الهيمنة المستدامة : الانتخابات كأداة لتعزيز احتكار السلطة / هشام البستاني

 

 

هشام البستاني ( الأردن ) الأحد 28/8/2016 م … 

في مواجهة ثورة، لا شيء ينفع أكثر من انتخابات.
– آلان باديو

كثيرًا ما تُقدِّم الطّبقة الحاكمة، لا في الأردن فحسب، بل في كافّة أرجاء العالم المُعاصر، الانتخابات بصفتها هدفًا، لا وسيلة، وتُماهي بينها وبين الديمقراطيّة تمامًا، فيما تتحوّل هذه الأخيرة إلى مصطلح عامٍّ غائمٍ يُعرَّفُ تعريفًا ليبراليًّا سياسيًّا ينحصر بحريّة الرّأي والتّعبير والتّنظيم، وانتخابات «حُرّة» ينتخب المواطن فيها من يمثّله داخل مؤسّسة السُّلطة، ويُصبح، بالتالي، شريكًا في هذه المؤسسة، أو هكذا يظنّ؛ فيما تُدخل السّلطة في دول الأطراف (التابعة لاقتصادات المراكز وسياساتها؛ غير المُنتجة؛ الكمبرادوريّة) مجموعةً من التحفظّات المُشتقّة من محليّة مُفبركة، تتعلّق -مثلًا- بقيودٍ على حريّة التعبير قد تشمل الدين و«الأخلاق العامّة» والعائلة الحاكمة، وصولًا إلى ذرائع تُصادر هذه المساحات الضيّقة تمامًا من مثل أن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» (في سياق المعارك التي هُزمنا فيها كلّها) أو «أن الشعب غير جاهز للديمقراطية» (في سياق تعميم العولمة للخطاب الليبرالي) أو «أن مواجهة الإرهاب هو الأولويّة الأولى التي تخضع لوتيرتها كل الاعتبارات الأخرى» (في سياق معارك القوى الدولية والإقليمية على النفوذ الجيوسياسي والموارد).

لا ديمقراطيّة في المجتمعات الزبائنيّة: منظومة الرّعاية والدّعاية

تغيب العديد من التشوّهات البنيوية عن بال المواطن المُتأمّل هذا الحال، خصوصًا في بلد مثل الأردن (ودول شبيهة) ترتبط فيه قطاعات واسعة من الناس بشبكة علاقات زبائنيّة مُعقّدة مع السُّلطة، نجحت فيها هذه الأخيرة بتحويل الهدف الأساسي لأيّة مشاركة سياسيّة من الشراكة في السلطة، إلى الحصول على الحصّة الأكبر من المنافع التي تحتكر السلطة توزيعها وإدارتها (الأعطيات والهبات، الوظائف الحكوميّة، المقاعد الجامعيّة، وغيرها).

استطاع النّظام، وعبر سلسلة طويلة من الإجراءات التي بُنيت على أسس الإدارة البريطانيّة الاستعماريّة لما صار الأردن، تحويل التشكيلات الاجتماعية، والسّلطات الثلاث بما فيها البرلمان، إلى مؤسّسات مُلحقة به. 36 عامًا فقط هو الزّمن الذي استغرقته السُّلطة لتحويل مجلس النّواب الذي شكّل حكومة حزبيّة عام 1956 إلى مجرّد مكان آخر من الأماكن التي يُخاض فيها الصّراع على الأعطيات والحظوة الزبائنيّة عام 1993. أمثلة الإجراءات التحويليّة كثيرة، منها: إعلان الأحكام العُرفيّة من 1957 حتى 1989، وحلّ البرلمان خلال تلك الفترة؛ قانون الصّوت الواحد المجزوء لعام 1993 الذي حوّل الوحدات الاجتماعيّة (العائلة، العشيرة، المنطقة) إلى وحدات سياسيّة، همّها انتزاع المنافع والمزايا؛ تخصيص عدد من المقاعد الجامعيّة لكل نائب لكي «يوزّعها» على قاعدته التصويتيّة ويصير مُعتمِدًا على الحكومة في ديمومة هذه «المنحة»؛ إعفاء سيارات النوّاب من الرسوم الجمركية؛ وآخرها تواطؤ الحكومة والنوّاب على مخالفة القانون في قضيّة تعيينات موظفي مجلس النواب رغم ما صاحبها من مناكفات متبادلة، وهو تواطؤٌ يأتي من باب التّمرير المتبادل للمخالفات القانونيّة، وإعطاء الحكومة اليد العليا على مجلس النواب بمثل هذه التّعيينات.

إذًا لم يعُد مجلس النواب مكانًا للتشريع والرّقابة على الحكومة، ففي ظل استجداء النوّاب للمنافع والمزايا الحكوميّة، يصبح المشرّع الرّقيب رهينة بيد من يُفترض فيه أن يُشرّع له ويُراقبه، يُسيِّر بآلية الـ«ألو». أما غرفة البرلمان الثانية: مجلس الأعيان، فهي غرفة مُعيّنةٌ بالكامل، وتضمن لَجْم أيّ شططٍ نيابيٍّ طارئٍ من خلال عدم الموافقة على تعديلاتٍ غير مرضيٍّ عنها قد يُدخلها النوّاب على التّشريعات المعروضة عليهم.

كما أنّ النّظام في الأردن مشهودٌ له بإغواء المُعارضين وضمّهم إليه، وهو يمتلك خبرة كبيرة في هذا الجانب، ابتداءً من ضمّ أكثر انقلابيّي الخمسينيّات إلى صفوفه، مرورًا بتوزير بعض نقباء النقابات المهنيّة أو ضمّهم إلى مجلس الأعيان، وصولًا إلى الرئيس الحالي للهيئة المستقلّة للانتخابات القادم من احتجاجات «الربيع الأردنيّ»؛ واستطاع النظام، منذ عام 1989، أن يُحجّم الأحزاب (الراديكالية والمافوق قُطريّة والمحظورة والمعادية له في ذلك الحين) بشرعنة وجودها أولًا، وحصر جغرافيّة برنامجها السياسيّ داخل حدود القُطر ثانيًا، ثم قُيّدت بقوانين عدّة (قانون الأحزاب، قانون الاجتماعات العامّة، قانون الانتخاب) أفرغتها من مضمونها، ومنعت عنها حريّة الحركة والتّنظيم والدّعاية، وبالتالي إمكانية الشراكة السياسيّة الحقيقيّة، وتحوّلت في نهاية الأمر إلى طلب المعونات الماليّة من الحكومة، والنضال من أجل البقاء السياسيّ بدلًا من النضال من أجل البرنامج السياسيّ. أما بالنسبة لأقوى وأكبر التنظيمات السياسيّة، الإخوان المسلمون، حلفاء النظام في مرحلة تاريخية سابقة، وبعد فترة من التمدّد الأفقيّ والعموديّ خلال فترة السّمن والعسل التي انتهت عمليًّا بين عامي 1993 -إدخال قانون الصوت الواحد المجزوء- و1994 -توقيع اتفاقيّة وادي عربة-، فتعمل السلطة بدأبٍ وصبرٍ على إضعافهم وتفكيكهم عبر حزمة من الإجراءات مثل إغلاق المقرّات، ووضع اليد على جمعيّتهم الكبرى (جمعيّة المركز الإسلامي)، ورعاية مجموعة من الانشقاقات بدأت بحزب الوسط الإسلاميّ، وتستمرّ بمجموعة «زمزم» وحزبها وجمعيّتها.

في هذا الإطار الزبائنيّ بتشكيلاته الاجتماعيّة والسياسيّة المتنافسة على الحظوة، تنتفي الإمكانيّات الديمقراطيّة (حتى بالمعنى اللّيبرالي). المُتاح هو أن تسبغ القوى الاجتماعيّة والسياسيّة، بمشاركتها التّابعة داخل هذا الإطار، الشرعيّة على شكل الهيمنة الذي تمارسه السلطة على المجتمع، وتعمل على إدامته؛ وتحريض الناس على الانضمام إليه. هناك علاقة وظيفيّة واضحة تنشأ هنا، علاقة سأسمّيها: الرّعاية والدّعاية، السّلطة ترعى، والمجموعات الاجتماعيّة والسياسيّة تمارس الدّعاية للإطار العام للسّلطة، وتُنظّم المواطنين داخل أدوات نفوذ السّلطة (الدولة، المؤسّسات، القانون).  

صناعة الصحارى السياسيّة وطناجر الضغط الأزماتيّة

هكذا صنعت السُّلطة ساحةً سياسيّةً مُفرغةً، وحوّلت كل مناطق العمل العامّ إلى مناطق مُلحقة بها، ابتداءً من السلطات الثلاث التي أغلقت التعديلات الدستوريّة الأخيرة دائرتها على الملك بشكلٍ مُطلق، وصولًا إلى ما يسمى «المجتمع المدني» الذي تتحكّم فيه السلطة من خلال قانون الجمعيّات ترخيصًا ومتابعةً وحلًّا، ووجود كمٍّ كبير من المنظّمات «غير الحكومية» الملكيّة التي تستأثر بحصّة كبيرة من التمويل الخارجيّ والداخليّ المخصّص لهذا القطاع، وتعمل من خلال جمعيّاتها الخيرية والمُجتمعيّة (صندوق الأمان لرعاية الأيتام، تكيّة أم علي، الهيئة الخيريّة الأردنية الهاشميّة، مؤسسة نهر الأردن، وغيرها) على تهدئة آثار احتكار الثروة واتساع الفقر واحتوائها، وتحويل قطاعات واسعة من الفقراء إلى زبائن للسّلطة، بأموالِ المانحين الخارجيين أو تبرعات المواطنين.

تسير السّلطة السياسيّة في الأردن على ذات النهج الذي تسير عليه نظيراتها في العالم العربي، مع فارق ذكاء أعلى في الاحتواء والتّهدئة وعدم اللّجوء إلى أساليب القمع الحادّ بشكلٍ دائم. يتلخّص هذا النهج بإفراغ المشهد السياسيّ من المنافسين والشركاء والمنع الاحترازي لنشوئهم؛ وتحويل مفهوم السّياسة إلى مجموعة آليات للتذاكي والفهلوة والشطارة من أجل اقتناص المكاسب، والدّولة إلى مكان للتكسّب، واشتقاق شرعيّة السلطة من خلال وظيفتها كراعٍ للمتكسّبين، وحاجزٍ بين المُتنافسين على الأعطيات، وضامنٍ لعدالة التوزيع المُفترضة، وللاستقرار.

يتحوّل المجتمع في ظلّ هذه الظروف إلى صحراء سياسيّة قاحلة فيما يتعلّق بالفعل والحركة، وإلى طنجرة ضغط فيما يتعلّق بالأزمات المُتولّدة المُؤجّلة. لا تتشكّل الإمكانيّات ليتغيّر الكثير، فيظلّ «الاستقرار» هو السمة الظاهريّة للأمور حتى نصل إلى نقطة انفجار داخليّة، أو تقرّر قوى دوليّة أو اقليمية استغلال البنى المُفكّكة (المجموعات المُتنافسة) والتنافس الشديد على أدوات التوزيع (مؤسسات «الدولة») لإحداث صراع، وتغيير شكل المساحة الجغرافيّة المُحتوية للمُتنافسين وراعيهم.

 

التنافس لا يتمّ من أجل الوصول إلى السُّلطة وتنفيذ البرامج السياسيّة/الاقتصاديّة، بل يتمّ من أجل تأمين حصّة من الأعطيات والامتيازات لصالح المجموعة المُنتَخِبة.

لا يمكن لانتخابات أن تغيّر شيئًا من قواعد هذه اللعبة، فأساس العمليّة الانتخابيّة نفسها تَحوّل، والتنافس لا يتمّ من أجل الوصول إلى السُّلطة وتنفيذ البرامج السياسيّة/الاقتصاديّة، بل يتمّ من أجل تأمين حصّة من الأعطيات والامتيازات لصالح المجموعة المُنتَخِبة، وهذه الامتيازات تتعارض مع مصالح المجموعات الأخرى، فيتحوّل مجلس النواب (كمُعبِّر عن آليات التنافس الاجتماعيّة) إلى شيء يشبه تصدير رأس المال أزمة استغلاله للعمال، لتصير أزمةً بين العمّال أنفسهم في البلدان المختلفة: يقول الرأسماليّ للعامل الأمريكي: إن لم تقبل بأجور منخفضة وساعات عمل طويلة وتتخلّى عن حقوقك النقابيّة، فسأذهب بمصنعي إلى الصين؛ ويستغلّ الرأسماليّ العامل الصينيّ غير المحميّ بقوانين تضمن حقوقه. يبتزّ الرأسماليّ عمّال الشمال بعمّال الجنوب ويحقق أرباحًا مزدوجة، فيما يوجّه حقد العمّال بعيدًا عن سبب الابتزاز الحقيقي (رأس المال) ونحو العمّال الآخرين «المنافسين».

بنفس الطريقة، تُعيد السلطة توجيه آليات العمل السياسي من تنافس على السّلطة وعلى تنفيذ البرامج السياسيّة، إلى تنافس بينيّ على الحظوة والامتياز من خلال مجلس لا يُشرّع ولا يُراقب، بقدر ما يعمل كوسيط بين المجموعات الاجتماعيّة المختلفة والسُّلطة.

لا يمكن أن نسمي مثل هذه الأمور «شراكة في صناعة القرار»، ولا «ديمقراطيّة»، ولا «تشريع ورقابة». هذه مساهمةٌ في إدامة أشكال الهيمنة واحتكار السّلطة وتغييب السّياسة عن الفضاء العام.

هل يُصلح القانون ما أفسده القانون؟

يُخطئ من يظنّ أن القانون أداةٌ حياديّة تُمثّل الجميع في الدّولة المعاصرة. القانون هو قواعد اللّعبة التي تضعها الفئات الأقوى سياسيًا واقتصاديًا (الطبقة الحاكمة) وتمرّرها إما بالقوّة (المراسيم الرئاسية أو الأحكام العرفية) أو بواسطة المؤسّسات التي تهيمن عليها (الحكومة والبرلمان)؛ القانون هو محصّلة صراع هذه القوى داخل الدولة ضمن المؤسسات التي تُسمّى «شرعيّة» (لمصادرة الشرعيّة عن غيرها). أما في الدول الزبائنيّة التي أُجهضت فيها إمكانيّات الصّراع السياسيّ، فالقانون هو الإرادة الصّرفة للطّبقة الحاكمة بما لا يُخلّ جذريًّا بالاستقرار المُتحقّق وعلاقات القوّة النّاتجة عنه، والنّماذج في الأردنّ كثيرة منها الدّستور (السّلطة المطلقة لرأس الدولة مع عدم خضوعه للمساءلة أو المحاسبة)، وقانون صندوق الاستثمار الأردنيّ (إطلاق يد مجلس الوزراء في الصّندوق دون رقيب، وإعطائه إمكانيات مصادرة الأملاك العامة لصالحه)، وقانون مكافحة الإرهاب (العمومية الشّاملة في التّعريف التي تجعل أيّ معارضة للسلطة تقع في باب الإرهاب)، واتفاقية الغاز مع العدو الصهيوني (التي ليس لها أي مبرّر اقتصادي على الإطلاق)، وصولًا إلى مُحاولة إضفاء الحصانة على موظّف عامّ كثير الموارد هو أمين عمّان (منع ملاحقته قضائيًا إلا بقرار من مجلس الوزراء!).

بجرّة قلم، تغيّر قانون انتخابات 1989 الذي أفرز مجلس نواب قويّ نسبيًا، لقانون الصّوت الواحد المجزوء لانتخابات 1993، وهو ما أدى للتدهور المُتسارع لأسباب الاجتماع السياسيّ في الأردن، والتحوّل نحو التنظيمات الزبائنيّة الاجتماعيّة (العائلة، العشيرة، المنطقة) بصفتها أطرًا تقليديّة للضّمان الاجتماعي، مقابل انهيار التّنظيمات السياسيّة القائمة على التنافس البرامجيّ على السلطة (باستثناء الإخوان المسلمين طبعًا، لأسباب ليس هذا مكان التوسّع فيها).   

هل بإمكان قانون أن يُحدث تغييرات اجتماعّية اقتصاديّة سياسيّة شاملة؟ نعم. في كتابه «تأثيرات استعماريّة: صناعة الهويّة الوطنيّة في الأردن»(1)، يوضّح جوزيف مسعد بوقائع مفصّلة وموسّعة دور عاملين أساسيين في تغيير شكل المجتمع والدولة، وصناعة هويّتهما: القانون والجيش، فبواسطتهما تمّ احتواء المجموعات السّكانية في شرق الأردن وإعادة تشكيلها بما يوافق الدولة «الوطنية» القُطرية التي فرضها الاستعمار من خلال تقسيم المنطقة العربيّة. أيضًا، هناك التأثيرات التي أحدثتها حزمة القوانين المؤقتة (أكثر من 200 قانون) التي أدخلتها حكومة علي أبو الرّاغب أثناء حلّ البرلمان وتعطيل الانتخابات من 2001 – 2003، ومنها اللبرلة الشاملة للاقتصاد، وقمع الحريّات العامّة، وإعادة تشكيل الدوائر الانتخابية لصالح تحكّم سلطويّ أكبر. قانون الصّوت الواحد المجزوء هو واحد من هذه الفصيلة من القوانين التي أفضت إلى تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة جذريّة.

هل يمكن إصلاح ما أفسده قانون الصّوت الواحد المجزوء؟ لا يمكن الجزم بأيّ اتجاهٍ يمكن أن يُغيّر قانونٌ ما شكلًا سياسيًّا/اجتماعيًّا أنتجه قانون آخر، لكن السؤال الأهمّ هنا: هل من مصلحة الفاعل السياسيّ الوحيد (النّظام) تغيير موازين القوى لغير صالحه عبر إنتاج برلمان قويّ مستقلّ يدفع باتجاه الشّراكة في السّلطة؟ طبعًا لا. السّياسة هي محصّلة صراع القوى المختلفة والمتنافسة، فإن كانت الأطراف الأخرى في الصّراع، المُواجِهة للسلطة، عاجزة أو ضعيفة، فستكون المحصّلة دومًا لصالح السّلطة، ولن يكون هناك أيّ دافع للتغيير.

الطبقة المؤقّتة المُناهضة للنظام، وآليّات احتوائها

أواخر عام 2012، في سياق تراجع زخم الانتفاضات العربيّة وتحوّل ما بقي منها إلى صراعات مسلّحة، أعلن الملك عبد الله الثاني أن الانتخابات النيابيّة هي ربيع الأردن. ثمّة تغيّر كان قد حصل حين شاهدت الأنظمة العربيّة عشرات آلاف (وأحيانًا ملايين) النّاس، من مختلف الشرائح والطبقات والخلفيّات الاجتماعيّة، وهي تنزل إلى الشارع وتحتلّ الفضاءات العامة مطالبة برحيلها. هذه «الوحدة» الجديدة العابرة للشرائح والطبقات في مواجهة النظام بدت غريبة في سياق الصحارى السياسيّة التي عملت الأنظمة من أجلها ونجحت في إنشائها.

لكن هذا الاستغراب سيتبدّد عندما نطالع إعادة التعريف التي قدّمها نيكوس بولانتزاس في كتابه «الطّبقات في الرأسماليّة المعاصرة»(2)، واستند عليها وطوّرها علي قادري في كتابه «منع التّنمية العربيّة: ديناميكيّات التّراكم بواسطة الحروب العدوانيّة»(3)، حيث لا تُفهم الطّبقة في العالم المعاصر من حيث موقعها داخل علاقات الإنتاج فقط، بل من حيث موقعها السّياسيّ، وعلاقتها بالطّبقات الأخرى، خصوصًا الطّبقة المُهيمنة: الطّبقة الحاكمة.

بهذا المعنى، شكّلت الانتفاضات العربيّة نموذجًا احتجاجيًّا طبقيًّا في مواجهة الطّبقة الحاكمة، فتوحّدت الشرائح والقطاعات المختلفة والمتعدّدة في مصالحها وأفكارها وأيديولوجياتها في طبقة واحدة مُؤقّتة، تُعرّف نفسها سلبًا (بأنها «ضدّ النّظام»)، سأُسمّيها: الطّبقة المُؤقّتة المُناهضة للنّظام.

ثمة سلبيّات كثيرة كنت أوردتها في مقالة سابقة تتعلّق بتحرّك هذه الطبقة وقدرتها، أهمّها انعدام الإطار النظريّ للمشروع البديل، وانعدام الأدوات التّنظيمية القادرة على تنفيذ البديل، أو على الأقل: الاستحواذ على السلطة، فيما أوردت إيجابيّتين لتحرّكها: كسر حاجز الخوف من الأنظمة، وتسييس المواطنين، أضيف لها هنا إيجابيّة أساسيّة ثالثة: أنها عملت في مساحة خارج الدولة والنظام، تلك المساحة الوحيدة المُحرّرة من إمكانيّات الاحتواء والتّوظيف، وهي المساحة الوحيدة التي يعتبرها آلان باديو(4) مُتاحة لإحداث التغيير السياسيّ الفعّال في العالم المعاصر. «السياسة بعيدًا عن الدولة»، كما يسمّيها باديو تتضمّن «رفضًا مُلزِمًا لأي اندغامٍ مباشرٍ في الدولة، لأي طلبٍ تمويليٍّ من الدولة، لأي مشاركة في الانتخابات، الخ… السّياسة تعني التوحّد حول رؤية سياسيّة تفلت من القبضة الذهنيّة للدولة».

 

قانون الانتخابات الجديد يتبنّى شكليًّا صيغة القائمة، إلا أنه يُفرغ مفهوم القائمة من مضمونها تمامًا، ويعيد إنتاج مبدأ الصوت الواحد المجزوء.

هذا الرأي يجد صدىً له عند علي قادري: «الصندوقراطيّة، أي حكم صندوق الاقتراع، هي نوع من الفلتر الذي يمنع تمثيل الطبقة العاملة [بالمعنى المُستحدث الذي أوردته أعلاه]، بينما ينقل المزيد من السّلطة إلى الطّبقات الحاكمة… الصندوقراطيّة تضع نفس الطّبقة الحاكمة مرّة بعد أخرى في السّلطة، بوجوه مختلفة، بينما تعمل استمرارية سياسات ’السّوق الحرّ‘ على إعادة إنتاج وتعميق اللّامساواة البنيويّة.»

هكذا نستطيع أن نفهم أن الانتخابات، هي حالة مستمرّة من «إعادة الثّقة» بالطّبقة الحاكمة، نوع من الاحتواء الاجتماعي العامّ إلى داخل المؤسّسة/الدّولة/النّظام، وامتصاص أيّة أشكال تحاول اجتراح مساحات سياسيّة خارجها، خارج قوانينها، متحوّلة –بالتالي- إلى تهديدٍ لسلطتها.

لهذا كانت الانتخابات، إلى جوار العنف، هي الحلّ السحريّ الذي قدّمته أغلب الأنظمة العربيّة لإعادة انضباط القوى المُعارضة داخل إطار دولتها، وهي الحلّ السحريّ الذي انتهت به هبّة نيسان عام 1989، وهي الحلّ السحريّ الذي قدّمته السلطة لمواجهة احتجاجات 2011-2012 في الأردن فترة الانتفاضات العربيّة، فخاضها حراكيّون، ودافعوا عنها، في مواجهة انتقاداتي المنهجيّة باعتبارها تكتيكًا لإعادة إنتاج شرعيّة السّلطة.

«في مواجهة ثورة، لا شيء ينفع أكثر من انتخابات،» هذه هي النتيجة التي يخلُص إليها آلان باديو. وأزيد عليه: لاحتواء المجموعات الاجتماعيّة وإعادة إنتاج شرعيّة السّلطة، لا شيء أفضل من الانتخابات.

دائرة القانون المُفرغة: الصوت الواحد المجزوء بدلًا من الصوت الواحد المجزوء

رغم أن قانون الانتخابات الجديد يتبنّى شكليًّا صيغة القائمة، إلا أنه (وبالطريقة المُتذاكية نفسها التي اعتدنا عليها محليًّا في صياغة القوانين) يُفرغ مفهوم القائمة من مضمونها تمامًا، ويعيد إنتاج مبدأ الصوت الواحد المجزوء.

تقوم فكرة القائمة على أن الناخب لا يُصوّت لأشخاص، بل لبرامج وتوجّهات تمثّلها أحزاب أو أشكال أخرى من التجمّعات أو التحالفات السياسيّة، فلا تعتمد القوائم في تشكيلها على المصالح الضيّقة المحدودة بقطاع صغير من الناخبين (مثل هذه القوائم ستخسر الانتخابات لعدم ميل عموم المُصوّتين إليها)، بل تُحاول أن تنفتح على مطالب عامة تستند على مصالح قطاعات كبيرة، تُحقّقها من خلال الاستحواذ على السّلطة أو الشّراكة فيها.

أما في الحالة الأردنيّة حيث تُحتكر السلطة وتُقاوم أي نزعة للشّراكة فيها، فيتمّ تحويل القائمة إلى ما يلي، بآليّة قانون الانتخاب الجديد:

أولًا: يعتبر القانون القائمة مفتوحة، لا مغلقة؛ أي أن الناخب يُصوّت ليس للقائمة (البرنامج) ككلّ، بل عليه أن يختار أشخاصًا وينتخبهم من داخل القائمة الواحدة، مُلغيًا منطق انتخاب القائمة، ومحوّلًا شركاء القائمة الواحدة/البرنامج الواحد إلى مُتنافسين. لم يعُد من معنىً للقائمة إذًا، وبدلًا من أن يتنافس المرشّح مع عموم المرشّحين فقط، صار عليه أيضًا أن يتنافس مع أعضاء قائمته.

ثانيًا: اعتمد القانون مبدأ الباقي الأعلى، ولم يضع عتبة (نسبة مُعيّنة من أصوات عدد الناخبين) لحصول القائمة على مقاعد في مجلس النواب. هكذا ضمن القانون ضمانًا مُطلقًا أن أيّ قائمة لن يفوز منها في دائرة ما سوى شخص واحد (شخصين في أحسن الأحوال في الدوائر الكبرى). هذا يضرب صيغة القائمة ضربة قاضية لأن المُتنافسين يعرفون سلفًا أن واحدًا منهم فقط هو الذي سينجح، وبالتالي يتعزّز التنافس بينهم ويزيد تفكّك اللائحة، الأمر الذي سيدفع المرشّحين إلى الطلب من ناخبيهم التصويت لهم وحدهم، عودةً بنا إلى الصوت الواحد المجزوء.

ثالثًا: يعتبر القانون أن اللائحة تظلُّ قائمةً بانسحاب جميع أعضائها باستثناء واحد، مما يعزّر فكرة أن المقصود بالعمليّة الانتخابية تفتيت الكتلة التصويتيّة للقوائم لصالح الأشخاص.

رابعًا: مقاعد «الأقليّات» (المسيحيون والشركس والشيشان) يفوز بها من يحصل على أعلى الأصوات في الدّائرة بغض النّظر عن قائمته، ما يعني المزيد من الإضعاف للقائمة.

خامسًا: مقاعد كوتا المرأة تفوز بها النساء الحاصلات على أعلى الأصوات بالنسبة إلى عدد الناخبين، وبغض النظر عن قوائمهنّ، ما يعني أيضًا المزيد من الإضعاف للقائمة.

سادسًا: يستمر القانون بالتعامل مع البدو على أنهم دوائر إثنيّة مُنفصلة لا علاقة لها بباقي المجتمع، مضيفة المزيد من التفكّك لقانون انتخاب يستمرّ في رعاية التفكّك على نهج سلفه.

سابعًا: يعتمد القانون (باستثناء المدن الكبرى) على اعتبار المحافظة دائرة واحدة، ورغم أن هذا الاعتبار الجديد قد يُؤخذ على أنه نقطة إيجابيّة مقابل التفتيت الذي أحدثه قانون الصوت الواحد المجزوء داخل المحافظات، إلا أن صيغة القائمة المفتوحة والباقي الأعلى وعدم وجود عتبة، تقضي على هذه الإيجابية قضاءً مُبرمًا، فلا يعود تشكيل التحالفات العابرة للمناطق والعشائر داخل المحافظة مُجديًا، بل تُصبح القوائم غطاءً لفوز شخص واحد هو صاحب النفوذ والمال الذي أنشأها، ومقدرته على الاستحواذ على أصوات بالطرق التي صارت معروفة ومكشوفة.

القانون الانتخابيّ المناسب لمحاولة تجاوز التّخريب والتّفتيت الّذين أحدثهما قانون الصوت الواحد المجزوء، هو قانون يعتبر الأردن كلّه دائرة انتخابيّة واحدة، ويعتمد القائمة الانتخابيّة المُغلقة، ويضع عتبة للدّخول إلى البرلمان. مثل هذا القانون سيشجّع إنشاء التّحالفات العابرة للمناطق والعائلات والعشائر والمحافظات، وسيدفع التّحالفات إلى تقديم برامج وطنيّة بدلًا من الارتكاز على تنفيع مجموعة محدودة وصغيرة من النّاخبين المباشرين، وسيدفع ذلك المجتمع إلى شراكة أكبر في صنع القرار. نعم سيفوز الإسلاميّون في هذه الانتخابات، لكن الإسلاميين سيفوزون في أيّ انتخابات نزيهة مهما كان شكلها، لا لشيء إلا لحسن تنظيمهم واتساع شبكة علاقاتهم ونفاذهم الاجتماعيّ؛ لكن هذا الفوز سيكون حافزًا للآخرين للتوحّد والتّنظيم والمعارضة، فلنتذكّر أن النّقيض يستلزم نقيضًا.

لكن هل مثل هذا القانون في مصلحة السّلطة؟ قطعًا لا. هل ننتظر من السّلطة أن تُقدّم لنا قانونًا مثل هذا في المدى المنظور؟ طبعًا لا. ما العمل إذًا؟ نعود لآلان باديو.

الصراع السياسي من خارج الدولة: مقاطعة الانتخابات وبناء البديل

اللّعب في ملعب الخصم وبقوانينه محكومٌ بالخسارة دائمًا. نستطيع الاستدلال على هذه القاعدة بنتائج ما يسمّى «عمليّة السلام» مع «إسرائيل»؛ والقانون الدولي الذي يُطبَّق بانتقائية بحسب مصالح القوى الكبرى وتوجّهاتها؛ أو بتعريف الإرهاب الذي ينطبق على قاتلٍ منفردٍ يقتل شخصًا أو عدّة أشخاص، ولا ينطبق على دولة أو نظام يقتلان مئات الآلاف. لا فائدة ترتجى من الدخول في «عمليّة السلام» أو الخوض في تعريف «الإرهاب» سوى إضفاء المزيد من الشرعيّة على بُنى القوّة التي تستفيد منهما.

ذات الأمر ينطبق على انتخابات مُقيّدة لا امكانيّة من خلالها لأيّ شراكةٍ في السلطة، وتقوم قواعدها القانونيّة على التفتيت الاجتماعي، ورعاية الزبائنيّة، وإعطاء الأفضليّة للمرشحين من ذوي النفوذ والمال ممن هم محسوبون أساسًا على دوائر السّلطة. المشاركة في مثل هذه الانتخابات لا تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة: إضفاء الشرعيّة عليها واحتواء المشاركين فيها داخل الدّائرة  المُدمِّرة، دائرة إعادة إنتاج الهيمنة وتعزيز نفوذ السُّلطة.

الانتخابات ليست غاية بذاتها، بل وسيلةٌ لتحقيق غاية هي تمكين المجتمع من ممارسة إرادته السياسية وتقرير طريقته في حكم نفسه على قاعدة من العدالة والمساواة الاقتصاديّة، ومحاسبة ممثّليه وحكّامه في حال لم يقوموا بالواجبات المنوطة بهم. إن انتفت هذه الغاية تصبح الانتخابات قالبًا دعائيًا وتنظيميًا من قوالب السّلطة التي تنظّمها.

دعونا نتذكّر قاعدة هامّة أخرى: لا ديمقراطيّة سياسيّة دون ديمقراطيّة اقتصاديّة. حتى لو توفّرت الضمانات لانتخابات «نزيهة» بالمعنى الليبرالي، فإن انعدام المساواة الاقتصادية يضمن أن يبقى التّمثيل السياسيّ بيد الأقليّة الغنيّة المُحتكرة للثّروة والنّفوذ، وما الانتخابات الأميركيّة إلا خير مثال على هذه القاعدة، حيث لا يمكن لأي مرشّح جديّ الفوز بالانتخابات الرئاسية أو انتخابات الكونجرس دون دعم ماليّ هائل يصل إلى مليارات الدولارات للحملات الانتخابية، تضمن أن يظلّ «صانع القرار» مُرتهنًا لأصحاب النفوذ الماليّ من «الداعمين».

بناء البديل الديمقراطيّ السياسيّ/الاقتصاديّ لا يتم إلا خارج المساحات التي تهيمن عليها الدّولة المعاصرة، هكذا يستنتج آلان باديو من ثلاث أحداث تاريخية كبرى، فشلت، لكنه يعتبرها خطوات على طريق التحرّر: كومونة باريس، الثورة الثقافيّة في الصّين، والانتفاضة الطلّابيّة في أيّار 1968 في باريس، أضيف إليها الانتفاضات العربيّة. من تلك المساحات المُحرّرة من هيمنة السّلطة ودولتها يبدأ بناء البديل الحقيقيّ، وهذا هو التحدّي الصعب.

الإحالات:

1. Joseph A. Massad, Colonial Effects: The Making of National Identity in Jordan (New York: Columbia University Press, 2001).
2. Nicos Poulantzas, Classes in Contemporary Capitalism (London: Verso, 1978).
3. Ali Kadri, Arab Development Denied: Dynamics of Accumulation by Wars of Encroachment (London: Anthem Press, 2015).
4. Alain Badiou, The Communist Hypothesis (London: Verso, 2010).

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.