فرنسا – القضاء في خدمة برنامج الحكومة / الطاهر المعز

 




الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 12/7/2023 م … 

انطلقت الإحتجاجات الأخيرة إثْرَ اغتيال الشاب نائل مرزوق يوم 27 حزيران/يونيو 2023، بمدينة “نانتير” بالضاحية الغربية بباريس، لكن هذه الجريمة ليست الأولى من نوعها بل يقتل سلاح الشرطة سنويا العديد من المواطنين، منذ عُقُود، وتقتصر وسائل الإعلام ونواب البرلمان وأعضاء وأنصار الحكومة على إبراز صور بعض حاويات النفايات أو السيارات المحروقة، مُتناسين الأسباب العميقة للغضب الشعبي والمتمثلة في التفاوت الطّبقي المجحف والعنصرية المُمَأْسَسَة التي يعكسها العنف اليومي لعناصر الشرطة، بدعم من الحكومة ووسائل الإعلام وتواطؤ القضاء…

هذه الانتفاضات الشعبية هي ضد وحشية الشرطة، وضد الميز الذي يجعل من سكّان الأحياء الشعبية ومن أحفاد المهاجرين العرب والأفارقة مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة (بعد الفقراء الأوروبيين البيض)، وضد غلاء المعيشة في فرنسا، وتَمَثَّلَ رد الحكومة الوحيد – كالعادة – في تعبئة 45 ألف شرطي، ثم سبعة آلاف إضافي لحماية الأثرياء في منطقة باريس.

طلبت الأمم المتحدة من الحكومة الفرنسية “التعامل بجدية مع مشاكل العنصرية العميقة المُتأصّلة والمنتشرة بين أجهزة إنفاذ القانون” (الجمعة 7 تموز/يوليو 2023)، وردت الحكومة الفرنسية بأن “أي اتهامات بالعنصرية المُمَنْهَجَة أو التمييز من قبل أجهزة إنفاذ القانون في فرنسا لا أساس لها على الإطلاق”.

لم يكن هذا قتل الشاب نائل مرزوق حدثًا استثنائيا معزولا، بل تستمر وحشية جهاز الشرطة وانتهاكاته منذ سنوات عديدة، و ارتفع عدد ضحايا رصاصات الشرطة، خصوصًا منذ سنة 2017، بعد إقرار حكومة الحزب الاشتراكي والخُضْر قانونا يسمح لضباط الشرطة باستخدام الأسلحة النارية، ليصبح هذا القانون بمثابة ترخيص للقتل، وأظهرت دراسة نُشرت خلال نفس السنة ( 2017 ) أنه إذا كان مَظْهَرُك يُشير أنك ذَكَرٌ من أُصُول عربية أو إفريقية فمن المحتمل أن تخضع للتوقيف من قِبَل الشرطة بذريعة مراقبة الهوية أو ما شابه ذلك بمقدار عشرين مرة أكثر من باقي السكان، في حين أن معدل البطالة مرتفع في الأحياء الشعبية بنسبة تتراوح بين 16% و20% مقابل معدل وطني من 7% إلى 8%، لكن القادة السياسيين من اليمين واليسار البرلماني يمثلون مصالح الاحتكارات الرأسمالية ولا يسعون إلى حلول سياسية لمشاكل الطبقة العاملة والفقراء المقيمين في الأحياء الشعبية فكان الرد الوحيد لحكومات ائتلاف الحزب وحزب الخضر أو حكومات اليمين التقليدي المحافظ، هو تكثيف عنف الشرطة والقمع القضائي، بالإضافة إلى حملات التشويه الإعلامي. إنها سياسة تشجع ممارسات الاضطهاد والعزل والتنميط الاجتماعي والعرقي إلخ. فلا تسعى مؤسسات الدولة لحل أو حتى مناقشة المشاكل المطروحة، بل تنتظر حدوث مشكلة للرد عليها بالعنف المادي والإعلامي والسياسي والقضائي، وبالمقابل شجعت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون أعضاء الميليشيات الفاشية المسلحة بمضارب البيسبول الذين يستعرضون عضلاتهم في مدن مثل أنجيه أو ليون أو لوريان، وجعلت منها مُساعدة للشرطة عند تنفيذ حملات القمع والإعتقال، ويبرز التقارب بين المنظمات الفاشية والعديد من عناصر الشرطة، من خلال بيان أصدرته نقابتان للشرطة يشتركان في اعتبار “إن الشرطة تحارب الحشرات والحُثالة من “المتوحشين، كما تحارب المنظومة القضائية أيضًا…”

اعتقلت الشرطة أكثر من خمسة آلاف شخصًا من سُكّان الأحياء الشعبية خلال أقل من أسبوع واحد، ولا سوابق لأكثر من ثُلُثَيْ المعتقلين الذين بقي منهم في السجن ما لا يقل عن 3600، من بينهم 1100 قاصر، تم إحالتهم على القضاء الإستعجالي ليدينهم وفق قوانين استثنائية، بحسب ما أوردَتْهُ البيانات الرسمية، وأمرت الحكومة المحاكم بتنظيم محاكمات سريعة للموقوفين الذي أُدِين بعضهم بأحكام طويلة بالسجن اعتمادًا على فرضية “إنهم مذنبون” بسبب إلحاق بعض الأضرار المادية، ولو لم يتمكّن الإدّعاء من إثبات التهمة، لأن القضاة يستجيبون لطلب ( أو أوامر) الحكومة بضرورة الإنتقام الطّبقي، بينما يتم تجاهل محنة وظروف عيش سُكّان الضواحي، والدّليل على استهداف فئة مُعينة من السّكان هو وجود العديد من السمات المُشتركة للشباب المعتقلين: فالعديد منهم من المراهقين، وقلة قليلة منهم لديها سجل جنائي وتتراوح أعمارهم بين أربعة عشر وثمانية عشر عاما، وجلهم، إن لم يكن جميعهم من أبناء وأحفاد المُهاجرين العرب والإفريقيين، واستجاب القُضاة إلى رسالة وزير القضاء الذي طالبهم “برد سريع وحازم ومنهجي لمواجهة الاضطرابات”، بحسب الإذاعة العامة “فرانس إنتر” – 3 تموز/يوليو 2023، فمن يجرؤ بعد هذا على الحديث عن استقلال جهاز القضاء واعتباره سلطة مستقلة تعادل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية؟

جرت هذه المحاكمات في جلسات استماع عاجلة، مصممة لتقديم رد جنائي سريع على القضايا السياسية، وتجاهل القُضاة شُرُوط المحاكمة العادلة وحقوق المدعى عليهم، واعتبرتهم المحاكم مذنبين دون تقديم الأدلة باستثناء ما وَرَدَ في محاضر مُحقِّقِي الشرطة ولم يتسلم محامو الدفاع ملفات موكليهم إلا في صباح يوم المحاكمة، قبل سُوَيْعات قليلة من جلسات المحكمة.

يتراوح متوسط عمر الأشخاص المحتجزين بين سبعة عشر وثمانية عشر عامًا، بحسب بيانات وزارة الدّاخلية، غير أن أعمار المئات من المُحتجزين في البداية تتراوح بين 12 و 15 سنة، وفي يوم واحد (الثلاثاء 4 تموز/يوليو 2023) حاكم القضاء المُستعجل – طيق قوانين وإجراءات استثنائية – أكثر من 380 متظاهرًا، بعد 48 ساعة أو 72 ساعة على أقصى تقدير من ساعة اعتقالهم، وفقًا للأرقام التي نشرتها وزارة القضاء، وخلال المحاكمات المُستعجلة يتجاهل قُضاة الإدّعاء ( الذين يمثلون الحكومة وليس المجتمع كما يدّعون) مبدأ قانونيًّا أساسيًّا وهو المسؤولية الفردية عن الأفعال، فطالبوا بسجن الجميع، قائلين: “يتعلق الأمر بالمسؤولية الجماعية وليس الفردية”، يتم تحديد الأحكام على أساس الأصل الطبقي والاجتماعي والوضع المهني للمتهمين وليس على أساس الأدلة.

إنه المنطق القمعي للنظام القضائي الذي تتمثل وظيفته في الاستجابة لمطلب حكومي (مطلب سياسي وليس قانوني) للانتقام ولتَجَنُّبِ النقاش حول البطالة والفقر والفجوة بين الأغنياء والفقراء.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.