موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
د. لبيب سلطان – الأربعاء 26/7/2023 م …
1. فهم موقع الماركسية بين المدارس الفكرية
نشأت الماركسية كأحدى المدارس الفلسفية العقلانية المادية منتصف القرن التاسع عشر، وهي مرحلة هامة يتطلب فهمها جيدا لفهم الماركسية نفسها وفهم موقعها بين مدارس الفكرالاوربي المعاصرة لها في تلك الفترة ، كما وفي فهم موقعها وواقعها اليوم.
ان اهم مايميز الماركسية هو جمعها بين طروحات الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي معا، كمنظومة واحدة متكاملة ، وذلك يرجع الى المدرسة العقلانية التاريخية التي تنتمي لها الماركسية، والتي اعتبرت ان الفلسفة هي علم العلوم، ومنها طروحاتها الجامعة.عكس المدارس الفكرية والفلسفية التي عاصرتها او التي بعدها وركزت على تناول موضوعا اساسا في دراستها وتخصصت فيه لتقيم اطروحاتها ، فهناك مثلا مدرسة حقوقية ، واخرى سياسية ، واخرى اقتصادية ، وثالثة اخلاقية ، ورابعة اجتماعية ، وغيرها،
من ناحية العلاقة بين العلوم والفلسفة يمكن تقسيم المدارس الفلسفية الى مدرستين :
الأولى : وهي أولها وأقدمها ، ويمكن دعوتها بالمدرسة التاريخية اوالكلاسيكية للفلسفة العقلانية Rational School of Thoughts حيث جعلت موضوع اهتمامها الاساس هو سبل تشكيل وتكوين المعرفة ، وصياغة طروحات فلسفية ليتم استخدامها لصياغة وقنونة المعرفة العامة واشتقاق القوانين التي تحكم المعرفة ( العلم ) حول الكون او المجتمع، او حتى كلاهما. ان هذه المدرسة تنظر للفلسفة انها علم العلوم، ولاتفصل المعرفة العلمية عن الفلسفية، بل تعتبر الأولى مشتقة من الثانية و تقوم على احدى مقولاتها كي تعتبر” مقبولة عقليا”، ووفق منهجها “مقبولة علميا”. والماركسية تنتمي لهذه المدرسة ، كما وتنتمي لها الهيغلية والكانطية والفيورباخية كأمثلة من المدارس المعاصرة . كما وتنتمي لهذه المدرسة تاريخيا مدارس الفلسفة اليونانية والعربية الاسلامية . المشترك بينها جميعها انها ركزت على البحث في نظريات تكوين وتشكيل المعرفة ، بما فيها علاقة المادة والوعي والعقل في تكوينها ، وقنونة تشكيلها وتطورها ودراسة علاقاتها ببعضها لتفسير الظواهر الاجتماعية او الطبيعية، واستندت الى قوانين الاشتقاق المنطقي الارسطي لتقيم على بديهياتها العقلية (وتعتبرها حقائق اساسية ) وعليها تقدم براهينها المنطقية على صحة المقولات والفرضيات التي تشتقها، ومنه تتولد وتترابط اطروحات المعرفة العقلانية . والمشترك الثاني انها جميعها طمحت لتشكيل قوانين جامعة Universal Platform لتكوين نظرة وفهم للعالم والكون والمجتمع والانسان والعلاقات الاجتماعية من خلال طروحاتها الفلسفية ( كونها تعتبر نفسها علم العلوم كما اسلفت ) . والماركسية اذ تنتمي لهذه المدرسة، فتجد طروحهاتها تتناول السياسة والاقتصاد والمجتمع والتاريخ والعلاقات الاجتماعية ، وجميعها اقيمت وفق مقولة ماركس الاساس ” اسبقية العلاقات المادية على الوعي ” في تكوين المعرفة ، وماينتج منها من بنى فوقية هي التي تحدد الثقافة ونظم الحكم والعلاقات الاجتماعية العامة ( ومجرد ملاحظة اولية وربما سابقة لاوانها : كيف سيبرر ماركس مثلا ان نظام علاقات اقتصاد السوق (البنى التحتية ) هو نفسه اليوم في اميركا والصين ولكن نظم الحكم والايدولوجيا (البناء الفوقي ) مختلفة بينهما ؟).
ان الماركسية مثل الهيغلية وغيرها من الفلسفات العقلانية اشتقت جميع مقولاتها في مختلف مجالات اطروحاتها وفق المنطق الارسطي . وهي استخدمت مقولتها العقلانية الرئيسة اعلاه، واقامت اطروحاتها عليه، كما واستخدمت مقولات الجدل التطوري الهيغلي التي تبناها ماركس دون اعتراض او تحويرعليها في اشتقاق الاطروحات العقلانية العامة. ان اية مقولة عقلانية ( اي يتقبلها العقل والمنطق ) وفق المدرسة العقلانية تعتبر مقبولة في اقامة طروحات هذه المدرسة ، واثبات صحة هذه المقولات هو اما من اقامة الادلة العقلية او اشتقاقها منطقيا ، ام اثباتها من خلال التجربة ، فهذه ليست شرطا حيث ان رواد هذه المدرسة النظرية لم يكلفوا انفسهم هذا الجهد ولم تر منهم من لجأ اليه، الا ربما نادرا.
الثانية : المدرسة التجريبية Empirical School وتختلف عن العقلانية الكلاسيكية انها طالبت ومن خلال التحربة بأثبات صحة اية مقولة او اطروحة او فرضية ليتم تبنيها كمعرفة نظرية صحيحة ، وان يتم في تطبيقها في الواقع الى تحقيق فائدة معينة ليتم تبنيها كمعرفة نظرية صحيحة ومفيدة ايضا. واذا لم يتحقق ذلك فتبقى فرضيات عقلية عقلانية لاغير ، ولايمكن اعتبارها نظريات ولا معرفة علمية. الى هذه المدرسة التجريبية يرجع الفضل في فصل العلم عن الفلسفة ، وتدعى البريطانية كون اغلب من ساهم باقامتها هم منها ، مفكرون عظام اوائل مثل بيكون ( 1561- 1626) او جون لوك (1627 – 1704 )، اومتأخرون مثل ديفيد هيوم (1711-1776 ) وغيره.
تضع التجريبية مقولتها كما يلي ” اثبت لنا صحة فرضيتك ومقولتك من خلال التجربة او حتى من رصد عدد كاف من الملاحظات الحسية والملموسة من الطبيعية والواقع ، جميعها تؤيد صحة مقولتك ، واثبت نفعها معها عند تطبيقها ، كي يتم اعتمادها كعلم بقوانين او نظريات، واذا لم تستطع فهي ليست نظرية ولا قانونا علميا بل تبقى مقولة عقلانية دون برهان ولكن لاترقى الى نظريات وقوانين العلم. هنا حددت التجريبية القول في الفصل بين العلوم والفلسفة العقلانية التقليدية ، واليها يرجع الفضل في فصل العلوم عن الفلسفة كليا ، وحتى اعتبرت الفلسفة علما منفصلا قائما بذاته.
وربما خير من وصف العلاقة بين العلم والفلسفة ( أو العلاقة بين التجريبية والعقلانية ) كان ستيفين هاوكنغ في القرن العشرين ( 1942-2018) حيث ثَبَّتَ “ان الفلسفة والميتافيزيقيا تبدأ من النقطة التي تتوقف فيها العلوم عن الاجابة على اسئلة يطرحها الواقع اولايمكنه الاجابة عليها ، حيث ومن هذه النقطة تبدا العقلانية الفلسفية بطروحاتها لايجاد طروحات او تأويلات عقلانية ، كما وتباشر الميتافيزيقيا بخيالها في طرح التفسيرات الغيبية وغالبا الاجابات و الحلول الغيبية معها”.
وفق مدرسة الفلسفة التجريبية تبقى جميعها مقولات لا يأخذ بها العلم ولاتعتبر حقائق حتى يتم تحقق الشرطين: الاثبات من خلال التجربة العملية ( او بالبراهين النظرية القائمة على نظريات ثبت صحتها تجريبيا سابقا ، او جمع ملاحظات حسية ومادية كافية لاثبات المقولة) ، والشرط الثاني تحقق فائدة واضحة عند تطبيق المقولة او النظرية في الواقع. من هذين الشرطين سادت التجريبية كمنهج لقنونة تطوير المعرفة العلمية بعيدا عن الفلسفة العقلانية، ومنها قامت بتطوير المعرفة وفق اسس علمية تطبيقية مفيدة ، وكانت هذه المدرسة قد توطدت اسسها في منتصف القرن التاسع عشر ، أي فترة ظهور الماركسية.
سنتناول اهم طروحات الماركسية في المجالين السياسي والاقتصادي لتناقش من منطلق المنهج التجريبي العلمي الذي يربط المقولة والاطروحة بمدى اثبات صحتها بنجاح تجربتها في الواقع واثبات فائدتها، وهي معايير اساسية تطبق اليوم في المنهج العلمي المعاصر. وسنقوم بذلك من خلال مقارنة مقولات الماركسية الرئيسية في هذين المجالين مع طروحات من المدارس التجريبية المعاصرة للماركسية ، وباستخدام نفس المنطلق ،التجريبي العلمي العملي.
2. الفكر السياسي للماركسية ومقارنته مع فكر الفلسفة الحقوقية التجريبية
كانت المدرسة الفلسفية الحقوقية قد سبقت الماركسية بطرح فكرها السياسي بقرابة قرن ونصف او اكثر، فهي نشأت وتطورت في فترة ما بعد احراز الانتصار الاول للعلمانية بفصل العلم الطبيعي ( كالفيزياء مثلا) عن الدين في القرن 17 ،وفي القرن التالي بدأت طروحات هذه المدرسة الفكرية تخوض معركة فكرية لاطلاق سراح العقل من المقولة الدينية لتطوير العلم الاجتماعي والسياسي في مجال اصلاح نظم الحكم المطلقة. انها بلاشك معركة أصعب من معركة تحرير العلم الطبيعي ، حيث انها تمس العروش ذات الحكم المطلق القائم على التحالف مع الكنيسة لكسب الشرعية الالهية وفق التصاريح الواردة في التعاليم الدينية مثل ” وأطيعوا ذوي الامر ” مثلا. شهد القرن الثامن عشر معارك فكرية حامية حول سبل اصلاح نظم الحكم واسس تأسيس شرعيتها منىالشعب بدل المعبد. وشهد تطور العديد من المدارس والطروحات الفلسفية السياسية ، اهمها الحقوقية التي ركزت على الأخذ بالحقوق والحريات اساسا في اصلاح واقامة نظم الحكم وبتحويلها من نظم مطلقة الى مُقيَدة بقوانين ودساتير تُعَرِّف علاقة الحاكم بالمحكوم لتُقيمها وفق حقوق وحريات الطرف الأول (المحكوم) لتكون قيدا على الطرف الثاني (الحاكم) . تاريخيا ، احرزت هذه المدرسة أول وأكبر انتصاراتها بتبني افكارها نهاية القرن الثامن عشر ، اثر الثورتين الفرنسية عام 1789 والاميركية قبلها بقليل ومتأثرة بافكار مفكري الثورة الفرنسية عام 1785 ، وفرض دساتير اقيمت على اسس الحقوق والحريات للمواطن الفرد، وعلى فصل السلطات ، وتقييد سلطة الحاكم بهما لكسب شرعية الحكم. وهذه ربما هي من اهم الانتصارات الاجتماعية في التاريخ ، كونها شكلت نقلة نوعية لطريقة الحكم لم تشهدها المجتمعات من قبل في وضع حقوق المواطنة اساسا لاقامة نظم الحكم، ولها تعود فعليا تشكيل اسس الحكم الديمقراطي الحقوقي في الحضارة الحالية. كلا الثورتان شكلا أولى الانتصارات لاقامة جمهوريات لاتخضع لحاكم مطلق، كالملوك والاباطرة ، وكلاهما صاغ شرعية الحكم على اساس تثبيت واحترام حقوق وحريات المواطن الفرد في دساتيرها كأساس لحكم وادارة المجتمع ، وتكون ملزمة للحكام الذين يتم انتخابهم.
من هذين الحدثين بدأت العروش تهتز في اوربا في القرن 19 خوفا من اسقاطها على غرار ماجرى في الثورة الفرنسية، وقبلت بالتنازل تدريجيا عن الحكم المطلق ، وقبلت بدساتير مقيدة لحكمها ، ابتداء من الامبراطوريات ألأوربية الالمانية والنمساوية وصولاىالى الروسية والعثمانية عند نهاية القرن ، وتم نقل جزء هام من السلطات لممثلي الشعب في البرلمانات ، وجعل القضاء سلطة مستقلة ثالثة تحكم وفق القوانين المقرة من البرلمانات ، كما وقدمت السلطات تنازلات بخصوص الحقوق والحريات العامة بما فيها حرية الرأي والفكر والنشر وفقا للدساتير المقرة.
ان مساهمات مفكري وفلاسفة المدرسة الحقوقية السياسية هي من وقف وراء هذا التحول الجذري في نظم الحكم خلال القرن التاسع عشر ، من ثوماس هوبز ( 1588-1679) الى جون لوك ( 1622-1704) ، والى جان جاك روسو ( 1712-1778) اومونتسيكو ( 1689-1755) وفولتير ( 1694-1778) وغيرهم .
ان جذور هذه المدرسة تعود لمفكري عصري النهضة والتنوير الذين قادوا معركة العلمانية ألأولى، ومنهم ولد فلاسفة هذه المدرسة السياسية الحقوقية اعلاه الذين قادوا المعركة الثانية للعلمانية وصاغت سبل تشكيل وادارة نظم الحكم والمجتمع على اساس الحقوق والحريات للفرد المواطن كي يتم ضمانها للجماعة (أي الشعب) ، فهم عَرِفوا وشَخَصّوا بعبقرية ان نقطة البداية يجب ان تكون من الاعتراف للفرد بحقوقه كي ينالها الشعب ، وليس العكس، وهذه هي القضية والنقلة الهامة التي طورت الفكر الحقوقي السياسي الانساني الى مرحلة جديدة .
ان الماركسية لاتنتمي لهذه المدرسة الحقوقية السياسية في فلسفة اقامة نظم الحكم. فهي قد ركزت على حقوق ومصالح الجماعة “الطبقية البروليتارية” ووضعتها فوق الفرد ، واعتبرت الاخيرة قضية ثانوية امام حقوق الجماعة “الأغلبية” ، وهذا شكل فرقا منهجيا وجذريا بينهما.
لقد طرحت الماركسية الثورة البروليتارية لاقامة نظم حكم لتقيم مصالح البروليتاريا ” الأغلبية “. وهنا فهي تصنف من ضمن المدارس الفكرية التي تقول بمصلحة الجماعات ( الجماعة القومية ، الجماعة الدينية ، الجماعة البروليتارية ،الخ) . من ناحية المدرسة التجريبية ، فان نظم الحكم القائمة على الفكر بأسم “مصلحة الجماعة”، في ترجمته الواقعية التطبيقية اثبت ومن خلال التجارب المتكررة انه أدى الى اقامة نظم حكم ديكتاتورية تعمل بفكر وبأسم مصالح الجماعة التي تدعي تمثيلها. ولم يشذ التطبيق العملي ولليوم ،ومن خلال التجارب ، عن ذلك ، فان اية ايديولوجيا فكرية نادت بحقوق ومصالح الجماعة ،في التاريخ الحديث على الاقل، إلا وأقامت نظاما ديكتاتوريا، بما فيها تجارب النظم الماركسية في القرن العشرين.
عكسها المدرسة الحقوقية السياسية التي وضعت الحقوق والحريات للمواطن الفرد اساسا للحكم ادت تجاربها الى اقامة نظم ديمقراطية تحترم حقوق وحريات جميع مواطنيها . وعموما جميع المدارس التي تستند في طروحاتها الى فوقية مصالح الجماعة على الفرد اقامت نظما ديكتاتورية ، والماركسية ليست منها استثناءً ، فاطروحتها الرئيسية تقوم باسم مصالح الجماعة.
واذ شكلت البروليتاريا ، منذ منتصف القرن التاسع عشر وطبقة الفقراء المهاحرة من الريف الى المدن الصناعية طلبا للعمل فيها ، اغلبية المجتمع ، فربما استند ماركس عقليا ان نظام الحكم الذي يمثل مصالحها سيكون ديمقراطيا كونه يمثل حكم ومصالح الاغلبية ، وحكم الاغلبية هو ايضا ما تطرحه الديمقراطية السياسية التي اقامت اعمدتها المدرسة الحقوقية السياسية في ممارسة حق المواطنين باختيار حكامهم من خلال ممثليهم في البرلمان.
ولكن هنا تجابه التجريبية الفرضية الماركسية حول تمثيل مصلحة الاغلبية ، لتطالبها بدليل الديمقراطية ، وتضع تساؤلات : حيث ربما ان هناك عدة جماعات من يدعي تمثيل مصالح الاغلبية ، وداخل كل اغلبية هناك اكثر من طرف يرى تمثيل مصالحها بشكل وصيغة افضل، كما وهناك مجموعات اخرى لايجب حرمانها من حقوقها في تمثيل مصالحها ( مثل الطبقة المتوسطة مثلما هي اصبحت تمثل الاغلبية في المجتمعات المعاصرة ) ، وتقول التجريبية في اختبار مقولة ماركس العقلانية ” لندع الديمقراطية تكون هي التجربة الواقعية لتقرر الاغلبية ما تريد ومن تختار” ، ولكن النظم التي تقوم على فكر مصالح الجماعة “الأغلبية” ، بما فيها الماركسية ، ترفض هذا الطرح وتدعي ان هناك حزبا واحدا يمثل مصالح الاغلبية، بل والشعب باكمله ، ومنها فلا داعي ان تقام احزابا اخرى، وترفض الممارسة الديمقراطية الحرة لاختبار ادعائها.
ان الماركسية تعاني اليوم من هذه القضية بالذات في سبب نكوصها السياسي في هذا القرن قياسا بالقرن العشرين ، والذي سنناقشه لاحقا، حيث ترتعب المجتمعات من سماع اقامة نظم ديكتاتورية البروليتاريا بحزب واحد يدعي تمثيل مصالح ” ألأغلبية” كنموذج حكم لاقامة العدالة الاجتماعية ، فهي ترفض اقامة العدالة من خلال نظم الديكتاتوريات، وتتطلع لاقامتها من خلال نظم الحريات ، خصوصا وان جميع النظم الماركسية التي قامت في القرن العشرين كانت ديكتاتورية قامعة للحقوق والحريات الفكرية خاصة.
فالتجريبية بقولتها للماركسية ” دع الواقع يثبت من خلال التجربة ان طروحاتك صحيحة ، فمقولة ديمقراطية الاغلبية يجب ان تثبت صحتها في التجربة ، وليس من خلال العقل “. والواقع ان اطروحة الماركسية العقلانية لم يستطع الواقع ايضا اثباتها، ولن يستطيع احد اثباتها، كون الماركسية اساسا قد طرحت ” الثورة البروليتارية” بدل الديمقراطية طريقا لاقامة نظم الحكم ، و كوننا نفتقد الواقع لاقامة التجربة بحرية الخيار في الواقع ، أي نفتقد التجربة الديمقراطية ، فلن نتمكن من اقامتها بالتجربة، ولكن يمكن اثبات العكس، من تكرار الظاهرة الديكتاتورية للنظم الماركسية، وفق المنهج التجريبي، أي العلمي.
3. الطرح الاقتصادي للماركسية ومقارنته بمدرسة ادم سميث التجريبية
طرحت الماركسية منهج تحويل ملكية وسائل الانتاج الى ملكية عامة سواء للمنتجين “العمال” او “للدولة ” كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية لوقف استغلال الرأسمال للعمال من جهة ، والغاء استحواذ الرأسمالي على القيمة الفائضة التي تمثل قيمة اجتماعية (بمعنى مساهمة المجتمع بها من خلال العامل نفسه) من ارباح مؤسسته، ومنها طرح ماركس لابد من الغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج كون جزء من عمل العامل المنتج والمجتمع يذهب الى جيب الرأسمالي. انه منطق عقلاني ايضا بطروحاته، ولكن هل تثبت التجربة اطروحة ان تحويل ملكية وسائل الانتاج للدولة سيوفر العدالة الاجتماعية ؟ انه سؤال يحتاج الى برهان عملي ليصبح حقيقة علمية يؤخذ بها.
طرح ادم سميث نظرياته تجسيدا للهدف الاساس لعلم الاقتصاد وهو تحقيق الربح و النمو في الثروة من خلال استثمار الاموال المدخرة او المخزونة تحت الارض في الانتاج لتحقيق لربح أعلى، وطرح اليات عمل السوق الحر والمنافسة الحرة في السوق هي من يضمن استمرارية اعادة استثمار الارباح في التوسع في الانتاج ومنها تكبير حجم الثروة “الكعكة ” ومنها زيادة الحصص لجميع الاطراف المساهمة في نمو الانتاج وهم العمال والرأسمالي ، ومنه يزداد الرفاه الاجتماعي بزيادة حجم الثروة.
ان جميع طروحات سميث قابلة للتجربة والتطبيق ، وجرى اثباتها في الواقع ، ومنها تحولت ، وبفضل التجربة والتطبيق العملي، من طروحات عقلانية الى قوانين علمية تشكل اليوم قوانين علم الاقتصاد المعاصر.
لم يتناول ادم سميث كماركس مفهوم العدالة الاجتماعية ، كونها تمثل مفهوما اجتماعيا سياسيا ، وليس اقتصاديا ، يمكن ادارته بوسائل سياسية اجتماعية خارج قوانين الاقتصاد . واليوم نعرف ان فرض ضرائب من الدولة على ارباح الرأسمالي لاستخلاص القيمة الاجتماعية الفائضة التي قال بها ماركس لتستخدم اجتماعيا في اقامة برامج للعدالة الاجتماعية ( مثلا في دعم الدخل المحدود ، او ضمان الحد الادنى للاجور ، او الضمان الاجتماعي والصحي، وفرض مساهمة الرأسمالي في برامج التقاعد والضمان ضد البطالة ، أوبرامج للحماية والتأمين من حوادث العمل ، وبرامج لحقوق العامل وتنظيم العمل ، وغيرها ) ، فهي برامج اجتماعية يجب ان يطالب بها المحتمع ويفرضها بقوانين لتنفذها الدولة ، وهي ليست ضمن قوانين علم الاقتصاد الذي انفصل كما يقية العلوم ليكون قوانينه الخاصة ، اي انفصل عن الطروحات الفلسفية العقلانية للفلسفة الكلاسيكة كتلك التي طرحها ماركس.
ومن جديد لناخذ بمنهج التجريبية العلمية ونطبقها على اطروحات ماركس لاثبات صحتها وفائدتها. فماركس يضع ضمن الحقائق مقولة ان “تحويل وسائل الانتاج الى عامة سيحقق العدالة الاجتماعية ” وهنا تبرز تساؤلات المدرسة التجريبية من واقع التجربة العملية : كيف سيتم جذب الاموال للاستثمار في الانتاج اذا عرف اصحاب الاموال مسبقا ان استثماراتهم ستصادر ؟ التجربة تثبت ان هذه الاموال ستخفى تحت الارض او تهرب وتبقى دون استخدام في نمو الاقتصاج الانتاجي . وهل تثبت التجربة نجاح نموذج المؤسسة ذات الملكية العامة لوسائل الانتاج في تحقيق الارباح والنمو تحت ادارة الموظف البيروقراطي بديلا لصاحب رأس المال ذو النزعة الانانية بزيادة ثرواته وهي من دفعته للاستثمار ؟ وهل ان مفهوم العدالة الاجتماعية بانعدام الرفاه المادي هي فعلا عدالة ( اي هل ان توزيع الفقر بالتساوي هي عدالة اجتماعية؟ )، واذا فشل النموذج الماركسي في التجربة في نمو الاقتصاد ( لسوء اجارته مثلا ) فكيف ستتحقق العدالة الاحتماعية بتراجع نمو الانتاج ومنها تراجع حجم الثروة وحصصها ؟ هذه اسئلة يطرحها العقل والعلم التجريبي حتى قبل الدخول في التجربة .
في واقع التجربة العملية لمقولات ماركس ، والتي جرت على مدى القرن العشرين ، اثبت ان الاقتصاد القائم على ادارة الدولة بدل السوق انه اما فشل في النمو ،او نما بشكل بطيئ ، اونما سريعا من خلال العمل القسري القليل الاجور ، وهنا تنتفي واحدة من اسس العدالة الاجتماعية للعامل وهي الحصول على اجور تتناسب مع حجم الجهد المبذول ، كما ولايحق له الاضراب ، او التحول للعمل عند منافس في السوق يدفع اجورا أعلى ( كما في حالة تنافس السوق) ، حيث بادارة الدولة للاقتصاد لن يسمح له بكلا الخيارين ، وربما تعاقب قوانين الدولة العامل المضرب انه ضررا بالمال العام والملكية العامة، او لن يسمح للمؤسسات بدفع اجورا متباينة ، واذا سمحت فعليها انذاك الدخول في منافسة السوق والعمل بقوانينه وهو ماتنتهي اليه الى الاخذ باقتصاد السوق الحر وفق طروحات ادم سميث وقوانين علم الاقتصاد التي تم اثبات صحتها من خلال التجريبية العملية.
اثبت القرن العشرين الكثيرة وفي مختلف الدول والأمم والقطاعات واينما طبقت مقولات الماركسية بتحويل الملكية لوسائل الانتاج الى ادارة الدولة انها لم تنجح في الواقع ، واينما نجحت كان متواضعا ( في الصين مثلا استطاعت مضاعفة الانتاج القومي ثلاثة مرات فقط خلال ثلاثين عاما بين 1949 -1978، بينما عند التحول الى قوانين السوق الحر لادم سميث تم مضاعفتها ثلاثين مرة خلال فترة الثلاثين عاما التالية بين 1978-2008) ، وفي السبعينات توقف عمليا النمو في الناتج القومي السوفياتي واصبح يعتمد اكثر على نمو الاقتصاد الريعي من تصدير المواد الاولية ، وهكذا الحال مع اقتصاد بقية البلدان الاشتراكية ، مقارنة بالنمو الهائل للبلدان الرأسمالية المنافسة سياسيا للمعسكر الاشتراكي ).
وعدا محدودية النمو الاقتصادي بتطبيق الطروحات الماركسية ، العقلانية الفلسفية الاصل والجذر ، في ادارة الاقتصاد، فهي ساهمت ، كما اطروحاته في تقوية نظم الحكم باسم مصالح الجماعة ، اي تقوية نظم الاستبداد السلطوي التي جمعت سلطة الحكم وسلطة الاقتصاد معا بيدها ( خلافا لنظم الديكتاتوريات الخرى التي ركزت على سلطة الحكم ) ، وهذا جعل الطروحات السياسية والاقتصادية للماركسية تمثل عنوانا عريضا لاقامة نظم الديكتاتورية الشمولية على المجتمعات والسيطرة على الحكم والاقتصاد معا.
ان الطروحات العقلانية الاقتصادية لماركس لم تثبت يوما انها قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية وفق زيادة الرفاه كونها لم تتناول اساسا موضوع تحقيق النمو لزيادة الثروة الجتماعية ومنها زيادة الرفاه، بل افترضت عقليا ( وليس علميا) ان ادارة الدولة ايضا قادرة على تحقيق النمو في الانتاج وهو مالم يتحقق في التجربة العملية ، ومنه فهي مقولة فلسفية وليست حقيقة علمية، بل ومن خلال التجربة ( الصينية على الاقل) تم اثبات ان نمو المؤسسة الانتاجية وفق قوانين السوق لادم سميث هو عشرة اضعاف نمو نفس المؤسسة التي كانت تحت ادارة الدولة ، ومنه فاجور العامل تضاعفت عشرة مرات ( قارن معدل دخل الفرد السنوي كان 55 دولاراعام 1949 وارتفع الى 156 دولارا عام 1978 ( ارتفع 3 مرات خلال فترة ادارة الدولة للاقتصاد ) ، ولكنه ارتفع 30 مرة الى قرابة 4500 دولار سنويا عام 2008. ويمكن القول لماركس ان مقولتك الفلسفية العقلانية فعلا حققت العدالة ولكنها عدالة الفقر ، ورغم ان قوانين ادم سميث لم تحقق عدالة التوزيع ولكنها حققت عدالة افضل عندما ضاعفت دخل العامل 30 ضعفا وازالت الفقر عن العامل في نفس المؤسسة، وفي المجتمع ، كما ضاعفت الدولة الصينية قدراتها 30 ضعفا من جني الضرائب على الارباح لتقدم 30 ضعقا من حجم الخدمات العامة واقامة حجم 30 ضعفا من البنى التحتية من ارباح هذه المؤسسة. ان هذا هو الفرق بين المقولة العقلية الفلسفية ” الماركسية ” في الاقتصاد والمقولة التجريبية العلمية ” لادم سميث في اقتصاد السوق التي اقيمت قانونا فقط بعد اثبات صحتها من التجربة ، وليس بقببولها عقليا.
4. قراءة الواقع المعاصر للماركسية
شهد القرن العشرين تناميا واسعا في تقبل الماركسية واطروحاتها كمشروع مستقبلي يقوم على اساس الاشتراكية وتحقيق العدالة الاجتماعية بديلا للنظام الرأسمالي الاقتصادي الذي وضعت قوانينت “الادم سميثية ” التجريبية ونظم الحكم التي وضعت قوانينها المدرسة الحقوقية السياسية التجريبية ايضا في اقامة نظم الحكم على ركيزة حقوق وحريات المواطنة وفصل السلطات وغيرها والتي دعيت بنظم الديمقراطية السياسية والاجتماعية واصبحت لها قوانينها في علم السياسة المعاصر.
نجحت الماركسية نجاحا كبيرا عند منتصف القرن العشرين بعد هزيمة النازية على يد السوفيت في الحرب العالمية الثانية ، ومنها برزت كبديل يمنع النازيات القومية من التسلق للسلطة بعد ان سمحت لها بالصعود نظم الحكم الديمقراطية، واصبحت الماركسية ملهما للنخب المثقفة وحديث البيوت والمقاهي واعجاب الناس بما حققه السوفيت من انتصارات على النازية وانجازات اجتماعية داخلية منها القضاء على الفقر وانهاء التفاوت الطبقي والمساواة وتحقيق برامج احتماعية لصالح المرأة والطفل والاقليات .
لم يدم الحماس العام لصالح الماركسية وطروحاتها السياسية والاقتصادية طويلا، ولعقود قليلة فقط ، والسبب يرجع الى التجريبية ايضا. حيث تدريجيا بدأت المجتمعات تتعرف على تجارب الواقع السوفياتي من خلال تعرفها على حقبة ستالين وما تم نسبه من انجازات اقتصادية كان بثمن العمل شبه المجاني ، والزك بالملايين بمعتقلات العمل القسري ، ومثلها في المزارع الجماعية ، وملايين الضحايا من ارهاب البوليس السري واتهامات بعدم الولاء للحزب وللثورة . وتفاجأ العالم ايضا بسياسات ماوتسي تونغ القسرية وحملاته التطهيرية خلال الستينات . وفي السبعينات توضحت صورة الفشل الاقتصادي في كلا الاتحاد السوفياتي والصين ودول اوربا الشرقية ، حيث توقفت عجلة النمو الاقتصادي ، ووقف السكان طوابير للحصول على منتجات غذائية او بيتية بدائية لم تشكل يوما تحديا للاقتصاد الناجح، فهوكان فشلا واضحا لنموذج ادارة الاقتصاد على يد الدولة ، وهو النموذج الذي قام على طروحات ماركس بتحويل ملكية وسائل الانتاج الى عامة ، اي الى الدولة. كما وشهد الناس غياب الممارسة الديمقراطية ومصادرة الحريات الفكرية وتحويل الثقافة بما تشتهيه وتسمح به النظم الشمولية من اشادة ثم الى تقديس دور القائد للسلطة والدولة وللحزب والمجتمع. لقد اخذ الحماس العاطفي للجمهور في الخمسينات بالتلاشي شيئا فشيئا من خلال معرفته الواقعية بفشل نموذج ادارة الاقتصاد وديكتاتورية نظم الحكم في الدول الاشتراكية ، ولم تعد الماركسية ملهمة لشعوب اوربا خصوصا وهي تنعم بالرفاه الاقتصادي وبالديمقراطية والحريات في حياتها الواقعية وكأن لسان حالها يقول ” التعامل مع شيطان مجرب ومعروف خيرا من شيطان غير معروف قال، وأوعد، فاخلف ” باعتبار ان كلا الراسمالية والماركسية شياطين.
نعم ان بريق الماركسية قد خفت حتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وربما تلاشى بعد اهياره وتحول الصين لاقتصاد السوق الحر منذ الثمانينات، وتحول اليسار في المجتمعات الاوربية ومنذ السبعينات من تبني طروحات الماركسية الى تبني طروحات اصلاحية تدور حول طرح برامج وسياسات اجتماعية في تحسين ظروف المعيشة وتحسين واقع الحقوق والحريات وفق اليات قادر على تحقيقها من خلال اليات عمل الديمقراطية السياسية واستقطاب الناخبين لبرامجه، أي من الناحية العملية لربط اطروحاته بواقع امكانية تحقيقها التجريبي والواقعي.
ان المراجعة العامة تشير لفشل تطبيق طروحات الماركسية المتجذرة من مدرسة العقلانية الفلسفية ” الفلسفة علم العلوم ” ونجاح اطروحات المدارس التجريبية في السياسة والاقتصاد كونها تقوم على الفصل بين العلم والفلسفة وتقيم صحة اطروحاتها فقط بعد نجاح الطروحات العقلانية في التجربة لتصيغها قوانينا ونظريات ثبت صحتها ، وليس العكس بصياغة قوانين عقلانية تعتبر حقائق حتى قبل تطبيقها واثبات نجاحها كما اعتادت المجارس الفلسفية العقلانية ومنها الماركسية . فالتجريبية مثلا لا تأخذ بمقولة ماركس ” ان الصراع الطبقي هو المحرك للتاريخ ” حتى يتم اثباتها ، بينما تأخذ ببديل لها ” تطور العلم والرفاه الاقتصادي وتطوير الحريات هي المحرك للتاريخ” كون ان هذه العوامل الثلاثة قد امكن اثباتها في الواقع ومن خلال التجربة.
ان واقع فهم الماركسية اليوم انها فلسفة نقدية للرأسمالية ولكنها لاتمتلك حلولا علمية وعملية قابلة للنجاح في التطبيق، والناس تتطلع لحلول ولا تكتفي بالنقد والتحريض ، كونه لايسد لها حاجة . فالماركسية كما طرحت منذ منتصف القرن التاسع والعشرين لم تعد اداة مغرية للشعوب، فهي منصة نقد وتحريض وليس منصة حلول ، ومنها تحول اليسار الاوربي لمنصات الحلول القائمة على منهج المدرسة التجريبية العلمية القادرة على صياغة حلول علمية وعملية تكسب الناس لصفوفه.
5. نقد الماركسية العربية
يتميز اليسار الماركسي العربي عن الاوربي انه لم يمارس النقد ولم يتجرأ على البحث في قصر وتطرف طروحات ماركس منتصف القرن التاسع عشر السياسية والاقتصادية ليغير طروحاته لمواكبة تطور وعي وحاجة المجتمعات كما فعل الاوربي الذي بدأ بتغيير طروحاته ” الايديولوجية” لتكون اكثر التصاقا بالديمقراطية ومن خلالها تنفيذ برامج الاصلاح الاجتماعي وفق واقع مجتمعاتها وطرح برامج واقعية تتميز بامكانية التحقيق والنجاح في التطبيق داخل مجتمعاتها. فيما يلي احاول ايجاز نقاط المقارنة والنقد لليسار الماركسي العربي.
1. طرح مفهوم جديد للاشتراكية
حول اليسار الاوربي مفهوم الاشتراكية من ايديولوجي ماركسي سوفياتي يقوم على ” تحويل ملكية وسائل الانتاج وادارتها من الدولة وسيطرة الدولة على الاقتصاد” الى برامج اجتماعية تهدف لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص الفروقات الطبقية و تطوير برامج اجتماعية لتقليص الفارق في المداخيل، وبرامج تحسين مستوى معيشة الطبقة العاملة والمتوسطة من خلال تقليص الضرائب و فرض حدود دنيا للاجور ، وبرامج تنظيم العمالة وظروف العمل ، وتأمين حماية العاملين من الحوادث، وتقليص ساعات العمل وزيادة الاجازات وبرامج اعانة البطالة وغيرها . لم يعد هناك طرحا للاشتراكية يقوم على مقولات الماركسية التقليدية بتحويل وسائل الانتاج الى عامة وتحت ادارة الدولة، بل الى برامج لاقامة العدالة الاجتماعية .
2. غياب برنامج لتطوير الاقتصاد الوطني
لم يجرأ اليسار الماركسي العربي على طرح نموذج خاص لتطوير الاقتصاد الوطني، مثل الصين مثلا ، ويطرح تحويل المؤسسات الفاشلة والفاسدة ماليا واداريا من ادارة الدولة الى اقتصاد السوق ، كما فعلت الصين . فهو لم يدرس اهمية ونجاح التجربة الصينية الجارية منذ عام 1978 ، رغم بدئها منذ اربعة عقود، و تم بها التخلص نهائيا من نموذج ادارة الدولة للمؤسسات الانتاجية والخدمية والتحول لادارة اقتصاد السوق الحر، وفتح الابواب امام الاستثمارات الوطنية والاجنبية . انه بقي متمسكا بادارة الدولة للمؤسسات الاقتصادية ” تمسكا ايديولوجيا” كتمسك السلفية العربية بالنصوص. ولم يكلف نفسه في دراسة التجربة الصينية للتحول ” لاقتصا السوق” واستخلاص دروسها ليستطيع طرح برنامج للنمو الاقتصادي الوطني وفق ظروف بلداننا خصوصا في العراق ومصر وسوريا والجزائر ، ومعالجة مشكلة البطالة المتفشية حتى بين الخريجين، اضافة الى كون هذا التمول هو اداة لمحاربة الفساد الحكومي المتفشي في المؤسسات، اضافة لدوره في صقل المواهب الوطنية الشابة في الادارة والانتاج والابتكار . لم يطرح اليسار العربي غير خطابا مؤدلجا عاما يطالب محاربة الفساد وتنمية الاقتصاد ، ولكنه لم يجرؤ حتى على طرح تحويل المؤسسات الفاشلة الفاسدة للدولة الى اقتصاد السوق كما فعلت الصين.
3. غلبة الخطاب الايديولوجي النقدي بدل طرم حلول اجتماعية
طرم اليسار الاشتراكي والليبرالي الاوربي برامج اجتماعية خاض بها الانتخابات منها وطبقها من خلال فوزه بها في عمل الحكومات منها القضاء على التمييز بين الرجل والمرأة في العمل او في الحقوق، وطرح برامج لاعطاء الافضلية للنساء والاقليات ومحدودي الدخل في التوظيف الحكومي ، وفرض كوته من هذه الفئات على التوظيف في القطاع الخاص ، وبرامج الضمان الصحي للجميع وبرامج التقاعد الكريم لجميع المواطنين ، وتحسين ظروف العيش والبيئة ، والقضاء على التمييز تجاه الاقليات العرقية او القومية ، وبرامج للقضاء على البطالة ، وبرامج لتطوير التأهيل المهني ومنه تمكن من كسب الطبقات العريضة لبرامجه بطرحه حلولا لصالحها. اي انه مارس الانتقال من النقد الايديولوجي والخطاب السياسي الى طرح حلولا واقعية لصالح اوسع الطبقات الاجتماعية شملت الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة كونه يرى اهمية نمو حجمها في المجتمعات المعاصرة،وغالبا مايتحالف الاشتراكيون والليبراليون في طرح برامج موحدة ويخوضون معارك موحدة ضد اليمين القومي والديني والعنصري ، فهم يمثلون اليسار ببرامج واهداف تمثل تطلعات ومصالح طبقة واسعة من المجتمع.
وعكس اليسار الاوربي، بقي اليسار الماركسي العربي على خطابه واطروحاته الايديولوجية ، ويطرح خطابا سياسيا ناقدا ولم يتحول لطرح حلولا وبرامج حلول للقضايا الاجتماعية والاقتصادية.
4. الاصرار على خطاب الكراهية بدل خطاب التنوير بالحضارة الاوربية
عكس اليسار الماركسي الاوربي مايزال اليسار العربي يركز على الخطاب الخارجي الموروث منذ الزمن الستاليني السوفياتي للحرب الباردة في معاداة حضارة الغرب واوربا باسم ويافطة ” معاداة الامبريالية ” ، ولا زال يبث خطاب الكراهية ضد الحضارة الغربية ( وهي حضارة علمانية ليبرالية متسامحة ومنفتحة في جذورها وافكارها وقوانينها وواقعها) ، وتصوير اوربا واميركا وكأنها السبب في تخلف بلداننا اقتصاديا اجتماعيا مثلما وظفه السوفيت في الحرب الباردة . وبقي لليوم يخوض معارك خارجية وهمية جلها تحريضا ضد حضارة الغرب بيافطة ” محاربة الامبريالية ” وما فيها مفاهيمها الحقوقية والسياسية وقوانين ادارة اقتصاد السوق وتشويه قيم المجتمعات الغربية وانجازاتها وفق مبادئ الدعاية الستالينية الايديولوجية. ان هذا النهج هو بث فكر الكراهية لحضارة الغرب ، وضد نهج الانفتاح على العالم وضد الوقوف الى جانب التفاعل الحضاري الانساني ، ويغلق ابواب التحضر امام شعوبنا للاستفادة والتنوير بتجاربها وانجازاتها ،بل العكس تستخدم الخطاب الايديولوحي لزياة عزلة شعوبنا وبث فكر الكراهية للحضارة الاوربية ” البرجوازية” ، تماما كما فعل الستالينيون مع الشعب السوفياتي وشعوب اوربا الشرقية ، وما زال ماركسيونا عليه، واقفين مع خطاب السلفية.
5. التناغم مع السلفية الدينية العربية في معاداة قيم وحضارة الغرب
عجز اليسار الماركسي العربي عن فهم ان محتمعاتنا تخوض معركة العلمانية مع الحكومات والتيارات السلفية وهي واقعا معركة ادخال قيم ومفاهيم الحضارة الغربية الاوربية ولكن حمى الايديولوجيا الستالينية ضد الغرب هي فوق واهم من المعارك الداخلية الهامة وضم صوته مع السلفية بتشويه وسب وشتم حضارة الغرب بمفاهيمها العلمانية الثورية سواء بفصل الدولة عن الدين وعن العقائد، او سبل تطوير الحريات الاجتماعية والفكرية وانقاذ مجتمعاتنا من الانقسامات الطائفية ومن التجهيل والتخلف الثقافي والاجتماعي بحضارة العالم.
6. محاربة الفكر الليبرالي العربي
في اوربا تجد ان اليسار الاشتراكي والليبرالي يقفان معا في معركتهم مع اليمين القومي العنصري والديني، ويتحالفان على طول الخط الاجتماعي ضد هذا اليمين الصاعد.
عكسه، تجد اليسار الماركسي العربي يتفنن بمحاربة الليبرالية العربية ويصف دعواتها بالانفتاح على فهم حضارة اوربا ومنجزات الغربية العلمانية اللببرالية والاستفادة من تجاربها في تطوير نظم الحكم والاقتصاد ، ويصف رواد هذه المدرسة الناشئة بالقاب مشتركة مع السلفية الولائية “خدمة الامبريالية ” و “اقلام مأجورة ” و ” عملاء اميركا ” ، ولا احد يعرف ويفهم اي يسار هذا الذي يمارس ممارسات السلفية اليمينية ببث فكر الكراهية ضد الحضارة الانسانية الليبرالية القيم مثلما اوربا والغرب ، وضدلاالتيارات والنخب المدنية الليبرالية العربية .
ان يسارنا العربي الماركسي هو يمينا في الواقع سواء في خطاباته الانعزالية التي تلتقي مع السلفية في محاربتها لحضارة الغرب ، او محاربة مدارس الفكر المتحررة لليبرالية العربية . انه يمينا في معاركه وطروحاته الداخلية والخارجية ..ظانا انه يسارا.
لابد لليسار الماركسي العربي من الاصلاح والتحول من معارك وهمية ايديولوجية مع” الغرب والامبريالية ” الى المعارك الحقيقية لشعوبنا وطرح حلولا لقضاياها الداخلية ووعي اهمية انجازات حضارة الغرب في اعداد هذه الحلول والتحول كما اليسار الماركسي الاوربي والصيني وغيرهما من خطاب الادلجة الستالينية الى اليسار المتحضر .
التعليقات مغلقة.