قراءة في كتاب روزا لوكسمبرج إصلاح اجتماعي أم ثورة / رانية عبيد احمد
رانية عبيد احمد – الخميس 27/7/2023 م …
في ظل هيمنة الثقافة النيو ليبرالية عبر آلتها الإعلامية الضخمة في عالمنا اليوم أصبح سؤال هل يتم التغيير بإصلاح النظام القائم ام بالتغيير الثوري الذى يهدم النظام القديم ويبنى نظام جديد مختلف كليا، سؤال مطروح من قبل الكثيرين بما فيهم الاشتراكيين الثوريين. لذلك رأيت أن أقدم قراءة لكتاب روزا لوكسمبرج١ “إصلاح اجتماعي أم ثورة” الذي يفند ضعف مرتكزات دعاة الاصلاح والضرورة للتغيير عن طريق ثورة اجتماعية شاملة. رغم ان لوكسمبرج كتبت هذا الكتاب في عام ٠٠ ١٩ لكن كل أطروحات الكتاب مازالت صحيحة في يومنا هذا.
تعالج لوكسمبرج في كاتبها العديد من القضايا الجوهرية إذ تقوم بتفنيد ما يسوغه دعاة الإصلاح، حيث يدعون الى ان يكون التغيير الاجتماعي عن طريق اصلاح النظام القائم وهو السبيل للوصول إلى الاشتراكية، وأن لا يكون هدف الاشتراكيين الوصول الى السلطة السياسية منفردين، بل السعي الى تحسين وضع العاملين، زيادة الرقابة الاجتماعية وتطبيق مبدأ التعاون. كما يتوصلون أي الاصلاحيين الى نتيجة مفادها أن الرأسمالية تبدى قدرة أكبر على التكيف كما يزداد الإنتاج الرأسمالي تنوعا. يظهر هذا التكيف في اختفاء الأزمات الاقتصادية وتنامى الإنتاج الذي مكن من انضمام العديد من البروليتاريا إلى الطبقة الوسطى وكذلك تحسين وضع البروليتاريا والعمال كنتيجة لتطوير العمل النقابي٢.
توضح لوكسمبرج ان الاشتراكية العلمية تقوم على ثلاث نتائج رئيسية للتطور الرأسمالي وهي: إن النظام الرأسمالي نظام مليء بالتناقضات التي سيؤدي احتدامها إلى انهيار النظام في نهاية المطاف ( ألا تخبرنا الازمات المتتالية الحالية أن هذا الانهيار وشيك)، التطور والتناقض في العملية الإنتاجية سيخلق الحاجة لإنهاء النظام الحالي وإقامة نظام جديد ، وايضا التنظيم والوعي المتزايد للطبقة العاملة الذي سيكون هو المعول الأساسي للتغيير.
تناقش لوكسمبرج قضية أن الرأسمالية كنظام آخذ في التكيف وذلك في خلقه لنظام التسليف. في دراستها تحدد أن نظام التسليف هو نظام اخترعته الرأسمالية للإفلات من محدودية نظام الملكية الفردية وذلك بتسليف الفرد من الآخرين وقد يستخدم التسليف في عمليتي الإنتاج او التبادل. أن التسليف يزيد من التناقض بين حوجه الإنتاج الدائمة للتوسع ومحدودية الاستهلاك. فالتسليف يزيد من القدرة الإنتاجية التي لا تقابلها قدرة شرائية مما يؤدى بالضرورة للكساد. كما أن ازدياد التسليف للأفراد يؤدى الى تقليص قدرتهم الاستهلاكية وبذلك يعمل التسليف الإنتاجي والتبادلي على تعميق الأزمات. كما أن نظام التسليف الذي لا يعتمد على غطاء يؤدي إلى خلق فقاعات مالية وهمية مما يخلق نظام هش وضعيف وعرضه للأزمات٣.
ان الازمات والتناقضات هي جزء لا يتجزأ من بنية النظام الرأسمالي فالحديث أن تطور الرأسمالية سيكون في اتجاه التقليل من هذه الأزمات ونهايتها هو حديث مناقض تماما للواقع وقاصر عن فهم طبيعة النظام الرأسمالي. إن الفكرة بأن النظام الرأسمالي نظام قابل للتكيف تفترض حدوث أمرين يعتبران مستحيلي التطبيق في ظل نظام الإنتاج الحالي الأول أن قدرة السوق الشرائية ستتمدد بشكل غير محدود وموازي للإنتاج وهذا غير منطقي بالتأكيد، والثاني أن الإنتاج سيتقلص وواقع التطور التقني ينفي إمكانية حدوث ذلك أيضا.
وعلية فان التناقض الرئيسي في النظام الرأسمالي بين الحوجه للإنتاج غير المحدودة وامكانية السوق الاستهلاكية المحدودة هي أساس خلق الازمات، و هذه الأزمات لا يمكن ان تختفي او يقل أثرها لأنها أزمات بنيوية في النظام. الازمة الاخرى التي تواجه الرأسمال هي تقلص الأرباح فمع زيادة الإنتاج غير المحدودة و تقلص القدرة الاستهلاكية للسوق يضطر ذلك الرأسمال لتقليص الأرباح لضمان التمكن من البيع، الشيء الذى يشكل خطورة كبيرة على المشاريع الصغيرة والمتوسطة ويهددها بالفناء رغم الحوجه الكبرى لهذه المشاريع حيث انها المشاريع التي تضخ دماء جديدة في الرأسمال بإنتاج أفكار ووسائل إنتاج ومنتجات جديدة بتكلفة معقولة.
النقطة الثانية التي تعالجها لوكسمبرج هي أن الإصلاحيين يفترضون أن تطور العمل النقابي وزيادة حقوق العاملين مثل زيادة الأجور وتحسين أوضاع العمل وتقليص ساعاته سيؤدى الى ان تتقلص صلاحيات الرأسمالي صاحب العمل ويتحول من مسيطر على العملية الانتاجية الى مدير فقط. لذلك فإن العمل النقابي والإصلاحات الاجتماعية هي الطريق الذي سيؤدى الى زوال الرأسمالية وبناء المجتمع الاشتراكي. ترى لوكسمبرج أن النقابات ليس لديها القدرة على إزالة الاستغلال، ولكنها قد تحسن أوضاعه لأنها تعمل من داخل النظام الرأسمالي ووفق قوانينه. والملاحظ في الفترات الاخيرة ان النشاط النقابي وبعكس المأمول لا يحقق مكاسب تذكر للعمال انما في حركة تراجع مستمرة وكبيرة.
كما يعتقد الاصلاحيون أن الدولة الحالية قادرة على اعمال الاصلاحات الاجتماعية التي يمكن تؤدى الى الاشتراكية متناسين أن شكل الدولة الحالية هي دولة تخدم مصالح الرأسمال وهي دولة طبقية بامتياز. كل ما تقره هذه الدولة هو في مصلحة الطبقة المسيطرة وليس العمال، اما شكل الإصلاحات المحدودة التي يمكن أن تنفذها هنا أو هناك فهو نتيجة لنضال العمال المتراكم منذ عهود وليس خيارها وليس منحة منها إنما هو جزء من استحقاق الطبقات المسحوقة. التطور الرأسمالي الحالي كانت له انعكاساته على شكل الدولة المعاصرة فقد فرض عليها مهام وتدخلات جديدة. فالدولة الحديثة تتجاذب بين تناقضين أساسيين فهي من جانب تمثل العمل العام الذي يخدم المجتمع ويدير وسائل الرقابة المجتمعية كالشرطة مثلا، ولكن الطبيعة الطبقية للدولة تحول هذه المؤسسات من مؤسسات لخدمة المجتمع لأداة لقهره و استغلاله لصالح الطبقة البرجوازية. أما الديمقراطية البرلمانية فبدلا من ان تعبر عن مصالح المجتمع ككل فقد أصبحت تعبر عن مصالح الطبقة المهيمنة.
يرى الاصلاحيون أن التعاونيات هي من الاشكال التي يمكن أن توصل المجتمعات الى العدالة الاجتماعية. في حين أن التعاونيات في ظل الوضع الرأسمالي الراهن لا تستطيع ان تعمل إلا وفق معطيات السوق وبالتأكيد لا تستطيع المنافسة إلا وفق شروط الرأسمال أي انها أي التعاونيات ستتحول الى انظمة تحكمها هذه الشروط بالتالي لا يمكن بحال من الأحوال أن تنتج أي تغيير يذكر. في ظل هذا النظام تجد التعاونيات نفسها أمام حلين لا ثالث لهما اما الذوبان في النظام وتصبح مؤسسة رأسمالية او الفناء لذلك نلاحظ أن التعاونيات لا تنجح في كثير من التجارب. التعاونيات الانتاجية تجد نفسها رهينة بقوانين التبادل الرأسمالي فإما أن تخضع له بالكامل او تستطيع ان تجد لها أسواق دائمة لكل ما تنتج، الشيء الذي يمكن أن يكون بالغ الصعوبة. لذلك فإن التعاونيات يمكن أن تحقق بعض النجاح إذا كانت تعاونيات إنتاجية وتسويقية معا ولكن حتى في ظل هذا الوضع مازالت التعاونيات تقع في خطر التأثير المحدود والسوق المحلية وضعف تأثيرها على النظام العام القائم. وعليه في الغالب الأعم تركز التعاونيات على المنتجات البسيطة مثلا الغذائية ولا يكون لها أي نشاط واضح في الصناعات الكبيرة والثقيلة. ولهذا الدور المحدود التي يمكن أن تلعبه التعاونيات في الاقتصاد الكلى فلا يمكن ان نقول انها يمكن ان تكون أداة من أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية.
إن تطور القوانين يحد من الاستغلال في ظل هذا النظام في نظر دعاة الإصلاح، وهذه النظرة تنظر الى الاستغلال كأنه ناتج عن القوانين الجائرة بالتالي يمكن أن يزول الاستغلال بزوال هذه القوانين ولكن الحقيقة أن الاستغلال هو استغلال اقتصادي بالأساس لا يمكن أن يزول الا بزوال الأسباب الاقتصادية التي أوجدته. إذا بقيت ملكية وسائل الإنتاج في يد الرأسمالي فلا توجد أي قوانين قادرة على أن تمنع الرأسمالي من استغلال العامل.
نقطه اخرى مهمه ان الاصلاحيين ينظرون إلى الاشتراكية كعدالة في توزيع الثروة فقط مثلا التوسع في الشركات المساهمة يزيد من عدد الأغنياء وزيادتهم تؤدي إلى عدالة في توزيع الثروة بالتالي اشتراكية. هذا مفهوم خاطئ تماما للاشتراكية حيث أن الاشتراكية لا تعني اطلاقا بالثروة بل تعنى في الخصوص بالإنتاج وعلاقات الانتاج. أي نظام يفترض ملكية وسائل الإنتاج لقلة من الأفراد حتى ولو كانوا مجموعة مساهمين في شركة مساهمة فهو رأسمالية. والأهم من ذلك هو من الذي يملك وسائل الإنتاج هل هم العاملين أم الرأسماليين. لا تسعي الاشتراكية الى التوزيع العادل للثروة ضمن النظام الرأسمالي إنما تجادل لاستحالة ذلك وتسعى لإنهاء النظام الرأسمالي وبناء نظام اشتراكي.
في هذا المقام هنالك سؤال مهم لابد من طرحه هل يمكن من خلال العمل النقابي والنشاط السياسي الوصول للاشتراكية؟ هل يمكن أن يكون الطموح هو ان القوى الداعية للاشتراكية يمكن أن تصل الى اغلبية برلمانية ثم تستطيع ان تضع وتطبق برنامجها الاشتراكي؟ اتفق هنا مع لوكسمبرج باستحالة ذلك ويمكن ان اسوغ عدد من الاسباب منها هل يمكن ان يتنازل النظام الرأسمالي المتوحش عن كل الامتيازات التي يملكها طواعية لصالح المشروع الاشتراكي؟ تجربتنا الطويلة في ظل هذا النظام توضح ببساطة استحالة هذه الفرضية. الرأسمالية نظام قائم على أن الاولوية القصوى هي لمصالحه، وتاريخيا سعى للحفاظ على هذه المصالح بكل السبل بما فيها الحروب التي يشنها باستمرار، والاستهلاك المفرط للبيئة لحد يمكن أن يوصلنا لنهاية العالم وغيرها من الأمثلة العديدة. فهل هكذا نظام يمكن أن يسمح بأي مشروع اشتراكي، فقط لننظر كيف تعاملت القوى الرأسمالية مع أي دولة شرعت في تطبيق نظم اشتراكية لنعرف كيف تتعامل هذه القوى مع أي مشروع اشتراكي. الوصول للاشتراكية لا يمكن ان يتم الا بثورة يقودها العمال والمسحوقين ليس لتغيير أو تحسين وجه النظام الحالي إنما لهدمه تماما وبناء نظام جديد يقوم على مصلحة الأغلبية وليس لمصلحة فئة محددة. لا يمكن الوصول الى الاشتراكية إلا كنتيجة لتناقضات النظام الرأسمالي المحتدمة وقوة وبناء و وعي الطبقة العاملة القادرة على فرض التحول الاجتماعي.
تاريخيا أي تغيير مجتمعي شامل خلقته ثورة أما الإصلاحات فهي تغيير يحدث داخل الشكل الاجتماعي المحدد بين ثورتين، ثورة أولى خلقت التغيير واشعلت القدرة على التغيير الإصلاحي و ثورة قادمة عندما تستهلك المرحلة كل إمكانيات الإصلاح وفق الشروط الموضوعة، وبهذا تنتقل المجتمعات من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى. لذلك لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار الإصلاح تغيير ثوري وذلك ببساطة لان الاصلاح يعمل على تحسين الأوضاع وفق شروط النظام القائم وليس استبداله وتغييره بالكامل لنظام جديد مختلف كليا. والهدف من الإصلاح يكون تحسين وجه النظام الرأسمالي وليس القضاء عليه، كما يهدف لتخفيف الاستغلال وتحسين شروطه وليس العمل على إنهائه.
لا يجب على دعاة التغيير الجذري الوقوف مكتوفي الأيدي والحلم بتحقيق مجتمع اشتراكي بل لابد لهم من الاستفادة من كل أشكال النضال المتوفرة سواء العمل النقابي أو العمل السياسي أو النشاط الاقتصادي التعاوني والاستفادة من هذا النشاط في بناء حركة واعية متمرسة وقوية، ولكن هذا العمل ليس هو الغاية إنما هو فقط الوسيلة لبناء حركة جماهيرية قوية قادرة على هدم النظام الرأسمالي القائم وبناء النظام الاشتراكي. ان الانتقال الى الاشتراكية لا يتم إلا بعد نضوج الأسباب الاقتصادية والسياسية للتحول، ولا يتم إلا بوصول الغالبية المسحوقة إلى السلطة السياسية بعد انتهاء النظام القائم وانتفاء أسباب وجوده. التحول الاشتراكي لا يمكن ان يتحقق في أمد قصير فهو بالتأكيد سيكون نتيجة صراع ونضال طويل الأمد وخلال هذا الصراع الطويل هنالك مراحل انتصار وهزائم بالتأكيد.
الهوامش
١ روزا لوكسمبرج (١٨٧١١٩١٩) مناضلة ماركسية ألمانية كانت عضوا بارزا في الحزب الاجتماعي الاشتراكي، ناقدة فذة للنظام الرأسمالي مناهضة صلبة للحروب التي يشنها. عانت كثيرا من الاضطهاد بسبب أصولها البولندية واليهودية. لها العديد من الكتابات منها الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات، ما هو الاقتصاد السياسي، الاقتصاد السلعي والعمل المأجور وكتابات عدة اخرى.
٢ ما أسهل تفنيد هذه الادعاءات فالنظام الرأسمالي العالمي يعاني حاليا من اقسي ازماته الاقتصادية والبيئية والسياسية. والحديث عن اختفاء الأزمات الاقتصادية التي طالما بشر بها مناصري الرأسمالية تكسرت أمام الواقع الماثل. الان يعيش العالم أزمة اقتصادية حقيقية (قبل أن يتعافى الاقتصاد العالمي تماما من أزمة ٨ ٢٠٠ ٢٠٠٩) تتبدى في الارتفاع الخرافي لأسعار السلع المختلفة وأسعار الطاقة وزيادة التضخم في العديد من الاقتصادات الكبرى وذلك نتاج لتباطؤ الاقتصاد خلال فترة الكوفيد و اشتعال الحرب الأوكرانية. أما الحديث عن تحسن أوضاع الطبقة العاملة فهو حديث يجانب الصواب فأحوال العمال تزداد سوءا كل يوم بخاصة العمال في دول الجنوب.
٣ المثال الواضح لهذا الوضع هو أزمة السوق العقارية الأمريكية في عام ٨ ٢٠٠ ٢٠٠٩
التعليقات مغلقة.