أسامة أنور عكاشة.. أعظم كاتب دراما عربية / مصطفى علي
مصطفى علي – الجمعة 28/7/2023 م …
أعظم كاتب دراما عربية، وقلمٌ قابل لمحاورة كل الأزمان.. كيف صنع أسامة أنور عكاشة مجده الدرامي؟
في عام 2004، قبل رحيله بنحو 6 سنوات، كان لقاؤنا في بيته لنُجري حواراً حول مُنجَزه الدرامي. قال لي إنّ “القومية العربية صارت فكرة رومانتيكية لا يمكن تطبيقها”، وقال أيضاً، وهو الناصري دماً ولحماً، إنّ “حلم عبد الناصر كان مجرد حلم”.
كاتب الدراما العربية الأعظم، أسامة أنور عكاشة، قلمٌ قابلٌ ليحاور كل الأزمان، حتى وهو في قبره صدى لوجوده الحي، فلا تزال أعماله النقدية الدرامية التأريخية تمحو سواها من أعمال أفرزها زمن الاستهلاك الرأسمالي، الذي حذّر منه عكاشة في أعماله مراراً، ووقف له بسيف الكتابة الخالدة.
مَن نكون؟
في العام 1936، وقَّعت المملكة المصرية “مُعاهدة الاستقلال” مع بريطانيا، وكان من نتائج هذه المعاهدة أن خرجت القوات البريطانية من الأراضي المصرية، محدِّدة إقامتها في منطقة قناة السويس لحماية المجرى الملاحي بتعداد قوات لا يتجاوز 10 آلاف جندي، بحسب بنود المعاهدة. في هذه الأثناء اعتقد المصريون أنّ بلدهم يتّجه بسرعة نحو الاستقلال التامّ عن المحتل البريطاني لبناء دولته الوطنية الحديثة.
هنا، كان لمفكري مصر دور كبير في رسم ملامح هذه الدولة التي نالت بعض استقلالها، وكان في طليعة هؤلاء المفكرين طه حسين، الذي وضع تصوُّرَه لهذه الدولة وجذورها ومستقبلها عبر إصداره كتابه الصدمة “مستقبل الثقافة في مصر”.
أطلق طه حسين في كتابه هذا صيحةً تقول إنّ مصر لا يجب أن تستمر في ارتباطها بأي أصول شرقية، مؤكداً أنّها “أقرب لدول حوض البحر المتوسط منها لدول الشرق”. كتاب عميد الأدب العربي واجه موجة انتقادات عنيفة، بعدما محا كل صلة لمصر بالعرب من الناحية الثقافية.
بالعودة إلى أسامة أنور عكاشة، الذي تلقّى صيحة طه حسين في نهايات ثلاثينيات القرن الماضي، ليمنحها وجوداً درامياً باعتباره بحثاً اجتماعياً فائق الخطورة، فمرة يطرح الفكرة على لسان شخصية العمدة سليمان غانم في عمله الأشهر والأضخم “ليالي الحلمية” (الجزء الرابع)، مستنكراً اجتياح العراق للكويت عام 1990، وبدأ يتساءل عمّن نكون نحن المصريين، هل نحن عرب؟ ليمتدّ تساؤل عكاشة من هذه الجملة الحوارية العابرة، التي أصبحت نواة عمل درامي آخر، طرحه في عام 1994 تحت اسم “أرابيسك”، والمدهش أن الممثل نفسه الذي أدّى شخصية العمدة سليمان، وهو صلاح السعدني، اختير بطلاً لـ”أرابيسك”، الذي يناقش الهوية المصرية الواقعة بين احتلالات كثيرة ومتداخلة على مدار قرون سابقة.
ربما توجّهنا هذه اللفتة البسيطة إلى أنّ عكاشة يتحرك بخطة وليس ارتجالاً، مهما قال هو إن الكتابة تُمْلَى عليه وقت وحْيه، ولكنّي أقول إنّه كان يتحرك وفق مشروع كبير عِماده الذات المصرية، ينظم فيه خطواته، فمرة يتساءل وأخرى يجيب، مرة يأتينا صوته من حي الحلمية ليسرد تاريخ مصر في 50 عاماً، منذ أربعينيات القرن العشرين، ثم ينتقل درامياً في “زيزينيا” (إنتاج 1997) إلى الإسكندرية، أرض الثقافات المخلوطة.
وبين هذا وذاك يرمي نظرة خاطفة على قضايا صغرى تتقاطع مع القضايا الكبرى في مجتمع يبحث عن نفسه، فنجد قضية التعليم المصري في “ضمير أبلة حكمت”، وفيه الإسكندرية مكاناً وزماناً وأبطالاً، ونجد “الراية البيضا” وقضية الحفاظ على التراث، وفيه الإسكندرية ثقافةً وحالةً متأرجحة بين نخبوي راقٍ وجاهلٍ عبثيّ. هو أسامة الذي لا يُلقي ذهبَه كلَّه في سلّة درامية واحدة.
أوسبورن مصر
لا يكتب أسامة أنور عكاشة تاريخاً مُزيَّناً بالحنين والبكاء، بل على العكس، هو ينظر إلى الماضي دائماً بغضب، كما فعل الكاتب الإنكليزي جون أوسبورن عبر مسرحه المتمرد، إذ لا يروي عكاشة لنا تاريخ أمس على أنّه الأجمل، بل يحاكمه بعنف ولا يتأخّر عن سبّه إذا لزم الأمر.
ينظر إليه من علٍ، ويقول له ما يحلو لناقد عابر للزمن لم تبقَ له إلا كلماته الرصاص، لكنه في وسط تمرده وشطحاته لا ينفصل عن أبطاله، ولا يذبحهم ذبحاً كاملاً، بل يذيقهم مرارة الزمن وحلاوته معاً، يتقمّصهم واحداً واحداً ليتمكّن من تحريكهم كيفما شاء، فهو خفيف الظل غني الحكايات كسليمان غانم، وماكر كقط، ومُلبّد بالدهاء كسليم البدري، وضال كحسن فتح الله النعماني، وصادق في مبادئه مثل “النسخة الأولى من علي البدري” وناجي السماحي، كذلك لا ينفصل عن جمهوره، فهو كما وصف نفسه “قعّيد قهاوي”، أي أنّه احترف الجلوس في المقاهي كغالبية المصريين؛ ففيها الفُرجة تكون على الطبيعة، وفيها من غِنى الشخصيات ما يجعلها عالماً درامياً متحركاً.
الكاتب النجم.. ضد التيار
يتفق الجميع على أن غياب أسامة أنور عكاشة أحدث فراغاً ضخماً في كتابة الدراما المصرية والعربية، فقد كان نجماً وبطلاً حتى قبل أبطاله من نجوم التمثيل، فالقاعدة في هذه السوق أن تُنسب الأعمال الدرامية لأسماء أبطالها من الممثلين، أما أن يصبح المؤلف هو بطل العمل ونجمه الأول فهذه ظاهرة تستحق الدراسة في حد ذاتها، خصوصاً إذا كان الكاتب المثقف والنخبوي يتوجّه في أعماله هذه إلى جمهور لم ينَل من الثقافة إلا نسبة ضئيلة، ويصعب عليه بالتالي الانجذاب إلى أفكار الكاتب، الذي وصل إلى درجة عالم اجتماع، بحجم أسامة أنور عكاشة.
“شخصية تآمرية وحقيرة”! هكذا وصف أسامة أنور عكاشة شخصية عمرو بن العاص، لهذا اعتبر البعض أنه “تجرَّأ على صحابي جليل”.
أيّاً كان موقفنا مما طرحه عكاشة في هذا الشأن، فلديه ما يبرر به وصفه لشخصية ابن العاص، ولسنا هنا بصدد استجلاب هذه المعركة القديمة، بل نحن إزاء إشارة مهمة تُوقفنا أمام كاتب استجمع موقفه من الحياة والتاريخ عبر وعي كامل وشجاع، لا يحركه فيه تدافع جماهير صاخبة ولا تشوبه خشية من هجوم “ديني”. فحين أراد أن يقول قال، وحين أراد أن يهاجم لم يتراجع، وهذه النسخة من الكُتّاب والمثقفين ربما اختفت من عالمنا الحالي، وإلى الأبد.
لذا يجوز لنا أن نقول لأسامة أنور عكاشة في عيد ميلاده الثاني والثمانين: وداعاً… و”أهلاً دائمة” بك، حاضراً لا يمسُّه غياب!
التعليقات مغلقة.