عرفان ( قصة قصيرة ) / حيدر حسين سويري
حيدر حسين سويري ( العراق ) – الثلاثاء 25/7/2023 م …
- بَعدُ لَمْ أبلغ الخمسين من عمري، حتى اكتشفتُ قباحة الدنيا وزخرفها البائس، فلا راحة في الدنيا ولا سلام، تتزين لنا كأنها الجنة، حتى إذا ما خضناها انكشف لنا زيفها وزبرجها الخداع، أنا لم أعد اثق بأحدٍ مخلوق البتة، كل المخلوقات على حد سواء من البؤس في هذا الدنيا، بشكل لا يطاق…
هكذا تكلم أسد، بعد أن زاره صديقهُ المقرب فلاح، عندما خبره معتكفاً، مبتعداً عن الناس والمجتمع، لا يغادر بيته إلا عند الضرورة الحادة، كان أسد جالساً في حديقة المنزل، يتأمل الطيور والأشجار، وحينما سلم عليه فلاح وجلس معه على نفس الاريكة، قال أسد ما قال، فسألهُ فلاح بنوع من التهكم:
- لماذا كل هذا التشاؤم والابتعاد يا أسد!؟ لقد كنت فينا مجنوننا، شغف الدنيا ملأ قلبك، فماذا فعلت بك لتهجرها هكذا؟
- لم تَعُد ليَّ رغبة فيها، ولأني مؤمن بحياة أخرى، سنولد فيها من جديد، كما ولدتنا امهاتنا في هذه الدنيا، فأنا سأصبر حتى مجيء يوم الولادة الجديدة، مستنكراً لكل ما يحدث في هذه الدنيا الدنيئة، غاضباً عليها، تاركاً مغرياتها…
- – فهل تفكر بالانتحار مثلاً؟
- -لن أُفكر بالانتحار، فإنما الانتحار اجهاض في رحم هذه الدنيا، كما الإجهاض في رحم امهاتنا قبل مجيئنا اليها، ولذلك سأصبر حتى يوم الولادة الحقيقية حين أبلغ اليقين.
- كن طبيعياً وتعامل مع الدنيا كما هي، أحبها كما كنت، فستحبك…
- تباً لها ولمن أحبها، ولمن آنس العيش فيها على قذارتها، وتباً لمن تكالب عليها، فأضاع عمره وأفناه في اغراضها الوسخة…
- هذا الكلام سمعناه وقرأناه كثيراً، وما اراك إلا تأثرت به!؟
- لعله ليس اكتشافاً جديداً، فقد تحدث غيري عن هذا كما قلت، لكني اليوم اتحدث بإحساسي لا بعقلي، لقد أصبحت الدنيا سجن لي، انتظر الظهور منه بشدة، لأرحل الى عالم السلام والراحة، عالم الطمأنينة، كما رحل الحسين واصحابه، لقد رأوا ما لم نره، ووعوا ما لم نعه، فهنيئاً لهم اختيارهم الموفق، وهنيئاً لهم صحبتهم الحسين إمام الحق، وقائد ليس كمثله قائد، رحلوا وما زالت الناس تندبهم، ولسان حالهم يقول للناس: لا تندبونا فنحن فزنا مع الحسين، بل اندبوا حظكم العاثر، الذي لم يجعلكم في ركب الحسين، المخلوق الذي عرف الله وعرف خلقة، فاحتقر الدنيا ومدلهماتها، ورافق الخالق فيما أراد، صبر حتى اتاه اليقين، فذهب مطمئنا الى جوار من سبقه من الصالحين…
- إن زماننا غير زمان الحسين وأصحابه…
- بلى، لكنها الدنيا نفسها الدنيا. إنما دنياكم بغيضة ليس لها صاحب، بل فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، تتبعها فتن وحبائل وشرائك وويلات ولعنات، وحروب باردة ومشتعلة، والسؤال دائماً وأبداً: لماذا؟ هل يعجبكم هذا الحال؟ لن اسأل ومن اسأل؟ فقد عرفت ما يجب أن أعرف، وكفاني هذا أن أكون من المنتظرين.
- ما بالك والدنيا واسعة…
- بل دنياكم عندي ضيقة، أضيق من قبر، قيود في كل شيء، لا فضاء للتفاهم وتبادل الأفكار والمعارف، عالم مزيف مملوء بالأكاذيب والترهات والهرطقة، قد ولغ الشيطان إناءه، فشربتم واكلتم منه، حتى اصبحتم مسخات، لا تُعرف ولا تُشم فيكم رائحة البشر، لا تتوانون عن قبيح الا فعلتموه، متعبون مرهقون، تتبعون كل ناعق، بلا دراية ولا استبصار، متطرفون في كل شيء، متطرفون بالدين كـ (داعش) وأمثالها، متطرفون بالحرية كـ (المثلية)، أين التوازن؟ لماذا التطرف في كل شيء؟!
- الا تعتقد بأن للرب خطة؟
- بلى، ولكن من حيث هم، ماذا يريدون؟! وأين هم ذاهبون؟! هل نحن في زمن النبي نوح؟ فقد انتشر الفساد في البر والبحر، أقولها بصدق: أتمنى أن نكون في زمان كزمان النبي نوح، فلعل طوفان الماء يطهر الدنيا من قبائحها…
- ولماذا كل هذا؟!
- يتحدثون الفضيلة ويفعلون الرذيلة، ازدواجيتهم اخذت تخنقني، والعيش معهم مرض أخشى العدوى منه…
- هون عليك، ليس الامر كما تظن
- دنياكم هذه ملئت قلبي قيحاً كما قال الامام علي، فما انا فاعل معكم!؟ وقد تكاثرتم واصبحتم عبدة الشيطان علناً ودون استحياء أو خوف…
- ليس الجميع
- تباً لما حصل ويحصل، من انزواء وابتعاد عن الحق، ليس إلا لمصالح دنيوية بائسة فانية، افلا تتدبرون؟ بل أنتم كالأنعام، بل أنتم أضل سبيلا، يقودونكم كيفما يشاؤون، وكما يريدون، كقطيع البهائم والدواب… ارجعوا الى عقولكم، واستفتوا قلوبكم، فتشوا عن الحق في أنفسكم، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، وهل هناك أثمن من معرفة الخالق والرحيل صوبه؟!
- قطعا لا، لكن عقول الناس متفاوتة، وقد الهتهم مشاغل الدنيا والبحث عن لقمة العيش…
- لذا سأرحل عنكم، عند مجيء ولادتي الجديدة، غير آسفٍ على شيء ولا منزعج منه، ولا مشتاقٍ لشيء تركته خلفي؛ سأرحل مطمئناً بأني غادرت حبسكم، الذي جعلتم منه شغلكم الشاغل؛ سأرحل الى حيث الراحة والسلام، حيث المستقر عند مليك مقتدر.
- أنت اليوم بمزاجٍ سيء، سأغادرك لعلي أراك في يوم آخر، تكون فيه أحسن حالاً… الى اللقاء
- وأنا أتمنى ذلك أيضاً
يغادر فلاح منزل صديقه أسد، الذي بقي جالساً على كرسيه في الحديقة، يتأمل الطيور والأشجار…
……………………………………………………………………………..
حيدر حسين سويري
كاتب وأديب وإعلامي
عضو المركز العراقي لحرية الإعلام
التعليقات مغلقة.