في حضرة الغياب / بقلم علي أحمد
الأردن العربي – السبت 22/7/2023 م …
مع الاعتذار لشاعرنا الكبير محمود درويش لاستخدام هذا العنوان لأحد أهم قصائده، كي نتساءل عن سبب غياب اليسار الفلسطيني عن المشهد في الأحداث السابقة. ولنكون أكثر دقة عن ضعف هذا اليسار منذ خروج التنظيمات الفلسطينية من بيروت مرورًا بتوقيع اتفاقية أوسلو ودخول السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية وغزة ووصولًا إلى الأزمة الوطنية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه شعبنا والتي تترافق مع تغوُّل المشروع الصهيوني وأهدافه التصفوية. في هذا المقال نضع أمامكم عدة أطروحات من دراسات ومقالات عن أسباب غياب هذا اليسار وأزمته.
سنقدم في هذا المقال عدة طروحات عن أسباب الأزمة، فمثلا يقدم وسام الفقعاوي في ورقة بحثية للعربي 21، أن أزمة اليسار المعاش حاليًا ذات طابع شامل وتاريخي، وتعود في الأصل إلى عدم قدرة اليسار على أن يؤدي الوظيفة المطلوبة منه في المسألة الاجتماعية لارتباطه بالصراع الوطني منذ نشأته وغياب الصراع الطبقي عن أجندته. أما عزمي بشارة، فيكتب في مقاله اليسار واليسار الفلسطيني، للمفارقة، أن “المنظمات غير الحكومية” تشكّل حاليًا أحد أهم مصادر الرزق والعمل لمثقفي وناشطي اليسار في مرحلة أزمته السياسية والمالية، وهو ما جعله ينتقل مباشرة إلى معسكر اليمين الذي تموله أنظمة عربية تعرف عن نفسها بإنها محور الاعتدال. وتقول عروبة عثمان في مقالها في جريدة الأخبار إنه على الرغم من الأزمة القائمة، لم تستطع تنظيمات اليسار صياغة برامج جديدة للحل، سواء على مستوى النضال والتحرر، أو في مجال الخدمات ومشكلات الناس المتزايدة. ويعرض حيدر عيد كتاب الباحث فرانسيسكو ليوباردي الذي أمضى عدة سنوات في البحث والقراءة والمقابلات لينتج عملًا نقديًا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كونها الفصيل السياسي الأكبر في اليسار الفلسطيني، والذي لخص فيه كيف انحدرت سياسيًا منذ الخروج من بيروت ١٩٨٢ إلى الوقت الذي أصبحت تلعب فيه دور المعارضة الموالية للسلطة الفلسطينية.
في البداية، يرى الفقعاوي أن هذا التراجع تأسس على عدة محاور، منها الخروج عن مشروع التحرير، وتآكل عوامل الوحدة والصمود الداخلي، ومصادرة الحقوق الاجتماعية والديمقراطية والتي جعلت دوره هامشيًا في التركيبة السياسية الفلسطينية خاصة في ظل استمرار حالة الصراع والانقسام بين طرفي اليمين في الساحة الفلسطينية (فتح وحماس)، وفي إجابته على سؤال اليسار إلى أين؟ يقول الفقعاوي إن اليسار الفلسطيني يستسهل إجابته، بأحزابه الرئيسية، الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب أو الحزب الشيوعي الفلسطيني سابقًا، ويعزو أزمته في فلسطين إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وصعود حركات الإسلام السياسي، واتفاق أوسلو، وغيرها من الإجابات المريحة والعمومية، لقضية تحتاج لإجابات دقيقة وواضحة ومحددة.
الطرح التي يذهب إليه الفقعاوي هو أن أزمة اليسار ذات طابع شامل وتاريخي، وهي نتاج أو حصيلة تراكمية تعود في الأصل إلى عدم قدرة اليسار على أن يؤدي الوظيفة المطلوبة منه وطنيًا واجتماعيًا. فتأسيس ونشأة أحزاب اليسار الفلسطيني ارتبطت أساسًا بالمسألة الوطنية والصراع مع الاستعمار، وعليه لم يكن الأساس في نشأتها المسألة الاقتصادية والاجتماعية، حيث أن أزمتها جاءت متجذّرة في تكوينها ولم يكن مصدرها التغيّرات السياسية المرحلية فحسب، وهي ليست نتيجة لا لتسليم اليسار الفلسطيني بواقع أوسلو، ولا لانهيار الاتحاد السوفييتي، ولا لصعود الإسلام السياسي، ولا لغيرها من الأسباب التي تصطّف كلما رغبنا في تحليل تراجع اليسار.
السبب الرئيسي للأزمة بحسب الفقعاوي، هو أن اليسار الفلسطيني لم يتكون من قلب الصراعات الداخلية للمجتمع الفلسطيني، إنما في مواجهة استهداف استعماري لوجود هذا المجتمع؛ نشوء يغيب عنه الصراع الاجتماعي كشرط أساسي للتنظيم اليساري، وهذا نشوء غير تقليدي ومأزوم بحدّ ذاته. استنادًا لما سبق، فإن أزمة اليسار كما يطرح الفقعاوي، ارتبطت بالنشأة واستمرت معها، خاصة حينما عجز أو فشل اليسار الفلسطيني وأحزابه، في بلورة وعي مطابق للواقع؛ من خلال استيعاب مجمل مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا بدوره انعكس في شعاراته ومبادئه التي لم تُبنَ على حقائق الواقع المعاش، خاصة وأن الشعارات والمبادئ تشتق من الواقع الذي تعمل على إصلاحه أو تغييره، وبالتالي هي نقطة البدء في الممارسة.
ويعتبر عزمي بشارة اليسار الحالي هو نمط يختلف عن اليسار التاريخي الذي كان يحمل فيه البندقية وله حضوره في المخيمات الفلسطينية. حيث انتقل اليسار الحالي مباشرة إلى قوى اليمين السياسية، فقد أكمل تذيله للقيادة البرجوازية كما حدث في السابق بسبب فكره الستاليني المبني على فكرة المراحل بالوقوف خلف القيادة البرجوازية متمثلة بفتح في مرحلة النضال الوطني والذي يتبعه نضال اجتماعي واقتصادي بعد التحرير، وهو الذي أدى إلى تناغم مواقف الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي الفلسطيني مع المشاريع الاستسلامية لقيادة فتح في أوسلو، وقبولها أن تكون جزءًا من السلطة الفلسطينية وتحول الجبهة الشعبية إلى معارضة من داخل السلطة. بل وصل الأمر بهذا اليسار إلى التواجد في مؤسسات إعلامية وغير إعلامية يمولها اليمين السياسي مباشرة أو تمولها أنظمة عربية، فيما بات يسمى لاحقًا بمحور الاعتدال. ولهذا ليس من المستغرب أن يطرأ تقلص كبير على قاعدتها الاجتماعية وتراجع شعبيتها ونفوذها السياسي.
من أهم مميزات اليسار التاريخي في طور نهوضه يضيف بشارة، أنه حتى حين كان أقلية كانت مساهمته في صنع الخطاب السياسي الفلسطيني وصياغة مفرداته عمومًا أكبر من حجمه. وكان اليمين أيضًا يختطف مفرداته في تحليل الوضع الدولي والعربي والإسرائيلي حين يحلو له. كما كان الاتساع الشعبي وعدم الاقتصار على المثقفين من مزاياه التي استقاها من جذوره القومية، ومن جاذبية فكرة الكفاح المسلح لفئات واسعة من شباب المخيمات بغض النظر عن أصولهم الطبقية. لم تنطبق على اليسار الفلسطيني في حينه الصورة النمطية عن انتشار اليسار بين المثقفين فحسب. وقد كانت قوة الجبهة الشعبية في غزة السبعينات وفي مخيمات لبنان وسوريا والأردن دليلًا راسخًا على ذلك.
لكن هذا اليسار ومع دخول منظمة التحرير إلى الأراضي الفلسطينية يكمل بشارة، أصبح يراوح بين معارضة لفظية، وعدم ممناعته لمبدأ المفاوضات، وتقديم ملاحظات على الأداء التفاوضي. إنه يسار معارض لأوسلو، ولكنه عمليًا جزء من واقع السلطة وأوسلو ومنظمة التحرير بعد التوقيع. كان اليسار الشيوعي متمثلًا في حزب الشعب من البداية مؤيدًا للتسوية وبقي مؤيدًا لها منسجمًا مع ذاته، ولكن قاعدته التنظيمية انتهت تقريبًا، فقد كان هو الأكثر تعرضًا للأزمة الناجمة عن الانهيار السوفييتي، والأكثر تآكلًا في جهازه التنظيمي ومثقفيه بدخوله ملعب الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية المدعومة غربيًا. وكان أيضًا الأكثر تأثرًا بمجيء قيادة المنظمة والسلطة إلى الداخل. فقد تقلص نفوذ حزب الشعب (الشيوعي سابقًا) عندما بدأت قيادة فتح تتبنى خطه الفكري وخطابه، متخلية عن خطابها الثوري السابق المتأثر بخطاب اليسار الفلسطيني الجبهوي، وأصبحت مفرداته تتزين برفض الكفاح المسلح والذهاب الكامل نحو التسوية وعدم الرهان على العرب، والرهان على “معسكر السلام الإسرائيلي” وعلى “القوى الديمقراطية في إسرائيل”. هناك صلة مباشرة بين مفردات ولغة محمود عباس ولغة الحزبَيْن الشيوعيَيْن، الإسرائيلي والفلسطيني، والأول بشكل خاص.
تحولت تنظيمات اليسار بدرجات متفاوتة بعد انتخابات السلطة الفلسطينية عام 2006 إلى حليف لحركة فتح ضد الحركات الاسلامية بحجج مثل الحفاظ على (م ت ف) وعلى التيار العلماني. ولم يشهد تاريخ اليسار الفلسطيني كله تهاونًا مع فكرة التحالف والوجود تنظيميًا في علاقة مع قوة تنسِّق أمنيًا مع الاحتلال ضد قوى فلسطينية أخرى مقاومة بغض النظر عن طبيعة هذه القوى الأخرى. وأقصى ما وصل إليه من حياد هو في التوسط وطلب الوحدة الوطنية محاولًا الموازنة بين طرفين، والذي يترك فراغا ضيقا “لموقف ثالث”، ولكن من زاوية نظر شعبية واسعة، فإن اليسار يساوي بين من ينسق مع الاحتلال ومن يقاوم الاحتلال. وهو يساوي بين من ربح الانتخابات وتعرض لحصار، وبين من يراهن على الحصار الدولي والاسرائيلي لكسر وإسقاط من ربح الانتخابات. وقد كان من المفترض أن يدافع عن خيارات الشعب وسيادته، وأن ينحاز إلى المظلومين فيه.
يضيف بشارة أن الهامش بين التعاون مع الاحتلال ومقاومة الاحتلال هو هامش ضيق جدًا لا مكان فيه لقوة ثالثة واسعة. وكل من حشر نفسه هناك اتُّهِم شعبيًا بالانتهازية، واضطر في النهاية للانحياز علنًا إلى السلطة. ولا بد أن ينحاز اليسار إلى مقاومة الاحتلال، التي مارسها عمليًا ولم يسقطها من برنامجه. وهناك في المقاومة، وليس في الهامش بين قوتين، يمكن لليسار أن يراجع فكره، ويفكر برسالته ودوره التاريخي، ويبني نفسه. فهل بإمكان القوى اليسارية المنظمة القائمة أن تقوم بهذه المهمة أم سوف يضطلع بها آخرون؟
ترصد عروبة عثمان في مقالها لجريدة الأخبار واقع الأزمة لتنظيمات اليسار بسبب غياب برامج جديدة للحل، سواء على مستوى النضال والتحرر، أو في مجال الخدمات ومشكلات الناس المتزايدة. ويرجع سبب ذلك في أصله إلى ذوبان معظم هذه التنظيمات في «المنظومة الأوسلوية»، واختزال أخرى مهماتها في تفريخ منظمات أهليّة خاضعة لسقف اشتراطات الدول المانحة، وغالبيتها من الغرب. ومع ذلك، قد يكون صعبًا تقول عثمان، إغفال دور كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الذراع المسلحة لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في حرب غزّة 2012. إذ أحدث نشاط الكتائب ووحداتها الصاروخية كوّة عميقة في جدار الترهّل اليساري. إن صعود «الشعبية» على سلّم المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي في غزة يفتح عدة تساؤلات عن إمكانيّة استثمار جولتها القتالية الأخيرة في إجراء مراجعة شاملة لنهجها العسكري والسياسي، وهل يمكن ذلك أن يخلق هوية واحدة داخلها بعدما عاشت حالة فصام بين جناح مقرّب من «حماس»، وآخر يعيش في ذيل السلطة؟ وحتى في حضور اليسار بالوساطة بين «فتح» و«حماس»، كان أشبه بحضور الغائب، ما دام الفصيلان الأكبران يتصالحان في الأساس بعيدًا عن رأي البقية وتحت مظلة النظام المصري.
وتضيف عثمان إلى إشكالية الازمة، أن رؤية التنظيمات اليسارية إلى أوسلو على كونه اتفاقًا استسلاميًا يجوّف القضية من مضامينها لم تصمد طويلًا، فسرعان ما انغمست في المنظومة الأوسلوية وتعاملت معها على قاعدة أنها واقع لا يمكن التنصّل منه، لتكرّ بعد ذلك السُّبحة وتندمج شخصيات يسارية في المؤسسة الأمنية الفلسطينية وتحوز امتيازات خاصة، حيث سارع حزب الشعب الفلسطيني (الحزب الشيوعي سابقًا) إلى تغيير اسمه والتودّد لـ«فتح»، حتى بات نسخة كربونية عنه في الوقت الراهن، بل أقحم نفسه في كل تشكيلة وزارية تابعة لرام الله. ليس عند هذا الحد فقط، فقد استنسخ اليسار نهج «فتح» في خوض الانتخابات التشريعية وضخّ المال الغربي المشروط في جمعياته ومنظماته الأهلية التي تطفح بها الضفة والقطاع.
لكن المفاجأة كانت أن «حماس» اكتسحت عام 2006 المقاعد البرلمانية، مقابل حصول القوى اليسارية على 2% فقط من تلك المقاعد بسبب اصطفافها مع «فتح». فلم تستسغ هذه القوى النسبة الضئيلة، فطالبت آنذاك بإعادة إجراء الانتخابات وفقًا للنسبية بدلًا من نظام الدوائر. وبالرغم من الصورة القاتمة لحالة اليسار، ثمّة أصوات أخرى عاكست التيار السائد، ودفعت مخصصاتها الماليّة ثمنًا لذلك. ويمكن إعطاء مثال على ذلك، تقول عثمان، بما حدث مع النائبة في المجلس التشريعي، خالدة جرار الممثلة عن الجبهة الشعبية، التي انسحبت من إحدى جلسات اللجنة التنفيذية للمنظمة لاعتراضها على المفاوضات والفساد السياسي والمالي الذي ينخر جسد المنظمة، وسادت آنذاك حالة من الغليان بين «الجبهة الشعبية» و«أبو مازن» الذي قرر قطع العلاقات نهائيًا مع «الجبهة» ومخصصاتها المالية (الأخبار 22/5/2014).
ويعرض حيدر عيد كتاب (تهاوي اليسار الفلسطيني: المعارضة الموالية) للكاتب/الباحث فرانسيسكو ليوباردي الذي أمضى عدة سنوات في البحث و القراءة و المقابلات لينتج عملًا نقديًا جادًا في 2022، يركز على حالة الجبهة الشعبية كونها الفصيل اليساري الأكبر، ومن منطلق أن تراجع الجبهة الشعبية يعكس بالضرورة انحدار اليسار الفلسطيني وتبنيها ما يسميه الكاتب سياسة المعارضة الموالية. يتناول هذا الكتاب النقدي الموثق والذي يعتمد على بحث موسع لمدة تزيد على عشر سنوات تاريخ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال فتره انحدارها السياسي و الأيديولوجي والجماهيري ما بين عامي 1982، أي عام الخروج من بيروت، وعام 2007، أي عام الانقسام بين حركتي فتح وحماس كممثلتين لليمين الفلسطيني، العلماني والإسلامي. إن ادعاء اليسار الفلسطيني، بالذات الجبهة الشعبية، أنه يمثل نقيض الهيمنة السياسية لمشروع حركة فتح داخل منظمة التحرير يتناقض عمليًا مع سياسة الموالاة التامة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تهيمن عليها حركه فتح بشكل تام. في هذا السياق يطلق الكاتب مصطلح “المعارضة الموالية” التي ميزت مسيرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتطلبت بالضرورة التخلي عن دورها في مواجهه الهيمنة الفتحاوية، التي كانت السبب في تقويض وجودها كيسار ثوري يناضل من أجل إقامة دولة اشتراكية ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني. وأكثر ما ميز ذلك، تبعًا للكاتب، سياسة “التذبذب” في المواقف التي تم اتخاذها في القضايا الحاسمة،كالحرص المبالغ به على وحدة المنظمة على حساب المواقف المبدئية التي ميزت الجبهة في بداياتها، وتحوّل الجبهة من الرفض التام إلى القبول بنظام ما بعد أوسلو السياسي، وبالتالي توافق الجبهة النهائي مع السلطة الوطنية الفلسطينية وتكاملها داخل الكتلة المهيمنة التقليدية، مما أدى للحالة الراهنة من عدم قدرتها على الانسحاب من الإطار السياسي المختل واتباع سياسة “الانسحاب من المشاركة“ كبديل ثوري.
يركز الكتاب على “انعدام الكفاءة السياسية“ كمظهر من مظاهر التدهور اليساري الذي جسدته الجبهة الشعبية نتيجةً لعوامل ذاتية أكثر من العوامل الموضوعية الخارجية. وهذا بدوره أدى إلى وصول الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام والجبهة بشكل خاص الى “أزمة مستعصية الحل“. وبالتالي فان غياب يسار فلسطيني فاعل يعتمد عليه أصبح جزءًا لا يتجزأ من الشلل السياسي الذي تعاني منه الحركة الوطنية الفلسطينية في ظل هجوم غير مسبوق على الحق الفلسطيني في تقرير المصير.
تميّزت التجربة الأوسلوية سياسيًا بالحديث عن المفاوضات كأنجع الطرق للوصول إلى حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية على أساس ما اتُّفق على تسميته «حلّ الدولتين»، أي من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة على 22% من أرض فلسطين التاريخية بجوار دولة إسرائيل بعد الاعتراف بها. ولقد روجت ثقافة «السلام» التي أنتجها اتفاق أوسلو من خلال سياسة ناعمة إلى «عدم واقعية» المطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى القرى والمدن التي طُهِّروا منها عرقيًا عام 1948، وبالتالي اختزال حق تقرير المصير، المكفول دوليًا، في الجزء الذي احتل عام 1967 وذلك من خلال الترويج للاستقلال بطريقة ديماغوجية عبر الادعاء بالإجماع فلسطينيًا عليها.
وللترويج لهذه الفكرة، جرى ضخّ كمية من الأموال المُسيَّسة في خزينة السلطة الوطنية تضمن شراء الولاءات وتضخيم الجهاز البيروقراطي المرتبط بها. وفي المنحى غير الحكومي، تأسست منظمات أهلية تميزت في ولائها لتنظيمات كانت تحمل أيديولوجيا يسارية. وعلى الرغم من الرصيد الثوري التاريخي الغني لليسار، إلا أن مصالحها تقاطعت مع المصالح الطبقية للنخبة السياسية الأوسلوية، فانصاعت لشروط ممولي المنظمات الأهلية التي بدورها استوظفت القيادات والكوادر اليسارية الفاعلة منها.
تورَّط اليسار الفلسطيني في مسار أوسلو وقبِل ضمنيًا اتفاقيات أوسلو، على الرغم من ادعائه معارضتها. لم يعارض جزء من أحزاب اليسار اتفاقيات أوسلو، بل إن البعض تبوأ مناصب وزارية تقريبًا في كل حكومةٍ تشكلت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية كحزب الشعب كما سبق وذكرنا، بالرغم من تبني تلك الحكومات سياسات نيوليبرالية تتعارض مع الحد الأدنى من حقوق الطبقات المسحوقة التي تمثلها تلك الأحزاب. كذلك فعلت أحزاب يسارية أخرى كالجبهة الديمقراطية عبر تبنّيها لفكرة «الحل المرحلي» ومن ثم «حل الدولتين» الذي أثبتت التجربة أنه يقوم على أساس الفصل العنصري بين السكان في كيانين منفصلين بناء على هويتهم الإثنية – الدينية.
أثّرت فترة ما بعد أوسلو التي شهدت تحولات اجتماعية وثقافية على المجتمع الفلسطيني نتيجة لتبني السلطة الفلسطينية لسياسات اقتصادية واجتماعية مغرقة في نيوليبراليتها. وقد أدى تماهي مصالح القوى اليسارية مع القوى الطبقية المهيمنة على صناعة القرار الفلسطيني إلى تغييب البعد الطبقي في تحليل العلاقات الاجتماعية السائدة عن خطابها السياسي. ومع تحوّل مهام البرجوازية الوطنية إلى وسيط سياسي مع النظام الاستعماري، تراجعت المهام النضالية الاجتماعية لليسار كونه أصبح متذيلًا لمصالح الطبقة المهيمنة على كل من السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
أصبح اليسار جزءًا من النخبة الفلسطينية المتكيفة مع الواقع الاستعماري ما-بعد-الأوسلوي وما أنتجه هذا الواقع من وعي زائف غلَّب المصالح الفردانية الاستهلاكية على حساب الطبقات الكادحة التي يُفترض أن اليسار يمثلها. فالأجندة السياسية الاقتصادية النيوليبرالية المغرقة في يمينيتها التي تبنتها السلطة الوطنية الفلسطينية، لم تحث اليسار الفلسطيني على اتخاذ موقفٍ عمليٍ ضاغطٍ على السلطة الوطنية ومواقفها المتكررة المتنكرة لحق اللاجئين بالعودة، أو موقفها الثابت من التنسيق الأمني. وبدلًا من مراجعة قوى اليسار لسياساتها والأسباب التي أدت إلى هزيمتها في انتخابات المجلس التشريعي في عام 2006 من خلال عملية نقد ذاتي ضرورية، انخرطت أكثر في السعي للحصول على امتيازات أخرى من السلطة الفلسطينية.
ساهمت أوسلو في تفريغ اليسار من مضمونه وبرنامجه الثوري وحالت دون التقدم ببرنامج نضالي عملي يتحدى الأيديولوجيا النيوليبرالية السائدة، ويدافع عن حقوق الطبقات الشعبية الكادحة التي أيد العديد من مناصريها التيارات اليمينية الدينية كما أظهرت نتائج انتخابات 2006، وقبلها انتخابات المجالس البلدية، و انتخابات مجلس طلاب جامعة بيرزيت 2017، والتي هي أكثر جامعات فلسطين ليبرالية وعلمانية.
من المؤكد أن اليسار الفلسطيني لم يرتق، في هذه المرحلة المحورية، إلى مستوى المهمة التاريخية الملقاة على عاتقه، والتي يجب أن تتخذ من المقاومة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أعمدة للنضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. لا بد هنا لليسار الفلسطيني أن يراجع تجربته ويتعلم من التجارب والخبرات والدروس الأممية، بالذات من يسار أميركا اللاتينية ومن الحركات الاجتماعية البارزة في الغرب ودول العالم النامي من جنوب أفريقيا إلى الهند.
إن تفريغ اليسار من تراثه الثوري وتخليه عن دوره التمثيلي للطبقات الشعبية الكادحة التي تدفع ثمنًا باهظًا نتاج عملية نيولبرلة الاقتصاد الفلسطيني، يدفع بتلك الطبقات إلى التكيف مجبورة مع أطر أخرى. فبدلًا من التصدي للتوحش الرأسمالي الطفيلي نيابة عن الطبقات الاجتماعية المهمشة، بالذات في المخيمات الفلسطينية، فإن العديد من القيادات اليسارية اختارت الانحياز الطبقي للفئة الحاكمة بشكل عام. وفي هذا السياق، يخضع اليسار حاليًا لثنائية الأمر الواقع، أي ثنائية فتح وحماس، من باب أهمية الحفاظ على الثوابت والوحدة وحماية أبناء الشعب الفلسطيني، ومن دون اتخاذ أي خطوات عملية تتحدى من يضعف هذه الثوابت ويساهم في معاقبة الشعب، بالذات سكان القطاع المحاصر.
وفي حين يرى الخطاب السياسي السائد في فلسطين اتفاق أوسلو، ومؤسسة السلطة الفلسطينية النابعة عنه، على أنهما المسار السياسي الوحيد المؤدي إلى دولة فلسطينية؛ إلا أن هذا التحليل ينكر قدرة الشعب الفلسطيني على خلق واقع موضوعي جديد، ويعتمد، بدلًا من ذلك، على معونات الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية للوصول إلى هذه الدولة السراب.
يبدو أن اليسار الفلسطيني أصبح في أمسّ الحاجة لتقديم تحليل جدلي للواقع الحالي في فلسطين، وبرنامج بديل والبحث عن أدوات نضالية مناسبة بعيدًا عن الشعارات التي تتناسب مع مراحل تاريخية سابقة. يستطيع المرء أن يفهم عجز التيارات الدينية اليمينية عن طرح بديل ثوري، لعجزها الفكري وبنيتها الأيديولوجية الإقصائية. ولكن، على القوى الديمقراطية أن تكون قادرة على طرح هكذا بديل، بعيدًا عن مكاتب السلطة والأجهزة والمؤسسات الأهلية. ينبغي لليسار الفلسطيني أن يوجه طاقاته لمحاربة نتائج اتفاقيات أوسلو النيوليبرالية الاجتماعية التي أدت إلى زيادة نسب الفقر والبطالة بدرجة غير مسبوقة، وأن يعيد تجميع قواه في جبهة موحدة على أساس برنامج اجتماعي تنموي. وإذا لم يكن اليسار الفلسطيني قادرًا على تطوير برنامج ثوري بديل وهيكلته والتخلص من خرافة حل الدولتين وتطوير برامج اجتماعية تتخطى المصالح الطبقية الضيقة لقياداتها التي استسلمت لمواقع تحد من قدرتها على الإبداع النقدي الخلاق، فالأجدر به أن يعلن فشل مشروعه السياسي وبرنامجه الأيديولوجي.
الهدف من هذا المقال فتح طاقة تساهم في إعادة حضور اليسار الفلسطيني إلى الساحة الفلسطينية بشكل جذري، وليس ذلك انتقاصًا من دور المقاومة المسلحة الوطنية والإسلامية تجاه العدو، لكن اليسار الثوري الجماهيري هو الأقدر على ربط النضال الوطني بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية في وجه سياسات النيوليبرالية والفساد في الضفة الغربية والتنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية وشركات الأعمال من الباطن لقيادة حماس مع النظام في مصر حتى تحكم قبضتها الإقصائية في غزة والتي تتسبب بمزيد من الإفقار في الأراضي الفلسطينية.
وبين يمين منبطح مستسلم في الضفة ويمين له جناحين مقاوم وسلطوي في غزة، يستدعي ذلك قيام مشروع ثالث ليس للتواجد في هامش صغير يحاول التوفيق بينهما وإعادة النفخ في منظمة التحرير التي تم دفنها في أوسلو وفرغت مؤسساتها لصالح السلطة ولم تعترف بها التنظيمات الإسلامية أصلًا. فالسلطتين يجمعهما الكثير بصفتهما سلطتان حاكمتان مع الاختلاف كما سبق وأسلفنا من دور كل سلطة في النضال الوطني. وهو أمر أدركه النظام المصري في محاولاته الدؤوبة على التوفيق بينهما ووضع خطط التهدئة والسيطرة على الوضع الداخلي مع بقاء الحصار المصري ومعاناة أهل غزة بسببه. وهو ما جعل الشعب الفلسطيني يتجه إلى حركة الجهاد بشكل أكبر في جنين وغزة لمواجه المحتل بغياب موقف سياسي ثوري كاشف للأوضاع الداخلية وهو ما يتطلب بروز تحرك التنظيمات اليسارية لملئ هذا الفراغ.
تنبع ضرورة المهمة والعاجلة لتجميع قوى اليسار الثوري بقيادة أكبر فصائلها الجبهة الشعبية، من وقائع عديدة أبرزها أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة تطرح تحديات لا سابق لها أمام الشعب الفلسطيني، إذ هي تريد، من خلال العمل على توسيع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس والجليل والنقب والجولان كما ورد في البند الأول من برنامجها (وربما ضم الضفة الغربية بكاملها أو على الأقل المنطقة ج منها) أن تنقل القانون الأساس: “إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي”، الذي لا يتنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فحسب بل ينكر على هذا الشعب كذلك حقه في أرض وطنه التاريخي، بما يحقق حلم “إسرائيل الكبرى” على أرض فلسطين الانتدابية.
يحدث ذلك في ظل استمرار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، على الرغم من هذا التحوّل الإسرائيلي النوعي، في انتهاج سياسة لا تخرج عن اتفاق أوسلو وتراهن فيه على تدويل القضية واستمرار المفاوضات، بينما أصبحت سلطة حركة “حماس” في قطاع غزة أسيرة سياسة التهدئة في مقابل المكاسب الاقتصادية. إن إنكار حق الشعب الفلسطيني في أرض وطنه، المترافق مع السياسات الاحتلالية والاستيطانية والقمعية، يوحد موضوعيًا الفلسطينيين في المناطق المحتلة منذ سنة 1948 والمناطق المحتلة منذ سنة 1967 وفي مواقع الشتات، ويفرض عليهم البحث عن أطر تنظيمية يمكّن ممثلي المواطنين الفلسطينيين في مناطق 1948 من المشاركة مع غيرهم من ممثلي الشعب الفلسطيني وعن برامج سياسية تعبّر عن هذا التوحد في النضال؛ فهل قوى اليسار الفلسطيني قادرة على الاضطلاع بهذه المهمة؟
التعليقات مغلقة.