متابعات، نشرة أسبوعية – العدد التّاسع والعشرون / الطاهر المعز

 




الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 23/7/2023 م …

يتضمن هذا العدد فقرة عن تعدّد زيارات وفود الإتحاد الأوروبي لتونس بهدف تمتين علاقات تبعية، أو العلاقات غير المتكافئة، بين الطرف الأضْعَف (تونس) والطّرف الأقوى (الإتحاد الأوروبي)، وفقرة عن مكانة الدّولار في مسار الهيمنة الأمريكية على العالم، وفقرة عن دور الهجرة في وقف العجز الديموغرافي بدول الإتحاد الأوروبي، وفقرة أخرى عن التقليص الطّوعي لهامش الإستقلالية لدول الإتحاد الأوروبي (وكذلك البرلمان الأوروبي) والإصطفاف وراء الولايات المتحدة، داخل حلف شمال الأطلسي وفي الأمم المتحدة ولو كان الإصطفاف ضد المصالح الإقتصادية لدول أوروبا، وفقرة عن قطاع تجارة المُخدّرات المُزدهر بفعل تداخل النشاط القانوني للشركات والمصارف مع النشاط غير القانوني، ما دام يَدُرُّ نسبة مرتفعة من الأرباح، ويتضمن هذا العدد فقرة قصيرة عن القرارات العدوانية الخطيرة التي اتخذها حلف شمال الأطلسي خلال مؤتمر فيلنوس يومي 11 و 12 تموز/يوليو 2023…  

 

تونس وأوروبا

بعد أُسْبُوعَيْن من إشراف خفر السواحل اليونانية والإيطالية على غرق مئات المُهاجرين غير النّظاميين، قَدِموا من بُلدان دَمّرتها جيوش أوروبا وحلف شمال الأطلسي والكيان الصهيوني (أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين… ) درس قادة دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، يوم الخميس 29 حزيران/يونيو 2023، موضوع انجاز تصدير الحدود في مجال واحد وهو اعتقال هؤلاء الفقراء الراغبين في الهجرة، قبل وصولهم إلى البحر الضّفّة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، ودرسوا مشروع اتفاق مع تونس “لمكافحة الهجرة وضبط شبكات المهرّبين”، وتجربة تطبيقه عمليا ليشمل هذا الشكل من “التعاون” دولا أخرى، جنوب البحر الأبيض المتوسط، وكان الإتحاد الأوروبي قد عَلّق تسديد 300 مليون يورو سنويا، منذ ثلاث سنوات، ما جعل النظام التونسي “يتراخى” في اعتقال المهاجرين.

أرسل الإتحاد الأوروبي إلى تونس، يوم 11 حزيران/يونيو 2023، وفدًا تقوده رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لايين ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ونظيرها الهولندي مارك روته، وجميعهم من اليمين الأوروبي الأشد عداءً للمهاجرين وللفُقراء وللشعوب المُضْطَهَدَة، وفي مقدّمتها شعب فلسطين، وادّعى بيان الإتحاد الأوروبي إن هدف الزيارة “تعزيز الشراكة والعلاقات الاقتصادية والتجارية والتعاون في مجال الطاقة النظيفة، وتقديم مساعدة مالية تتجاوز قيمتها مليار يورو” والواقع إن هذا “المليار يورو” يشمل ما لم يُسدّده الإتحاد الأوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية (900 مليون يورو) وأُضيفت لها مائة مليون يورو، ولا تخرج هذه الأموال من أوروبا لأنها تكون في شكل معدّات أوروبية وكاميرات وزوارق لمراقبة المُهاجرين الذين يعتزمون الذّهاب إلى أوروبا، أي قيام قوات الأمن بمهام حرس حدود أوروبا، ووعد الإتحاد الأوروبي بالعمل على تخفيف شروط صندوق النقد الدّولي التي وصفها الرئيس التونسي ب”الإملاءات المَرفوضة”، لكن حكومته بدأت تطبيق هذه الإملاءات قبل الحصول على القسط الأول من قرض بقيمة 1,9 مليار دولارا…   

تُمثل إيطاليا الوجهة الأولى للمهاجرين انطلاقًا من تونس أو من ليبيا، ولذلك كانت زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية (زعيمة حزب يميني متطرف) الزيارة الثانية إلى تونس خلال أسبوع واحد، وناقشت مع  الرئيس التونسي قيس سعيّد ملَفَّيْ الهجرة غير النظامية بهدف الحد من تدفق المهاجرين إلى شواطئ إيطاليا، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وسبقت هذه الزيارة لقاءات واتصالات بين مسؤولين حكوميين تونسيين ونظرائهم من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة، ولم تحصل الحكومة التونسية على أي دعم، رغم الحديث عن الوضع السّيّء للإقتصاد التونسي، باستثناء “قوارب ورادارات وكاميرات وعربات لتعزيز ضبط الحدود البرية والبحرية… وتعزيز التعاون في مجالَي الشرطة والقضاء لمكافحة شبكات المهرّبين، وتسهيل إعادة التونسيين المقيمين بشكل غير قانوني في أوروبا الى بلادهم…”

فقد ما لا يقل عن عشرين ألف شخص حياتهم، بين 2014 و 2022، إثناء عبور البحر المتوسط، بين إيطاليا والمغرب العربي (ليبيا وتونس)، وفق المنظمة الدولية للهجرة التي أشارت إلى تزايد القيود المفروضة على المهاجرين وانعدام أي “مسارات قانونية للهجرة وإلى “الضغط على المنظمات غير الحكومية لسياسة التي تُحاول إنقاذ حياة المهاجرين” ووصفت ناطقة منظمة “أوكسفام” شراكة الإتحاد الأوروبي مع تونس هي مجرد عملية تصدير أوروبا مسؤولياتها في مجال إدارة الهجرات، وفق وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس، أو أ.ف.ب. 14 تموز/يوليو 2023)

أثارت زيارة 11 حزيران 2023 جدلا في تونس بسبب التصريح المُستَهْتِر (كالعادة) لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي أعلنت، الأحد 11 حزيران/ يونيو 2023 “أنّ الاتحاد الأوروبي مستعد لتقديم 100 مليون يورو لتونس لمساعدتها في إدارة الحدود وعمليات البحث والإنقاذ وإجراءات مكافحة التهريب ومعالجة قضية الهجرة غير النظامية”، ويُشكّل تصريحها صدى لاتفاق وزراء داخلية الإتحاد الأوروبي، قبل أسبوع من تصريحها، بشأن الهجرة واللجوء وترحيل الآلاف من مختلف الجنسيات إلى بلدان مثل تونس وليبيا وتتكفل تونس بترحيلهم، كي تتمكن الحكومة من الحصول على مبلغ تافه لا يتجاوز مائة مليون يورو، يتم إنفاقه على شراء تجهيزات أوروبية للمراقبة والقمع، وتعميق تبعيتها تونس وارتهانها للإتحاد الأوروبي، وبذلك يكون الحديث عن السيادة الوطنية مُفْرَغًا من مضمونه، لأن أرض البلاد تحولت إلى مُحتَشَد ضخم للمهاجرين الفُقراء من جنوب الصحراء الكبرى المُرَحّلين قسريًا من أوروبا، وتحول جهاز الدّولة إلى شرطي يحمي الحدود الجنوبية للإتحاد الأوروبي.

تواصلت المفاوضات وفق ما أعلنت المفوضية الأوروبية، الجمعة 14 تموز/يوليو 2023، بعودة الثلاثي اليميني الأوروبي (رئيسة المفوضية الأوروبية، ورئيسة الحكومة الإيطالية، ورئيس الوزراء الهولندي)، للقاء الرئيس التونسي، قيس سعيّد، يوم الأحد 16 تموز/يوليو 2023، لمناقشة ملف الشراكة، ولم يذكر البيان أي بند غير الهجرة، قبل أن يستدرك بيان آخر (السبت 15 تموز/يوليو 2023) ليضيف إلى جدول أعمال اللقاء “تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والتعاون في مجال الطاقة النظيفة، فضلاً عن إدارة مسألة الهجرة” الذي يتضمن “تعزيز مراقبة السواحل التونسية لمنع عبور المهاجرين غير النظاميين نحو السواحل الأوروبية، ومكافحة المهربين وتسهيل عودة المهاجرين إلى تونس من دول الاتحاد الأوروبي”، ولم ترد أي تفاصيل عن العلاقات الإقتصادية والتجارية وغيرها من البنود الأخرى، لأنها “لا تزال في مرحلة المفاوضات” (منذ 1996 !!!)، وتُعلّل الحكومة الإيطالية ضرورة التوصل إلى اتفاق مع تونس بالخشية من تدفق المزيد من المهاجرين إلى شواطئها في حال ازدادت الأوضاع الاقتصادية في تونس تدَهْوُرًا أكبر، ويراهن الإتحاد الأوروبي على قبول حكومة تونس مبلغًا تافهًا مقابل قبول لعب دور “حارس حدود أوروبا” وإعادة ترحيل المهاجرين غير النظاميين المطرودين من أوروبا إلى بلدانهم الأصلية في إفريقيا جنوب الصحراء.

ويتمثل بعض مظاهر تدهور اقتصاد تونس في ارتفاع حجم الدّيون الخارجية ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع العجز الجاري والعجز التجاري، وانخفاض حجم احتياطي النقد الأجنبي الذي لا تفوق قيمته 93 يوما من التّوريد بنهاية شهر حزيران/يونيو 2023، فضلا عن انهيار الدّينار، ويعود السبب جُزئيا إلى تطبيق شروط صندوق النقد الدّولي، ليفقد الدينار نحو 52% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي بين سنتَيْ 2011 و 2022، وفق المرصد التونسي للإقتصاد ( 21 حزيران/يونيو 2023) الذي أصدَرَ تقريرًا تقرير بعنوان “الإصلاحات النقدية تحت مظلة صندوق النقد الدولي: تخفيض قيمة الدينار كحالة دراسية”، يفيد أن لِانخفاض قيمة الدينار تأثير على حياة المواطن اليومية، بحكم توريد البلاد للوقود والقمح والدّواء بالعملة الأجنبية، فضلا عن المواد المُصنّعة، ما يرفع أسعارها بالدّينار في السوق المحلية، حيث أدّى “تحرير” (تخفيض) الدّينار منذ 2016 إلى زيادة التضخم، وغياب بعض السلع الأساسية، فضلا عن ارتفاع أسعارها، ومنها الطحين والزيت النباتي والحليب والسكر والمحروقات وغيرها، خصوصًا منذ سنتَيْن، وبدأت الحكومة تُطبّق شُرُوط صندوق النقد الدّولي، قبل الإتفاق النهائي، وقبل الحصول على القسط الأول من القرض، وتشمل هذه الشروط: “خفض الدعم وإعادة هيكلة شركات القطاع العام وخفض أجور موظفي هذا القطاع وخفض عدد الموظفين بمعدّل عشرة آلاف سنويا طيلة خمس سنوات…

فُتات الإتحاد الأوروبي لتحويل تونس إلى سجنٍ أو مقبرة للمهاجرين

دارت اشتباكات في مدينة صفاقس، ثاني أكبر مدينة تونسية، في الثالث من تموز/يوليو 2023، أسفرت عن مقتل مواطن، وردا على ذلك، تم طرد مئات المهاجرين أصيلِي دول جنوب الصحراء الكبرى ونقلهم من صفاقس إلى مناطق قاحلة على الحدود مع ليبيا والجزائر، دون ماء أو مأوى أو طعام، وكان من بينهم أطفال ونساء حوامل، ووقعت اشتباكات جديدة خلال الأسبوع الثالث من شهر تموز/يوليو 2023، في مدينة صفاقس، بين مهاجرين ومواطنين تونسيين، بعد اكتشاف جثة 13 مهاجر غير نظامي ماتوا غرقًا في البحر، وأعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، خلال نفس الأسبوع، وصول 51215 مهاجرًا غير نظامي إلى إيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسط خلال النصف الأول من سنة 2023، بزيادة 150% عن نفس الفترة من العام السابق ( 2022). نصفهم تقريبا أتوا من تونس والنصف الآخر من ليبيا، وأحصت المفوضية وفاة وافتقاد ألف مهاجر في مياه البحر الأبيض المتوسط خلال نفس الفترة.

ارتفع عدد المهاجرين غير النظاميين القادمين من جنوب الصحراء الكبرى، والعابرين تونس، في انتظار فرصة لعبور البحر الأبيض المتوسط نحو جنوب أوروبا، منذ دَمّرت قوات حلف شمال الأطلسي ليبيا وغيرت نظامها السياسي واغتالت رئيسها، بتواطؤ من الأنظمة العربية (مصر والإمارات وقطر وآل سعود والمغرب…)، وكانت ليبيا تستقبل حوالي ثلاثة ملايين مهاجر، قبل عدوان شباط/فبراير 2011، واستباحة ثكنات الجيش الليبي وتوزيع السّلاح على مليشيات الإرهاب التي انتشرت في إفريقيا، ولا تزال ليبيا بدون حكومة وتتقاسمها المليشيات القَبَلِية والعشائرية، منذ 2011، ولما ارتفع عدد المهاجرين غير النظاميين الباحثين عن عمل في أوروبا (بعد حرمانهم من العمل في ليبيا وفي بلدانهم الأصلية)، أقَرّ الإتحاد الأوروبي مساعدات مالية لقادة المليشيات، من أجل مَنْع المهاجرين من مغادرة ليبيا نحو أوروبا، ولما أصبحت تونس نقطة العبور الرئيسية إلى أوروباعبر البحر، أعلنت مفوضية الإتحاد الأوروبي، بضغط من حكومة القوى الفاشية الإيطالية، تقديم ما بين مائة مليون و 150 مليون يورو للسيطرة على تدفقات الهجرة ومنع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، ووقّعت رئيسة المُفوّضِيّة الأوروبية أورسولا فون دير لاين يوم 16 تموز/يوليو 2023 مذكرة تفاهم مع الحكومة التونسية من أجل “شراكة استراتيجية شاملة” ولم يتم التركيز سوى بند واحد من هذه “الشراكة الإستراتيجية الشاملة” يتعلق بمكافحة الهجرة غير النظامية، وتم إدراج مواضيع أكثر أهمية مثل التنمية الاقتصادية للبلاد والطاقة المتجددة في الحَواشي، ووصفت أورسولا فون دير لاين هذه الإتفاقية: “اتفاقية الاستثمار في الرخاء المشترك”، وركّزت على “السيطرة على الهجرة”، وتحويل تونس إلى حاجز لاحتواء المهاجرين الذين اتهمهم أعضاء من السلطة التونسية بمحاولة “تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد”، مع نَعْتِهِم ب”جحافل المهاجرين” من إفريقيا جنوب الصحراء… عن وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب 17 تموز/يوليو 2023

 

الدّولار ومسار الهيمنة الأمريكية

يُشكّل الدّولار أحد عناصر الهيمنة الأمريكية على العالم، وتعود جذور هيمنة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي إلى اتفاقية “بريتون وودز” سنة 1944 ضمن مجموعة من الترتيبات التي أرْسَت هيمنة الإمبريالية الأمريكية، بدلا من الإمبرياليتَيْن البريطانية والفرنسية، بمشاركة 44 دولة اتفقت على تأسيس منظمة الأمم المتحدة كبديل لعصبة الأمم وعلى تنظيم التجارة العالمية وتحقيق نوع من الاستقرار المالي الدولي باعتماد الدولار الأميركي كعملة أساسية للتبادل التجاري والمالي، وكضمان لهذا الإستقرار، وكمعيار لتحديد أسعار العملات الأخرى، بفعل ارتباطه بالذهب ( أونصة ذهب واحدة تُساوي 35 دولارا )، ما يجعل الدّولار قابلا للمقايضة بالذهب، ورغم فك الإرتباط بين الدّولار والذّهب، منذ سنة 1971، لا يزال الدّولار مهيمنًا على المبادلات التجارية وعلى التحويلاات المالية العالمية، فما هي مبررات استمرار هيمنة الدّولار رغم وجود نحو 180 عملة ومنها عملات الإمبراطورية البريطانية ( الجنيه الإسترليني) والإتحاد الأوروبي (اليورو) وعملة الصين (اليوان) واليابان (اليِن) وغيرها؟

لمحة تاريخية

عندما استعمرت إسبانيا جزءًا كبيرا من العالم، من أمريكا الجنوبية إلى آسيا، بداية من نهاية القرن الخامس عشر، هيمنت عُملتها الفِضِّية ( نهبت أسبانيا الفضة والذّهب من مستعمراتها) بين القرنَيْن السادس عشر والتاسع عشر، حيث كانت العديد من الدول تعتمد هذه العملة في مبادلاتها التجارية الخارجية، إلى أن أقر الكونغرس الأميركي، سنة 1792، قانون إصدار الدولار الأميركي والمرتبط في قيمته بالفضة، قبل أن ترتبط قيمته بالذهب، خلال القرن التاسع عشر، بفعل انخفاض قيمة الفضة وارتفاع قيمة الذّهب، ما جعل قيمة العملة الإسبانية تنخفض، مقابل زيادة تداول الدّولار الأمريكي إلى أن أصبح مُهيمنًا على منظومتَي المبادلات التجارية والتحويلات الكالية الدّولية ولا يزال يُشكل الحصة الرئيسية للإحتياطيات النقدية العالمية، وإن انخفضت حصته خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ولا تزال عملات العديد من الملاذات الضريبية والدول المُصدّرة للمواد الخام، منها النفط (الخليج) مرتبطة بالدّولار (أو ما يُسمى البِتْرُودولار)

في ذروة العدوان الأمريكي على فيتنام وبلدان جنوب آسيا – فضلا عن تنظيم الإنقلابات في أمريكا الجنوبية – خلال عقد الستينيات من القرن العشرين، كانت حوالي 80% من المبادلات التجارية والتحويلات المالية الدّولية تتم باستخدام الدّولار الذي كان بمثابة العُمْلة الدّولية، ثم بدأت احتياطيات الولايات المتحدة من الذهب تنخفض، حتى اختل التوازن بين حجم الدّولارات والذهب، فحجم الدولارات المتداولة يفوق بكثير قيمة احتياطي الولايات المتحدة من الذهب، فاتخذت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون (1913 – 1994- ترأس الولايات المتحدة من 20/01/1969 إلى 09/08/1974) قرار فك ارتباط الدولار بالذهب، سنة 1971، واعتبار “الدولار عملة قيادية والذهب سلعة” بحسب تصريحات نيكسون آنذاك، ولكن استمرت سيطرة الدولار على العملات الأخرى في مجالات التجارة والتحويلات المالية، أي إن الدّول مُضطرة لتخزين الدّولار لتتمكن من إتمام مبادلاتها ومعاملاتها الإقتصادية الدّولية. أما سبب الهيمنة فهو اقتصادي وعسكري، لأن الولايات المتحدة تحتل المركز الأول بحجم الناتج المحلي، وضخامة السّوق الدّاخلية، وكذلك بحجم  القوة العسكرية، وتُعالج حكوماتها العجز والدّيون المتضخمة بطبع مزيد من الدّولارات (وهي سلعة تُباع في جميع أنحاء العالم) وبتعظيم الإنفاق العسكري، وفرض شراء السلاح والمعدّات العسكرية الأمريكية على أعضاء حلف شمال الأطلسي والحلفاء الآخرين، كما كسرت الولايات المتحدة أو حاولت كَسْر شوكة الحلفاء ، ومنها اليابان وألمانيا، وكذلك الخصوم والمنافسين، مثل الصين، الذين حاولوا اكتساح السوق الأمريكية في مجالات الطيران وصناعة السيارات والتقنيات الحديثة والمصارف، ورغم الإنخفاض البطيء لهيمنة الدّولار، وبالتالي هيمنة الولايات المتحدة، يتوقع أن يبقى الدّولار مهيمنًا لعقود أخرى، لأسباب عديدة، منها امتلاك العديد من الدّول المُنافسة، وفي مقدّمتها الصين على سندات الخزانة الأميركية ( وهي دُيُون ) التي تكمن جاذبيتها في ارتفاع العوائد، غير أنها تتضمن جوانب سلبية يمكنها أن تؤدّي إلى انهيار عالمي، لو بالغت الولايات المتحدة في خفض قيمة الدّولار (وهو احتمال ضعيف) بهدف خفض قيمة الدّيون، ومن الجوانب السلبية الأخرى، ابتزاز الولايات المتحدة كافة الأنظمة التي تختلف معها أو تعارضها، فتفرض عليها “عقوبات”، خارج إطار المؤسسات الدّولية، وتحرم عليها وعلى المتعاملين معها التعامل بالدّولار الذي يشكل (بنهاية سنة 2022) حوالي 60% من الإحتياطي العالمي للعملات الأجنبية بالمصارف المركزية، لأن المحروقات والمواد الأولية الرئيسية لا تزال مُقَوّمة بالدّولار…

لا تزال عملات حوالي 65 دولة مرتربطة بالدولار الأميركي، منها دويلات الخليج، ما يُشكل واحدة من نقاط قوة الدّولار، وما يتيح إمكانية زيادة حجم تجارة هذه الدّول واستقرار عملتها رغم التقلبات وما يسمح للشركات المحلية بتوسيع مجال معاملاتها الدّولية مع تقليل المخاطر، وتستغل الحكومة الأمريكية ودائع الدول الأخرى (من شراء سندات الخزانة الأمريكية) لدعم وتحفيز شركاتها (بأموال منافسيها) فيما تُحرم الولايات المتحدة على غيرها دعم الشركات بالمال العام… غير إن الصين وروسيا وبعض البلدان والتجمعات (بريكس أو مجموعة شنغهاي) تُقَوّض مكانة الدّولار بشكل بطيء لكنه منهجي، من خلال توقيع اتفاقيات للتعامل التجاري، بما في ذلك تجارة المحروقات والمعادن، بالعملات المَحَلّيّة، ما قد يُضعف مكانة الدّولار، عبر تقويض منظومة “البترودولار”…

رغم الإنخفاض البطيء لهيمنة الدّولار، تبقى الدّول المَدينة (التي ارتفعت ديونها الخارجية) مُهدّدة لأنها مضطرة لتسديد الدّيون وفوائدها المرتفعة التي اقترضتها من صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي وغيرها من المؤسسات الدّولية بالعملات الأجنبية، وخصوصًا بالدّولار، في ظل انهيار عملاتها المحلية، لأن خفض قيمتها يشكل واحدًا من الشروط المجحفة التي يفرضها الدّائنون، بهدف إدامة التبعية، ويُؤدّي خفض قيمة العملات المحلية إلى ارتفاع تكلفة الوارادات وارتفاع سعرها (وترتفع معه نسبة التضخم) في السوق المحلية، وتقع مثل هذه الدّول في دوامة صعوبة في سداد الديون وارتفاع عجز الميزانية والعجز التجاري، وانخفاض الإستثمار لينخفض معه الناتج المحلي واحتياطي العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي…

انهار اقتصاد العديد من الدّول، منها الأرجنتين سنة 2002 وروسيا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، في بداية تسعينيات القرن العشرين وتعدّدت الأزمات الخطيرة، مثل أزمة الأسواق المالية الأسيوية، سنة 1997، وأزمات أسواق أمريكا الجنوبية والأزمات الأكثر اتساعًا، مثل أزمة 2008/2009 والأزمة التي رافقت الإغلاق سنة 2020 الخ ويُسدّدُ الكادحون والفقراء ثمن ونتائج هذه الأزمات، وآخرها كادحو وفُقراء سريلانكا التي عجزت عن سداد ديونها (2022) التي قد تحدث في العديد من الدّول المُدانة مثل لبنان ومصر وتونس وغانا وغيرها، ولن تنفع “الحُلُول” الصينية المتمثلة في عالم رأسمالي متعدّد الأقطاب، بدل القُطْب الواحد، في حل مشكلة هذه البلدان، ما لم تقطع مع الرأسمالية وتتبنى برنامجا للتنمية يعتمد على القوى الذاتية وعلى العلاقات المتكافئة مع الجيران ومع دول وتجمعات أخرى تحاول الخروج من وضع التبعية والهيمنة…     

 

أوروبا والعجز الدّيموغرافي والهجرة

تُشير الإحصاءات، منذ سنة 2012، إلى انخفاض عدد سُكّان أوروبا (نمو سلبي أو عجز ديموغرافي)، أي أن عدد الوفيات يتجاوز عدد المواليد، وتُشير جميع التّوقُّعات إلى انخفاض (ولو بطيء) في عدد سكان الدّول السبع والعشرين الأعضاء بالإتحاد الأوروبي خلال العقود القادمة، وانخفض عددهم بالفعل لِسَنَتَيْن متَتَالِيَتَيْن ( 2020 و 2021) بنحو 750 ألف نسمة، بسبب ارتفاع معدل الوفيات – خصوصًا لدى كبار السّنّ – المرتبط بعمليات الإغلاق والتطعيم، وكذلك بسبب القيود المفروضة على الهجرة، ثم ارتفع عدد السّكّان سنة 2022، ليس بفعل ارتفاع عدد الولادات الجديدة، بل بفعل هجرة مئات الآلاف من الشباب في سن العمل من البلدان الفقيرة، ومعظمها يقع تحت احتلال أو هيمنة الإتحاد الأوروبي وجيوشه وشركاته، واستيراد عشرات الآلاف من ذوي المهارات والخبرات، من قِبَل الشركات، وخصوصًا شركات الرعاية الصّحّية والتكنولوجيا والإتصالات، لِتُعوّض بذلك الهجرةُ من البلدان الفقيرة العجزَ الديموغرافيَّ في معظم (إن لم يكن في كافة) بلدان الإتحاد الأوروبي، وبذلك ارتفع عدد سُكّان الدّول السبعة والعشرين بالاتحاد الأوروبي (تقديرات 31 كانون الأول/ديسمبر 2022) بنحو 1,6 مليون نسمة، وهي أكبر زيادة سنوية منذ عِقْدَيْن، ليتجاوز العدد الإجمالي للسكان 448 مليون نسمة، ما يؤكّد الدور الحاسم للهجرة في التركيبة السكانية لقارة أوروبا

لا تزال بعض البلدان الأوروبية تفقد سكانها، طيلة السنوات العشرين الماضية، حيث فقدت بلغاريا ولاتفيا وليتوانيا أكثر من 16,6% من سكّانها، وفقدت رومانيا وكرواتيا أكثر من 10% خلال نفس الفترة، بينما ارتفع عدد سكّان البلدان التي تستقبل مهاجرين، مثل فرنسا وإسبانيا الّتَيْن نما عدد  سكان كل منهما بأكثر من 6 ملايين نسمة، كما ارتفع عدد سكان ألمانيا وإيطاليا بنحو 2% خلال نفس الفترة، وهي بلدان كانت مُهدّدة بعجز ديموغرافي حادّ، إلى أن قررت الحكومة اليمينية في ألمانيا، بقيادة أنغيلا ميركل وقف هذا التراجع بفتح الحدود، بداية من سنة 2015، أمام ذوي الخبرات من أفغانستان وسوريا والعراق وفلسطين وغيرها، ما غير الميزان الدّيموغرافي الذي كان سلبيا، وسجلت ألمانيا، بين سنتَيْ 2015 و 2020، زيادة قدرها 1,3 مليون نسمة، ولا يزال اتحاد أرباب العمل يُطالب بهجرة 1,8 مليون من ذوي المؤهلات والخبرات، لكي تحافظ ألمانيا على زعامة أوروبا،  وتُشير جميع الدّراسات إلى تجاوز 6% من سكان أوروبا سن الثمانين، مع انخفاض معدل المواليد الجدد، لا سيما في بلدان جنوب أوروبا، وهي من  ولذلك تحتاج أوروبا إلى مقاومة هذا الإستنزاف، لكنها تختار المهاجرين ولا تفتح الباب أمام جميع الراغبين بالهجرة، بل تستنزف خبرات الدّول الفقيرة من جنوب البحر الأبيض المتوسّط…

 

الاتحاد الأوروبي، انزياح نحو أقْصَى اليمين

كان من المفترض أن تشجع اتفاقية الحوار والتعاون السياسي، الموقعة يوم السادي من كانون الأول/ديسمبر 2016، بعد أكثر من عامين من المفاوضات، دول الاتحاد الأوروبي على “تقليل خلافاتهم مع كوبا والانخراط في عملية بَنّاءة تشمل التحديث الاقتصادي والحياة الاجتماعية في كوبا “، بحسب البيان الصحفي الصادر عن المجلس الأوروبي الذي وقع الاتفاقية مع كوبا في ذلك الوقت.

حَلّت هذه الاتفاقية محل مواقف الاتحاد الأوروبي التي اعتبرتها كوبا “أحادية الجانب وتدخلية وانتقائية وتمييزية”، غير أن سياسة التدخل هذه مستمرة وكانت جَلِيّة خلال زيارة جوزيب بوريل، الممثل الدبلوماسي الأعلى للاتحاد الأوروبي إلى كوبا في أيار/مايو 2023، حيث أعلن عن “الدعم الأوروبي للقطاع الخاص والخصخصة في سياق الإصلاح الاقتصادي الجاري في كوبا”، ولم تستسغ الحكومة الكوبية هذه “المساعدة المشروطة والسامة”.

قدم جوزيب بوريل، لدى عودته من كوبا، تقريرًا سلبيًا للغاية إلى المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي الذي صوت في 12 تموز/يوليو 2023 (بعد يوم واحد من الذكرى الثانية للمظاهرات المناهضة للحكومة التي جرت في كوبا في 11 تموز/يوليو 2021) على قرار بأغلبية 359 صوتا مقابل 226 صوتا وامتناع 50 عضوا عن التصويت “يدين دعم النظام الكوبي للحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا … يُطالبُ البرلمانُ الأوروبيُّ المجلسَ الأوروبيَّ باتخاذ عقوبات إضافية ضد المسؤولين الكوبيين لانتهاكهم حقوق الإنسان، ومعاقبة [الرئيس] ميغيل دياز كانيل … “، وقدّمت مشروع القرار مجموعة المحافظين والإصلاحيين في البرلمان الأوروبي وحظي بدعم مجموعات أخرى ، بما في ذلك نواب من تيارات أصدقاء البيئة وتيارات الدّيمقراطية الإجتماعية واشتهر بعض هؤلاء النواب (وتياراتهم) بحماسهم لدعم الأعمال العدوانية لحلف شمال الأطلسي حول العالم وبإدانة الأنظمة التي تعارض الإمبريالية الأمريكية، من بينها النظام الكوبي الذي تخضع بلاده لحصار مستمر منذ أكثر من ستة عقود…

  كان هذا القرار المعادي لحكومة ولشعب كوبا مسبوقًا بعدد من المُؤَشِّرات، فَفِي أيار/مايو 2023 نفذت التيارات السياسية اليمينية واليمينية المتطرفة حملة مقاطعة ثقافية لكوبا، وجنّدت مجموعة من البلطجية الذين سمحت لهم الشرطة الإسبانية بالتشويش ثم إيقاف حفل موسيقي للثنائي الموسيقي الكوبي “بوينا في”، وتم إلغاء حفلات موسيقية أخرى كانت مُبَرْمَجَة ضمن جولة ثقافية كوبية في أنحاء إسبانيا، وبعد حوالي شهر، أجبرت التظاهرات التي نظمها اليمين واليمين المتطرف في باريس – بتواطؤ من الاشتراكية الديمقراطية و “الخضر” – مهرجانًا شعريًا مرموقًا على سحب الرئاسة الفخرية التي كان سيَمنحها للشاعرة الكوبية نانسي موريخون.

يشارك ممثلون منتخبون من البرلمانات الوطنية والأوروبية في هذه الإجراءات ضد نشر الثقافة، ولدى العديد من هؤلاء البرلمانيين صلات مع ضباط ودبلوماسيين في وكالة المخابرات المركزية العاملين في سفارة الولايات المتحدة في بروكسل ولوكسمبورغ، وفقًا لما قاله برلماني من الحزب الشيوعي الإسباني، مُضيفًا: “لقد أصبح البرلمان الأوروبي متحدثًا باسم القوى الأكثر رجعية واليمينية المتطرفة” وأوضح زعيم في الحزب الإسباني اليميني المتطرف (فوكس) “إن قرار البرلمان الأوروبي هو خطوة أخرى نحو إنهاء تواطؤ الاتحاد الأوروبي مع الديكتاتورية الكوبية …”

عُقد اجتماع لرؤساء الدول بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي، في الفترة من 17 إلى 19 تموز/يوليو 2023 في بروكسل، بعد فترة وجيزة من تصويت البرلمان الأوروبي، وعبر البرلمان الكوبي أن “قرار البرلمان الأوروبي يعكس أجواء مضايقة الشركات الأوروبية التي تستثمر في كوبا أو تسعى إلى ذلك، ويدعم القرارُ جهودَ الولايات المتحدة لعزل كوبا على المستوى الدولي وتبرير الحصار والإبادة الجماعية…  فضلا عن الخطاب الليبرالي التقليدي حول الملكية الخاصة ومحاولة فَرْض آليات اقتصاد السوق على كوبا”

تقوم شبكة من الحركات والمنظمات اليمينية واليمينية المتطرفة بنشر الشوفينية القومية والحمائية الإقتصادية والإنغلاق الثقافي وكراهية الأجانب والتمييز ضد الأقليات المستبعدة ونَشْر الأصولية الدينية المسيحية واليهودية وازداد نشاط اليمين المتطرف في الغرب بدعم من القوى اليمينية والدينية الأمريكية المتطرفة، ويكن عداءً شرسًا ضد القوى التقدمية في أمريكا الجنوبية وضد الحركات والدول التي يعتبرها اليمين المتطرف “بقايا” من شيوعية القرن العشرين، ساهمت السياسات الرأسمالية للديمقراطية الاجتماعية وضعف اليسار في معظم البلدان الصناعية في صعود اليمين واليمين المتطرف، خصوصًا منذ أصبح “مايك بومبيو” مستشار الأمن القومي السابق للرئيس دونالد ترامب، يُشرف على الحملات الإعلامية لليمين المتطرف ببلدان الإتحاد الأوروبي… 

يصطف الإتحاد الأوروبي وراء المواقف الأمريكية، بدون تحفّظ تقريبًا، أو بتحفظ شَكْلِي ورَمْزي، منذ العدوان على العراق، سنة 1991، مباشرة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، والعدوان على يوغسلافيا وتفتيتها، وكذلك الصومال وسلسلة الإعتداءات التي تَلَت تفجيرات نيويورك سنة 2001 بدءًا من أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، واندمجت الدّول الأوروبية تمامًا ضمن حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، وتنازلت عن مصالحها الإقتصادية في إيران وليبيا وروسيا وغيرها… 

أقر البرلمان الأوروبي، خلال نفس الجلسة (12 تموز/يوليو 2023)، عدم السّماح للاجئين السوريين بلبنان والدّول المجاورة بالعودة إلى سوريا، ما يعني انتهاك السيادة اللبنانية التي يدّعي حلف اليمين المتطرف (جعجع وآل جمَيِل وأمثالهم) الدّفاع عنها، ويندرج إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، ضمن مخطط عدائي استعماري يتعدّى لبنان إلى كل المنطقة، لأن الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تُدمِّرُ البلدان (أفغانستان والعراق والصومال وليبيا وسوريا…) وترفض استقبال اللاجئين منها الذين فقدوا المأوى والعمل وسبل العيش في بلادهم

 

الاقتصاد غير المشروع: عائدات المخدرات

الإقتصاد الموازي هو الإقتصاد غير النظامي، الذي لا يُسدّد المشرفون عليه الضرائب والرّسُوم ولا يحترمون قوانين العمل ولا حقوق العمال فلا يُسدّدون حصتهم من المساهمة في منظومة التأمين الإجتماعي، ولا يقتصر العمل الموازي على أولئك الفقراء الذين يبيعون بعض السلع في الساحات والطرقات والأسواق، لأن ذلك يتطلب شبكات بيع بالجملة وتوريد وتخزين وتسويق، كما توجد شبكات قوية في معظم بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية للمتاجرة بالعملات الأجنبية في الأسواق الموازية، فضلا عن شبكات الإتجار بالبشر (الدعارة والهجرة غير النظامية والعَمَل القَسْري…) وشبكات الإتجار بالمخدّرات التي تتناولها الفقرة التالية:

يتزايد الطلب على المخدّرات ويتزايد معه العرض والاتجار بالمخدرات غير المشروعة كل عام ودون انقطاع، وعلاوة على ذلك ، فإن نموذج حظر الإستهلاك، الذي يرتكز على القمع وحده (قمع المُستهلكين، في أسْفَل سُلّم منظومة تجارة المخدّرات)، قد أحدث عواقب سلبية كبيرة تقوض تحقيق أهداف التنمية الأخرى، ولكي تتم مكافحة تجارة المخدّرات، لا يجب فصلها عن الاقتصاد النّظامي، القانوني الذي يُؤسّس العديد من الفُروع بغرض المراوغة والتهرب من دفع الضرائب، ويؤسس الشركات الوهمية أو خدمات الرسائل المشفرة أو يُدير البنية التحتية للموانئ المستخدمة لنقل وتفريغ المخدرات، وبذلك يساهم توسع تجارة المخدّرات، وخاصة الكوكايين، في ازدهار الاقتصاد القانوني، لأنه لا يوجد جدار فاصل بين ما يسمى بالاقتصاد القانوني “السلمي الملتزم بالقانون وباحترام حقوق العمال” من ناحية، والاقتصاد غير القانوني، “اقتصاد الظّلّ الذي يمارس التهريب والعُنف”، لأن الوقائع تثبت إن هذا الفصل وهمي وتعسّفي، في ظل منظومة رأسمالية تشرف على كلا القطاعين وتستثمر جزءًا من عائدات المخدرات في الاقتصاد القانوني. أو ما يسمى “غسيل الأموال”، بُغْيَةَ تحقيق أكبر قدْرٍ ممكن من الأرباح…

تؤثّر تجارة سلبًا على الاقتصاد وعلى النظام الصحي (لمعالجة المُستهلكين، من مُضاعفات المخدّرات)، فأصحاب هذا القطاع لا يُسدّدون ضرائب على الدّخل أو على الأرباح، فضلا عن النتائج السلبية على صحة مُستهلكي المخدّرات، ويظهر تداخل الإقتصاد الرسمي مع الإقتصاد الموازي في العديد من الأمثلة، فزيادة الدخل من التجارة غير المشروعة يدفع المستفيدين إلى إنشاء شركات وهمية تكون بمثابة واجهة قانونية للنشاط غير المشروع أو كأداة لغسيل الأموال القذرة، ويُساهم أصحاب الشركات القانونية ومن بينها شركات الخدمات القانونية وخدمات التسجيل والتوطين القانوني للشركات والصناديق الاستئمانية في ضمان التعتيم على المالكين الحقيقيين للكيانات الوهمية أو غير القانونية، ومن الممكن تسجيل شركة في مكان خارجي ( أوف شور)، في الملاذات الضريبية، مقابل رسوم رمزية ودون السفر، أي بواسطة الشبكة الإلكترونية، وفقًا لهيئة المراقبة الدولية لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب (غافي –  Gafi ) التي درست نموذج شركات الاستيراد بالجملة وكشفت إن لديها شركات وهمية، مما يعقد تعقب التدفقات المالية، بسبب تعدّد واختلاف المنظومات القانونية لإنشاء الشركات والحسابات المصرفية المرتبطة بها.

من ناحيتها تُقدّم شركات الإتصالات خدمات الرسائل المشفرة لمجموعات كبيرة من الشركات منها شركات فرعية وشركات وهمية، وتمر من خلال شركات الإتصالات ملايين الرسائل المشفرة المرسلة من قبل الجهات الفاعلة في مجال تجارة المخدرات، وتقدم هذه الشركات هواتف معدلة ذات ميزات محددةة من شأنها اجتذاب المنظمات الإجرامية على وجه التحديد، وهي هواتف بدون ميكروفون أو كاميرا أو نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)  فلا يمكن تتبع هذه الهواتف المرتبطة بنظام مراسلة مشفر لإدارة حركة التنقل، والتنظيم اللوجستي لنقل المخدرات ودفع الفواتير وتوريد الأسلحة (لحماية مسالك تجارة المخدرات) واستئجار خدمات غير قانونية، كاغتيال المنافسين أو “الخونة”… يتم تنفيذ كل هذه العمليات في وقت قياسي، كما يقدم نظام تشفير الرسائل مجموعة من الخيارات المفيدة للأنشطة الإجرامية، مثل إمكانية محو جميع البيانات من الهاتف وعرض واجهات خاطئة لتضليل المحققين، كما يلبي تشفير البيانات وعدم تعقبها (بفعل تشفيرها ثم مَحْوِها) احتياجات مؤسسات ومجموعات وأشخاص يعملون في إطار القوانين السائدة، من بينها الشركات التي تخشى التجسس الصناعي أو الاقتصادي، كما تُلَبِّي البيانات المُشَفَّرَة احتياجات الصحفيين الذين لا يرغبون في الكشف عن مصادرهم، وكذلك المناضلين السياسيين أو الجمعيات أو النقابات العمالية الذين يخشون التجسس على نشاطهم وسرقة بياناتهم.

تُستخدم شبكات الرسائل المشفرة هذه لتنظيم نقل المخدرات، وخاصة الكوكايين، عبر الطرقات البحرية والموانئ التي تمر عبرها أكثر من 90% من التجارة العالمية للسلع، أي أكثر من 11 مليار طن من البضائع سنويًا، وفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية  (Unctad) ، وتستفيد التجارة غير المشروعة ومنها تجارة المخدّرات من قوانين الرأسمالية (وهي تجارة تندرج ضمن المنظومة الرأسمالية النيوليبرالية) ومن السعي وراء السيولة الشديدة في تداول البضائع ( أي عدم تعطيل عبور السّلع) الذي يقلل من عمليات التحقق من طبيعة البضائع – سواء أكانت قانونية أم لا- وذلك لتحقيق الكفاءة الاقتصادية، ولذلك يُراقب موظفو الجمارك، بشكل عشوائي، حوالي 2% فقط من البضائع، ما يزيد من فُرَصِ إخفاء البضائع غير القانونية وسط الشحنات القانونية، بفعل انخفاض مخاطر اكتشافها، كما تستغل المنظمات الإجرامية قدراتها في الفساد والإرشاء للحصول على تواطؤ من المهن الرئيسية مثل المشرفين على إدارة الموانئ وموظفي الجمارك وناقلي السلع، ويشمل هذا الفساد الرشاوى ولكنه يشمل أيضًا الضغط والتهديدات والعنف الذي تمارسه عصابات الجريمة المُنَظّمة  على العاملين وأُسَرهم…

يُوَفِّرُ الاقتصاد القانوني الأدوات اللازمة لتجارة المخدرات التي ابتليت بها المجتمعات الرأسمالية المتطورة كما تلك التي تعاني من العمل غير المستقر والبطالة والفقر وغياب الآفاق الإيجابية، خاصة للشباب الذين يتجهون إلى الهجرة غير النظامية وإلى تهريب المخدرات …

 

توسيع حلف شمال الأطلسي

بعد انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) في نيسان/أبريل 2023، أعلن الأمين العام للحلف (ستولتنبرغ ) يوم العاشر من تموز/يوليو 2023 أن تركيا لم تعد تعارض انضمام السويد، ما يُمَكّن الحلف من محاصرة روسيا التي لها حدود مع دول البلطيق وفنلندا والسويد، وما يُمكّن حلف شمال الأطلسي من نشر القواعد العسكرية والأسلحة النووية على حدود روسيا.

أعلن الأمين العام لحلف الناتو، خلال قمة فيلنيوس (11 و 12 يوليو 2023)، عن إطلاق أكثر الخطط العسكرية شمولاً منذ نهاية الحرب الباردة، وتنص هذه الخطط على الانتشار الدائم في أوروبا – تحت قيادة الولايات المتحدة – لقوات ذات قدرة كبيرة على التدخّل السريع في مساحات واسعة، تتألف من 300 ألف جندي وقوة جوية وبحرية متطورة، ويخطط الناتو للتوسع إلى 32 دولة، أي ضعف فترة الحرب الباردة، قبل ضَمِّ دول أوروبا الشرقية، كما أعلن الأمين العام أن “الإنفاق العسكري للدفاع عن الحلفاء الأوروبيين ( أوكرانيا أساسًا) سيرتفع بنسبة 8,3% سنة 2023″، وأَكّدت التجارب أن الزيادة في الإنفاق العسكري تعني دائمًا انخفاضًا في الإنفاق الاجتماعي والاستثمار المنتج… 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.