داريا خارج الحرب..
عمر معربوني ( الأحد ) 28/8/2016 م …
تسوية داريا ليست الأولى، ولكنها بعد تسوية حمص تشكّل التسوية الأهم التي تؤشّر بإتجاه رسم مسار الحرب في سوريا. لقد حصلت تسويات ومصالحات في اكثر من مكان في سوريا، ولكنها لم تشكل إلّا نماذج بسيطة تختلف في مضمونها عن تسويتي حمص وداريا، وهنا لا بدّ من الإشارة الى ان التسويات والمصالحات التي تحصل في سوريا تأتي بنتيجة ضغوط ميدانية من الجيش السوري تؤدي الى حصول المصالحة او التسوية وليس بنتيجة رغبة او جنوح الجماعات المسلّحة للسلم.
والمصالحة عمليًا تختلف عن التسوية في المسار والإجراءات والنتائج، حيث تتم المصالحة بواسطة لجان تتولى الحوار بين الدولة والجماعات المسلّحة تصل الى مستوى عودة مؤسسات الدولة لممارسة نشاطاتها في مكان المصالحة، مع رفع العالم السوري على هذه المؤسسات ومشاركة المسلحين بمهمات الحراسة مع الوحدات الأمنية والعسكرية السورية بشكل مؤقت الى ان تحين الفرصة لعودة الحياة الى شكلها الطبيعي، في حين أنّ التسويات تحصل بخروج المسلحين بأسلحتهم الفردية بعد تسليم الأسلحة المتوسطة والثقيلة للدولة السورية وخروجهم من المنطقة الى منطقة يختارونها ويتم الإتفاق حولها، وهو ما حصل في حمص سابقًا ويحصل في داريا حاليًا.
ولا تقل تسوية داريا في الأهمية عن تسوية حمص، التي حصدت نتائج هامّة في الجانبين السياسي والعسكري، فحمص التي اطلقت عليها الجماعات المسلحة اسم “عاصمة الثورة” وجاءت التسوية فيها لتسقط التسمية وتصيب مشروع السيطرة على سوريا وتفكيك الدولة إصابة قاتلة.
داريا التي تقع غرب العاصمة دمشق وتجاور قاعدة المزّة الجوية شكلّت مع جوبر التي تقع شرق العاصمة خاصرتين خطرتين انطلقت منهما عشرات المعارك تحت أسماء رنّانة وكبيرة تهدف الى اسقاط العاصمة، لكنها جميعها لم تحقق اهدافها طيلة فترة الحرب، وها هي داريا تخرج من الحرب ويغادر مسلحوها الى ادلب، ومن المؤكد أنّ مصير مسلحي جوبر وغيرها لن يختلف عن مصير مسلحي داريا لمجموعة كبيرة من الأسباب، أهمها التغيير الجذري في خرائط السيطرة التي تميل يومًا بعد يوم لمصلحة الجيش السوري رغم الوقت الكبير الذي تستغرقه العمليات العسكرية في تغيير معادلات السيطرة.
وهنا قد يتساءل البعض كيف يمكن لألف مقاتل في داريا أن يمنعوا الجيش السوري من دخول داريا على مدى اربع سنوات تقريبًا؟ والجواب بالتأكيد ليس معقدًا وصعبًا، فمن يتابع مسارات الحرب في سوريا يدرك ان طبيعة المواجهات اللانمطية التي أُجبر الجيش السوري على خوضها وعلى أكثر من 400 جبهة فرضت انماط قتال غير اعتيادية، وألزمت الجيش بتوزيع عديده البشري على مختلف الجبهات، وهنا اجد نفسي امام فرصة لشرح طبيعة انتشار الجيش السوري للدلالة على طبيعة الحرب ومصاعبها.
ففي دمشق العاصمة، هناك حوالي ثلاثة اطواق تشكل خطوط دفاعية عن العاصمة تستهلك عددًا كبيرًا من عديد الجيش، وهو ما ينطبق على المدن الكبرى ناهيك أنّ طرق الربط بين المدن والمنشآت تستنزف عددًا كبيرًا من العديد البشري للجيش، مضافًا له حاميات المؤسسات الرسمية في كل المدن والبلدات الكبرى وحاميات القواعد الجوية والبحرية والمستودعات الأساسية وغيرها.
لهذه الأسباب وغيرها وجد الجيش السوري نفسه مضطرًا لخوض معارك تثبيت وقضم بطيء بقوات صغيرة ولا تتناسب مع حجم المهمات الموكلة اليه، اضافة الى أنّ اعمال الدفاع والتحصين وعلى رأسها الأنفاق ومساحة انتشار داريا شكّلت عائقًا حقيقيًا امام حسم المعركة بسرعة، ولهذا كان القرار بالتعامل مع هذه البؤر صغر حجمها او كبر على قاعدة وضعها في الطوق واستنزافها بالقوة النارية لإجبارها على الإستسلام سواء كانت النتيجة المصالحة او التسوية.
اما وقد باتت داريا تحت سلطة الجيش السوري، فإنّ متغيرات ميدانية في جبهات غرب دمشق ستحصل في القادم من الأيام، فالقوة المولجة بتنفيذ مهام عسكرية من الجيش السوري في داريا ستنضم الى قوات اخرى في جبهات خان الشيح والدرخبية التي ستلقى مصير داريا بكل تأكيد عاجلًا او آجلًا.
في المتغيرات الميدانية، ستكون عودة مطار المزة للعمل قريبةً بسبب زوال خطر استهدافه بقذائف الهاون من داريا.
ورغم اهمية الجانب الميداني بنتيجة ما حصل في داريا، يبقى أنّ العبرة تكمن في النتيجة التي تؤكد انتصار مشروع الدولة على مشروع الفوضى والتفتيت الذي شكلّت الجماعات المسلحة رأس حربته طيلة سنين الحرب، وهو ما سيدفع بمناطق أخرى لا تزال تحت سيطرة الجماعات المسلحة الى التسوية او المصالحة، وهو الجانب الذي تعمل عليه الدولة في اماكن اخرى من محيط العاصمة دمشق وكل سوريا ومن ضمنها مدينة دوما في الغوطة الشرقية التي تعتبر القاعدة الأساسية للجماعات المسلحة في محيط العاصمة دمشق.
*ضابط سابق – خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية.
التعليقات مغلقة.