قراءة هادئة لمضاعفات الانقلاب الفاشل في تركيا / محمد فاضل فطوم
محمد فاضل فطوم ( الأربعاء ) 31/8/2016 م …
جرت العادة على تسمية استيلاء مجموعة عسكرية على السلطة انقلاباً. وبالتدقيق والتمعن الموضوعي فإن هذه الانقلابات قد تتشابه بالأسلوب والطريقة، ولكنها قد تختلف في الأغراض والغايات، ولذلك لا يمكن أخذ موقف واحد وثابت بالتذرع بالمبادئ. وهنا أضع نفسي موضع النقد بسبب الخروج عن الالتزام بالخيار الديموقراطي الذي يرفض الانقلاب كموقف مبدئي.
لقد أثار الانقلاب التركي الفاشل ردود فعل دولية وشعبية متباينة ومتعارضة٬ وقد أدى إلى نتائج خطيرة على الجانب التركي، لن تكون الأخيرة على المدى المنظور بحسب اعتقادي، إذ إن تركيا أيضاً أصبحت في حقول التجاذب الدولي، وأصبح التنافس عليها بالإغراء والضغوط والتهديدات الظاهرة والمبطنة عاملاً مهماً في انعدام الاستقرار الذي ستعاني منه الدولة التركية لأمد غير قصير. ونظراً إلى أن تركيا دولة «أطلسية»، وأن انقلاباً فيها، كما يقال، نفذ بحوالي خُمس جيشها – وهو حجم مناسب وفعالية كافية تماما لنجاح أي انقلاب وصلت قواته إلى مفاصل مهمة ورئيسية في الدولة، وسيطرت ولو لفترة وجيزة على مرافق وعقد عسكرية ومدنية – هذا الانقلاب كان يمكن أن يكون ناجحاً لولا مجموعة من العوامل التي أدت إلى إفشاله، وكانت ضربة حظ لاردوغان، ولحزب «العدالة والتنمية»، وللشعب التركي الذي جنبته الأخلاقية العالية لعسكره الانقلابيين الخوض بدماء غزيرة، فكانت السهولة التي سلم بها عسكريو الانقلاب سلاحهم، وسمحوا للجمهور بتسلق دباباتهم واقتيادهم السهل للاعتقال، وتعرضهم للمهانة وذلك من دون رد الفعل الغريزي المعهود دليلاً على تلك الأخلاق٬ ويسجل كعلامة ناصعة بيضاء في تاريخ الانقلابات العسكرية ليس في تركيا فحسب بل في العالم كله. لكني أزعم أن ذلك سيؤدي إلى انقلاب آخر في تركيا، وسيكون دموياً بإفراط، وسينتقم للعصبية العسكرية، ولاعتداد العسكر بقوتهم وأنفسهم، وسينتقم للمهانة التي تعرض لها جيش تركيا أمام جموع استغلت أخلاقيته العالية، فسببت له المذلة والبؤس.
ولأن تركيا دولة «أطلسية» أيضاً، فمن غير المعقول أن يتم الإعداد والتحرك والتنفيذ للانقلاب، وبالتأكيد لفترة ليست قصيرة، ومن قبل مستويات عليا في الجيش، من دون علم الجهات «الأطلسية» والأميركية بالتحديد، وهذا يوحي بالريبة والشك بأن الأميركيين أرادوا حدوث الانقلاب ولم يبالوا بفشله. ومن المؤكد أنهم، وفق طريقتهم المعروفة، أخذوا بالاعتبار النتائج لاحتمالات حدوث الانقلاب ونجاحه أو فشله، ورجحوا الاحتمال الأنسب لهم ليس على المدى المباشر، وإنما على المدى المتوسط وربما البعيد. فانقلاب العسكر العلمانيين في تركيا سيتطلب تغييراً في السياسة التركية الإقليمية، وموقفاً مختلفاً من المسألة السورية، ليس من الضروري أن يكون ودياً أو حيادياً. فلو حدث ذلك، لفقدت أميركا «أذرعها» العسكرية المؤلفة من «جيش الفتح» أو «النصرة» وحتى «داعش»، وقد يضعها ذلك على سكة الانهيار والهزيمة، وهذا ما لا تريده أميركا التي تشكل التنظيمات العسكرية المعروفة محور سياستها وأساس تدخلها في المسألة السورية. وقد يحدث انحراف في حال التعبئة والعداء للسلطة السورية، لو نجح الانقلاب، وستغيب عندها المضامين والشعارات المذهبية، وهذا مخالف لمصالح أميركا القتالية والإستراتيجة.
إن حزب «العدالة والتنمية»، والاردوغانية تحديداً، حاجة ماسة لإسرائيل وأميركا في سوريا والعراق. فمن دونها تسلك المسألة السورية سكة الحل الوطني الديموقراطي، وهي ضمانة أكيدة لدوام الرايات السود والأفعال الشنيعة السوداء. لكن العَرَض الجانبي الخطير، والذي قد يكون مفيداً لاتجاهات عدة٬ هو أن الانقلاب قد ألصقت عليه ماركة مسجلة لرجل الدين المعروف غولن، ذي النشاطات الواسعة في مجالات الحياة التركية، والذي يشكل ظاهرة شعبية في التعليم والاقتصاد والقضاء. إن هذا العَرَض الجانبي الخطير يقسم المجتمع التركي، وتحديداً التيار الديني الذي تعمقت خصوماته التي لن تكون خصومات عابرة وسيكون لها نتائج كارثية. فبلمحة بسيطة على التصفيات العصبية الشمولية التي حدثت لكثيرين بحجة أنهم من أتباع غولن، نرى أنها شملت العسكر والقضاء والسلك الديبلوماسي والتعليم والرياضة، ولم يسلم منه إلا الفنانون بحسب معرفتي.
إن الانقسام بين اردوغان وغولن لن يكون في المؤسسات الرسمية بحيث تمكن تصفية أتباع غولن بسهولة، بل يتعداها إلى الحالة الشعبية في التيار الديني في تركيا، وهذا سيكرس العداء من خلال تلك التصفيات ويسعره، ولن يخمده على المدى القريب٬ وسيؤدي إلى تداعيات، قد تتراكب مع المسألة السورية والكردية، وسيكون حزام الأمان «الأطلسي» لتركيا أمام تحديات ليست بالبسيطة٬ خصوصاً أن الخلافات اخترقت الجيش، ولا مجال أمام اردوغان إلا مذهبته لحماية سلطته. وهكذا تعاد هيكلته وهيكلة مؤسسات الدولة التركية لتناسب السلطة الاردوغانية، وسيكون سيناريو الأحداث مفتوحاً على ما يشبه أعراض الفوضى الخلاقة التركية.
هناك من يشعر أن الأوربيين كانوا مع الانقلاب انتقاماً من ابتزاز اردوغان لهم في قضية اللاجئين، وهو ما عكسته تصريحاتهم وصحافتهم. ومن الطبيعي أن العقل السياسي الأوربي يريد نظاماً علمانياً على تخومه الشرقية. فالكتلة البشرية الإسلامية في الدول الأوروبية، التي تزداد وتزداد، والتي تحيي فيها الأنظمة المذهبية ومؤسساتها أحلام الخلافة التي يطربها الطموح الاردوغاني، لا بد أن تقلق حكومات أوروبا وتشعرها بمضار الاردوغانية. أما روسيا التي يزحف «الناتو» حثيثاً إلى تخومها الغربية، فهي تدرك أن تركيا ركيزته القوية، ومن المنطقي أن ترحب بخلخلة العلاقات التركية الأوروبية والأميركية، ومن الطبيعي أن تغدق مع إيران وعوداً وترسم صوراً وردية لسياسة مشتركة، تُحل عبرها الأزمة السورية بتشارك الدول الثلاث، بما يضمن صيد العصفور الكردي المحمي أميركياً بالإمداد وبالغطاء الجوي، وأدبياً بالحضانة الروسية، مقابل نظام معدل في دمشق تملأه مفاصل النفوذ الروسي الإيراني الراسخ والقوي، ويتلون بشامات دول الإقليم ووحماته.
ومن غير المتوقع أن يستعيد اردوغان مجد سياسته في سوريا، فذلك مجاف للعقل والأيديولوجيا، وهو ملزم بتعديلات تشجيعية للروس والإيرانيين. ولكي يحافظ على فعالية نفوذه في سوريا وعلى الندية مع الروس والإيرانيين سيحتاج دوماً إلى الارتكاز على عمليات «جيش الفتح»، وسيظهر مقابل ذلك أن رسن «جيش الفتح» و «النصرة» وشكيمته بيده، وهذا يعطيه القوة والوزن في المفاوضات حول المسألة السورية.
إن نقطة التصالح في ذات اردوغان حول موقفه من المسألة السورية تحتاج إلى شجاعة وتشجيع، فلديه حتى الآن موقف ثابت من الحالة الكردية السورية، وهو موقف مفهوم، ولا مجال للمساومة وعقد الصفقات فيه، لما يحمله من مخاطر على الدولة التركية. ولكن موقفه المتسم بالمرونة البسيطة من السلطة السورية، وقبوله المشروط بمشاركة رئيس السلطة السورية في مرحلة انتقال سياسي يعد الحد الأقصى لاستدارته إزاء سوريا. فزيادة الانعطاف ستفقده تعاطف المجموعات المسلحة (عدته وسنده) في هذه المسألة. ولذلك يجب أن تؤدي العمليات الميدانية الروسية الإيرانية السورية المشتركة إلى انعطاف عسكري مهم يساعده على إدراك الخسارة الكبرى في الرهان على تواطؤ روسي وغضب إيراني مقبول على ما يقوم به «جيش الفتح» و «النصرة» في حلب، وإلا فلا لزوم لأي شهر عسل مع الروس ولا زواج متعة مع الإيرانيين. كما يجب أن تظهر خسارته في الرهان على حصان «جيش الفتح» و «النصرة» بعدما بذل اردوغان أقصى ما يستطيع لنجاح عملياتهما، لأن معادلة القوى لن تكون إلى جانب الرغبة التركية، وسيؤدي عناد الأتراك إلى هزيمتين أمام الروس والإيرانيين٬ واحدة في حلب وواحدة أمام الأكراد في الشمال السوري٬ لذا فالمقايضة ستكون حلب بالأكراد.
لقد غيبنا في السطور السابقة الأميركيين، وهم بالتأكيد حاضرون بقوة. فللأميركيين تحالف وحضور في العراق وتركيا، وهم مع الإسرائيليين معنيون باستمرار الصراع. لكن نقطة ضعفهم وهم يدعون أنهم حملة راية الديموقراطية والعلمانية… الخ، أنهم يرتكزون في تنفيذ سياساتهم على أكثر القوى ظلامية وتوحشاً وجهلاً. وعلى هذا فإن حلفاءهم يلعبون دوراً مهماً وأساسياً في الحرب الجاهلية وفي التدمير الشامل للدول. ولكن هؤلاء غير مؤهلين لإدارة الدول. فـ «طالبان» مثال ونموذج، و «حركة شباب الصومال» أيضاً، والوضع الليبي مثال فاقع. مشكلة الأميركيين تكمن في استخدام أسلحة السياسة الجرثومية كـ «القاعدة» و «داعش» و «النصرة» وأشقائهم وضرائرهم، لكنهم مهددون أيضاً بعدوى جراثيم السياسة المرتكزة على التوحش المذهبي المدجج بالأسلحة الأميركية. إن الحيرة الأميركية إزاء الرغبة الأكيدة في اسقاط السلطة السورية تصطدم بالرغبة أيضاً في عدم إقامة سلطة «النصرة» و «القاعدة» والمجموعات المذهبية المتوحشة. ولذلك نجدهم مضطرين إلى الشراكة مع الروس، وأعتقد أن جل اهتمامهم يرتكز على خرائط مصالح معروفة للطرفين وشركائهما، لكنه يحتاج إلى بنية للإدارة السورية المقبلة تضمن لتلك المصالح المتعارضة التوازن، أو التناسب.
التعليقات مغلقة.