«إسرائيل» في جنين: كيف نفهم العدوان؟ / رازي نابلسي
مع بدء الحملة العسكريّة واقتحام مخيّم جنين، خرج الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، الجنرال دانييل هغاري، في جولة مُقابلات مع الإعلام، ليُعلن: «لا نُريد احتلال المدينة أو مخيّم اللاجئين. لا حاجة لذلك، وليس من مصلحتنا القيام بذلك».[1] مضيفًا أنه وبالإضافة إلى الإعدامات التي سيقومون بها، فإنهم سيحسّنون من ما يُسمّى إسرائيليًا بـ«حريّة الحركة». وهُنا تحديدًا، في مقولة «حريّة الحركة»- تتكثّف كُل الوقاحة الإسرائيليّة والكذب والنفاق: لا نُريد احتلال المخيّم، ولكننا نُريد اقتحامه متى أردنا ذلك؛ لا نُريد تحمّل مسؤولية السكّان، ولكننا نُريد التحكّم بحياتهم ومصيرهم وبيوتهم وأمانهم. وبكلمات أخرى: في العدوان على مخيّم جنين، تتكثّف الصورة التي تُريد «إسرائيل» أن يعيشها الفلسطيني.
جنين: تحدّي مُعادلة الهزيمة
ليس اعتباطًا أن كُل شيء يحصل في جنين هذه الأيّام يندرج في إطار «للمرّة الأولى منذ العام 2002»، بدءًا من القصف الجوي، وصولًا إلى مشاهد الجرّافات التي تجتاح شوارع المخيّم وتحفرها. فالقصّة برمّتها بدأت هُناك. ولفهم أهميّة «السور الواقي»، يجب العودة إلى سلسلة مُقابلات أجراها قائد هيئة الأركان الأسبق للجيش الإسرائيليّ، أفيف كوخافي، مع القنوات الإعلامية لمُناسبة مرور عشرين عامًا على عمليّة «السور الواقي».[2] ويُمكن القول، إن أبرز ما قاله خلال جميع المُقابلات تقريبًا، هو أن الإنجاز الأهم لحملة «السور الواقي»: خلق واقع، يستطيع فيه الجيش الإسرائيليّ الوصول إلى أي نقطة في الضفة الغربية، والقيام باعتقالات أو تفكيك خلايا، في أي وقت يُريد، وذلك دون أن يُسيطر مُباشرة على هذه المناطق ويتحمّل مسؤولية إدارة السكّان فيها. وهو بالمُناسبة إنجاز آخر لا يقل أهميّة، حيث هُزمت منظّمة التحرير عسكريًا وتحوّلت من حركة مقاتلة تُقاتل للوصول إلى «الاستقلال»، إلى هيئة إدارية لم يتبق منها إلّا الغطاء التاريخي الذي تستخدمه للحصول على شرعيّة البقاء في الشارع الفلسطيني.
ومن هذا المبدأ، فإن إنجازات السور الواقي تتكامل: تحويل منظّمة التحرير إلى هيئة إدارية مهزومة تتحمّل المسؤولية الإدارية وتعفي «إسرائيل» من تحمّل المسؤولية والكُلفة المنوطة بالاحتلال؛ وفي الوقت ذاته تحويل «مناطق أ» إلى مناطق مُخترقة كليًا، تعمل فيها «إسرائيل» عسكريًا بحريّة تامة. وبكلمات أخرى: الاستفادة القصوى من الاحتلال العسكري بكُل ما يخص السيطرة الأمنية؛ وعدم تحمّل أي كُلفة له على الصعيد الاقتصادي أو الدبلوماسي أو حتّى الإداري.
وفعلًا، إن كان هُناك شيء ثابت في الضفة الغربية اليوم، فهو حقيقة أن الاقتحامات الإسرائيليّة للمُدن الفلسطينية داخل ما يُسمّى بـ«مناطق أ»، تحصل يوميًا. ولا يحتاج الإنسان إلّا للنظر في فجر كُل يوم في موقع وكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية «وفا»، ليرى حصيلة ما قامت به «إسرائيل» ليلًا، ويمتد على امتداد الضفة الغربية، حيث يصل عدد الاعتقالات بالعشرات يوميًا، ويتخلّلها اقتحام للمنازل في ساعات الليل، وترهيب للعائلات والأطفال، كما وتفجير مداخل وأبواب. عادة، ما يحصل هذا في ساعات الليل، فتدخل المدرّعات والمركبات العسكرية إلى القرية أو المدينة، تُحاصر منزلًا وتبدأ بإطلاق قنابل الصوت والغاز في محيطه لتعزله عن المواجهات التي تحصل عادة في المُدن المركزية، وتعتقل من تُريد، تفتّش ما تُريد، وتسلّم أوامر اعتقال لمن تُريد أيضًا، وتخرج بعد أن تُثبت للفلسطيني أنّه يعيش منتهكًا، رغم أنه لا يبدو كذلك عندما ترى سيّارات الشُرطة الفلسطينية صباحًا على الدوّار أو توزّع مُخالفات السير على المفارق. وهو ما يؤكده كوخافي بالقول إن «الجيش يقوم بما قام به في كُل ليلة».
خلقَ واقع «ما بعد السور الواقي» حالة نعيم بالنسبة إلى «إسرائيل» على عدّة أصعدة: أولًا، تم تفكيك بُنى المقاومة المنظّمة في الضفة، وتسليم المُدن للسُلطة، وهو ما حوّل السُلطة عمليًا إلى هيئة حكم إداري في مناطق (أ) تسمح لـ«إسرائيل» أن تدّعي أنها لا تسيطر عليها مُباشرة؛ ثانيًا، قُدرة وتنسيق للدخول متى أرادت إلى أي مكان في الضفة الغربية للقيام بمهام «ترميم» لما تم تحقيقه في عمليّة السور الواقي؛ وثالثًا، قُدرة على الدخول وتأمين ما يُسمّى بالمناطق المفتوحة والمحاور؛ مناطق (ج) التي تُحيط بمناطق (أ) وتحاصرها. وبالتالي توسيع الاستيطان فيها ومأسسته. ومن هُنا، يغدو مصطلح «الترميم» الذي يستعمله كوخافي ويعود عليه مرّة تلو الأخرى، على أنّه ترميم للهزيمة الفلسطينية ما بعد الانتفاضة الثانية.
وفي هذا السياق، تُشكّل جنين النموذج الأول والأساسي، لتحدّي هذا الواقع. وهو ما يبدو واضحًا جدًا مع القول إنها تحوّلت إلى «ملجأ» للمطاردين بحسب تعبير الخبراء العسكريين وأيضًا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ذاته ووزير الأمن يوآف غالانت. فمنذ الهروب الأسطوري للأسرى من سجن مجدّو، كان السؤال الأساسي هو سؤال وصولهم إلى مخيّم جنين؛ كما وباتت «إسرائيل» تُعلن عن اغتيال منفذي عمليّات حصلت في الأغوار، وأيضًا في نابلس بمخيّم جنين، كاغتيال الشهيد عبد الفتاح خروشي مثلًا، الذي نفّذ عمليّة في حوّارة واغتيل بعد أن وصل مخيّم جنين.[3] وبحسب ما يُشير إليه الإعلام الإسرائيلي، فإن 19 منفذًا لعمليّة هرب إلى مخيّم جنين بعد تنفيذ عمليّات.[4] وفي هذا السياق، شكّل تفجير العبوة الناسفة يوم 19 حزيران في مركبة عسكرية إسرائيلية، وإصابة سبعة جنود بعد تفجير المركبة، علامة فارقة، إلى جانب مُحاولات إطلاق قذائف صاروخية، بحسب مصادر إعلامية إسرائيلية.[5]
هُنا تحديدًا، بدأت تتوقّف الرحلة الإسرائيليّة يوميًا لانتهاك حياة الفلسطيني، وباتت جنين فعلًا نوع من أنواع «الملجأ» لكُل من يُريد مقاومة «إسرائيل»، دون أن يغدو إعدامه أو اعتقاله تحصيل حاصل ومفهوم ضمنًا. وللمرة الأولى عمليًا منذ الانتفاضة الثانية، يغدو في الضفة الغربية مركزًا للمقاومة فيه تنسّق الفصائل وتعمل في مساحة فيها نوع من أنواع الأمان النسبي، فتبني منظومات مُراقبة وتخطّط كما وتوزّع عيون في المنطقة وتستهدف القوّات التي عادة ما تدخل إلى مُدن الضفة وكأنها في رحلة.
إذًا ماذا تُريد «إسرائيل»؟
تنقسم الأهداف الإسرائيليّة من العملية العسكرية إلى نوعين: الأولى عسكريّة أمنية تكتيكية؛ والثانية استراتيجيّة طويلة الأمد. فأولًا، هُناك الهدف المُعلن إسرائيليًا وهو إعادة ما يُسمّى بـ«حرية الحركة» الإسرائيليّة إلى جنين، والعودة إلى ما قبل النموذج و«الملجأ» والمساحة الآمنة، ومنع جنين من أن تتحوّل إلى نموذج مصغّر عن غزة، حيث للمقاومة مساحة خاصة فيها وكُل معركة لها ثمن لا تُريد «إسرائيل» دفعه. فهذه المساحة مهمّة للمقاومة على صعيدين: الصعيد الأول منع حتمية الإعدام السهل والاختطاف؛ أمّا الصعيد الثاني، فإنه تعاظم القوة وبناء القدرات الذي يحتاج إلى مساحة جغرافية غير مخترقة يمكن فيها للمُقاومة أن تتدرّب وتبني ذاتها وقدراتها. وهو عمليًا، ما حصل في غزة وفي جنوب لبنان أيضًا بعد انسحاب «إسرائيل» من المكانين، حيث بات لدى المقاومة فيهما مساحة خاصة، وقدرة على حماية المقاتلين، بالإضافة إلى التفكير والتخطيط. وهذا، ما تعيه «إسرائيل» جيدًا، حيث يقول شاؤول موفاز، قائد هيئة الأركان خلال عمليّة «السور الواقي» إنه وفي اللحظة التي دخلت «إسرائيل»، بات المقاومون يفكّرون بنجاتهم وهروبهم بدلًا من تفكيرهم بتنفيذ عمليّات.
أمّا على الصعيد الثاني الاستراتيجي طويل الأمد، فإن «إسرائيل» تنوي العودة والاستيطان في شمال الضفة الغربية. وهو ما بدأت به الحكومة الأخيرة، فقامت أولًا بتغيير قانون «فك الارتباط» الذي في إطاره انسحبت «إسرائيل» من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وكان يجرّم دخول المستوطنين إلى تلك المناطق والاستيطان فيها، بحيث تم استثناء شمال الضفة تحضيرًا للعودة والاستيطان هُناك. وفي هذا السياق، يجب الاطّلاع على العمليّة في جنين كجزء من تحضير ميداني يهدف إلى تفكيك المقاومة هُناك، بهدف التحضير لبدء عمليّة استيطان واسع تُعد مستوطنة «حومش» التي «عاد» إليها المستوطنين حديثًا، خطوة أولى وليست أخيرة.
إذًا، وبكلماتنا نحن الفلسطينيين، فإن «إسرائيل» تُريد أمرين: الأول هو ترميم الهزيمة الفلسطينيّة العسكرية، الإبقاء على الفلسطيني مخترقًا، منتهكًا ومهزومًا دون أي حيّز آمن لا للأطفال ولا للشباب ولا للعائلات، والحفاظ عليه كـ«وضع قائم»، يبقى فيه الفلسطيني تحت رحمة آلة الموت الإسرائيليّة وسيطرتها؛ أمّا الثاني، فهو خلق الحيّز الآمن للمستوطن كي يعود ويبني مستوطناته على أراضي الفلسطيني في شمال الضفة الغربية، فتتحوّل هذه المستوطنات إلى معسكرات يخرج منها المستوطنون والجنود إلى هجمات دورية على الفلسطينيين ويصادرون أرضهم ومواردهم بشكل ممأسس ودائم، كما يحصل في كُل مكان آخر في الضفة الغربية اليوم. وباختصار: القضاء على محاولة جنين النهوض بالضفة من جديد.
ماذا بعد؟
لا يزال من المُبكّر التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في جنين والضفة بعد هذه العمليّة العسكرية الواسعة. فأولًا، هُناك إجماع تقريبًا في أوساط المحللين العسكريين الإسرائيليين وأيضًا بعض الباحثيين خاصة العسكريين في معهد أبحاث الأمن القومي مثلًا، على أن الواقع لن يتغيّر استراتيجيًا، وأن الفلسطينيين سيعودون للمُقاومة بعد العمليّة العسكرية. إلّا أن سؤال جنين، يتعدّى الواقع المحدود جغرافيًا داخل المُخيّم: فأولًا، مخيّم جنين كان الأساس وراء ما سُمي بـ«وحدة الساحات» وهو عنوان المعركة العسكرية ما بين «الجهاد الإسلامي» والاحتلال الإسرائيليّ التي اندلعت في أعقاب قيام الجيش بالاعتداء واعتقال الشيخ السعدي من مخيّم جنين؛ وثانيًا، تتهم «إسرائيل» المُخيم بأن له ارتباط عسكري وسياسي وأيضًا مع غزّة ومع لبنان وحتّى أنها تدّعي أن إيران وحزب الله يمولّان ويسلّحان المُخيّم؛ وثالثًا والأهم باعتقادي، فإن حالة جنين ونابلس، هي الانعكاس لضعف السُلطة الفلسطينية المستمر وتآكل شرعيّتها السياسية بسبب التحوّل الجوهري الذي طرأ على دورها السياسي منذ ما بعد الانتفاضة الثانية واستغلال «إسرائيل» للـ«مسار السياسي» الذي عوّلت عليه منظّمة التحرير كليًا، لأجل تعميق الاستيطان ولم تستغل منه إلّا التنسيق الذي سمح لها بأن تعيش في «أمان» عسكري ومنحها الوقت الكافي لتعميق مشروعها الاستيطاني.
لذلك، فإن مستقبل جنين، كما واقع جنين، يتعلّق بما سيحصل في الإقليم وأيضًا في غزة كما والتحوّلات داخل الحقل السياسي الفلسطيني الرسمي: ميزان القوى ما بين الفصائل ذاتها. ولا يُمكن، في ذات الوقت، أن يكون معزولًا عن هذا كلّه: فالغرق في وحل الضفة، كما يسمّيه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية سابقًا، عاموس يدلين، سيكون على حساب التجهّز للمعركة الإقليمية والحرب التي تتجهّز لها «إسرائيل»؛ كما أن حالة الدفاع عن «الوضع القائم»- النعيم الإسرائيلي في الضفة الغربية لا يُمكن أن تكون أبدية في واقع يتحوّل فيه كُل شيء: غزة؛ والداخل؛ ولبنان؛ وسوريا؛ ورام الله؛ وحتّى «إسرائيل» داخليًا. وفي النهاية، وكما تُثبت الأعوام الماضية من خبرة غزة وغير غزّة: ليس كُل ما تُريده «إسرائيل»، يحصل.
التعليقات مغلقة.