الحلقتان ( الثانية والثالثة ) من سلسلة مقالات يكتبها الدكتور ابراهيم علوش حول النفط والتحكم بأسعاره … ارتفاعا وهبوطا

 

 

الأردن العربي ( الثلاثاء ) 10/2/2015 م …

الحلقة ( 2 )

في أي سوق يُحدد سعر النفط؟

الذين يعتبرون ارتفاع وانخفاض سعر النفط انعكاساً مباشراً لتقلبات العرض والطلب، بعيداً عن أي اعتبارات إستراتيجية أو جغرافية-سياسية، يتجاهلون في الواقع أن منحنيات العرض والطلب كان تتحرك باتجاهين متناقضين خلال الأشهر الأخيرة من عام 2014.  فهنالك، من جهة، ازدياد المعروض الأمريكي من الصخر الزيتي، وانخفاض الطلب على النفط في منطقة اليورو واليابان والصين بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي، وعدم تخفيض أوبك لمعروضها النفطي، مما يخفض أسعار النفط.  وهنالك، من جهة أخرى، مجموعة من العوامل التي يفترض أن تؤدي لرفعه مثل العقوبات على إيران وروسيا، التي خفضت عرض النفط عالمياً والغاز لأوروبا (مما يستوجب إيجاد بديل)، وتزايد الطلب على وقود التدفئة في الشتاء في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وتفاقم التوترات السياسية في العراق وسورية وليبيا.  وإذا كانت وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز قد تسببت بقفزة صغيرة في سعر مزيج نفط برنت، على خلفية التوتر الذي يمكن أن يسببه انتقال السلطة في السعودية، واحتمال تأثر معروض النفط السعودي في الأسواق الدولية بسبب ذلك، فما بالكم بالأزمة الأوكرانية والعقوبات على روسيا، كأكبر منتج للنفط الخام في العالم، والعقوبات على إيران وفنزويلا، والصراع في العراق وسورية وليبيا؟!

إذا افترضنا أن العوامل التي دفعت باتجاه انخفاض سعر النفط خلال الأشهر الماضية كانت أكبر أو أقوى من العوامل التي تسببت بارتفاعه، وهذا وارد، كيف لنا أن نفسر حدوث انهيار غير مقيد، لا أقل، في سعر النفط، كأن العوامل التي تدفع باتجاه ارتفاع سعره غير موجودة أصلاً؟!!  بتعبير آخر: إذا افترضنا وجود أرضية لانخفاض السعر، ما هي أرضية انهياره تماماً؟  وفي غياب مثل تلك الأرضية، هل يعود ممكناً استبعاد التفسير السياسي في ضوء عواقب مثل ذلك الانهيار على الموقف الاستراتيجي لدول تحاربها الولايات المتحدة مثل روسيا وإيران وفنزويلا؟  ولكن إذا كان هناك قرار سياسي خلف انهيار أسعار النفط، كيف ينفذ مثل ذلك القرار من خلال آلية السوق بالضبط، ومن الذي ينفذه؟

من المؤكد أن سعر النفط لا ينهار بقرار رئاسي مثلاً من باراك أوباما على طريقة كن فيكون!  فسعر النفط لا يُحدد من لا شيء، كقصور الرمال، بل من خلال آلية السوق.  بيد أن ذلك لا يعني أن العوامل التي تتحكم بالسوق محض اقتصادية، أو لا تتأثر بالقرار السياسي.  كما أن السؤال الأهم الذي لا يطرحه معظم المحللين ممن يصرون أن سعر النفط تحكمه آلية السوق فحسب هو:  في أي سوق بالضبط يُحدد سعر النفط؟  وهنا، في الواقع، مربط الفرس…

لنبدأ بملاحظة صغيرة: إن سعر النفط الذي ينقل عبر وسائل الإعلام يومياً هو سعره الآجل، أي سعر العقد الآجل لبرميل النفط.  ولو سعينا لإيجاد سعر النفط اليوم في أي محرك بحث على الإنترنت، على موقع “بلومبرغ” مثلاً، سنجد قائمة بأسعار أنواع النفط المختلفة في السوق الآجلة، أي سعر بيع أو شراء البرميل  بتاريخ معين في المستقبل ما بين عدة أسابيع وعدة أشهر، فسعر برميل النفط المعروض على الشاشة اليوم هو سعره غداً، وهو ما يمكن أن يتغير كل لحظة، أما السعر الذي تم عنده بيع أو شراء برميل النفط اليوم فقد حُدد البارحة.

هذا النوع من البيع أو الشراء المستقبلي يتم من خلال عقود تسمى عقوداً مستقبلية أو آجلة أو عقود خيار تصدر عن هيئات متخصصة بإصدارها في بورصة شيكاغو أو “نيمكس” في نيوريوك أو بورصة السلع الدولية ICE في لندن، وثمة واحدة ثانوية في دبي تابعة بالأساس لبورصة نيمكس.

فإذا تم شراء عقود مستقبلية لبيع النفط في زمن آجل، فإن ذلك يشبه الزيادة في المعروض، وإذا تم شراء عقود مستقبلية لشراء النفط في زمن آجل، فإن ذلك يشبه الزيادة في الطلب، ومن خلال تلك المشتقات المالية، كما تسمى، يتحدد سعر النفط والكثير من السلع، ومنها القمح والسكر والقهوة والقطن والذرة والكاكاو والمعادن مثل الذهب والفضة وغيرها…  وهناك أسواق مستقبلية لكل شيء تقريباً.

المهم أن سعر النفط لا يُحدد في السوق بالمطلق، كما يوحي من يتحدثون عن حركة العرض والطلب المنفلتة من أي اعتبار سياسي، بل من خلال عرض وطلب العقود المستقبلية.  في الواقع تقدر نسبة العقود المستقبلية التي يتم تنفيذها، أي التي تنتهي باستلام برميل نفط ملموس، بحوالي 2 بالمئة فحسب تبعاً لدراسة على موقع “غلوبال ريسرتش” في 2 ايار 2008، أما الباقي فيتم بغرض المضاربة، أي بيع وشراء العقد المستقبلي قبل موعد الاستلام أو التسليم الفعلي لبرميل النفط.

الآن تخيلوا مؤسسات مالية عملاقة، مصرفية وغير مصرفية، ومنها اسماء لامعة مثل “جيه بي مورغان تشيس”، “غولدمان ساكس”، “ستي غروب”، “بانك أوف أمريكا”، “مورغان ستانلي”، وغيرها، ممن يدخل بمئات المليارات ليتاجر بالعقود الآجلة من مختلف الأنواع من خلال صناديق استثمار تابعة لها.  وتخليوا أن تلك المؤسسات المالية الدولية العملاقة هي التي تحكم اقتصاد العالم وتحدد أسعار السلع الرئيسية فيه، ثم تخيلوا أنها مخترقة يهودياً حتى تلافيف نخاعها الشوكي: إنه رأس المال المالي الدولي.

أخيراً، تخيلوا ما أوردته مجلة “بزنس ويك” الأمريكية، التي توزع مليون نسخة أسبوعياً، في عددها الصادر في 3 كانون الأول 2014:

مع 24 حزيران 2014، كان المضاربون في أسواق النفط الخام قد اشتروا أكثر من 813 مليون برميل من النفط في الأسواق المستقبلية.  منذ ذلك الوقت، كان هناك سعي حثيث للخروج من الباب، حيث قاموا بإلقاء أكثر من 550 مليون برميل للبيع في السوق الآجل.

 

 

الحلقة ( 3 )

القرار السياسي بين سعر النفط وسعر الدولار

مجدداً يعود سعر مزيج نفط برنت للارتفاع، من 49 دولار للبرميل قبل أسبوعين، إلى أكثر من 56 دولار عند كتابة هذه السطور، بفعل المضاربة في الأسواق الآجلة، أي بفعل المراهنة على الاتجاهات المستقبلية لتقلبات السعر المنفصلة عن العرض والطلب المباشرين للنفط، بمعنى أن من يشتري العقد الآجل لا ينوي في الأعم الأغلب تسلم أو تسليم برميل النفط الذي اشتراه أو باعه، إذ يبيع العقد في البورصة قبل حلول موعد الوفاء به.  وقد كانت سيطرة رأس المال المالي على رأس المال الحقيقي أو المادي، المتجسد في المنشآت الإنتاجية الحقيقية مثل المصانع والمزارع وغيرها، ما دفع الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز إلى الكتابة في العام 1936: “عندما يصبح التطور الرأسمالي لبلدٍ ما نتاجاً فرعياً لنشاطات كازينو، فمن المرجح أن تنفذ المهمة على نحوٍ رديء”.  لكننا لا نتحدث هنا عن التطور الرأسمالي لبلد واحد، بل عن سعر النفط والطاقة، أي عن العلاقات الدولية والتوازنات الجيو-سياسية في الساحات الإقليمية.

رب قائلٍ أن رأس المال المالي الذي يتلاعب بسعر النفط وغيره في الأسواق الآجلة إنما يبيع ويشتري بدافع الربح، لا بدافع سياسي أو استراتيجي أو شخصي، وهي المقولة التي تلقَن لطلاب الاقتصاد والمالية منذ السنة الجامعية الأولى، غير أن ما قد يصح عند تناول المضارِب بالعقود الآجلة كفرد لا يمكن أن يصح عند تناوله كشريحة اجتماعية مدركة لذاتها ولمصالحها كما تتجسد في تنظيماتها ومؤتمراتها العديدة مثل منتدى دافوس مثلاً، ناهيك عن العلاقة العضوية بين تلك الشريحة والدولة العميقة في بلدان الـG-7.  وإذا كان بعض النواب في الكونغرس الأمريكي قد طالبوا بالتحقيق في دور المضاربين في رفع أسعار النفط عندما كانت على ارتفاع، دون نتائج تذكر، فإن مجلات المال والأعمال الأمريكية تحفل اليوم بمطالبات تهكمية لأولئك النواب بأن يعتذروا ويقدموا الشكر للمضاربين الذين أسهموا مؤخراً بتخفيض سعر النفط، في أعداد مجلة “بيزنس ويك” مثلاً.  والخلاف يبقى فحسب على ما إذا كان المضاربون يتحملون بعض أم كل المسؤولية عن انهيار سعر النفط الذي ربما انهار بسبب عوامل أخرى أيضاً، بالإضافة للمضاربة بالعقود الآجلة…

ليس الحديث هنا عن التذبذب قصير المدى في السعر، إذ ارتفعت اسعار النفط قليلاً في الأيام الأخيرة بسبب نشر بيانات تظهر انخفاض مشاريع حفر الآبار في الولايات المتحدة، مما يوحي بانخفاض العرض، وانخفضت بسبب بيانات أخرى من الصين تظهر أن مشتريات مدراء المصانع من المواد الخام والسلع الوسيطة قد انخفضت، مما يوحي بانخفاض الطلب الصيني على النفط.  يدور الحديث في الواقع عن العوامل التي تسببت بالانهيار العظيم في سعر النفط، بمستوى 60 بالمئة، في خلال الأشهر الأخيرة.  ولعل أحد هذه العوامل، التي لا يمكن لأحد أن يزعم أنها منفصلة تماماً عن القرار السياسي، هي قرار الاحتياطي الفدرالي، أي البنك المركزي الأمريكي، الشروع برفع أسعار الفائدة.

نظرياً، يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية لجعل العائد على الإيداعات بالدولار أكبر من العائد على الإيداعات بالعملات الأخرى، مما يسبب هجرة باتجاه الدولار الأمريكي، مما يزيد الطلب عليه، مما يؤدي لرفع سعره إزاء العملات الأخرى، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة، فما بالك إذا كان متوقعاً أن تقوم البنوك المركزية الأوروبية واليابانية بتخفيض سعر الفائدة لديها لمحاربة الركود الاقتصادي؟!!

لقد جاء ارتفاع الدولار بسبب انخفاض أسعار الفائدة في أوروبا واليابان أولاً مقارنة بأمريكا، ثم بسبب انخفاض العجز في الحساب الجاري الأمريكي بسبب انخفاض مشتريات النفط من الخارج.  بعدها جاء الإعلان عن نية رفع أسعار الفائدة الأمريكية بذريعة انتهاء آثار الأزمة المالية الدولية عام 2008 ونشوء خطر التضخم، مع أن أرقام الفصل الرابع من العام 2014 اشارت إلى أن الاقتصاد الأمريكي لم ينمُ أكثر من 2،6 بالمئة، وهي نسبة نمو لا تعتبر مرتفعة، ولا تدعو للخوف من التضخم.  وقد دفعت الأرقام الأخيرة الاحتياطي الفدرالي للتريث في رفع الفائدة في اجتماعه الأخير، لكن التوقع نفسه دفع للمضاربة على الدولار في الأسواق الآجلة، مما أسهم بارتفاع الدولار.   فالبورصة تحركها المضاربة على التوقعات.

هذا ما حدث مؤخراً، حيث ارتفع الدولار من 1،39 مقابل اليورو في 6 أيار 2014 إلى 1،11 دولار مقابل اليورو في 25 كانون الثاني 2015، أي أننا بتنا نحتاج لكمية أقل من الدولارات لشراء الكمية نفسها من اليورو، فالرقم الأقل يدل على ازدياد القوة الشرائية للدولار.  وقد عاد الدولار للانخفاض قليلاً بعد 25 كانون الثاني من العام الجاري، ليصل إلى 1،14 مقابل اليورو.  كذلك انخفضت عدة عملات دولية مقابل الدولار، منها الدولار الكندي والين الياباني والجنيه الاسترليني، وكان الخاسر الأكبر في هذه العملية الروبل الروسي، والرابح الأكبر… الشيكل!

ما يهمنا هنا هو الرابط العضوي بين سعر النفط وسعر الدولار:  فالنفط يسعّر بالدولار، والكثير من السلع الدولية الأخرى، وبالتالي يؤدي ازدياد القوة الشرائية للدولار إلى انخفاض سعر برميل النفط بالدولار، وليس بالضرورة إلى انخفاضه بالعملات الأخرى التي تضعف أمام الدولار، كاليورو مثلاً.  بالمقابل، يؤدي انخفاض سعر الدولار، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة، إلى ارتفاع سعر برميل النفط بالدولار، وليس بالضرورة بالعملات الأخرى التي ترتفع مقابل الدولار.  ولذلك ليس غريباً أن يعود الدولار الآن للانخفاض في الوقت الذي يعود فيه برميل النفط للارتفاع.  فهل سيعود الدولار للانخفاض، والنفط للارتفاع، على المدى الطويل؟  ليس هذا موضوعنا هنا، بل إبراز العلاقة العكسية بين سعر النفط وسعر الدولار الذي يتحكم فيه الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، والأخير، كأعلى سلطة اقتصادية في الولايات المتحدة، لا يمكن أن يكون بعيداً عن الاعتبارات السياسية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.