عن غسان كنفاني / رشاد أبو شاور
رشاد أبو شاور – السبت 8/7/2023 م …
نحن لا نتذكّر غسان كنفاني في يوم اغتياله، لا، نحن نتذكّره، وكل قارئ عربي يتذكّره ونحن نقرأ قصصه ورواياته، ونتأمّل لوحاته، ونعود لكتاباته الصحافيّة والفكريّة التي تصدّى بها مبكّراً لدعاة “التسوية”، وللمنحرفين فكريّاً.
(بعض الذكريات عن غسان كنفاني بعد 51 عاماً على تفجير جسده)
انتقلت إلى مدرسة معهد فلسطين في حي الأمين لأدرس الصف التاسع. تأمّلت رسومات على الخشب معلّقة على مداخل الصفوف، صغيرة بحجم الكف. أحد الزملاء في صفي أخبرني: هذه رسومات لأستاذ كان هنا في مدرستنا، ولكنه سافر إلى الكويت ليعمل هناك… اسمه غسان كنفاني.
حديث عابر لم أتوقّف عنده مطوّلاً، ولكنني استعدته في ذاكرتي مراراً في ما بعد. قرأت (رجال في الشمس) ثمّ (ما تبقّى لكم)، وكنت قد أدمنت القراءة، والتهمت الروايات والقصص التهاماً.
وصلت إلى دمشق قبل سنتين تقريباً للالتحاق بأبي اللاجئ السياسي في سوريا منذ العام 1957، وفي سنتين قرأت الكثير، وقرّرت أنني سأكون كاتباً، وأن حياتي المستقبلية قد تحدّدت بهذا الخيار.
قرأت قصصاً للقاصة سميرة عزّام، وانبهرت بقصتها (فلسطيني)، وحكيت عنها لكثيرين، ونسختها وعمّمتها. انتقلت إلى مدرسة “دار الفكر” لأن مدارس وكالة “الأونروا” كانت تعلّم حتى الصف التاسع، وفي الصف العاشر تعرّفت على أصدقاء جدد، وسررت لأن بعضهم كانت لديه ميول أدبيّة، عرضوا محاولاتهم القصصية عليّ، وأنا فعلت الأمر نفسه، ولكننا لم نحاول أن ننشر شيئاً من محاولاتنا.
دخل غسان كنفاني في حياتنا، وبات المثل والقدوة، وقرأنا قصصه القصيرة ورواياته، ومع الوقت بتنا أمام التحدّي لأننا نريد أن نكتب مثله، وأن تكون قصصنا رفيعة المستوى وجديدة بتقنياتها.
إنها سنوات دمشق التي امتدت من عام 1957 حتى 1965، وبعدها عدت مع والدي إلى الضفة الفلسطينية، تحديداً إلى مخيم النويعمة جار أريحا.
زرت القدس والخليل، وعشت أوقاتاً صعبة، ولكنّني حوّلت الصعوبة إلى تجربة تعرّفني أكثر بواقع شعبنا الفلسطيني في الضفة، وبدأت أهجس بكتابة رواية تُجسّد حياة البؤس والشقاء والغربة في الوطن!
قبل عودتي من دمشق بسنوات، تحديداً عام 1962، انتظمت في صفوف فصيل فلسطيني، وخضعت لعدة دورات تدريبيّة، وتفتّح وعيي الوطني، وبتُّ أفكّر طيلة الوقت بقضيتي الفلسطينيّة، ولم تخطر ببالي الكتابة إلّا عن قضيتي الفلسطينيّة والصراع مع العدو الصهيوني.
قرأت (ما تبقّى لكم) وكتبت عنها مقالة أرسلتها إلى مجلة “الآداب” البيروتية التي كانت قبل سنوات قد نشرت لي مقالة عن مجموعة صديقي الشاعر فواز عيد (في شمسي دوار) ولكن المقالة لم تنشر.
ربما لم تصل، ووضعت جهات أمنيّة اليد عليها، ولكنني حزنت لعدم وصول المقالة ونشرها.
كنّا نكتب باليد، ولم تكن لدي نسخة ثانية.
عام 67 توظّفت في (بنك الأردن)، وبعد مرور شهرين وقعت الهزيمة، واضطررنا للرحيل، وبدأت مرحلة جديدة في حياة شعبنا وأمتنا.
في حزيران/يونيو 67 غادرنا أريحا بعد النكبة الثانية لفلسطين وشعبها، ولم يطل عملي البنكي، فاستقلت.
التقينا في العاصمة الأردنية عمّان، عند (بسطة) حسن أبو علي بائع الصحف والمجلات في شارع فيصل، وبتنا من زبائنه اليوميين، نجلس على كراسي القش القصيرة، ونتصفّح الجرائد والمجلات، وبيننا نشأت صداقة: الشاعر محمد القيسي، الشاعر أحمد دحبور، الشاعر خالد أبو خالد، الشاعر موسى صرداوي، وغيرهم ممن وفدوا من أقطار عربية عاشوا فيها ولم يكن متاحاً لهم من قبل أن يلتقوا في عمّان، على مقربة من فلسطين، ولكن انطلاقة المقاومة يسّرت لهم الأمر.
بدأت مجلّة (الهدف) تصل إلى عمّان، وتحمّسنا لها، وأُجريت معنا حوارات وندوات لها، ويوم وصول نسخها إلى عمّان، وهو يوم السبت مساء كما أتذكّر، بتنا نلتقي لنتلقف نسخها التي كان يحضرها حسن أبو علي من شركة التوزيع.
لقد كانت (الهدف) تجمعنا، وكان غسان كنفاني حاضراً معنا، ونتصرّف كأنه صديقنا ورفيقنا، رغم أننا من فصائل مختلفة، ولم نكن قد التقينا به بعد. كانت الثقافة تُقرّب بيننا، ورواياته وقصصه القصيرة، وكتاباته الصحافية محور حديثنا وكانت تلهمنا.
تلك أيّام هبّت فيها رياح المقاومة على الوطن العربي، وبدأت مذلة ومهانة هزيمة حزيران تتبدّد، وكبرت الآمال بحرب التحرير الشعبية، وتسيّد الزمن الفدائي والمقاومة، وباتت فلسطين في مرمى فوهة البندقيّة وخطوات الفدائي الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة.
آنذاك بدأنا نكتب قصصاً وقصائد مشتركة. محمد القيسي وموسى صرداوي كتبا عدّة قصائد، وأنا شاركت في الترويج، وما زلت أتذكّر مقطعاً من قصيدة للقيسي وصرداوي:
أيتها الرصاصة القنّاصة
أيتها الخلاصة
يا والدتي
وقد نشرتها في مجلة (الجبهة) التي كانت تصدر في دمشق وقدّمت لها.
ذات يوم توجّهت إلى بيروت، وضعت حقيبتي في مقرّ مجلة (إلى الأمام) وكان صاحبها، نسيب نمر، قد تنازل عن إصدارها وترّأس تحريرها المرحوم فضل شرورو عضو قيادة الجبهة (القيادة العامة)، وكنت أنا ضمن صفوف الجبهة التي هي جبهة التحرير، ولكنها خرجت من الوحدة التي جمعتها مع (شباب الثأر) و(أبطال العودة)، وحملت اسم (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وتوجّهت فوراً إلى مقرّ (الهدف) الواقع قبالة البناية التي تضم مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وكان يترّأسه الصحافي الكبير والمناضل المعروف الأستاذ شفيق الحوت.
… والتقيت بغسان كنفاني وجهاً لوجه.
كان مكتبه يقع في غرفة واسعة مفتوحة الباب، وهكذا اعتدت أن أجده، حيّيته وعرّفته بنفسي: أنا رشاد أبو شاور فوقف وسلّم بحرارة. أشار لي أن أجلس وخرج، وعاد بعد قليل وهو يحمل غلاية قهوة وفنجانين صبّ فيهما، وقدّم لي أحدهما، ثم أخذ يمرّر سيجارة تحت أنفه احترت لأنه لم يشعلها. (فيما بعد عرفت أنه مصاب بمرض السكري).
لفت انتباهي أن لون بشرة وجهه ليس أبيض بل أميل إلى الصفرة، وكان هذا مظهراً من مظاهر السكري.
تحدّثنا كثيراً حديثاً عاماً، ثم أخبرته أنني درست في معهد فلسطين (الإليانس) فسألني بانتباه:
– هل علّمتك؟
ابتسمت وأجبته:
– في المدرسة…لا.
فابتسم.
في لقاء آخر أخبرته أنني كتبت عن رواية (ما تبقّى لكم) فسألني باهتمام:
– أين ما كتبته؟
– كتبته وأنا في أريحا، قبل الهزيمة بأيام، وأرسلته للآداب… ولم ينشر. ولا أدري إذا كان قد وصل للدكتور سهيل… أم وُضعت عليه (اليد) في بريد أريحا!
قال:
– أنا لم أصدر الرواية عن الآداب، ألا توجد عندك نسخة من المقالة؟
أبدى اهتماماً بالاطلاع على رأيي في (ما تبقّى لكم)، وأسف لعدم توفّر المقالة.
تيقنت أنه متواضع، وأنه لا يستعلي، وأنه معني بسماع آراء الكتّاب حتى لو كانوا في بداياتهم وهو في أوج شهرته.
ذات يوم طلب فضل شرورو مسؤول الإعلام في الجبهة (القيادة العامة) أن نتوجّه معاً، أنا والشاعر مؤيّد الراوي، عراقي التزم بالجبهة وإعلامها، لزيارة غسان كنفاني لوضع أسس للتنسيق الإعلامي، فتوجّهنا إلى مجلة (الهدف)، فابتسم غسان وهو يخبرنا: لندع التنسيق للسياسيين، أنا سأقرأ لكما الجزء الذي أنجزته من روايتي الجديدة.
بدأ يقرأ الفصول التي أنجزها من (برقوق نيسان) إلى أن فرغ فاعتدل وسألنا، ما رأيكما؟
كان يبتدع أسلوباً جديداً غير مسبوق في القص، وأراد أن يسمع انطباعاتنا، هكذا بتواضع!
أذكر أننا تحمّسنا للتقنية الجديدة في روايته، وأنه وعدنا بعد أن شرح توجّهه في العمل الجديد، بأنه سيقرأ لنا ما سينجزه حين يكمل الرواية.
كان غسان كاتباً متواضعاً، وهذا يعود لأصالته، وإيمانه بدوره ككاتب ومثقف ثوري، ومنتمٍ لقضيته وشعبه وأمته.
ذات يوم دخل عليه في (الهدف) صديقنا الشاعر موسى صرداوي، وهو قصير القامة، ونحيل الجسد، وعيناه جاحظتان، ووجنتاه بارزتان، ويتكلّم دائماً بالفصحى، وبأسلوب مسرحي خاطبه فارداً ذراعيه:
– أبا فائز… أنقذني!
ردّ غسان (أبو فايز):
– ماذا هناك يا أستاذ موسى؟
– أريد أن أسافر إلى السويد هرباً من الشرق الأوسط… وهناك فنّانة وعدتني بتذكرة سفر إذا ما كتبت عن معرضها الفني الحالي في بيروت، وأنا وعدتها عندما زرت معرضها… وها هي المقالة معي.
نادى غسان على مدير التحرير، وطلب منه أن ينشر المقالة في العدد المقبل من دون أن يقرأها، وألّا يريه عدد (الهدف) إلّا بعد صدوره!
عرف غسان أن المقال مكتوب مجاملة، وهو بنشره عزم على مساعدة موسى للسفر رغم أن هذا مخالف لقناعاته!
كان غسان كنفاني صاحب مشروع ينجزه وهو يعيش حياة الخطر، ولذا كان يكتب ليل نهار رواياته، وقصصه، ويدير مجلة (الهدف)، ويشتبك في مواجهات فكرية، ويرسم، ويبدع خطوطاً جميلة، وكان يسابق الزمن.
إن حياته القصيرة قد أعطت الأدب العربي روائع أدبية روائية وقصصية ومسرحية ونقدية، لأنه لم يكن يضيّع وقته، فحياته جديّة، ممتلئة، وهو يسابق الزمن مدركاً أن أخطاراً تحدق به، ليس أشدها خطراً مضاعفات مرض السكري، ولكن ما يتوقّعه من العدو الذي يستهدفه في كل لحظة.
مراراً التقيته، وتحدّثت معه، وأصغيت إليه، وفي بعض المرات وقفت في مدخل غرفته المحتشدة بالصحافيين والمراسلين، وتابعته وهو يجيب على أسئلة بعضهم باللغة الإنكليزية، وفي نهاية اللقاء كان يسأل الحاضرين، وأنا منهم: ها… ما رأيكم؟
كنت أشعر وكأنه مع نهاية كل لقاء صحافي، أو مؤتمر صحافي، يخرج من معركة ويجلس ليتنفّس بعمق، ويستعد لاشتباك آخر!
هل كنت صديقه؟ من جهتي نعم، ومن جهته كنت أراه صديقاً لكل من يلتقي بهم… فكراً، وانتماءً… وكتابةً… وأنا منهم!
لم يحدث أن دعاني للانضمام إلى الجبهة الشعبية، حتى بعد أن غادرت موقعي التنظيمي وبتُّ (مستقلّاً).
وأنا أسير في جنازته كنت أحاول تجفيف دموعي لأرى نعشه بوضوح غير مصدّق، في جنازته الممتدة من (الهدف) في حي المزرعة حتى مقبرة الشهداء، في جنازته المهيبة الحاشدة… وأنا أردّد: يا للخسارة… يا للخسارة… يا للخسارة… يا غسان المعلّم الحبيب!
أنا لم أنسَ غسان كنفاني المعلّم، ودائماً أعود لقراءة رواياته وقصصه القصيرة، ومقالاته النقدية الساخرة والجادة (فارس فارس) في مجلة الصيّاد، والتي جُمعت بعد رحيله وصدرت في كتاب من منشورات (الآداب)، ومسرحياته… وأجد فيها جديداً، ورؤية جديرة بالتأمّل… والتعلّم.
رحل غسان كنفاني في إثر تفجير سيارته صبيحة 8 تموز/يوليو 1972، ومعه رحلت ابنة أخته الشابة لميس، وحتى اليوم تكتب الدراسات عن فنّه الروائي والقصصي، وعن حضوره الفكري، وعن حياته القصيرة الغنيّة المُلهمة لأجيال من المبدعين والمقاومين.
في تأبينه للقاصة والمترجمة والإعلامية والمناضلة سميرة عزام، اختتم كلمته: كانت معلمتي…
اليوم أخاطبه: غسّان كنفاني… أنت معلم على طريق فلسطين الواحدة الكاملة. أنت معلمنا نحن المؤمنين بتحريرها كاملة وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.
عمراً مديداً يا مُعلّم… وحياة تتجدّد بمقاومة شعبك العربي الفلسطيني البطل، وبأعمالك الروائية والقصصية والفكرية والفنيّة التي تُلهم وتنير درب فلسطين.
نحن لا نتذكّر غسان كنفاني في يوم اغتياله، لا، نحن نتذكّره، وكل قارئ عربي يتذكّره ونحن نقرأ قصصه ورواياته، ونتأمّل لوحاته، ونعود لكتاباته الصحافيّة والفكريّة التي تصدّى بها مبكّراً لدعاة “التسوية”، وللمنحرفين فكريّاً.
غسّان حي بإبداعاته، بحياته الجدية التي مكّنته من كل إنجازاته رُغم عمره القصير، وهذا ما يجب أن يتعلّمه الكتّاب والمثقفون والمقاومون الجادون الصادقون… فتعلّموا… وتعلّموا.
التعليقات مغلقة.