من المسؤول عن ارتفاع حجم الدّيون ونسبة التضخم؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 22/7/2023 م …
تطرح المدرسة الاقتصادية السائدة المعاصرة ثلاثة أنواع من التضخم، بشكل عام: التضخم الناتج عن الطلب والتضخم المدفوع بارتفاع التكلفة والتضخم المُضَمَّن أو المتكامل.
يحدث التضخم المدفوع بالتكلفة عندما ترتفع أسعار المواد الأولية والمدخلات المستخدمة في عملية الإنتاج مثل أسعار المواد الخام أو النفط أو الغاز، مما يساهم في ارتفاع التكلفة، كما يحصل منذ بداية الحرب في أوكرانيا على سبيل المثال. أما التضخم المتكامل، فهو ناتج عن رَفْعِ الشركات أسعار إنتاجها، دون أي مبرر سوى التوقعات بأن التضخم الذي حدث في الماضي سوف يعيد نفسه في المستقبل، بسبب تشابه الظروف الإقتصادية والسياسية، وغالبًا ما ترفع الشركات أسعارها كل عام، لمجرد أنها تتوقع ارتفاع التكاليف وليس بسبب زيادة فِعْلِيّة للتكاليف التي قد ترتفع بالفعل أحيانًا… ومع ذلك تركز المناقشات حول التضخم بين الاقتصاديين النيوليبراليين الغربيين بشكل عام على التضخم المدفوع بارتفاع الطلب، وبلغ الحَدّ بالأب الروحي للإتجاه “النّقدي” ( monetarist) (، عالم الاقتصاد اليميني الشهير في جامعة شيكاغو “ميلتون فريدمان”، أن جادل بأن “التضخم هو دائمًا وفي كل مكان ظاهرة نقدية”، وإن التضخم لا يكون مدفوعًا سوى بالطلب على وجه التحديد: “الكثير من المال (ارتفاع الطلب) مقابل شح السلع (انخفاض العرض)”، ويدعي عدم وجود تضخم التكلفة، وإن وُجِدَ فهو نتاج تضخم الطلب، لا غَيْرَ.
كان ميلتون فريدمان مصدر إلهام للجنرال التشيلي الانقلابي أوغستو بينوشيه الذي نفَذَ انقلابا عسكريا في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، مدعومًا من وكالة المخابرات المركزية ومن شركة آي تي تي والشركات الأمريكية لاستغلال المناجم النحاس، ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب ديمقراطياً “سلفادور أليندي”، وساند “فريدمان” هذا الانقلاب وأصبح مصدر إلهام للسياسة الاقتصادية النيوليبرالية للحكومة العسكرية التشيلية، طيلة الفترة من 1973 إلى 1990، ثم تواصلت نفس السياسة النيوليبرالية، حتى بعد انسحاب الجيش من الواجهة.
كذّبت دراسة حديثة نشرها صندوق النقد الدولي (حزيران/يونيو 2023) ادّعاءات ميلتون فريدمان وأمثاله، وأظهرت هذه الدّراسة التي أجراها ثلاثة من خبراء صندوق النقد الدّولي أن النظرة “النقدية” (من النُّقُود) واليمينية للتضخم مفرطة في التبسيط، إذْ يمكن للشركات الرأسمالية أن تسبب التضخم من خلال زيادة أرباحها إلى مستويات غير معقولة، ومع ذلك لا يزال بعض الاقتصاديين اليمينيين يصرون على أن التضخم الذي شهده العالم إثر وباء Covid-19 نتج عن طباعة النقود من قبل المصارف المركزية للدّول الغنية، ولا يُقدّم هؤلاء تفسيرًا مُقنعا لأسباب وجود تضخم ضئيل في مؤشر أسعار المستهلك في السنوات الـ 12 الأولى من التَّيْسير الكمي، من 2008 إلى 2020، قبل الوباء، ولماذا أدى هذا التخفيف فجأة إلى رفع الأسعار سنة 2021.
يكمن السبب الحقيقي لموجة التضخم الأخيرة (بداية من سنة 2021) في ارتفاع أرباح الشركات، فكانت هذه الزيادة في الأرباح هي العامل الأساسي للتضخم منذ سنة 2021،وقُدّرت حصتها بنحو 45% من التضخم في أوروبا، مُقابل 40% لزيادة أسعار الواردات و 15% فقط لأجور العمال، لأن الشركات رفعت الأسعار بنسبة تفوق بكثير تكاليف الطاقة المستوردة، بحسب الدراسة التي نشرها صندوق النقد الدولي يوم 23 حزيران/يونيو 2023 تحت عنوان “تضخم منطقة اليورو بعد الوباء وصدمة الطاقة: أسعار الواردات والأرباح والأجور”.
كانت اضطرابات سلسلة التوريد بسبب وباء كوفيد -19 والحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية ضد روسيا – أحد أكبر منتجي النفط والغاز والأسمدة والقمح في العالم. – من بين العوامل الرئيسية التي تسهم في ارتفاع أسعار الواردات، مما تسبب في ارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية العالمية، وتم حل مشكلات سلسلة التوريد، إلى حدّ كبير، بعد الوباء، ولكن لا تزال الشركات ترفع الأسعار رغم انخفاض أسعار العديد من السلع في الأسواق الدولية، ولاحظ الاقتصاديون في صندوق النقد الدولي أن “النتائج تظهر أن الشركات دَمَجَت التكاليف الإضافية في أسعار المبيعات، دون زيادة أجور العمال”، وبالتالي فإن ارتفاع أرباح الشركات هو مصدر التضخم وليس أجور العمال التي لم ترتفع قيمتها الحقيقية، علاوة على ذلك، يُجاهر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن أحد أهداف زيادة أسعار الفائدة هو خفض القيمة الحقيقية للأجور، والضغط على الموظفين من خلال زيادة معدل البطالة، فالشركات تستغل فترة من عدم اليقين لفرض شروطها على العمال مع رفع أسعار المنتجات والخدمات، مما رفع هوامش الربح إلى مستويات لم تشهدها منذ أكثر من 75 عامًا، فكانت مشكلات العرض فرصة إضافية لرفع الأسعار وجني أرباح قياسية سَنَتَيْ 2021 و 2022.
كانت استراتيجية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمصرف المركزي الأوروبي ومجمل مصارف الدول الرأسمالية المتقدّمة تُغَذِّي تضخم أسعار الأصول، وليس تضخم مؤشر أسعار المستهلك، مما تسبب في ارتفاع ديون المستهلكين والحكومة الأمريكية وغيرها، ويُؤدّي ارتفاع حجم الدَّيْن إلى خفض حجم الإنفاق الفعلي على السلع والخدمات. إنها خطة تقشف يفرضها صندوق النقد الدولي على دول العالم الثالث أو دول الجنوب، وبالتالي ، فإن 90% من السكان، داخل كل بلد أو على نطاق عالمي يتحملون عِبْءَ وآثار الدَّيْن الذي يستفيد منه حوالي 10% فقط من السكان المحليين أو على المستوى العالمي، ليكون الدَّيْن وَسِيلَةً لتحويل الثروة التي أنشأها 90% من سكان بلد أو العالم إلى الأقلية ( 10% ) التي تنهب وتحتكر ثمار عمل الآخرين …
ينطبق نفس المبدأ على التضخم، الذي يرجع جزء كبير منه إلى احتكار بعض الصناعات الرئيسية، وإلى انتعاش الإقتصاد وارتفاع الإستهلاك بعد التعافي من جائحة كوفيد، وإلى تعطيل سلسلة التوريد بقرار سياسي، وليس للضرورة الإقتصادية…
يُعْتَبَرُ التضخم الحالي لمؤشر أسعار المستهلك الذي بدأ سنة 2021، تضخمًا هائلاً في أسعار الأصول الذي انطلق على مدار الثلاثين عامًا الماضية (بما يتوافق مع انهيار الإتحاد السوفييتي واستفحال النيوليبرالية التي انطلقت بنهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين)، مما أدى إلى ارتفاع قيمة العقارات والأسهم والسندات، كما أدَّى ضَخُّ مئات المليارات من الدولارات من المال العام في القطاع المالي ( المصارف)، مرتين، سنة 2008 وسنة 2020 ( ولم يكن ذلك بمحض الصُّدْفَة) إلى تضخم أسعار الأصول، وزاد التضخم في أعقاب ارتفاع أسعار الفائدة وخاصة منذ الحظر المفروض على النفط والغاز والمنتجات الزراعية الروسية التي منعت الولايات المتحدة وحلفاؤها بحلف شمال الأطلسي من تداولها في السوق العالمية، مما تسبب في نقص المعروض وفي زيادة الأسعار، وبالتالي كان النفط والطاقة والغذاء عنصرًا رئيسيًا في التضخم الحالي (وليس ارتفاع الرواتب كما زعم النيوليبراليون) كما أدت “العقوبات” ضد الصين إلى ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية (فالصّين هي ورشة أو مصنع العالم) واستخدمت الشركات متعددة الجنسيات التي تحتكر إنتاج وتخزين ونقل وتسويق المنتجات قدراتها الاحتكارية لفرض الأسعار التي تضمن لها الحد الأقصى من الربح.
يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى انخفاض طلب الشركات على القروض وإلى انحسار الإستثمار وإلحاق الضرر بالعاملين وإجبار المستهلكين العاديين على تخصيص مبالغ مالية إضافية مقابل ائتمان منازلهم أو سياراتهم، لا يستفيد العاملون العاديون (منخفضو ومتوسطو الدّخل) من أسعار الفائدة المنخفضة لشراء منزل أو سيارة، بل يستفيد منها أصحاب الأسهم بالمصارف أو الشركات الكبرى والمضاربون وحاملو السندات، فهم الذين يستفيدون من خلال الاقتراض بسعر رخيص من المصارف لشراء أصول ذات عائد أعلى، والاقتراض بنسبة فائدة تقل عن 1% لشراء العقارات أو السندات والأُصُول الأجنبية التي تدر أكثر بكثير … وقد مكن هذا النظام من استقطاب الاقتصاد الصناعي، واجتذاب الاقتصاد الزراعي نحو الاستقطاب، ولم تُفلت الأراضي الزراعية والقطاع الفلاحي بشكل عام الذي لم يعد يسمح للمزارعين ومربي الماشية ( سواء المعدّة للحوم أوالألبان ) بالعيش من إنتاج مزارعهم، فقد استحوذت الشركات الإحتكارية على الأراضي والموارد الطبيعية لتغيير طبيعة الإنتاج، وللقضاء على المنتجات الطبيعية لصالح المنتجات المعدلة وراثيًا المعززة بالمواد الكيميائية التي تشكل خطورة على الطبيعة وعلى صحة الحيوانات والبشر، وبالتالي ، لم يعد المسكن أو الرعاية الطبية أو التعليم أو الغذاء حقا من حقوق المواطن، بل فرصًا لتحقيق المزيد من المكاسب لأغنى 1% من كل بلد أو أغنى 1% (أو 10%) في العالم، وبعض هؤلاء الأثرياء هم من مالكي أسهم الشركات التي يتقاضى العاملون بها أجوراً منخفضة جدا (وول مارت وكوكاكولا وأمازون وماكدونالدز وغيرها)، مما يسمح بارتفاع أرباح الشركات والمصارف وبلوغها مستويات قياسية…
أزمة ديون العالم الثالث
صَمَّمَ النظام المالي الدولي خطةً للإيقاع بدول الجنوب ( الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث) في فخ الديون المرفوقة بالضّرورة بالشروط التي تفرضها المؤسسات الدولية، منها حَظْر استخدام الاعتمادات للإنفاق والاستثمار في الخدمات العامة والتوظيف، مما لا يترك مجالاً للاستثمار المنتج ولا لتمويل التنمية، مما يعزز نظام الاستعمار الجديد، فيصبح الدين نوعا من “الديون المعدومة” وأداة للتدخل الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي من قبل الدول الإمبريالية التي أنشأت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولهذه الأسباب أطلقت العديد من المنظمات حملة من أجل إلغاء ديون الدول الفقيرة.
تعمل الدّول الغنية (الإمبريالية) على تشجيع دول العالم الثالث على الإقتراض، إما بشكل مباشر أو من خلال صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي، فالدّيُون شكل من أشكال الاستثمار المربح للغاية للمبالغ الكبيرة من الأموال المتاحة في البلدان الغنية (والتي تأتي من نهب الموارد من الدول الفقيرة واستغلال العمال) وعدم القدرة أو عدم الرغبة في استثمار هذه المبالغ في الدول الغنية، فيتم استثمارها في شكل دُيُون مَشْرُوطة.
يتمثل دَوْر صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمؤسسات المماثلة في تنفيذ الإرادة الإمبريالية، فهي حارسة الرأسمالية وتحث الدّول التي تطلب القروض على إشراك القطاع الخاص، بحثها على الحصول على قروض من كبار الرأسماليين (المصارف أو مؤسسات الإئتمان أو صناديق التّحوّط)، وهم قِلّة من الرأسماليين الأقوياء الذين يُديرون مدخرات ومعاشات تقاعدية وتأمين وأموال جمعها المواطنون من عملهم، ويحاولون ادّخارها من أجل أبنائهم أو لإنفاقها عند الحاجة، وتستخدم هذه المؤسسات والصّناديق هذه المُدّخرات لإقراض هذه البلدان منخفضة الدخل، بمعدلات فائدة مرتفعة، شريطة أن يكون البنك العالمي وصندوق النقد الدولي شريكين، كنوع من الضمان.
ليس من المُبالَغة اعتبار صندوق النقد الدولي والبنك العالمي كأدوات في خدمة وزارة الخارجية الأمريكية، من خلال الرقابة المالية التي لا تختلف عن الهيمنة العسكرية، لتصبح بمثابة الإستعمار المالي الذي يفرض بيع (خصخصة) الثروة للشركات متعددة الجنسيات، وبيع المناجم وحقول المحروقات وشركات القطاع العام ولم تسلم الأراضي الزراعية والشواطئ وكل أُصُول وممتلكات الدّولة إلى دول وشركات أجنبية.
تهيمن الولايات المتحدة على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لأن الولايات المتحدة هي الإمبريالية المهيمنة، بفضل قوتها العسكرية وبفضل الدولار الذي تَحَوَّلَ ( بفعل التّغَوُّل العسكري الأمريكي) من عملة الولايات المتحدة إلى عملة مفروضة على بقية العالم، في حين أن الولايات المتحدة هي أكثر الدول مديونية والأكثر عجزًا، ولديها أكبر عجز في الحساب الجاري ويعتمد نظام الولايات المتحدة كليًا على أكثر أنواع التدفقات المالية غير المنتجة…
يعمل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي كأداة للإمبريالية من خلال إجبار اقتصادات الدول الفقيرة على الاستجابة لاحتياجات اقتصادات الدول الغنية، من ذلك تزويد شركات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان بمنتجات رخيصة، لتكون تلك البلدان بمثابة أسواق ومنافذ للاستثمار في نفس الوقت، مما يعني أنه يجب ألا يكون لدى البلدان الفقيرة أبدًا ضوابط على تدفق رأس المال، ومما يعني كذلك التّخلّي عن الدّور السياسي للدولة والتّخلّي عن الدّور الرَّقَابي للدّولة، أي الاستقلال السياسي، لأن الإمبريالية تُريد حَصْرَ دور الدولة في البلدان الفقيرة في فتح الحدود أمام رأس المال الأجنبي، وتوريد المواد الخام والمنتجات الأساسية وتوفير العمالة الرخيصة إلخ، وهذا يعني فقدان السيطرة المالية على تدفقات رأس المال والتدفقات التجارية، ما يُفْقِدُ جهازَ الدّولة في البلدان الفقيرة سيادتها السياسية وقُدْرَتها على التخطيط لتأمين مستقبل الأجيال الناشئة (إن توفر عزم جهاز الدّولة على خدمة الإقتصاد الوطني) فلا يمكنها أن تتطور وتستثمر في القدرة الإنتاجية للبلد أو تحويل المواد الخام إلى مواد مُصنّعة، أو حتى إقرار ميزانية تُولي أهمية للرعاية الصحية والتعليم والمسكن والنّقل اللائقَيْن فضلا عن توفير الشُّغل اللائق، فقد حولت الهيمنة الإمبريالية الإسكان والأراضي الزراعية وجميع المنتجات إلى سلعة معولمة، وأصبحت السوق الوطنية (المَحلّيّة ) جزءًا من السّوق العالمية، وأصبح رأس المال يتمتع بحرية لا يتمتع بها الأفراد وأصبحت الأموال القادمة من أي مكان تهبط في أي مكان آخر لشراء الأرضي الزراعية والعقارات والمناجم والشركات، غير أن الدّول الإمبريالية وشركاتها تمتلك إمكانيات وقُدُرات تفتقدها الدول الواقعة تحت الهيمنة…
ما الحلول ؟
هل تنحصر خيارات الدّول الواقعة تحت الهيمنة في الإختيار (إذا كان ذلك ممكنًا) بين الحد من الاستهلاك أو زيادة الدخل لتتمكن من سداد الديون؟ لكن النظام المالي الدولي الحالي الذي تهيمن عليه المؤسسات المالية الغربية، وخاصة المؤسسات المالية التي تُسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية، لا يقرض إلا لغايات غير منتجة ويفرض التقشف ويضع القُيُود والشروط السياسية إلخ، فهو يمنع البلدان المَدِينَة من تخفيف مديونيتها من خلال تنمية أو توسيع طاقتها الإنتاجية، وبذلك تؤدّي شروط الدّائنين إلى عرقلة، بل إنكار إمكانية التنمية، ما يُؤَدِّي إلى إدامة التّبَعِية وقتل مواطني هذه البلدان.
يقول أنصار الإمبريالية ودُعاة الهيمنة المالية إنه لا يوجد بديل، لأنهم ينطلقون من ضرورة استبعاد الحكومات المحلية من إعداد برامج ومخططات التنمية وتولِّي “المُستثمرين” مهمة التخطيط، ما يُحتم على مواطني البلدان الفقيرة – بدعم من التّقدّميين في الدول الإمبريالية، إن أمْكَنَ – النضال من أجل إنشاء نظام مالي دولي جديد، تتمثل مهمته الرئيسية في مساعدة جميع دول العالم على إنجاز برامج التنمية الخاصة بها، وتشجيع التكامل الإقليمي والقارِّي والدّولي، وهناك بدائل لا تتجاوز حُدُودَ منطق النظام الرأسمالي، وعلى أي حال، لن يتمكّن أي نظام جديد من العمل قبل إلغاء الدَّيْن القائم وفائدته المُرَكَّبَة، وإلغاء الشّروط التي فرضَها الدّائنون وإلغاء نتائجها من خصخصة وخفض لقيمة العُمْلة وتسريح للموظّفين وما إلى ذلك، ما يُؤَكِّد الحاجة المُلِحّة إلى إصلاح النظام الضريبي وإعادة تأميم الخدمات والموارد العامة الأساسية، وفرض ضريبة على الرّيع وإيجار المواد الخام وإيجار الأراضي، في إطار التشريع الوطني المحلي… لا يتعلق الأمر فقط بحل مشكلة الديون بل يتعلق كذلك بالإصلاح الشامل للهيكل الاقتصادي والمالي الذي فَرَضه نظام الديون.
تعترض الدّول الإمبريالية والمؤسسات المالية الدّولية والشركات الإحتكارية على اتخاذ مثل هذه الإجراءات أو السير بضع خطوات في طريق الإستقلال الإقتصادي والسياسي، ما يزيد من المخاطر التي قد تصل إلى احتمال خطر العدوان العسكري، خصوصًا في ظل صعود القوى الفاشية في الدّول الرأسمالية المتقدّمة، سواء في أمريكا الشمالية أو أوروبا، وكذلك في دول أخرى مثل البرازيل والهند، فضلاً عن وجود الكيان الصهيوني في الوطن العربي لعرقلة أي مشروع تنموي وأي خطوة نحو الوحدة، بل حتى التكامل الإقتصادي العربي، لذلك علينا الاستعداد لمواجهة هذه القوى، التي مَثَّلَها ترامب وبولسونارو ومودي، فيما تتصاعد الفاشية في جميع أنحاء أوروبا حيث يتم تصوير القوات الفاشية في أوكرانيا على أنها نضال من أجل الحرية.
تواجه البَشَرية اليوم الاختيار بين الفاشية والاشتراكية، ولئن كانت القوى الإشتراكية في تراجع، فلا يمنع ذلك من التذكير بما تتمتع به الاشتراكية من ميزة الدّعوة إلى ( والعمل على ) تعزيز الرخاء على نطاق واسع وتنمية القوى المنتجة من أجل مجتمعات مزدهرة ومتساوية، على عكس الرأسمالية التي تقوم على الإقصاء والسيطرة على العالم بأسره من قبل المصارف والمؤسسات المالية (رأس المال المالي) والشركات الكبيرة التي يملكها عدد قليل من الأثرياء، ولذا فإن الخيار ينحصر في الإنحياز للواحد بالمائة أو للتسع والتسعين بالمائة من سكان أي بلد أو من سُكّان العالم…
التعليقات مغلقة.