأثرياء على كميات كبيرة من المال العام، وتهرّبهم من تسديد الضرائب، بل وتهريب الأموال إلى الملاذات الضريبية، كما نُشِرت ملفات عديدة ووثائق مُسَرّبة بشأن عمليات التّجسُّس واسعة النطاق التي تمارسها حكومة وشركات الولايات المتحدة والتي تستهدف الأصدقاء والأعداء، وتدبير الإنقلابات وافتعال الأزمات السياسية والإقتصادية، وما إلى ذلك، وأظهرت الأنظمة “الغربية” التي تدّعي نَشْرَ الديمقراطية عدم احترامها لأبسط قواعد الدّيمقراطية، وتجلّى ذلك في اعتقال “جوليان أسانج” الذي نَشَر ملايين الوثائق الرسمية الأمريكية بمدونته “ويكيليكس”، والتنكيل به وتهديده ب175 سنة سجنا… كما كانت الحرب في أوكرانيا مناسبةً لانتهاك حرية الوصول إلى المعلومة، فقد فرضت دول الإتحاد الأوروبي رقابة صارمة على وسائل إعلام عديدة، وفي مقدّمتها وسائل الإعلام الروسية التي تم حَظْرُها، كما حظرت دول عديدة التقاط قناة المنار أو غيرها منذ سنوات عديدة، ليصبح المواطن حبيس رؤية واحدة ورأي واحد، هو رأي الطبقة أو الإئتلاف الطّبقي الحاكم فالمواطن “غير راشد” ولا يتمكّن من التّمييز بين الغث والسّمين ولا حق له في الإطلاع على رأي مخالف لرأي حكومته.
في الفقرات الموالية تعليق على نموذجَيْن من الدّيمقراطية الزائفة بأوروبا، يتعلق الأول بحدث استثنائي في فرنسا، يتمثل في محاكمة وإدانة رئيس جمهورية سابق (نيكولا ساركوزي) بتهم عديدة منها الإحتيال واستغلال النّفوذ وعدم احترام استقلالية القضاء الخ، ويتعلق الثاني بالحملة الإعلامية والسياسية المُعادية للفنان الموسيقي روجر ووترز (مؤسس فرقة “بينك فلويد”) والدعوة لإلغاء حفلاته الموسيقية في ألمانيا وبريطانيا، بسبب نقده الكيان الصهيوني وحلف شمال الأطلسي، ما يُعتَبَرُ “مُرُوقًا” في الظروف الحالية.
نيكولا ساركوزي المُحتال الذي أصبح رئيسًا
أصدرت محكمة الإستئناف (الدّرجة الثانية) بباريس يوم 17 أيار/مايو 2023، حكمًا بسجن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ومحاميه وصديقه الوزير السابق تيري هرتسوغ، والقاضي السابق جلبير أزيبرت، ثلاث سنوات، منها سنة نافذة، وحرمانهم من الحقوق المدنية لفترة ثلاث سنوات، بعد ثبوت تهمة الرشوة والفساد واستغلال السّلطة.
عُرِفَت هذه القضية القانونية أيضًا باسم قضية ساركوزي-أزيبرت أو بسموت، وتم إطلاقها سنة 2014 ، حيث اتهم نيكولا ساركوزي، رئيس الجمهورية الفرنسية من أيار/مايو 2007 إلى أيار/مايو 2012 ومحاميه تييري هيرزوغ بإفساد قاضي التحقيق جيلبرت أزيبرت (هو نفسه انتهازي فاسد وطموح)، لكي يُطلعهم على حيثيات التحقيقات القضائية المتعلقة بهم، ولا سيما قضية “بيتنكور”، على إسم المليارديرة الفرنسية صاحبة الشركة متعددة الجنسيات “لوريال” التي مَوّلت بشكل غير قانوني الحملات الإنتخابية لنيكولا ساركوزي وحزبه، واشتهر نيكولا ساركوزي بدفاعه المستميت عن الكيان الصهيوني والفكر الإستعماري للحركة الصهيونية، وبانتمائه العقائدي لتيار المحافظين الجدد ولحلف شمال الأطلسي، فكان أحد مهندسي تدمير ليبيا وسوريا، وأصرّت حكومته على إصدار قانون يدافع عن “فوائد الاستعمار”، وهو معروف كذلك بسياسته القمعية ضد مرتكبي الجنح الصغيرة وضد المهاجرين والفقراء وبازدراء جهاز القضاء، واشتهر كذلك بلغته المبتذلة والبذيئة، كما أنه متورط في العديد من قضايا الفساد والامتيازات الممنوحة لأصدقائه الأثرياء، وتهديد حكومات إفريقيا التي لا تُلَبِّي رغبات أصدقائه من رجال الأعمال الفرنسيين…
أثبتت محكمة الاستئناف أن ذنب هؤلاء الثلاثة واضح وحكمت عليهم بالسجن ثلاث سنوات، منها سنة واحدة نافذة، وعقوبات إضافية أخرى، ويُشكل هذا القرار سابقة تاريخية في تاريخ القضاء الفرنسي، تتمثل بإدانة رئيس دولة سابق بارتكاب أعمال فساد واستغلال النفوذ، لكن الخبر لم يكن بالصفحات الأولى لوسائل الإعلام الفرنسية، بل عَبَّرَت العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية والمسؤولين المنتخبين اليمينيين (عادة ما يكونون من الدّاعين إلى التّشدّد وعدم التسامح مطلقًا مع الفقراء) عن الدّعم غير المشروط للرئيس السابق الفاسد نيكولا ساركوزي الذي قام، مع شركائه، باستغلال موقعه وخرق القوانين وإفشاء أسرار التحقيقات القضائية وتوزيع الإمتيازات المادّية والمعنوية على أصدقائه من الأثرياء وأصحاب النفوذ…
خرق جيلبرت أزيبرت، الذي كان قاضيًا ساميا مستفيدًا من دعم نيكولاس ساركوزي، مبدأ استقلال القضاء، ونقل معلومات تُفيد أصدقاءه النافذين والمتورطين في قضايا كان يُحقق بشأنها قضاة غير فاسدين، ونقل هذه المعلومات لصالح ولي نعمته نيكولا ساركوزي وصديقه الوزير تييري هرتسوغ، مُستغلا سلطته الإدارية وخبرته القانونية وعلاقاته الهرمية والمهنية مع أعلى السلطات القضائية، وحاول إقناع القُضاة بالتخلّي عن اتهام نيكولا ساركوزي وأصدقائه بالفساد والإرتشاء وبإصدار قرار لصالح السيد نيكولا ساركوزي ، في قضية فساد معروفة باسم “قضية بيتنكور”.
من المفترض أن يكون رئيس الجمهورية ضامنًا لاستقلال السلطة القضائية، لكن استخدم نيكولا ساركوزي منصبه كرئيس للجمهورية واستغل العلاقات السياسية والدبلوماسية لارتكاب جرائم خطيرة ( إضافة إلى هذه الجريمة) ولخدمة مصلحته الشخصية، وبناء جسر يربط مباشرة مؤسسة رئاسة الجمهورية بالأثرياء الفاسدين والجانحين الذين ساهموا في تمويل حملة انتخابات 2007، واندلعت العديد من الفضائح الأخرى التي أظهرت الارتباط الوثيق بين دوائر الأعمال والدوائر السياسية الحاكمة.
باسم الديمقراطية، مضايقة فنّان ملتزم
انضم زعيم حزب العمال البريطاني إلى دعاة مطاردة الموسيقي روجر ووترز ( أحد مؤسسي مجموعة “بينك فلويد”)، وهي مطاردة شبهتها بعض المواقع التقدّمية بمرحلة الماكارثية بالولايات المتحدة خلال منتصف القرن العشرين، وشملت الدّعوات المعادية إلغاء حفلاته الموسيقية في أوروبا والعالم، ولكن فشلت هذه الحملة وأسفرت جولة روجر ووترز عن ست حفلات ناجحة في بريطانيا والعديد من الحفلات الناجحة في ألمانيا، حيث أجمعت الأحزاب الألمانية التي لها نواب بالبرلمان ووزراء، من اليمين المتطرف إلى حزب اليسار “دي لينكه” على التنديد بالموسيقي البريطاني “روجر ووترز” الذي وُلِدَ سنة 1943 في كامبريدج، وبعد سنة واحدة قُتِلَ والدُهُ سنة 1944 على الجبهة الإيطالية، ما جعله يكره الحروب، وهو أحد مُؤسّسِي فرقة بينك فلويد (إلى جانب سيد باريت ونيك ماسون وريتشارد رايت سنة 1965) ويعود سبب ملاحقته إلى تنديده بحلف شمال الأطلسي وبالإحتلال الصهيوني، واستغل شهرته كأحد أبرز الموسيقيين البريطانيين، الذي بَرَعَ في مجالات الغناء والتلحين وتأليف الموسيقي والعزف على الغيتار، منذ صُدُور الألبوم الأول لفرقة “بينك فلويد” سنة 1967، بعنوان “الزمار على أبواب الفجر” (The Piper at the Gates of Dawn، ولاقات الأَلْبُومات اللاحقة شعبية كبيرة في مختلف أنحاء العالم، ومن بينها: “الجانب المظلم للقمر” (Dark Side of the Moon)، و”أتمنى لو كنت هنا” (Wish You Were Here)، و”تطفُّل (Meddle) و “الحيوانات” (Animals)، و”الحائط ” (The Wall)، و”القطع النهائي” (The Final Cut).، ثم انفصل “روجر ووترز” عن المجحموعة بعد إصدار أغنية “The Final Cut”، سنة 1983…
أدى الإنفصال إلى تحرُّره من قيود المجموعة التي كانت تشقها خلافات فنية وشخصية وسياسية، فأصبح يُعبّر بحرية عن اهتماماته السياسية التي انعكست على أعماله الفنية، مثل أغنية حملت اسم “طوبة أخرى في الجدار”، التي تناهض نظام الميز العنصري تدعو إلى دعم حق الأطفال السود في التعليم في جنوب أفريقيا، وكُتِبَتْ منذ سنة 1980، ونقدت أغنيته “مسلٍّ حدَّ الموت” (Amused to death) ضمن ألبوم صدر سنة 1992، الحرب وويلاتها…
تربطنا بروجر ووترز مواقف تقدّمية من العديد من القضايا، ومنها القضية الفلسطينية، فقد على من ملاحقة مجموعات الضغط الصهيونية التي تحاول إنهاء مسيرته الفنية بإلغاء حفلاته حول العالم، وبتشويه سمعته من خلال إلصاق التهمة التقليدية: “معاداة السامية”، خصوصًا بعد نشره، سنة 2011، مقالاً بصحيفة “غارديان” يعرب عن رفضه “سياسة الفصل العنصري التي تنتهجها إسرائيل”، وأعلن إنه استجاب لدعوة فلسطينيين من حركة المقاطعة الأكاديمية والثقافية، فألغى الدّعوة التي وُجِّهَت له لإقامة حفل في تل أبيب، ووصف في مقاله استضافة الفلسطينيين له في القدس وبيت لحم تحت حماية الأمم المتحدة، وكان شاهدًا على بعض الإنتهاكات، “ومنذ ذلك اليوم قررتُ الوقوف إلى جانب الفلسطينيين، وامتنعتُ عن إقامة حفلات في تل أبيب، لأن ذلك قد يعطي شرعية للحكومة الإسرائيلية…”، وهو يشكر الفلسطينيين الذين تواصلوا معه وشرحوا له ما يعانيه الفلسطينيون تحت الإحتلال، وخصوصًا سكان غزة، فهم “مسجونون فعليا خلف جدار الحصار الإسرائيلي… ويُعاني الأطفال من من نقص التغذية وانعدام الأمان… فضلا عن حرمان اللاجئين من حقهم في العودة إلى ديارهم“.
حاول روجر ووترز شرح قضية الشعب الفلسطيني لدى زملائه الفنانين والموسيقيين، ودعاهم إلى الامتناع عن أداء حفلات موسيقية لصالح الكيان الصهيوني ومؤسساته الإستعمارية الإستيطانية، ولذلك تعرّض لحملات مُنَظّمة تُلصق به تهمة “معاداة السّامية” على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه بقي متمسكا بموقفه، واشتدّت الحملة في ألمانيا، إثر عرض موسيقي ( أيار/مايو 2023 ) ارتدى خلاله معطفًا جلديا شبيها بزي قوات الأمن الخاصة النازية، وعرض على الشاشة أسماء عديدة كان من بينها: آن فرانك، وجورج فلويد، وشيرين أبو عاقلة، وبذلك ضاعفت مجموعات الضغط الصهيونية (بدعم من كافة الأحزاب الممثلة بالبرلمان الألماني) جهودها من أجل إلغاء حفلات روجر ووترز في عدة أنحاء من العالم، وأوضح ووترز أن الحملات ضده يقودها أشخاص “يريدون تشويه صورته وإسكاته، لأنهم يختلفون معه في آرائه السياسية وقِيَمِهِ الأخلاقية…”، وردّ على الحملة الواسعة في ألمانيا ضدّهُ “يُشكّل العرضُ الذي قدمتُهُ في ألمانيا موقفا واضحا ضد الفاشية والظلم والتعصب، بكافة أشكاله كافة… إن أي تأويل مُغاير يُمثل محاولات مخادعة وذات دوافع سياسية، من بينها إلصاق تهمة معاداة السامية أو معاداة اليهود بكل من يُعارض بشدة انتهاكات الحكومة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، أو كل من يُقارنَ القمع المُسَلَّط على الشعب الفلسطيني بالأفعال التي اقترفها النازيون في ظل حكم أدولف هتلر…”
يندرج موقف روجر ووترز من الفلسطينيين ضمن مناهضته لحلف شمال الأطلسي ولحرب الناتو في أوكرانيا، وضمن دعمه حرية التعبير ومساندته للصحفي المسجون المناهض للحرب جوليان أسانج، ومعارضته للإمبريالية، ولا علاقة للحملة المُنَظّمة ضدّه بتهمة “التحريض على الكراهية“ التي لا أساس لها، بل هي حملة تندرج ضمن مُعاداة الشعوب والفئات الكادحة والفُقراء، وضدّ التراث الفَنِّي التقدّمي المُعادي للعنصرية وللتعصب وللحرب والإستعمار…
ازداد الهجوم على مكتسبات العاملين والمتقاعدين والفُقراء وعلى الحقوق الديمقراطية بالتزامن مع انتشار خطاب التحريض على الحروب العدوانية، خصوصًا منذ بدء الحرب في أوكرانيا، حيث تم تشديد الإتجاه الدّكتاتوري وزيادة ميزانيات التسلح، ضمن فصل جديد من السياسات الرأسمالية التي وسّعت موجة القمع الطبقي والإضطهاد القومي، في ظل ارتفاع تكلفة المعيشة، وتضييق هامش الحريات، حيث تم اعتقال ناشرين وصحفيين، بموجب قوانين “مكافحة الإرهاب” لمشاركتهم في الاحتجاجات الشعبية أو بسبب تقارير استقصائية تكشف أكاذيب حلف شمال الأطلسي، وفي ظل الحظر الشوفيني على الثقافة الروسية والرياضيين والفنانين الروس، فضلا عن حجب جميع وسائل الإعلام الروسية لمنْعِ المواطنين الأوروبيين والأمريكيين من الإطلاع على وجهة نظر مُغايرة لحلف شمال الأطلسي…
نحن بحاجة إلى أي صوت مؤيّد لقضايانا كفلسطينيين وعرب تقدّميين وكادحين وفُقراء، خصوصًا إذا جاء التأييد (وهو دائمًا نسبي ) من بعض مشاهير الأدب والفن والرياضة، ولذا من واجبنا دعم روجر ووترز وأمثاله، ضد مجموعات الضغط الأطلسية والصهيونية، ووجب علينا دائمًا التذكير بدون كَلَل إن الإستعمار والعنصرية والإمبريالية والصهيونية وُلِدت ونَشَأت في أوروبا ثم تم نَشْرُها في العالم، وإن الإعتقال الجماعي وحشر مواطنين في محتشدات الموت، حصل في أوروبا بتصميم وتنفيذ أوروبي ضد مواطنين أوروبيين، وإذا كان من الضروري أن يتصالح الأوروبيون مع تاريخهم وتراثهم الدّموي، فليفعلوا، لكن ليس على حسابنا…
التعليقات مغلقة.