السياق التاريخي للتحديات التي تواجه التيار القومي العربي منذ مطلع القرن الماضي / عليان عليان
عليان عليان ( الأردن ) – السبت 15/7/2023 م …
واجه التيار القومي منذ تشكله في مطلع القرن الماضي ، سلسلة تحديات عشية انتهاء الدولة العثمانية، مروراً بفترة الاستعمار والانتدابات الاستعمارية للوطن العربي وبمرحلة ما بعد الاستقلال للعديد من الدول العربية، وصولا لمرحلة العولمة الراهنة والنظام العالمي الجديد.
فالتيار القومي العربي، الذي عبر عن نفسه في مطلع القرن الماضي عبر جمعيات عربية، واجه تحدي التتريك ، وطمس الهوية القومية واللغة العربية، من قبل جمال باشا أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي ، ودفع في سبيل ذلك أكبر التضحيات حيث لعبت البرجوازية الشامية دورا مهما وبارزا في هذا السياق، وتحالفت مع الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي ، من أجل التخلص من النفوذ العثماني التركي ، الذي انتقل من حالة مغطاة بشكل زائف سياسيا وشرعيا بمقولة الخلافة الإسلامية ودولتها ،إلى حالة أقرب ما تكون للاستعمار.
وقد نجح التيار القومي آنذاك ، في إنهاء الوجود التركي بالتحالف مع دولتي الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا ، لكن طبيعة المساومات التي قادتها بعض رموز التيار القومي، والركون إلى الوعود الاستعمارية بشأن الدولة العربية المستقلة ، التي يمكن ملاحظتها في رسائل الحسين- مكماهون ، والانشداد لمصالح الحكم الضيقة في في ظل وجود الانتداب البريطاني والفرنسي ، خاصة في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق ،كل ذلك نقل التيار القومي من مأزق التتريك إلى مأزق أكثر خطورة الا وهو مأزق التفتيت والتجزئة .
إذ أنه وفي الوقت الذي كان فيه التيار القومي منشغلا بالثورة ضد الأتراك كانت قوى الاستعماريين البريطاني والفرنسي ، منشغلة بتوظيف هذه الثورة لإنهاء الوجود التركي ، والحلول محله عبر مؤامرة استعمارية متعددة الأطراف ، هي الأخطر في التاريخ العربي ، تمثلت في تحديين رئيسيين لا يزال الوطن العربي يعيش أثارها الخطرة في اللحظة الراهنة .
التحدي الاول تمثل في وعد بلفور الذي منح اليهود حق إقامة دولة لهم في فلسطين حيث وضعت بريطانيا بدعم من قبل الدول الاستعمارية، الاليات لتنفيذ هذا الوعد والتي جرى تضمينها في صك الانتداب البريطاني على فلسطين ، بما مكن المنظمات اليهودية والصهيونية من إقامة دولة الكيان الصهيوني على 80 في المائة من أرض فلسطين التاريخية في (15)أيار 1948 ، رغم المقاومة البطولية التي أبداها الشعب الفلسطيني في مواجهة هذه المؤامرة ، التي تجاوزت الخطوط التي حددها قرار التقسيم الظالم الصادر في تشرين ثاني 1947.
وهذا التحدي اقترن بتحدي خطير جدا بعد هزيمة تركيا وروسيا وألمانيا وبقية حلفائها في الحرب العالمية الأولى، حيث عملت الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب على اقتسام تركة الرجل المريض “الدول العثمانية” ، بمعزل عن الوعود التي قطعت للشريف حسين ، حيث تم اقتسام التركة في مؤتمر سايكس بيكو ، بين مجموع الدول الاستعمارية، وتحديدا بين بريطانيا وفرنسا ، إذ إنه وبعد أن كان الوطن العربي موحدا ،تم تحويله إلى أجزاء وقطع متناثرة بأسماء دول جديدة ، وذلك على حساب الهوية القومية، ولتعزيز النهج القطري في مواجهة النهج القومي ، حيث شكل النهج القطري تحديا جديدا للعمل القومي والتيار القومي لاحقا.
فالتجزئة التي أوجدها الغرب الاستعماري، شكلت مع الكيان الصهيوني مظهرين لعملية سلب تاريخي وإرادي ، لإفقاد الامة لحاضرها ومستقبلها وتخريب ماضيها.
لقد أدرك العرب سمة تلك المرحلة وأخطار تلك التحديات ، ولذلك كانت مجابهتهم للهجمة الأوروبية التي كشفت عن نفسها بنظام الانتداب بثورات 1919 في مصر و1920 في العراق ، وبالثورات المتعاقبة في فلسطين وبخاصة ثورة 1936 وبالثورة السورية التي قادها سلطان باشا الاطرش، والتحرك الثوري الذي قاده يوسف العظمة والثورات التي عمت ليبيا بقيادة شيخ المجاهدين عمر المختار ، والجزائر والمغرب الخ….
وكانت هذه الثورات اعلانا صريحا بان الرفض العربي للسيطرة التركية لا يعني قبولا بالاستعمار وبالسيطرة الاوروبية، وانه سوف يستمر التناقض ما بين دول المعسكر الرأسمالي الاستعماري وبين الأمة العربية، لإنهاء التجزئة والغاء المعاهدات التي أبرمتها الزعامات التي تكرست في ظل التجزئة .
لقد أفرزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، نوعين من المواقف : الأول رسمي ارتضى أن يكون الحاضن والتابع للنفوذ الاوروبي ، وقد وجد هذا الموقف أنصاراً له في أحزاب وأركان ومواقع فكرية ، انطلقت من موضوع الحكم الوطني الزائف لتبرير المرحلة .
الموقف الثاني شعبي: عبر عن رفضه للشكل الجديد من السلطة ، وأدرك بسرعة أنه امتداد للسيطرة الاجنبية ، وتمثل في العديد من الاحزاب القومية ، لكن برامج هذه الاحزاب حملت هموم المرحلة القطرية ، اكثر من حملها هموم المرحلة الاجتماعية وعبرت عن هم قومي عام، بدليل ضعف المحتوى القومي والاجتماعي في برامج تلك الأحزاب ، وحتى إذا وجد مثل هذا المحتوى فانه وضع بشكل غير موافق للتوجه القومي الحقيقي.
وجاءت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، لتفرز تحديا من نوع جديد الا وهو تحدي الاستعمار الجديد ، إذ انه وبخلاف بعض الاقطار التي حققت استقلالا حقيقيا نتيجة لثورات ذات توجه قومي واضح وعلى رأسها ثورة (23) يوليو /تموز 1952 بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر ، فان دولا اخرى من نتاج سايكس بيكو حصلت على استقلال شكلي ، ووضع على راسها قوى طبقية مرتبطة مصلحيا بدول المركز الإمبريالي ، وبالتالي أصبحنا في العالم العربي أمام نهجين في منظومة الدول العربية القائمة ، نهج التطور القومي اللارأسمالي المستقل الذي سماه البعض بالنهج الاشتراكي، ونهج التبعية الذي يتضمن بقاء الاستعمار دون الوجود العسكري الاستعماري الاحتلالي المباشر .
وقد تعمق الصراع ما بين هذين النهجين عشية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وابان حلف بغداد ، وعشية حرب 1967 ، وبعد انقلاب السادات على النهج الناصري في 15 مايو ( أيار) 1971 ، ووصل ذروته عمليا بتوقيع الرئيس المصري “أنور السادات ” على معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني في 17 سبتمبر ( أيلول) 19078 ،التي أخرجت مصر من معادلة الصراع مع العدو الصهيوني ، ما شكل انقلاباً جذريا على الخط القومي والاجتماعي الذي قاده الرئيس “جمال عبد الناصر” منذ ثورة يوليو 1952 .
كما يجب الاشارة هنا الى تحدي الصراعات الداخلية، بين حزب البعث والحركة الناصرية من جهة ، والصراعات بين جناحي البعث من جهة أخرى ، وكذلك تحدي الصراعات بين قوى التيار القومي والأحزاب الشيوعية العربية من جهة ثالثة خاصة إثر الموقف السلبي الذي اتخذته بعض الأحزاب الشيوعية العربية من قضية الوحدة المصرية –السورية عام 1958 ، ذلك الموقف الذي لا يستند نظريا الى أساس أيديولوجي في “الماركسية –اللينينية” ، وكذلك موقف بعضها من القضايا القومية ومن المقاومة المسلحة وآليات إدارة الصراع مع العدو الصهيوني ، حيث أثرت هذه الصراعات الداخلية بالسلب على قدرات المشروع القومي في مواجهة التحديات الامبريالية والصهيونية والرجعية .
وتواجه الأمة العربية وقوى التيار القومي ، منذ أكثر من عقدين ، وتحديدا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، في مطلع تسعينات القرن الماضي وما الت إليه الاوضاع في العراق بعد العدوان الثلاثيني عام 1991 واحتلاله عام 2003 ، تواجه ثلاث تحديات هي :
أولاً : تحدي العولمة والنظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والقطبية الأمريكية المهيمنة وذلك من زاويتين :
الاول : إعادة تقسيم الدول العربية “تفتيت المفتت وتجزيء المجزأ ” عبر مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي طرحته الإدارة الأمريكية ، بهدف تحويل الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني الى كانتونات عرقية وطائفية ، بحيث تظل دولة الكيان الصهيوني هي الاقوى والأداة الرئيسية للمشروع الامبريالي .
ثانيا : شطب الهوية القومية العربية في إطار مشروع الشرق الاوسط الجديد ، بحيث تحل علاقات شرق أوسطية جديدة، بين دول الإقليم محل العلاقة والرابطة القومية ولتحل مؤسسة إقليمية جامعة لدول الإقليم محل الجامعة العربية ،وتلعب من خلالها دولة العدو الصهيوني ، دور المهيمن والشريك للامبريالية الامريكية في السيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها.
وما سهل مهمة الإمبريالية الأمريكية، في الاستمرار في تنفيذ مخططها ،الأزمة التي تعصف بحركة التحرر العربية منذ ثمانينات القرن الماضي ، وخاصة بعد انهيار جبهة الصمود والتصدي ، التي جاءت رداً على توقيع السادات لاتفاقيات كامب ديفيد وعلى المعاهدة المصرية- الإسرائيلية.
ورغم الحروب العدوانية الإمبريالية، ورغم آليات العولمة المختلفة ، إلا أن مشروع الشرق الأوسط الصهيو إمبريالي فشل فشلاً ذريعاً ، جراء المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية .
وأمام فشل المشروع الشرق أوسطي بصيغته السابقة ، تفتق ذهن الإمبريالية الأمريكية ، عن مشروع جديد ” الربيع العربي المزعوم ” كآلية للمشروع الشرق أوسطي الصهيو أميركي، في إطار الثورات الملونة، بهدف إنهاء وجود الأنظمة الوطنية والقومية، وإنهاء وجود بعض أنظمة الحكم العربية الموالية لها ، وإحلال محلها نظم إسلاموية ، وكانتونات طائفية وعرقية وإثنية ، حيث جرى استخدام القوى الإسلاموية لتنفيذ هذا المخطط ، التي شكلت حاضنة للفصائل الارهابية بمسمياتها المختلفة في كل من ليبيا ومصر وسورية ، وكذلك القوى الاثنية الكردية في الشمال السوري وفي العراق.
ورغم فشل استهدافات الربيع العربي الصهيو أميركي المدعوم من دول النفط ومن العثمانية الجديدة في كل من مصر وسورية ، إلا أن الإمبريالية الأمريكية لا زالت تراهن بشكل بائس على تنفيذ مشروعها في سورية والعراق، من خلال استمرار تواجدها العسكري في العراق ، وفي الشرق السوري عبر قواعد عسكرية ، ومن خلال الحصار الاقتصادي وفق قانون قيصر .
وأخيراً فإن ما يعوض نسبياً عن حضور حركة التحرر العربية ، التي لم تغادر أزمتها بعد ، وما جعل ويجعل من مهمة المشروع الصهيو أميركي صعبةً بل ومستحيلة في المنطقة ، هو تشكل محور المقاومة الذي بات يضم كل من إيران والمقاومة العراقية ، وسورية ، وصنعاء وحزب الله والقوى الوطنية والتقدمية في لبنان وأطراف من المقاومة الفلسطينية ، حيث لعب هذا المحور دوراً مركزياً في إفشال المخططات الصهيو أميركية والرجعية في سورية واليمن، وفي دعم المقاومة الفلسطينية ،التي باتت تخوض حرباً حقيقية ضد الاحتلال ، وباتت أوساط العدو الأمنية والإعلامية ،تتحدث يومياً عن تآكل قوة ردعها في مواجهة المقاومتين الفلسطينية واللبنانية.
التعليقات مغلقة.