التقرير السياسي: ما يعد استشراف التحوّلات في العالم والإقليم والوطن العربي – تقدير موقف / زياد حافظ

زياد حافظ ** – الإثنين 22/5/2023 م …




*ورقة نقاشية للدورة السنوية الثانية والثلاثين للمؤتمر القومي العربي المنعقدة في بيروت في 30 و31 تموز/يوليو 2023

** الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي (2015-2018)

مقدمة

هذه الورقة هي استكمال للأوراق السابقة التي قدّمت للمؤتمر القومي العربي والأمانة العامة في السنوات الأخيرة حيث تمّ رصد التحوّلات في العالم والإقليم والوطن العربي.  وتؤكّد هذه الورقة أن تقديرات المؤتمر القومي العربي بالنسبة للتحوّلات على الصعيد العالمي والإقليمي والعربي كانت صائبة ودقيقة مما يجعل اعادتها تكرارا غير ضروري.  ففي هذه الورقة ستُعرض عناصر موازين القوّة للمحورين العالميين المتصارعين مع المستجدّات التي تؤكّد مسار الأمور كما ستحاول استشراف تداعيات تلك التحوّلات على الصعيد العالمي والإقليمي والعربي.

في الأوراق السابقة كانت رؤية المؤتمر القومي العربي أن العالم يشهد صراعا بين مشروعين كبيرين.  المشروع الأول الصاعد مكوّن من الكتلة الاوراسية ومعها مجموعة دول البريكس ومنظمة شنغهاي وسائر دول الجنوب الإجمالي، وبقيادة روسيا والصين. وهذا التكتّل في بنيته الأساسية تكتل سياسي اقتصادي وأمني وصاحب مشروع متكامل له تفاهماته العسكرية والأمنية ولكن لم يرتق حتى الان إلى مستوى التحالف العسكري كنظيره في الكتلة المضادة.  وهدف المشروع هو إعادة ترتيب العلاقات الدولية على القواعد التالية: احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول من قبل المجموعات الدولية، إعادة الاعتبار للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحددة، احترام خصوصيات الدول وثقافاتها، وبناء علاقات ثنائية ومتعدّدة الأطراف على قاعدة اربح-اربح وليس على قاعدة اللعبة الصفرية التي فرضها الغرب وما زال يحاول فرضها حيث الغرب رابح وسائر العالم خاسر.

اما المشروع الثاني فتقوده الولايات المتحدة مع دول الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وطابعه عسكري سياسي واقتصادي وأمني مع التركيز على طابعه التنظيمي العسكري. وهذا المعسكر المتراجع والآفل إلى حد الانهيار ما زال في حال انكار لواقعه ومتمسّكا بمبدأ هيمنته التي فرضها في حقبة الاستعمار القديم والذي تحوّل إلى نظام معوّلم يتنكّر للخصوصيات والهويات الوطنية والقومية والدينية والجنسية.  واصحاب هذا المشروع يحاولون التمسّك بمقدّرات العالم في الطاقة والمواد الأولية عبر سيطرتهم على شرايين المال والمؤسسات المالية الدولية.  والنظام النيوليبرالي الذي يريدون فرضه تحت شعار مفهومهم الخاص للديمقراطية عبر منظومة الاحكام والقيم التي يسوّقونها حتى بالقوّة العسكرية وصل إلى طريق مسدود لا يستطيعون الخروج منه.  وأصحاب هذا المشروع هم مجموعة الدول الغربية أو الجي 7 يضاف إليها استراليا ونيوزيلندا وبقيادة الولايات المتحدة.  التقدّم في المحور الأول كان في البداية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، واليوم على الصعيد العسكري والقيمي، بينما التراجع في المحور الآخر كان على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي واليوم على الصعيد القيمي والأخلاقي. 

أما دول الوطن العربي وفي المنطقة بما فيها الجمهورية الإسلامية في إيران فكان الانقسام بين مشروع المقاومة والممانعة للكيان الصهيوني والهيمنة الغربية التي تقوده سورية والجزائر وإلى حد ما في العراق على صعيد الدول والمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق واليمن على صعيد القوى الشعبية ومعها على الصعيد الإقليمي الجمهورية الإسلامية في إيران.  أما المشروع الثاني فكانت تقوده بلاد الحرمين ومعها دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وسائر دول المغرب العربي وهو مشروع مناهض للمقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني والهيمنة الغربية.  فكانت المحاولة لاستبدال الصراع مع الجمهورية الإسلامية في إيران بالصراع مع الكيان الصهيوني وما رافقه من فتن بين مكوّنات المجتمعات العربية.  الجديد في هذا الموضوع هو تراجع حدّة الصراع بين المشروعين لأن ذلك الأمر ناتج عن صمود محور المقاومة وخاصة سورية في مواجهة العدوان الكوني عليها.  فهذا الصمود مكّن كل من روسيا والصين التقدّم على المسرح الدولي بينما كانت دول الغرب منهمكة في محاولة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية لدول الوطن العربي بشكل عام وخاصة في غرب آسيا.

الورقة ستقارب المستجدّات من منظور موازين القوّة الذي تشكّل قاعدة تقدير الموقف واستشراف المستقبل.  فمكوّنات الموازين متحرّكة ويجب رصدها بدقة لأنها هي المفتاح لقراءة المشهد على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي والمجتمعي والثقافي. ومنطلق قراءتنا للمشهد الدولي والإقليمي والعربي هو التأكيد على صعود ارث مؤتمر بندونغ الذي يتمثّل بمجموعة دول البريكس والكتلة الاوراسية والمؤسسات الناتجة عنها والتي ينضم اليها عدد كبير من الدول منها دول عربية وإقليمية ومنها من دول الجنوب الإجمالي في إفريقيا وأميركا اللاتينية.  فتجربة بندونغ افرزت عالم عدم الانحياز الرافض للهيمنة الغربية واليوم للعولمة التي يهيمن عليها الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.  لكن مؤتمر بندونغ وعالم عدم الانحياز لم يستطع بلورة مؤسسات اقتصادية ومالية تستطيع الوقوف في وجه الهيمنة الغربية تلاها فيما بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي ودخول العالم في حقبة القطبية الأحادية وما أفرزت من عدم استقرار في العالم.  لكن حقبة الأحادية القطبية انتهت بسبب صعود الكتلة الاوراسية ومعها دول الجنوب الإجمالي وانشاء مؤسسات بديلة عن المؤسسات الدولية التي كانت تتحكّم بها الدول الغربية، وبسبب التراجع الداخلي والخارجي لدول الغرب وللقطب الأحادي.

غير أن الصراعات التي شهدناها في غرب آسيا والان في أوكرانيا هي المحاولات الأخيرة لفرض هيمنة الغرب اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وربما عسكريا.  ونتيجة لذلك يمكن القول بأن الغرب يحتضر وليس في الأفق ما يدلّ على إمكانية تغيير مسار الأمور بناء على قراءة مكوّنات موازين القوّة.  بالمقابل، فالجنوب الإجمالي في مسار صاعد بسبب التحوّلات التي حصلت في كل من الغرب ودول الجنوب الإجمالي والتي أوجدت موازين قوّة في الجنوب الإجمالي لم تكن موجودة منذ عقود.  هذا هو الخط البياني الذي رصدته الأوراق السابقة المذكورة إلاّ انها أشارت بشكل واضح أن الغرب بشكل عام والولايات المتحدة لن يستسلمان للمسار الحالي ويحاولان بشتّى الوسائل إما تغيير المسار أو تأخير نتائجه ولكن دون أي أفق يذكر.  فما يملكه الغرب من قدرة دعائية يتلاشى مع التناقض الظاهر بين الخطاب السائد والوقائع على الأرض فيحاول إظهار حركات تكتيكية استعراضية كأنها تحوّلات استراتيجية ولكنها لا تتجاوز البعد الظرفي ولا تغيّر في موازين القوّة ولا تفرض تحوّلات في المسار العام إلاّ لمصلحة دول الجنوب الإجمالي.

الجزء الأول-موازين القوّة في تقدم دول الكتلة الاوراسية ودول الجنوب الإجمالي

مفهوم “موازين القوّة” مفتاح لفهم مسار الأمور في العالم وفي الوطن العربي.  لكن ليس هناك من اجماع على تحديد عناصر تلك الموازين التي يحصرها البعض في القدرات الاقتصادية والعسكرية بينما نعتقد أن مروحة مكّونات موازين القوّة أوسع فمنها استراتيجي وثابت نسبيا كالجغرافيا مثلا ومنها ظرفي كرداءة القيادات والنخب ومنها وجودي إذا جاز الكلام كالصراع على البقاء ومقتضيات الأمن.  وهذه العناصر المكوّنة قد يصعب قياسها بشكل دقيق وإن كانت تداعيتها واضحة ومفهومة ولكن غير خاضعة لمقياس موضوعي كالتماسك الاجتماعي في أي مواجهة مع خصم إما داخلي أو خارجي وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.  فالتنوّع قد يكون مصدر قوّة كما يمكنه أن يكون مصدر ضعف قاتل كما يحصل في المجتمعات التي تطغى عليها الهويات الفرعية على حساب الهوية الجامعة.  ليس هدف الورقة الخوض في ذلك النقاش بل فقط الإشارة أن مروحة مكوّنات موازين القوّة قد تخضع لنقاش وإن اعتبرتها الورقة من المسلّمات.

أولا-مكوّنات موازين القوّة في دول الكتلة الصاعدة

ملاحظة عامة: تعتبر هذه الورقة أن عناصر موازين القوّة تنقسم إلى عدّة أقسام.  فالقسم الذي يمكن قياسه بأرقام تعود إلى القدرات البشرية والجغرافية والعسكرية والمالية حيث المؤشرات متعدّدة وتعطي فكرة واضحة عن إمكانيات الدولة.  وهناك نوع آخر يصعب قياسه بأرقام ولكنه في غاية الأهمية لفهم السلوك والقدرات على الصمود ومواجهة الاخطار الداخلية وأو الخارجية ويعود لطبيعة القيادات والموروث الثقافي والقيم والاخلاق.  والنوع الثالث هو ما يمكن تسميته بالخطر الوجودي الذي يحوّل المجتمعات إلى قدرات قتالية لأن بقائها أصبح رهن نتائج الصراع وبالتالي تستطيع تتحمّل ما لا يمكّن تحمّله في ظروف عادية.  وهذا النوع يشكّل في كثير من الأحيان الفارق الحاسم المباشر في موازين القوّة حيث الصراع على البقاء لا يختلف عن الغريزة الطبيعية في التمسّك بالحياة.  فالصراع في أوكرانيا على سبيل المثال صراع وجودي بالنسبة لروسيا بينما للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة هو مطلب توسّعي لتكريس الهيمنة.  أما بالنسبة للعرب وخاصة للفلسطينيين فإن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجودي.  فلا نهضة للأمة إلاّ بالوحدة ولا وحدة في ظل التجزئة والكيان الصهيوني الأداة الأساسية للتجزئة.  فلا تنمية ممكنة ولا استقلال للأقطار العربية والكيان الصهيوني قائم لذلك لا بد من مقاومة وجود الاحتلال والكيان الصهيوني.  فهذا الدفع يحوّل الصراع من صراع في موازين القوّة إلى صراع في الارادات.  وإرادة الحياة هي أقوى الارادات بينما الارادات الأخرى كالتوسع والهيمنة لا تشكّل دافعا للتضحية بكل شيء غالي.  وهذا ما يقلب معادلة موازين القوّة المادية حيث التفوّق العسكري والاقتصادي ليس شرط كفاية بينما إرادة البقاء أمام الهجوم الخارجي هو أقوى دافع للمقاومة.  وقد بات واضحا أن الاستسلام للإملاء الخارجي، سواء كان أميركيا أو صهيونيا أو غربيا، هو أكثر كلفة من التصدّي له.  فهذا ما يجب أخذه في عين الاعتبار في تحديد وتقييم عناصر موازين القوّة.  فصاحب قضية وجودية أقوى من صاحب مصلحة فقط لا غير.

1-القدرات الاقتصادية والمالية في المحور الصاعد

في تعداد القدرات الاقتصادية لا نعتمد حجم الناتج الداخلي الاسمي مقياسا أساسيا للقدرات لأن احتساب الناتج الداخلي لا يأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات بل فقط ما يٌعتبر انتاجا.  وفي هذا السياق العديد من الدول المتقدمة كالولايات المتحدة لها ارقام متضخمة في قياس الناتج الداخلي لأن مصدرا كبيرا للدخل يأتي من الأعمال الافتراضية كأرباح المضاربات المالية والعقارية التي لا علاقة لها بالإنتاج.  لكن هذا حديث آخر أردنا فقط الإشارة أن حجم الناتج الداخلي قد يكون مقياسا مضلّلا ليقين القدرات الاقتصادية.

ا-الجغرافيا وعدد السكّان في المحور الصاعد

في طليعة القدرات الاقتصادية والمالية لمجموعة الدول الصاعدة الجغرافيا الاقتصادية والبشرية.  فالمساحة التي تعود إلى تلك الدول تشمل معظم القارة الاسيوية، وكل القارة الإفريقية وكل أميركا اللاتينية الوسطى والجنوبية.  وتلازما مع المساحة الجغرافية فتقطن أكثرية البشرية الساحقة في تلك الدول بل تمثّل 90 بالمائة من سكّان العالم بينما عدد سكّان دول مجموعة الجي 7 لا يتجاوز 770 مليون نسمة أي ما يوازي 10 بالمائة من اجمالي السكّان (أكثر من 7 مليار نسمة).  فالجغرافيا والبشرية معظمها الكاسح خارج سيطرة الدول الغربية.  وإذا اخذنا بعين الاعتبار ان العديد من تلك الدول خارج مجموعة الجي 7 دول شابة أي أكثرية سكّانها تحت سن 35 فذلك يعني أن المستقبل هو لتلك الدول.  بالمقابل دول الجي 7 تشيخ حيث وسيط الاعمار فيها هو حوالي 50 سنة.  وإذا أضفنا انخفاض نسبة الولادة فهذا يعني انخفاض في عدد السكّان في تلك الدول في مستقبل قد لا يكون بعيدا.  حاولت بعض الدول في الغرب التعويض عن ذلك عبر فتح باب الهجرة من قبل دول العالم الذي كانت تتحكّم بها إلاّ أن اختلاف الثقافات جعلت الاندماج أمرا صعبا ما خلق احتكاكات مع الشعوب الاصلية وخاصة في زمن الضيق الاقتصادي الذي يعمّ العالم الغربي.  ليس من المهم الاستفاضة في البعد السكّاني على أهميته في البعد الاستراتيجي لمستقبل هذه الدول بل يكفي الإشارة أن السكّان مصدر قوّة في دول الجنوب الإجمالي بينما هو عنصر ضعف استراتيجي في الدول الغربية.

للأمانة، فإن بعض دول مجموعة البريكس تشيخ أيضا (باستثناء جنوب إفريقيا وإلى حد ما الهند) حيث نسبة الولادة للتجدّد السكّاني هي 2،1 بينما النسب في دول البريكس تتراوح وفقا لإحصاءات البنك الدولي لعام 2020 بين 1،28 (الصين)، 1،51 (روسيا)، 2،05 (الهند)، 1،65 (البرازيل)، و2،4 (جنوب إفريقيا).  ويعود ذلك الانخفاض لسياسات خاطئة حاولت من تحديد النسل وفقا لنصائح الدول الغربية ولانخراط النساء في سوق العمل ما أدّى إلى نمو في الدخل ولكن على حساب زيادة أفراد العائلة.  لكن الحجم عند الصين والهند يخفّف من وطأة التراجع في الولادة كما أن الحكومات المعنية تطبّق سياسات تساهم في زيادة السكّان عبر تشجيع الزواج (روسيا) وعدم تحديد عدد النسل (الصين). لكن نتائج تلك السياسات قد تأخذ بعض الوقت قبل أن تشهد تغييرا في بنيتها السكّانية لصالح الجيل الشاب.

  لكن في سائر دول الجنوب الإجمالي وخاصة في الدول العربية فإن نسبة الولادة هي 3،14 وفقا لإحصاءات البنك الدولي.  أما وسيط الأعمار للدول العربية فهو 22 سنة مقارنة مع المعدّل للوسيط الدول الذي 28 سنة.  لكن أهم رقم من كل ذلك هو أن حوالي 60 بالمائة من العرب هم دون سن ال 25 ما يجعل الشعب العربي شعبا فتيّا.

ب-مصادر الطاقة.

المصدر الثاني في ميزان القوّة هو امتلاك دول الجنوب مصادر الطاقة في النفط والغاز والمعادن وخاصة المعادن النادرة التي تدخل في صميم التكنولوجيات الحديثة بما فيها الذكاء الاصطناعي وعالم الآليات والروبوتات التي أصبحت مستقبل الصناعات المتطوّرة تكنولوجيا وخاصة في ميدان التسليح والبحث الفضائي. فعلى صعيد الطاقة تملك دول مجموعة أوبك 80،4 بالمائة من احتياط النفط العالمي البالغ حوالي 1،2 تريليون برميل وفقا لإحصاءات مجموعة دول الأوبك.  وإذا أضفنا الى تلك المجموعة كل من روسيا والبرازيل والمكسيك فإن تلك الدول تملك أكثر من 94 بالمائة من احتياط النفط العالمي حتى آخر 2021.

أما على صعيد الغاز فروسيا تتصدّر الاحتياط بملكية 24،3 بالمائة تليها الجمهورية الإسلامية في إيران ب 17،3 بالمائة، ثم قطر ب 12،5 بالمائة وبلاد الحرمين ب 4،2 بالمائة وتركمنستان ب 3،8 بالمائة والامارات المتحدة ب 3،1 بالمائة، ما يوازي 68 بالمائة من الاحتياط العالمي حتى آخر 2017 وفقا لإحصاءات نشرها موقع ورلدوميتر (worldometer).

ت-المعادن

وفقا لموقع انفستوبيديا (Investopedia) فإن قائمة الدول العشرة الأولى التي تمتلك أكبر احتياطات في المعادن تشمل في معظمها دول الكتلة الاوراسية وبعض دول اميركا اللاتينية.  والمعادن المقصودة هي المعادن التي تدخل في التصنيع الثقيل والخفيف (الحديد، النحاس، الكروم، النيكل، التنك، الزنك، على سبيل المثال) والصناعات صاحبة التكنولوجيات المتطوّرة (ليثيوم، جرمانيوم، تيتانيوم وذلك على سبيل المثال وليس الحصر).   والدول خارج مجموعة دول الجنوب الإجمالي في تلك القائمة هي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية وتقدّر قيمة احتياطها في المعادن ب 45 تريليون دولار، ثم كندا في المرتبة الرابعة وتقدّر قيمة احتياطها ب 33،2 تريليون دولار، وأستراليا بالمرتبة الثامنة وتقدّر قيمة احتياطها ب 21،8 تريليون دولار. أما الدول الأخرى فروسيا تأتي بالمترتبة الأولى وتُقدّر قيمة احتياطها ب 75 تريليون دولار، فبلاد الحرمين تأتي بالمرتبة الثالثة وتُقدّر احتياطها ب 34،4 تريليون دولار، ثم الجمهورية الإسلامية بالمرتبة الخامسة وتُقدّر قيمة احتياطها ب 27،3 تريليون دولار، ثم الصين بالمرتبة السادسة وتُقدّر قيمة احتياطها ب 23 تريليون دولار.  في المرتبة التاسعة هناك العراق وتُقدّر قيمة احتياطها ب 15،9 تريليون دولار.  ويجب إضافة عدد من دول إفريقيا كغينيا والغابون وجمهورية الكونغو وجنوب إفريقيا كدول تحتوي على احتياطات كبيرة من المعادن وخاصة من المعادن النادرة.  فالقارة الإفريقية أصبحت موقع تجاذب وتنافس بين الدول الكبرى الغربية والصين وروسيا للاستفادة من ذلك الاحتياط.  

المهم هنا أن مجموعة روسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران وبلاد الحرمين والعراق تمتلك من معادن لها الطابع الاستراتيجي ما يجعلها كتلة اقتصادية مستقبلية كاسحة وإن أصبحت الصين اليوم في المرتبة الأولى في التصنيع الثقيل والخفيف.  ومشاريع التكامل المعروضة بمبادرة الحزام الواحد، او الوحدة الاقتصادية الاوراسية، يضع هذه الدول على عتبة نهضة اقتصادية غير مسبوقة.

ث-المواد الزراعية والغذاء

وفقا لموقع تراكتور غورو المختص بالشؤون الزراعية والغذاء تأتي الصين في المرتبة الأولى في الإنتاج الزراعي والغذائي تليها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية، ثم البرازيل في المرتبة الثالثة والهند في المرتبة الرابعة وروسيا في المرتبة الخامسة.  أما فرنسا وألمانيا واليابان فهي في المرتبة السادسة والسابعة والثامنة.  وفي المرتبة التاسعة هناك المكسيك وتركيا في المرتبة العاشرة.  هذا يعني أن الدول الوازنة في الجنوب الإجمالي ومعها الكتلة الاوراسية أكبر منتجين المواد الزراعية والغذاء ما يجعلها مؤثّرة في اقتصادات الدول المتقدمة وغير خاضعة للابتزاز الغذائي.  فمع القدرات الصناعية والزراعية تصبح القدرات الاقتصادية في دول الجنوب الاجمال أهم مما هو موجود في الدول الغربية.  والملاحظة الهامة هي أن روسيا تتصدّر قائمة العديد من القطاعات وأن لم تتصدرها فهي من أهم الدول المنتجة فيها.  من هنا نفهم الهجوم الأطلسي على روسيا للاستيلاء على ثرواتها وتفكيكها فيما بعد إلى دويلات صغيرة متناحرة لا تستطيع منافسة الغرب.  هذا هو جوهر الحرب في أوكرانيا.

ج-الناتج الداخلي

كما تمّت الإشارة أعلاه فإن مؤشر الناتج الداخلي ليس مقياسا دقيقا للقدرات الاقتصادية إلاّ أن معظم الدول الغربية ما زالت تعتمد ذلك المقياس كمؤشر عن حجم ونفوذ البلد.  فالاستهزاء بحجم الناتج الداخلي الروسي (2.0 تريليون دولار) مقارنة مع الناتج الداخلي لبعض دول الأطراف في أوروبا كإسبانيا (1.5 تريليون دولار) أو إيطاليا (2.1 تريليون دولار) ساهم في سوء تقدير موازين القوّة في الغرب وفي تبنّي سياسات المحاصرة الاقتصادية والعقوبات على روسيا لدفعها إلى الانهيار والانقلاب على النظام القائم تمهيدا لتنصيب قيادات موالية للغرب تساهم في نهب ثروات روسيا قبل تفكيكها.  فالناتج الداخلي الروسي لا يعكس القدرات الفعلية لروسيا ولمتانة اقتصادها الذي لم يصمد فحسب أمام العقوبات الصارمة المفروضة عليها من قبل دول الغرب بل استطاع ردّ العقوبات على أصحابها. 

أما إذا اخذنا مقياس الناتج الداخلي بالنسبة للقوّة الشرائية (Purchasing Power Parity) فتأتي الصين في المرتبة الأولى تليها الولايات المتحدة ثم الهند ثم اليابان ثم المانيا.  روسيا تأتي في المرتبة السادسة وقريبة من المانيا واليابان.  نلاحظ هنا أن الصين والهند وروسيا في طليعة الدول للناتج الداخلي قياسا للقوّة الشرائية ما يدلّ على ان توقعّات هشاشة اقتصادات دول الجنوب الإجمالي غير دقيقة. واجمالي الناتج الداخلي بالقوّة الشرائية لدول البريكس يفوق إجمالي الناتج الداخلي بنفس المقياس لمجموعة دول الجي 7.  فالناتج الداخلي للصين 33 تريليون دولار، والهند 13 تريليون دولار، وروسيا 5 تريليون دولار والبرازيل 4 تريليون دولار وجنوب إفريقيا تريليون دولار ومجموعها 56 تريليون دولار.  أما دول الجي 7 فالناتج الداخلي للولايات المتحدة 26،7 تريليون دولار، تليها اليابان ب 6،4 تريليون دولار، ثم المانيا ب 5،5 تريليون دولار، ثم المملكة المتحدة وفرنسا ب 3،8 تريليون دولار، وأخيرا إيطاليا ب 3،3 تريليون دولار ومجموعها 51،9 تريليون دولار وذلك وفقا لإحصاءات صندوق النقد الدولي لسنة 2022.  تقديرات البنك الدولي والمخابرات المركزية أقلّ نسبيا من تقديرات الصندوق إلاّ أن التراتبية هي نفسها.  فدول البريكس تتفوّق على مجموعة دول الجي 7. فمجموعة دول البريكس تمثل على صعيد الناتج الداخلي 32 بالمائة من الناتج العالمي بينما دول الجي 7 لا تتجاوز 30 بالمائة.  وإذا اضفنا سائر الدول خارج الجي 7 باستثناء نيوزيلاندا (279 بليون دولار) وكوريا الجنوبية (2،9 تريليون دولار) وأستراليا (1،7 تريليون دولار) فيصبح اجمالي الناتج الداخلي لمجموعة الدول الغربية وعددها 10 ما يوازي 56،8 تريليون دولار أي بالتوازن مع مجموعة دول البريكس. غير أن مجموعة دول البريكس وسائر دول الجنوب الإجمالي تمثّل 70 بالمائة من الناتج العالمي.  فثقل الاقتصاد لم يعد في دول الغرب بل انتقل إلى دول البريكس وسائر دول الجنوب الإجمالي التي تمثّل 36 بالمائة من الناتج العالمي.

المشاريع الاقتصادية الثنائية وأو المتعدّد الأطراف بين كل من الصين وروسيا والهند وسائر دول الكتلة الاوراسية ستجعل هذه الدول كتلة اقتصادية لا تستطيع منافستها دول الغرب وذلك بسبب السياسات الاقتصادية التي ستستغلّ الموارد الطبيعية الهائلة المتوفّرة في روسيا وسائر دول الكتلة.  الرهان هو نجاح مبادرة الحزام الواحد الذي يبتغي التواصل الفارق (hyperconnectivity) في البنى التحتية كما في قدرات التواصل والاحتساب والنقل.

ح-القدرات المالية

الإمكانيات الاقتصادية سواء كانت من الثروات المعدنية ومصادر الطاقة أو من القدرة الإنتاجية لدى دول مجموعة البريكس والكتلة الاوراسية وسائر دول الجنوب الإجمالي تنعكس أيضا في القدرات المالية.  ووفقا لإحصاءات اعدّها صندوق النقد الدولي فإن مجمل الاحتياط في العالم من النقود والذهب وصل إلى أكثر من 12 تريليون دولار.  مجموعة دول البريكس تملك أكثر من 4،8 تريليون دولار بينما مجموعة الدول الجي 7 لا تملك أكثر من 1،9 تريليون دولار.  وإذا اضفنا احتياطي كل من استراليا ونيوزيلندا وجنوب كوريا فيصبح اجمالي الدول الغربية لا يتجاوز 2،4 تريليون دولار.  هذا يعني أن مجموعة دول البريكس تملك ضعف احتياط الدول الغربية وإجمالي احتياط دول البريكس وسائر دول الجنوب يمتلك 9،6 تريليون دولار من أصل 12 تريليون دولار.  إذا القدرات المالية موجودة في دول البريكس يضاف إليها دول الخليج العربي ما يجعل التنسيق المالي بينها قوّة مالية لا يستطيع الغرب منافستها.

من جهة أخرى لا بد من التكلّم عن شرايين المال حيث المؤسسات المالية الدولية والتابعة للدول الغربية كانت تتحكّم بحركة رؤوس الأموال في العالم.  لكن حصل تغييرات في تراتبية المؤسسات.  فعلى صعيد المصارف الدولية فإن أكبر أربع مصارف في العالم مصارف صينية تملكها الدولة الصينية وهي بنك الصين للصناعة والتجارة وتُقدر قيمة الأصول ب 5،5 تريليون دولار، يليها بنك اعمار الصين وتُقدّر قيمة الأصول ب 4،7 تريليون دولار، ثم بنك الزراعة وأصوله تُقدّر ب 4،5 تريليون دولار، وأخيرا في المرتبة الرابعة بنك الصين وتُقدّر أصوله ب 4،2 تريليون دولار.  نلاحظ هنا مدى تقارب أحجام هذه المصارف.

المصرف الأميركي الأول في القائمة هو بنك جي بي مورغان شايز ويأتي في المرتبة الخامسة في تلك القائمة وتُقدّر قيم اصوله ب 3،3 تريليون دولار يليه بالمرتبة السادسة المصرف الفرنسي باريبا وقيمة أصوله تُقدّر ب 2،9 تريليون دولار.  أول مصرف الماني هو دويتش بنك ويأتي في المرتبة 22 وتُقدّر اصوله ب 1،49 تريليون دولار.  أول مصرف بريطاني يأتي في المرتبة 24 وهو مصرف باركليز وتُقدّر اصوله ب 1،43 تريليون دولار.  المصارف الفرنسية والسويسرية واليابانية تسبق المصارف الألمانية والبريطانية.  هذه القائمة تدلّ على النظام المصرفي الدولي لا تتصدّره المصارف الغربية التقليدية بل المصارف الصينية.

أما على صعيد المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي ومجموعة مؤسسات البنك الدولي والمصرف الأوروبي للاستثمار فلم تعد هذه المؤسسات تحتكر التمويل الدولي مع ظهور المصرف الاسيوي للتنمية والمصرف الاسيوي للبنى التحتية. ودول مجموعة البريكس تعمل على إيجاد بدائل عن النظام المصرفي الدولي خاصة في منظومة الرسائل المصرفية التي تحتكرها منظومة السويفت.  كما أنها تعمل على إيجاد عملة تداول بديلة لتمويل الصفقات التجارية الدولية بعيدة عن الدولار.  وإلى أن تتفق هذه الدول على صيغة العملة البديلة بدأت هذه الدول التعامل بالعملات الوطنية لتمويل الصفقات التجارية الثنائية مما شكّل بداية التخلّي عن الدولار في تسعير السلع وخاصة النفط والغاز وبالتالي التخلّي عن الطلب على الدولار الذي أعطى للولايات المتحدة امتيازات كبيرة لفرض هيمنتها على العالم.  هذا ما رسخ عن القمّة الافتراضية التي عُقدت في نيودلهي في شهر تموز 2023 بين دول مجموعة شنغهاي حيث تمّ الاتفاق على التخلّي عن الدولار وإيجاد عملة بديلة تستند إلى سلّة من العملات والذهب والاقتصادات وحيث لا تكون عملة دولة واحدة (أي الصين) مسيطرة على التداول الدولي. لذلك يمكن القول إن رغم ريادة الدولار في التجارة الدولية حتى الساعة فإن مكانته في تراجع مستمر حيث انخفضت نسبة الدولار في احتياطات العالم من 80 في بداية العقد الماضي إلى حوالي 60 بالمائة في 2023 والمسار هو على المزيد من التراجع.  وبالتالي تفقد الولايات المتحدة تدريجيا أداة أساسية للهيمنة على اقتصادات وسياسات العالم.  لن يختفي الدولار من الوجود لكنه سيصبح عملة من بين سائر العملات خاصة أن الولايات المتحدة فقدت قاعدتها الإنتاجية وبالتالي لتصدير السلع للعالم كما كان الحال في الستينات من القرن الماضي.

2-القدرات العسكرية لمجموعة دول الجنوب الإجمالي وتفوّق السلاح الروسي

القدرات العسكرية كانت ورقة رابحة للدول الغربية خلال الحقبة الاستعمارية وبعد الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الألفية الثالثة.  لكن كانت هناك ثغرات في البنية العسكرية للدول الغربية كٌشفت عوراتها في بداية الألفية الثالثة في العراق وفي أفغانستان وفي ليبيا وفي اليمن وحتى في الكيان الصهيوني.  وتقييم القدرات العسكرية للمحورين المتصارعين يشمل تقييم العدد، والعتاد، والجهوزية، والأداء.  أما دول العالم الجنوبي بما فيها دول الكتلة الاوراسية وفي طليعتها جيوش روسيا والصين والجمهورية الإسلامية وسورية فقدراتها العسكرية تمّ امتحانها في سلسلة من الحروب التي فرضها الغرب، وخاصة في غرب آسيا.  فصمود الجيش العربي السوري في مواجهة العدوان الكوني على سورية أثبت ان الجيش العقائدي من الصعب هزيمته لأن طبيعة الصراع تحوّلت من صراع في موازين القوّة إلى صراع للإرادات والبقاء.  والجيش العربي السوري وسائر الجيوش والقوى المنخرطة في محور المقاومة أصحاب قضية وليست أصحاب مصالح كما في جيوش الحلف الأطلسي.  لذلك استطاعت قوّات اقل عددا وعتادا من قوّات الحلف الأطلسي أو وكلائه هزيمة قوّات الأطلسي في أفغانستان وفي حروب بالوكالة للأطلسي في كل من اليمن وسورية ولبنان والعراق، وغدا بمشيئة الله في فلسطين.  فأداء دول وقوى محور المقاومة كان قيمة مضافة إلى فائض القوّة لدى روسيا والصين في مواجهة الحلف الأطلسي.  ونضيف إلى ذلك أن أداء قوى محور المقاومة على مدى العقدين الماضين ساهم في استنزاف قدرات الأطلسي ووكلاءه في غرب آسيا وساعد كل من الصين وروسيا في إعادة بناء قوّاتها المسلّحة بشكل نوعي تفوٌّق على نظرائها في الحلف الأطلسي.

أ-العدد

تفيد الإحصاءات المتداولة حول عدد الجيوش أن الجيش الصيني هو أكبر جيش في العالم عددا ويقارب المليونين في الخدمة، يليه الجيش الهندي المقدّر بأكثر من مليون وأربع مائة ألف جندي، والجيش الروسي يأتي في المرتبة الخامسة في العالم وعدده أقل من مليون جندي في الخدمة. أما جيش البرازيل فعدده لا يتجاوز ثلاث مائة وسبعين ألف.  جيش جنوب إفريقيا صغير بالمقارنة ولا يتجاوز عدده أكثر من أربعة وسبعين ألف.  فإجمالي جيوش دول منظومة البريكس يقارب أربعة مليون وسبع مائة وخمسين ألف جندي، ناهيك عن الاحتياط.  نكتفي بجيوش منظومة البريكس لأنها العمود الفقري للدول التي تواجه هيمنة الغرب.  لم ندخل في الحساب جيوش المنظمة الاقتصادية الاوراسية ولا جيوش منظومة مؤسسة شنغهاي، ولا سائر دول الجنوب الإجمالي.  لكن نضيف إلى ذلك قوّات الجيش العربي السوري والجيش الإيراني وقوّت منظمات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن التي تخوض حروبا مع وكلاء الأطلسي منذ أكثر من عشرين سنة.

ب-القوّة النارية والعتاد

غير أن ما عرضته القيادة الروسية من أسلحة متطوّرة لا مثيل لها حتى الساعة هي ما يعطي روسيا تفوّقا ملحوظا في نوعية السلاح.  فتجربة صواريخ القورنيت (kornet) أثبتت فعّالية ذلك الصاروخ في مواجهة الدبّابات الصهيونية في لبنان وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. والأسلحة الروسية الجديدة تشمل الصواريخ الفارقة لسرعة الصوت (او فرط صوتية) كصواريخ كينجال (مدى 2000 كم وسرعة ماك 12 أو 13،500 كم بالساعة) وزيركون (مدى 1000 كم وسرعة 9،000 كم بالساعة) والتي تتمتّع بمزايا الخلسة والمحمولة على قواعد ثابتة ومتحرّكة وفي الجوّ والبحر والتي لا تستطيع كشفها رادارات الحلف الأطلسي وخاصة الأميركية منها.  هذا يجعل اساطيل الأطلسي خردقة عائمة وعواصم الحلف الأطلسي في مرمى نار تلك الصواريخ دون أن يكون لها أي رادع!  هذا السلاح النوعي الجديد يكسر التوازن العسكري بين روسيا واجمالي الحلف الاطلسي لصالح روسيا منفردة فما بال إضافة لها قدرات الصين وإيران والهند.

المقاربة التي يتمّ التركيز عليها هي بين الجيش الروسي والجيش الأميركي كمرجعيات فاصلة لتقييم التسليح والأداء العسكري في آن واحد. الغرب كان يرتكز على فرضية تفوّق الجيش الأميركي “الأقوى” و”الأكبر” في العالم لفرض الهيمنة.  لكن الوقائع لا تشير إلى تفوّق فعلي بل افتراضي فقط مكّنته الالة الدعائية التي تشكّلها هوليوود.  فالأفلام والمسلسلات التلفزيونية ساهمت منذ الحرب العالمية الثانية في تسويق “التفوّق” الأميركي غير أن النتائج على مدى الفترة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا تدلّ على تفوّق ما وحتى نسبي على منافسيها آنذاك واليوم.

ج-الجهوزية العسكرية

ليس هناك من معلومات حول جهوزية الجيش الروسي أو الصيني إلاّ الأنباء عن المناورات المشتركة الضخمة برّا وبحرا وجوّا بين الجيشين وتوحيد القيادات العسكرية ميدانيا.  هذا ما حصل فعليا في 2021 وما زالت الدوريات المشتركة في شرف آسيا قائمة.  كما أن قوّات التدخل السريع لمنظمة الامن المشترك برهنت عن فعّاليتها في اخماد التمرّد في كازاكستان في 2022.

روسيا والصين تتمتّعان ببنية صناعية عسكرية متطوّرة جدا تستطيع الإنتاج السريع وبكلفة متواضعة نسبيا مقارنة مع نظيراتها الأميركية والبريطانية والفرنسية.  فالهدف من هذه البنية إنتاج أسلحة فعّالة وفتّاكة وليس لتحقيق الأرباح للشركات التي تنتجها خلافا لما تقوم به نظيراتها الأميركية والغربية.  هذه البنية الصناعية الروسية برهنت عن فعّاليتها في العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا كما برهنت على جهوزية في مواجهة أي تصعيد عسكري قد يقدم عليه الحلف الأطلسي.  والأخير بنى مخطّطاته على فرضية خاطئة أن القدرة الصناعية في روسيا محدودة ولا تستطيع انتاج الأسلحة والذخيرة بالسرعة المطلوبة لمواجهة الأطلسي.  ما كشفته الاحداث كانت قدرة روسيا على انتاج أضعاف ما تنتجه دول الأطلسي وفي فترة وجيزة وبكلفة أقل.

د-الأداء العسكري في الميدان

الفيصل في الحكم على أداء أي جيش هو الميدان وليس في الحروب بالوكالة كما يفعل الغرب ليتجنّب كلفة الخسارات البشرية والمادية سواء في غرب آسيا أو في اوكرانيا.  الجيش الروسي خاض معارك قاسية ومكلفة بالأرواح والعتادّ في أفغانستان في الثمانينات وفي شيشانيا في العقد الأول من الالفية الثالثة وفي جورجيا وسوريا وأوكرانيا خلال العقد الماضي.  لقد حقّق نجاحات كبيرة في شيشانيا وكذلك الامر في سورية.  ونضيف إلى تلك التجارب تجربة قوّات التدخّل السريع في كازاكستان في 2022 حيث حسم محاولة انقلاب ما سهم في اكتساب الخبرات والجهوزية. أما في أوكرانيا فيحقق النجاحات تلو النجاحات في حرب ليس مع القوّات الأوكرانية فحسب بل مجمل دول الناتو التي تمدّ أوكرانيا بكل ما يلزمها بعد أن قام الحلف بتدريب القوّات الأوكرانية على مدى سبع سنوات منذ 2014.  ويُعتبر الجيش الاوكراني من أقوى الجيوش التي يحشدها الحلف الأطلسي بعد الجيش الأميركي والجيش التركي وقبل الجيش البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي أو البولندي.

هنا لا بد من التوقّف عند تجربة القوّات الروسية التي تمّ إعادة بناءها منذ حقبة التسعينات عندما كانت في حالة ترهّل وألحق بها الهزيمة في شيشانيا في المرحلة الأولى.  عند وصول فلاديمير بوتين كان اهتمامه إعادة الاعتبار للقوّات الروسية فكانت الحرب الشيشانية الثانية. ثم أتت عملية جورجيا غير ان بعد الانقلاب في أوكرانيا انتبهت أن جهوزية القوّات الروسية لم تكن على المستوى المطلوب لمواجهة قوّات اطلسية مدرّبة كما حصل مع اوكرانيا منذ 2014.  لذلك تمّ إعادة هيكلة القوّات الروسية والتشكيلات القتالية منذ 2016 للوصول إلى مستوى الجهوزية التي تريدها.  وحتى مع تلك الجهوزية ارتكبت بعض الأخطاء في بداية العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا لكن سرعان ما تمّ تصحيحها والكفة الميدانية حسمت لمصلحة روسيا وهزيمة الجيش الاوكراني.  الهدف الثاني هو تدمير الجيش الاوكراني تمهيدا لمحو النازية مما سيبقى من أوكرانيا.

العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا كشفت العورات في أداء الأطلسي سلاحا واستراتيجية وتكتيكية واستخباراتية.  بالمقابل استطاع الجيش الروسي التأقلم بسرعة بعد أخطاء ارتكبت في بداية العملية بناء على فرضيات لم تكن دقيقة فاستطاع أن يحوّل الثغرات الى فرص ويفرض ارادته في الميدان رغم كافة محاولات الأطلسي لتعطيل فعّالية الجيش الروسي.  فعند اعداد هذا التقرير فشلت محاولات الهجوم المضاد للقوّات الأوكرانية رغم الرهان على توسيع رقعة التمرّد التي قادها رئيس مجموعة المرتزقة “فاغنر”.   الجيش الروسي ما زال ثابتا في خطوطه الدفاعية وهناك أكثر من 300 ألف جندي جاهزين لدخول أوكرانيا وتحقيق ما تبقّى من اهداف كنزع السلاح الاوكراني والقضاء على البؤرة النازية في كييف.  

أما على صعيد دول محور المقاومة فالأداء العسكري برهن أن الجيش العقائدي يستطيع الصمود حتى لو واجه عدوّا متفوّقا بالقدرة النارية والتكنولوجية.  كما أن العدد يتغلّب على التكنولوجيا عندما تتوفّر الإرادة.  فصراع موازين القوّة يتحوّل إلى صراع الارادات والجيوش العقائدية تمتلك ذلك.  فالجيش العربي السوري رمز لتلك الجيوش وقد برهن عن كفاءة عالية في التمساك امام حجم العدوان الكوني على سورية كما تماسكت كافة مكوّنات الدولة وهذا ما لم يكن في حسبان القوى المتآمرة على سورية.  وكذلك الامر بالنسبة لقوى المقاومة في العراق التي أفشلت المشروع الأميركي كما أفشلت محاولات جماعات التعصّب والغلو المسيّرة أميركيا، وطردت الكيان الصهيوني من لبنان في 2000 وصمدت أمام عدوانه في 2006، والمقاومة في اليمن امام قوى التحالف المدعومة من الحلف الاطلسي، وفصائل المقاومة التي كبّدت العدو الصهيوني في كل من غزّة والضفة وفرضت عليه قواعد الاشتباك وانتزعت منه زمام المبادرة.  وجهوزية هذه القوى بسبب الحرب المفروضة عليها في سورية أصبحت قيد التأهب لأي مواجهة مع الكيان الصهيوني أو مع الحلف الأطلسي.

ه-التكنولوجيا

هناك علاقة عضوية متينة بين مستوى الإنتاج العسكري ومستوى التكنولوجيا.  تاريخيا كانت ضرورات الدفاع أو التوسّع تتحكّم بالإنفاق على البحوث العلمية لاستكشاف تطبيقات عسكرية.  كما أن الاكتشافات العسكرية كانت مصدرا لتطوّر تكنولوجي ساهم في رفع مستوى الإنتاج والرفاهية.  فالإنترنت على سبيل المثال من تداعيات أبحاث التواصل الداخلي لوزارة الحرب في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. والبرنامج الفضائي افضى إلى انتشار آلات الحاسوب المحمول، الخ.  لذلك التفوّق التكنولوجي مرتبط بالتفوّق العسكري والبحوث التي تستدعيه. 

تفيد الدراسات والتقارير العسكرية أن التفوّق التكنولوجي الروسي في مجال السلاح يفوق المستوى الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص بفارق يتراوح بين 10 و15 سنة لصالح روسيا.  كما ان مستوى التكنولوجي في الانشاءات العائدة للبنى التحتية وطريقة العمل فيعود للصين لما أنجزته من تفوّق في القطارات السريعة والمطارات والمرافق العامة.  والتحوّل من التكنولوجيا العسكرية وأو الأمنية إلى الإنتاج المدني والصناعي مسألة قرار وتقدير للقيادات.  فأحكام السوق قد تكون مؤثرة في تسريع التطبيقات المدنية والتجارية خاصة في قطاع المعلوماتية والذكاء الصناعي.  فالعالم يشهد للتفوّق الصيني في برامج الاحتساب والتواصل ك 5 جي على سبيل المثال وليس الحصر.

التطوّر التكنولوجي يستند إلى وجود بنية جامعية متطوّرة في مجال الأبحاث.  فالجامعات الروسية والصينية والهندية تتمتع بإمكانيات متفوّقة على مثيلاتها في الغرب.  فوفقا لدراسة حديثة فإن عدد المهندسين والعلماء المتخرجين سنة 2019 كان 1،38 مليون في الصين بينما العدد كان فقط 197 ألف في الولايات المتحدة.  وتفيد التقارير أن الصين أصبحت تسيطر على قطاع الذكاء الصناعي خلافا للمزاعم التي كانت تقول إنها “وراء” الولايات المتحدة.  إضافة إلى ذلك فإن القوّات المسلّحة الصينية توظّف أهم العقول العلمية بينما لا تستطيع القوّات المسلحة الأميركية منافسة الشركات الخاصة. 

أما بالنسبة لروسيا فالولايات المتحدة اوجدت خططا لاستقطاب العقول الروسية إلى الولايات المتحدة لإضعاف روسيا وإلحاق الهزيمة بالرئيس الروسي.  مجرّد وجود هكذا مخطط يعني أن نوعية العلماء الروس تشكّل نقطة قوّة في موازين القوّة في القطاع التكنولوجي.  ليس هناك من ارقام في الغرب حول كمية ونوعية العلماء الروس لكن من التقارير التي تتحدّث عن استقطاب العلماء الروس يمكن الاستنتاج أن الكمية كافية والنوعية من الطراز الأول.  لكن بين ما تقوم به الصين وروسيا على صعيد البحوث العلمية فيمكن القول إن ميزان القوّة في هذا القطاع يعود إلى كل من الصين وروسيا.  ما يغيب عن بال الأميركيين هو مدى عمق وتجذّر الروح الوطنية في كل من الصين وروسيا وبالتالي هناك شكوك كبيرة حول إمكانية نجاح استدراج العلماء الروس والصينيين إلى الولايات المتحدة بعد حملة شيطنة كما من الصين وروسيا في الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.

3-تماسك الدول بينها وداخلها

من عناصر موازين القوّة لمجموعة دول الجنوب الإجمالي وخاصة لمجوعة الكتلة الاوراسية التماسك الداخلي.  فمعظم هذه الدول مبنية على تنوّع مكوّناتها سواء في روسيا أو في الصين أو في الجمهورية الإسلامية في إيران أو في الهند أو في سورية.  الغرب بشكل عام كان وما زال يراهن على تغذية الهويات الفرعية التي تشكّل بنية هذه الدول عبر “ثورات ملوّنة” في روسيا أو في الصين على سبيل المثال وليس الحصر.  لذلك فإن التماسك الداخلي من أهم عناصر الصمود أمام الإجراءات العدوانية في الاقتصاد والمال وحتى عبر عمليات التخريب والإرهاب.  فكل من روسيا والصين والجمهورية الإسلامية في أيران مرّ بامتحانات صعبة نتجت عن إجراءات عدوانية للمنظومة الغربية في طليعتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.  والتماسك الداخلي في سورية كان أيضا في نجاح الدولة أمام محاولات التفكيك عبر الفتن والتخريب والإرهاب.  وكذلك الامر في فنزويلا حيث حاولت الولايات المتحدة شق الجيش والانقلاب عن الحكم وتعيين شخصية مغمورة للحكم إلاّ أنها فشلت جميعا.

العمود الفقري للتماسك الداخلي في دول الجنوب الإجمالي وخاصة في الوطن العربي هو الجيش الوطني.  حاول الأطلسي تدمير الجيوش العربية أو تحييدها في المواجهة بين الدولة الوطنية والحلف الأطلسي.  استطاع تدمير الجيش العراقي بعد احتلاله للعراق لكنه فشل في تدمير الجيش العربي السوري.  اما في مصر فحتى بعد كامب دافيد ما زالت العقيدة القتالية للجيش المصري تعتمد أن العدوّ الأول لمصر هو الكيان الصهيوني.  الخطة البديلة التي اعتمدها الأطلسي هو إطلاق ما سمّاه بالثورات الملوّنة لتدمير التماسك الداخلي.  حقّق بعض النجاحات وأخفق في مشروعه الأكبر أي الاستثمار في الفتنة السنية الشيعية في غرب آسيا لتحييد المقاومة.  وهنا فشل فشلا ذريعا سواء في سورية أو في العراق أو في لبنان.  فالتهديد بالتفتيت تحوّل إلى فرصة ومن ثمّة إلى قوّة مضافة إلى محور المقاومة في مواجهة الهيمنة الغربية على قطاعات من الوطن العربي.

4-التمسّك بالموروث الثقافي والقيمي وعمق الوعي السياسي في الدول المستهدفة من الغرب

هذا لا يعني أن هذه الدول في الكتلة الاوراسية أو في الوطن العربي أو دول الجنوب الاجمالي خالية من أي احتمالات التفتيت بتشجيع غربي لكنها استطاعت تجاوز محاولات الفتن وذلك بسبب تمسّك المجتمعات بموروثها الثقافي والقيمي والوعي السياسي عند شعوب تلك الدول المستهدفة.  وليس من الصدف أن تكون خطابات المسؤولين في هذه الدول تذكّر شعوبها بموروثها الثقافي والقيمي والأخلاقي في مواجهة مخططّات الغرب لتفكيك المجتمعات.  والتمسّك بذلك الموروث الذي تتماهى معه شعوب هذه الدول يشكّل رافعة للنهوض الداخلي عبر السياسات والمشاريع التنموية التي تطلقها القيادات فتلاقي صدى إيجابيا يعطّل مفاعيل الفتنة.  هذه هي ركيزة مساعي التقارب بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية في إيران التي شجعّتها ورعتها القيادة في الصين وروسيا.  فالتنمية المشتركة أصبحت قاعدة للعلاقة بدلا من التنافس والتناحر على قاعدة مذهبية.

5-قيادات من الطراز الأول

في تقدير عناصر موازين القوّة لا بد من التركيز على نوعية القيادات.  فهي واجهة الدول في الصراعات وفي المشاريع التي تسعى إلى إنجازها.  والتقييم السريع لقيادات دول الكتلة الاوراسية ومعها كتلة دول الجنوب الإجمالي أن قيادات تلك الدول تتفوّق على نظيراتها في الدول الغربية التي ما زالت تزعم انها تقود العالم.  فمن المضحك المبكي مقارنة الرئيس الروسي مع نظيره الأميركي، أو الصيني مع المستشار الألماني، او الهندي مع رئيس وزراء المملكة المتحدة، او الرئيس الفنزويلي مع رئيسة الاتحاد الأوروبي، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.  فهذه القيادات واجهت تحدّيات على الصعيد الداخلي في دولها وعلى الصعيد الخارجي في مواجهة التحالف الغربي ضدّهما ونجحت بشكل بارز وقاطع الانتصار على كافة أنواع الهجوم لعدّة أسباب.

السبب الأول يكمن في المقدرة الشخصية لتلك القيادات في العلم والفهم والحنكة السياسية.

والسبب الثاني يكمن في المصداقية التي تتمتّع بها هذه القيادات داخليا وخارجيا لأنها تفي بوعودها تجاه شعوبها وتجاه العالم وذلك بسبب صلابة الموقف وشجاعة القرار خاصة في قيادات محور المقاومة في غرب آسيا.

والسبب الثالث لأنها أصحاب طرح يستهوي الدول والشعوب.  وهذا الطرح يؤكّد على سيادة الدول واحترام خصوصيتها وعدم التدخّل في شؤون الآخرين.  كما أن الطرح يسعى لإعادة تأهيل العلاقات الدولية على قاعدة القانون الدولي والمعاهدات وقرارات الأمم المتحدة سواء في مجلس الأمن او في الجمعية العمومية، أي على قواعد موضوعية وواضحة يتفق عليها الجميع، وليس على قاعدة الاحكام والقيم التي تريد فرضها الدول الغربية على العالم دون أن تلتزم بها وفقط خدمة لمصالحها.  فالمفارقة واضحة بين دول الكتلة الصاعدة التي تحترم المواثيق والمعاهدات والقانون الدولي وبين الدول الغربية التي تضرب عرض الحائط القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية.  ومن هنا يأتي البعد الأخير للطرح الذي يستهوي الدول وهو أن هدف التعامل بين الدول هو على قاعدة اربح-اربح وليس على قاعدة اللعبة الصفرية حيث الربح عند أي طرف يعني خسارة عند الطرف الآخر.  هذه سمة العلاقة مع الغرب حيث الربح للغرب والخسارة للعالم.

أما قيادات محور المقاومة فخطابها يركّز على التحرير من الاحتلال واستنهاض الأمة والتمسّك بموروثها الثقافي والديني.  هذا يُحاكي وجدان الجماهير العربية التي أصبحت حاضنة كبيرة لخيار المقاومة ضد الاحتلال وضد الهيمنة الغربية.  وهذا يشكّل استكمالا للحركة النهضوية التي انطلقت منذ غزوة بونابرت للمشرق العربي وتعاظمت مع مقاومة الاحتلال في شمال إفريقيا واسست لحروب التحرير في المغرب الكبير وخاصة في الجزائر في القرن العشرين والحادي والعشرين لتحرير فلسطين.

6-برامج سياسية واقتصادية واقعية ولمصلحة الشعوب

مصداقية هذه القيادات تنطلق من خيارات وبرامج سياسية واقتصادية تتفّق مع الموروث الثقافي لتلك الدول والشعوب ومع التطلّعات العائدة لها. العالم يشهد كيف استطاعت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين الخروج من المستنقع الاقتصاد والفوضى في روسيا بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي واستيلاء الاوليغارشية اليهودية الروسية على ثروات البلاد.  في وترة وجيزة أعاد الرئيس بوتين الهيبة إلى الدولة الروسية وقام ببرامج إصلاحية داخلية جعلت روسيا قوّة صناعية لا يُستهان بها وثبّت الاكتفاء الذاتي بالغذاء وأصبحت روسيا من أكبر المنتجين والمصدّرين للحبوب في العالم بعدما كانت “تستأذن” الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة الحصول على الحبوب من كندا.  كراهية الغرب لبوتين تعود لتحقيق تلك الإنجازات الاقتصادية وعودة السيادة للمقدّرات الاقتصادية لروسيا.  وكما جاء في التقرير أعلاه فإن روسيا بثرواتها في الطاقة والمعادن والزراعة والتطوّر التكنولوجي في صناعة الأسلحة استعادت هيبتها كقوّة عظمى.  ما دعم تلك العودة النجاح في القضاء على التمرّد في شيشينا وصد الهجوم الجيورجي في جنوب اوساتيا ودعم الجيش العربي السوري في مواجهة الارهاب والنجاح في اخماد التمرّد في كازاكستان. أضف إلى كل ذلك أطلاق مشروع الوحدة الاقتصادية الاوراسية وصوغ العلاقات المميّزة مع الصين والمساهمة في بناء نظام دولي جديد خارج الهيمنة الأميركية.

هذه التحوّلات في روسيا مكّنت من رفع مستوى المعيشي وكسب دعم الشعب الروسي.  واستند الرئيس الروسي إلى تفاهم عميق مع الكنيسة الارثودوكسية في روسيا ما جعل الكنيسة من أهم داعمي النهج السياسي الروسي الجديد مكرّسة بالتالي التماسك الداخلي.  فالمزيج من القومية الروسية والانتماء إلى الكنيسة الارثودوكسية من أعمدة النظام القائم.  كما أن الرئيس الروسي وفريق عمله حريص على الاستماع لرأي الشعب.  فلما حاول طرح إصلاح في نظام التقاعد سنة 2018 تراجع عند الضغط الشعبي.  استطاع الرئيس الروسي أن يوازن بين مقتضيات التنمية والتطوّر بقيادة مركزية ونهج نيوليبرالي.

أما فيما يتعلّق بالصين، فمعدلات النمو القياسية التي حققتها قيادة الصين خلال العقود الثلاث الماضية مكّنت الصين من رفع أكثر من 300 مليون صيني من مستوى دون خط الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى. فالصين أصبحت تملك أكبر طبقة وسطى في العالم مما يكّرس استقرارها ومما يجعل سوقها الداخلي كاف لاستيعاب فائضها الإنتاجي.  فوتيرة التصنيع المرتفعة جعلت الصين أكبر مصدّر للسلع الصناعية الرخيصة كما جعلت الصناعة الصينية ركيزة أساسية في سلسلة التوريد الصناعي في العالم. فالصناعات العسكرية الأميركية المتطوّرة تحتاج إلى الصناعات الصينية لتطوير انتاجها.  هذا من نتائج العولمة التي استفادت منه الصين إلى أقصى الحدود دون أن تسمح للعولمة تلويث موروثها الثقافي والقيمي الذي يصدّره الغرب ويحاول فرضه على العالم.

النموذج الصيني يكتسب أهمية بسبب نجاحه في تمازج وجود دولة مركزية قوية بقيادة الحزب الشيوعي واقتصاد السوق.  والعبرة تكمن أن القطاعات الاستراتيجية بيد الدولة أو تحت سيطرة الدولة بما فيه القطاع المالي.  فالنظام المصرفي القائم في الصين هو لخدمة القطاعات الإنتاجية وليس لمصلحة إنتاج ثروة افتراضية عبر الأرباح الوهمية خلافا لما يحصل في الولايات المتحدة ودول الغرب عموما.  فالنموذج الغربي ينتج الأزمات بينما النموذج الصيني أنتج الحلول.

الصين ابتكرت فكرة أن نموها الاقتصادي لا يقتصر على التصدير بل على إشراك العالم في تنمية مشتركة.  من هنا كانت مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد الذي يهدف إلى بنى تحتية في الطرق وسكك الحديد لتمكين التواصل الفارق (hyperconnectivity) الذي أصبح من الضرورات في التطوّر التكنولوجي والذي يربط الشعوب بعضها ببعض.  وبالتالي تطال المبادرة دول وسط آسيا كالباكستان وجنوب شرق آسيا، وشرق وجنوب إفريقيا.  المبادرة تشكّل عنصرا أساسيا في تشكيل موازين القوّة الجديدة حيث لم يستطع الغرب حتى الساعة لا نقض المبادرة ولا عرض مبادرة بديلة.  وهذه المبادرة تساهم في طلب العديد من الدول في العالم الانضمام إليها كما إلى الانضمام الي التجمّعات التي تحضن تلك المبادرة كمنظمة شنغهاي، منظومة البريكس، والوحدة الاقتصادية الاوراسية.  في هذا السياق نشير أن عددا كبيرا من الدول العربية انضمت إلى المبادرة. وهذه الدول هي مصر والجزائر وسورية وبلاد الحرمين ودولة الامارات وقطر والكويت والعراق والمغرب.

اما بالنسبة لمجموعة البريكس فهناك أكثر من 40 دولة إما التحقت أو أعربت عن رغبتها في الالتحاق بتلك المنظومة مما سيعطى مصداقية لترويج العملة البديلة عن الدولار كعملة تداول وتمويل المبادلات التجارية.

ثانيا-المستجدات في دول الكتلة الاوراسية

ا-المستجدّات السياسية

أنجزت دبلوماسية دول الكتلة الاوراسية بقيادة روسيا والصين وفيما بعد دول البريكس والجنوب الإجمالي نجاحات ملفتة للنظر حيث دبلوماسية الدول الغربية لم تنجح في تحقيق أي انجاز بل على عكس ذلك في افتعال أزمات عديدة بين الدول بما فيها الدول التي تشمل مجوعة الدول جي 7.  فالنجاحات التي حققتها الكتلة الاوراسية كانت خلال السنة المنصرمة اخماد التمرّد في كازاكستان التي كانت وراءها المخابرات المركزية الأميركية والاستخبارات البريطانية.  كما نجحت الدبلوماسية الروسية في نزع فتيل الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وكما نجحت الدبلوماسية الصينية ضم تركمنستان إلى مجموعة شنغهاي بعدما كانت متحفظة تجاهها. ولا بد من تسجيل الدعم الروسي والإيراني والصيني لفنزويلا في مواجهة الحصار المفروض عليها من قبل إدارة ترامب والمستمرّة مع إدارة بايدن رغم محاولات الأخير لجلب الرئيس مادورو إلى الخانة الأميركية.

ولا بد من الإشارة إلى المبادرة الصينية لحل الأزمة في أوكرانيا أضافة لمبادرة لحل الصراع مع الكيان الصهيوني. والمشروع الصيني لحل الأزمة في أوكرانيا ما زال قائما رغم الرفض المبدئي له من قبل الإدارة الأميركية.  وهناك مبادرة صينية لحوار فلسطيني-فلسطيني لحل الأزمة (السقف هو حل الدولتين وقرارات الأمم المتحدة).  والدبلوماسية ما زالت ناشطة في كل من روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا لحلّ الأزمة في سورية على قاعدة اتفاقات استنا رغم التلكّؤ التركي.

اما الإنجاز الكبير فيكمن في رعاية الصين للتفاهم بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية في إيران.  هذا حدث بمثابة زلزال قلب موازين المنطقة رأسا على كعب.  صحيح أن هذا التفاهم قد تمّ التمهيد له في العراق وبرعاية روسية وعمانية غير أن روسيا أعطت الفرصة للصين لتحقيق ذلك الإنجاز وإعطاء الشرعية لوجودها السياسي في غرب آسيا.  صحيح أنها متواجدة منذ فترة ولكن فقط على الصعيد الاقتصادي ولكن هذا الحدث السياسي بامتياز يدخل الصين كقوّة أساسية في المنطقة.  النتيجة المباشرة كانت في إعادة النظر في هيكلية النظام الأمني في الخليج الذي كان تحت رعاية مباشرة من الولايات المتحدة.  أما اليوم فأصبح برعاية دول المنطقة مدعومة بالرعاية الصينية والروسية.  هذا ما كان توقّعه المؤتمر القومي منذ سنوات في أحلك الأجواء العدائية بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية في إيران ما يؤكّد دقة تقديرات المؤتمر في التوجّهات الجيوسياسية في العالم والإقليم والوطن العربي.

أما على الصعيد العسكري والسياسي فإن العملية العسكرية الخاصة التي شنّتها روسيا في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022 ما زالت تحرز التقدّم على الأرض رغم تدفّق المعدّات والذخائر من دول الحلف الأطلسي لصالح أوكرانيا إلى أن نفذ مخزون ترسانات تلك الدول.  وعند اعداد هذا التقرير فليس في الآفق من أي حلّ سياسي.  فكما تمنّى كل من الاتحاد الأوروبي ومنظمة الحلف الأطلسي فالحلّ سيكون في الميدان.  وحتى الساعة، هذا الحلّ ليس لصالح أوكرانيا ولا الحلف الأطلسي ولا الاتحاد الأوروبي.  لقد أخطّا الحلف الأطلسي في تقديراته لموازين القوّة سواء في الاستخفاف من القدرات الروسية والمبالغة بقدرات أوكرانيا، او في استخفاف التماسك الداخلي في روسيا ومتانة الاقتصاد الروسي حيث كان الرهان على اسقاط بوتين من الداخل.  فسلّة العقوبات التي فرضها الأطلسي والاتحاد الأوروبي على روسيا فشلت فشلا ذريعا بل ارتدّت على دول الاتحاد الأوروبي التي دخلت مرحلة انكماش اقتصادي كبير متلازما مع ارتفاع جنوني للأسعار.  كما أن قرار السطو على الاحتياط النقدي الخارجي الروسي أفقد مصداقية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بأنها ملاذات آمنة للاستثمارات الدولية.

إضافة إلى الفشل العسكري للأطلسي والقوّات الأوكرانية هناك فشل سياسي كبير حيث لم تستطع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اقناع دول الجنوب الإجمالي بالوقوف معها في فرض العقوبات على روسيا.  فالدول الإفريقية ودول اميركا اللاتينية ومعظم دول آسيا بما فيها الدول العربية رفضت الاملاءات الخارجية الغربية عليها مما اعتبر انتصارا دبلوماسيا سياسيا لروسيا.  حاول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اقناع الصين في الابتعاد عن روسيا لكن اتبعتا أسلوب الوعظ والتهديد فكانت النتيجة الفشل الذريع.  من جهة أخرى تحاول الولايات المتحدة تغذية الصراع بين تايوان والصين غير أن الصين تعتبر تايوان جزءا لا يتجزّأ عن الصين بل تعتبر موقف الولايات المتحدة مناقضا لموقفها التقليدي الذي يعترف فقط بجمهورية الصين الشعبية وليس بتايوان.  التوتر المتصاعد في بحر الصين وفي ممرّ تايوان والاحتكاك بين البحرية الصينية والبحرية الأميركية ينذر بمواجهة عسكرية.  غير أن الجهوزية الأميركية غير متوفرة لتلك المواجهة رغم الادعاءات الإعلامية التي لا تستند إلى وقائع ملموسة.  سيستمر الوضع في حالة توّتر دون أن يرتقي إلى مواجهة عسكرية بين الصين والولايات المتحدة.  ومع مرور الوقت تزداد القدرات الذاتية الصينية بمجهودها الخاص وبتحالفها مع روسيا بينما تتراجع القدرات الأميركية مع الزمن بسبب ترهّل الوضع الداخلي في الولايات المتحدة.

ب-المستجدّات الاقتصادية

تستعرض الورقة المستجدات بالنسبة لروسيا والصين فقط لأنها الدول المستهدفة سياسيا واقتصاديا من قبل دول الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.  فطالما كانت الدولتان بخير فإن عالم الجنوب الإجمالي سيكون بخير لأن الارتياح الاقتصادي في كل من روسيا والصين يساهم في دعم مواقف دول الجنوب الإجمالي في مواجهة الهيمنة الغربية.

فعلى الصعيد الاقتصادي قرّرت قمة مؤتمر منظومة شنغهاي للتعاون في اجتماعها الأخير في نيودلهي سلسلة من القرارات التي ستؤدّي إلى تغييرات مفصلية في العلاقات الدولية.  القرار الأول جاء على لسان الرئيس الصيني الذي صرّح عن ضرورة “التخلّي” عن الدولار والعمل بعملة تستند إلى سلّة عملات والذهب.  تفاصيل تلك العملة ستقرّرها قمة دول البريكس التي ستجتمع في جوهانسبرغ في شهر آب/أغسطس 2023.  كما اتخذ القرار بدمج مؤسسة الوحدة الاقتصادية الاوراسية ومنظمة شنغهاي وتبنّي مبادرة الحزام الواحد الطريق الواحد. 

الموقف الثاني كان على لسان رئيس وزراء الدولة المضيفة نارندا مودي الذي اعتبر أن منظمة شنغهاي الجديدة لن تكون أهمّيتها اقلّ من أهمية منظمة الأمم المتحدة.  قد يكون ذلك تمهيدا لفرض إعادة النظر لهيكلية الأمم المتحدة لتأخذ بعين الاعتبار أهمية عالم الجنوب الإجمالي أم التخلّي عن تلك المنظمة إذا ما استمرّ الغرب في عناده والتركيز على منظمة شنغهاي.  هذا موضوع جدير بالمتابعة والسنوات القادمة ستشهد تطوّرات على صعيد المؤسسات الدولية تعكس التغيير في موازين القوّة.

الاقتصاد الروسي يشهد نموّا في الناتج الداخلي (1،2 بالمائة) بعد سلسلة العقوبات ونسبة تضخم مالي (5.7 بالمائة) أفضل نسبيا من التضخم في دول الاتحاد الأوروبي (6.4 بالمائة).  وكانت توقّعات الاتحاد الأوروبي والاطلسي أن تشهد روسيا انهيارا اقتصاديا يؤدّي حتما إلى تغيير النظام.  لكن حسابات الحقل كانت مختلفة عن حسابات البيدر إذا أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة تواجه صعوبات اقتصادية تنذر باضطرابات داخلية كبيرة قد تطيح بالحكومات القائمة.

أما الصين فما زالت تسجّل ارتفاعا في نمو ناتجها الداخلي يقارب 5،7 بالمائة سنة 2022. 

الجزء الثاني-موازين الضعف في تراجع الغرب

يستعرض هذا الجزء عناصر موازين الضعف في المعسكر الغربي لأن ما كان يشّكل عناصر قوّته تحوّل بسبب الانحطاط الحاصل في الغرب على كافة الأصعدة إلى عناصر ضعف قد تكون قاتلة في معظمها ومؤدّية إلى تراجع وأفول في أحسن الأحوال أو إلى انهيار في اسواء الأحوال.  تعتمد هذه الورقة فرضية انه في المدى المنظور فعّالية الغرب في التأثير على مسار الأمور في العالم أصبحت محدودة وستستمر كذلك حتى اشعار آخر.  فمسارات التراجع والافول عديدة تشمل البنى السياسية والاقتصادية والعسكرية والمجتمعية والثقافية بشكل لا يوحي أنه هناك إمكانية لوقف الانحدار.  ما يشهده العالم من تراكم في الاخطاء وسوء التقدير من قبل قيادات الدول الغربية وانسداد الافاق الداخلية لتغيير تصحيحي لسلوك هذه الدول فكل ذلك يعني أن الأخطاء ليست من الصدفة بل نتائج حتمية لانحراف النموذج السياسي والاقتصادي والمجتمعي في الغرب.

فالنموذج النيوليبرالي الذي يتحكّم بذهنية القيادات الغربية أدّى إلى إفراغ الدساتير من مضامينها لمصالح الاوليغارشية التي تحكم هذه الدول.  كما أن النموذج النيوليبرالي أفقد الحيوية الاقتصادية التي كانت مبنية على المبادرة والابداع لصالح نموذج ريعي مالي لا ينتج ويكتفي بالاحتكار لبناء الثروات الخاصة على حساب المواطنين.  والنموذج النيوليبرالي يسعى عبر العولمة إلى تسطيح الفروقات في المجتمعات عبر الغاء المجتمعات وتحويل عناصرها إلى جماعة مستهلكين.  فمقولة مارغاريت تاتشر التي تنفي وجود شيء اسمه مجتمع يتلاقى مع مقولة ميلتون فريدمان عرّاب النيوليبرالية المعاصرة بنفي أي مسؤولية تجاه المجتمع بل فقط تجاه المساهمين في الشركات.  وأهم من كل ذلك نظرة منتدى دافوس الاقتصادي الذي يعتبر أن مكوّنات العالم هم أصحاب المصالح من عمال ومستهلكين ومنتجين دون أي هوية تذكر.  من هنا نفهم الهجوم الممنهج على كافة مكوّنات المجتمع كالأسرة والدين والقيم الموروثة وإحلال مكانها قيم تناهض الموروث الثقافي.  فهذا النموذج الذي يعمّ الدول الغربية هو ما تحاول تصديره للوطن العربي وللعالم غير أن الوطن العربي والعالم يرفض ذلك.  ومن أسباب العداء لروسيا وقيادتها الموقف الثابت والصريح لرفض تلك القيم.  والصراع في أوكرانيا يمكن النظر إليه من هذه الزاوية.

كما أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو لنفي الوجود العربي بهوية جامعة لجماهير موجودة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي واعتباره مجرد مجموعة مستهلكين لا رأي لهم في استخراج الثروات من الطاقة والمعادن والحقول الزراعية إلاّ لمصلحة الدول الغربية.  الصراع له بعده السياسي والاقتصادي كما له بعده الحضاري والأمة العربية ترفض النموذج المخالف لموروثها الحضاري والثقافي والقيمي التي يريد فرضه الغرب عليها.  والسؤال المطروح لدى النخب العربية هل الغرب صديق أم عدو؟  التاريخ يشهد أن الغرب لم يكن في يوم من الأيام صديقا للعرب وللمسلمين وحتى لمسيحيي المشرق العربي وللعالم اجمع وليس هناك من دلالة أن نظرته تغيّرت.  فلذلك لا بد من اعتبار العلاقة مع الغرب بكثير من الحذر والريبة في مقاربة المستقبل.

1-الضعف النسبي في الجغرافيا والسكّان

خلافا لمجمل دول عالم الجنوب وخاصة في الكتلة الاوراسية فإن دول الغرب لا تملك العمق الجغرافي ولا السكّاني الذي تملكه دول الكتلة.  صحيح أن الولايات المتحدة وكندا تملكان مساحة جغرافية تضعها في المرتبة الثانية والثالثة في العالم لكن مساحة الدول الأوروبية أقلّ بكثير من مساحة الدول الإفريقية وأميركا اللاتينية ودول وسط وجنوب وغرب آسيا.  أما على صعيد عدد السكّان فالعدد لا يتجاوز 10 بالمائة من عدد سكان العالم أي حوالي 770 مليون من أصل 8 مليار تقريبا.  فالثقل السكّاني في العالم هو في دول البريكس وعددها 5، وتشكّل 41،4 بالمائة من سكّان العالم أي 3،3 مليار.  ولكن الأهم من ذلك هو أن سكان الدول الغربية بما فيها دول مجموعة الجي 7 شاخت ولا تتجدّد حيث نسبة الولادة أصبحت 1،61 بينما الحد الأدنى للتجدّد هو 2،1.

لا داعي للاسترسال في الحيثيات السكّانية إلاّ أن ما يهمّنا هنا هو أن باستثناء روسيا والصين والبرازيل فإن دول الجنوب الإجمالي هي أفتى من الدول الغربية.  هذا يعني أن الغرب سيواجه شعوبا شابة برمّتها ما يعني أن المستقبل هو لتلك الدول. بالمقابل فإن الدول الغربية لا تستطيع سدّ الثغرات السكّانية إلاّ عبر فتح باب الهجرة للوصول إلى الحدّ الأدنى لنسبة الولادة التي تضمن بقائها.  والهجرة ليست جديدة في الغرب غير أنها ترافقها مشاكل الاستيعاب التي لم تجد لها حلاّ حتى الساعة.  فالاضطرابات الأخيرة في العديد من الدول الأوروبية يعود إلى فشل حكوماتها في حل مشكلة استيعاب المهاجرين والنازحين منذ أكثر من أربعة عقود.

2-الضعف في المواد الأولية ومصادر الطاقة.

العنصر الثاني في ميزان القوّة (وفي هذه الحال ميزان الضعف!) هو فقدان مصادر الطاقة والمواد الأولية لدول الغرب باستثناء الولايات المتحدة وكندا وإلى حد ما استراليا.  فالولايات المتحدة وكندا تنتجان النفط والغاز وتستطيعان تحقيق الاكتفاء الذاتي.  غير أن الولايات المتحدة التي هي أكبر منتج للنفط في العالم تستورد ما يوازي 6 مليون برميل يوميا وتنتج ما يوازي 9 مليون برميل يوميا.

3-ترهّل البنى التحتية مقارنة مع الصين وآسيا

الإيجابيات التي يمكن ان تجمعها بعض الدول الغربية في موضوع الطاقة كالولايات المتحدة وكندا تتبدّد مع ترهّل البنى التحتية وخاصة في الولايات المتحدة.  كندا دولة كبيرة من حيث المساحة ومن حيث الموارد الطبيعة لكن عدد سكّانها لا يتجاوز 40 مليون نسمة وبالتالي تفقد من أي قيمة مضافة توفّرها المواد الخام من معادن أو إنتاج زراعي أو الطاقة.  أما الولايات المتحدة التي تملك المساحة والعدد والمواد الخام ومصادر الطاقة فإن بناها التحتية مترهّلة لتصبح أقّل مما هو موجود في دول الجنوب الإجمالي.  وحتى دول الجنوب الاجمال قد تسبق خلال عقد من الزمن الولايات المتحدة مع الاستثمارات الصينية والروسية في كل من إفريقيا وأميركا اللاتينية والدول الاسيوية.  الولايات المتحدة لم تستثمر في شبكة الطرقات وشبكة سكك الحديد والجسور والمطارات والمرافئ والسدود وشبكات التواصل والمواصلات والمدارس الحكومية منذ الخمسينات من القرن الماضي.  هناك دراسات عديدة تقارن بين شبكة سكك الحديد في الولايات المتحدة وتلك التي اوجدتها في الصين وفي عديد من الدول.  وحتى بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة لديها شبكة سكك حديد أكثر تطوّرا من تلك الموجودة في الولايات المتحدة كاليابان وكوريا الجنوبية وفرنسا وألمانيا وشبكة يوروستار للخط السريع.

أما الجسور فتنهار بشكل متكرّر لفقدان الصيانة.  والمطارات أصبحت عاجزة عن خدمة العدد الكبير من المسافرين سواء على الخطوط الداخلية أو الخارجية.  أما المرافئ فكادت تلزّمها لدول خارجية منها لدولة الامارات لولا تدخّل الكونغرس الأميركي لمنع استثمارات عربية في المرافق الاستراتيجية في الولايات المتحدة.  وهذا الترهّل في البنى التحتية كان النتيجة الطبيعية للقرار المفصلي الذي اتخذته الدولة العميقة في الولايات المتحدة منذ بداية الثمانينات في فك البنية الصناعية.  فمع تراجع الصناعة تراجعت البنية التحتية.  وتراجع البنى التحتية وتراجع المصانع أفقد الولايات المتحدة القدرة على تصنيع الأسلحة والذخيرة للدفاع بل حوّلت الصناعات العسكرية لأغراض عسكرية لا تفيد في الحروب إلاّ لمصلحة شركات التصنيع.  هذا ما كشفته الحرب في أوكرانيا وتورّط الولايات المتحدة كشف عدم جهوزيتها في مواجهة طويلة المدى مع خصم لديه القدرة والإرادة والنفس الطويل.

ترهّل البنى التحتية التي يمكن تفصيلها إلاّ أن المساحة المتاحة لها في هذا التقرير لا يسمح بذلك يساهم بشكل مباشر في إضعاف ميزان القوّة في الولايات المتحدة ويحوّلها إلى ميزان ضعف.  فترهّل البنى التحتية تلازم مع تفكيك البنية الصناعية وتفكيك البنية بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا التراجع في التصنيع والتكنولوجيا ساهم في تكريس عدم الجهوزية لأي مواجهة عسكرية.  هذا التراجع في البنى التحتية جعل أحد الكتّاب المرموقين (اريانا هفينغتون مؤسسة موقع هفينغتون بوسط الواسع الانتشار) بنشر مؤّلف لها سنة 2010 بأن الولايات المتحدة أصبحت دولة عالم ثالث.  فكيف يمكن أن تواجه الولايات المتحدة دولا كالصين وروسيا التي لديها بنى تحتية من الطراز الأول؟  وكيف يمكن أن يكون لها بنية صناعية مع ترهّل البنية التحتية، وبالتالي كيف يمكن أن تقوم بمواجهة عسكرية طويلة المدى مع خصوم لهم كافة الاستعدادات؟

4–برامج سياسية واقتصادية أدّت إلى تفاقم الدين العام والخاص وتمركز الثروة بيد القّلة وفقدان السيطرة على شرايين المال

الترهّل في البنية التحتية لم يأت بفعل الإهمال فحسب بل أيضا بفعل الخيارات السياسية والاقتصادية التي اتخذت والسياسات التي طُبّقت لتنفيذ تلك الخيارات.  التحوّل من نظام رأس مالي صناعي منتج إلى نظام رأس مالي ريعي بامتياز أدّى إلى تفكيك البنية الصناعية والتركيز على أمولة الاقتصاد وتمركز الثروة بيد طبقة الاوليغارشية المالية ومن يدور في فلكها وخدمتها.  فالإحصاءات تشير إلى أن ال 20 بالمائة من أعلى طبقات المجتمع الأميركي تملك 86 بالمائة من الثروة بينما 80 بالمائة من الأميركيين لا يملكون إلاّ 14 بالمائة من الثروة.  وهذه الفجوة تزداد سنة بعد سنة بسبب السياسات الضريبية لصالح تلك الطبقة وعلى حساب الخدمات التي تقدّم لمعظم المواطنين الاميركيين.  هذا يعزّز شعور التهميش لدى المواطن الأميركي ورفض السياسات للنخب الحاكم مما فيها المواجهات مع دول العالم.

هذه القرارات اتخذت بشكل واعي لأن النخب في الدولة العميقة في الولايات المتحدة اعتبرت أن عبر قوّتها العسكرية وسيطرتها على شرايين المال والمكانة الرائدة للدولار تستطيع أن تدير العالم وتخضع الدول لمشيئتها.  غير أن فقدان البنية الصناعية ادّى إلى تراجع في الريادة التكنولوجية ما أدّى إلى انخفاض مستوى فعّالية السلاح والأداء العسكري للولايات المتحدة.  كما أن عبر العولمة وتوطين الصناعات في الخارج أصبحت الصناعات العسكرية الأميركية مكشوفة لدى الدول التي تصنّع عددا من القطع في صناعة الأسلحة.  فالتقارير الصادرة عن عدد من مراكز الأبحاث تشير إلى مدى الانكشاف في الصناعات العسكرية الأميركية تجاه الصين.

التحوّل إلى اقتصاد راس مالي ريعي ساهم في خلف الفقّاعات المتتالية والتي اوجدت سلسلة من الازمات في الأسواق المالية الأميركية والغربية.  فبعد فقّاعة الديون الخارجية في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت فقّاعة الشركة المعلوماتية المعروف بشركات الدوت كوم في التسعينات ثم فقّاعة الرهونات العقارية في 2008 التي ما زالت الولايات المتحدة تعيش تداعياتها.  كما أن جائحة الكورونا ساهمت في تعميق الانكشاف تجاه الخارج عبر إيقاف سلاسل التوريد في الصناعات وحتى في عدد من القطاعات التكنولوجية. 

وإضافة إلى كل ذلك كانت القرارات الخاطئة في فرض العقوبات على كل من الصين وروسيا ما أدّى إلى تعميق أزمة سلاسل التوريد وخلقت نقصا في عرض المواد ما أدّى إلى ضخ الأموال في الأسواق ما خلق موجة تضخمية مالية وارتفاع في الأسعار لا تستطيع ضبطه إلاّ على حساب دخول في انكماش اقتصادي عميق إن لم يكن كسادا يشبه الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي.

ومن مظاهر ونتائج تلك السياسات في التحوّل إلى رأس مالية ريعية غير منتجة اعتماد سياسة الاستدانة على صعيد الدولة وعلى صعيد القطاع الخاص وعلى صعيد الأفراد والعائلات.  فحجم الدين العام تجاوز عتبة ال 31 تريليون دولار عند اعداد هذا التقرير بينما الدين المترتّب على العائلات (معظمها ديون بطاقات الائتمان) تجاوزت 16،9 تريليون دولار.  أما دين الشركات الخاصة فتجاوز عتبة ال 24 تريليون دولار.  لذلك اجمالي الدين في الولايات المتحدة تجاوز 71 تريليون دولار.  وهذه الديون هي ديون مستحقة في آجال مختلفة ولا تأخذ بعين الاعتبار الديون غير المستحقة كمطلوبات الضمان الاجتماعي ولا الخسائر الممكنة للمشتقات المالية المتداولة في البورصات الأميركية التي تقدّر بالكوادريليونات الدولار أي ألاف التريليونات.  إنها أرقام فلكية حقّا لا يمكن تسديدها لأن الناتج الداخلي الأميركي الاسمي لا يتجاوز 23 تريليون دولار.  وكما تمّت الإشارة أعلاه فهذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار القدرة الشرائية المتآكلة بسبب تضخّم الأسعار وتعتمد في تكوينها ليس على الإنتاج الفعلي بل على الأرباح الوهمية في المضاربات المالية والعقارية في تحديد المدخول العام.  فرقم 23 تريليون دولار لا يعكس انتاجا فعليا بل دخلا افتراضيا ناتجا عن المضاربات.  

إضافة إلى كل ذلك تشهد الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية تراجع سيطرتها على شرايين المال وخاصة في السنوات الأخيرة.  فهناك بدائل للدولار يُعمل على انشاءها في دول مجموعة البريكس ما سيفُقد الولايات المتحدة قدرتها على طباعة الدولار دون قيود لتمويل سياساتها الخارجية والقواعد العسكرية والحروب اللامتناهية.  ما سرّع العمل على إيجاد بدائل للدولار الاستسهال في استعمال الدولار كسلاح اقتصادي ومالي.  ومنظومة نقل المراسلات المصرفية المعروفة ب “سويفت” هي الممر الاجباري للمصارف التي تتعامل بالدولار.  فحجب “سويفت” عن المصارف التي لا تخضع لإملاءات الخزينة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي كان دافعا إضافيا لإيجاد نظام مدفوعات بديل عنه وعن الدولار.  فالولايات المتحدة تفقد يوما بعد يوم ما تبقّى لها من أوراق لهيمنتها على العالم ولفرضها قاعدة اللعبة الصفرية حيث الربح لها والخسارة للعالم.

إضافة إلى ذلك التراجع في الحجم الاقتصادي فإن خيار الولايات المتحدة ومعها بريطانيا في الخروج من الحقبة الصناعية إلى حقبة الخدمات أفقد قدرتها على التحكّم بالاقتصاد العالمي.  فإعادة قاعدة توطين الصناعات التي كانت المصدر الأساسي للقوة الاقتصادية في الغرب إلى دول في عالم الجنوب الإجمالي ساهم في نمو هذه الدول كما ساهم في إضعاف الدول الغربية.  واليوم نرى آخر دولة صناعية كبيرة تدخل عصر ما بعد التصنيع وهي المانيا بسبب انقطاع مصادر الطاقة الرخيصة لتشغيل مصانعها.  وانقطاع مصادر الطاقة من الغاز الروسي هو نتيجة الحرب في أوكرانيا بعد ما نسفت الولايات المتحدة انابيب الغاز نورستريم 1 و2 لمنع أي تفاهم بين روسيا وألمانيا من جهة.  أما السبب الثاني فهو التوجه لتفكيك البنية الصناعية كسياسة يروّج لها الأحزاب الخضر في التحالف الحكومي ما سيفقد المانيا دورها الريادي في أوروبا.  هذه التوجهات أضعفت بشكل مباشر قدرات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على التأثير في الاقتصاد العالمي كما اثّر بشكل مباشر على الاستفادة من بنية صناعية تستطيع مواكبة مقتضيات الحروب التي يريد الغرب شنّها على خصومها.  فالحرب في أوكرانيا كشفت عورات البنية الصناعية الغربية في تزويد الترسانات الغربية من عتاد وذخيرة. فكيف يمكنها أن تشن حروبا على روسيا مباشرة، والصين، وإيران على سبيل المثال وقدراتها العسكرية أصبحت محدودة بسبب حدود الإنتاج الصناعي العسكري؟

الخيارات والسياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة ومن خلالها دول الاتحاد الأوروبي أدّت إلى تحييد أو تبديد ما تبقّى من موازين قوّة كانت تتمتع بها في القرن الماضي. فالمملكة المتحدة هي في مرحلة ما بعد التصنيع وألمانيا ستدخل بدورها في مرحلة تفكيك بنيتها الصناعية تلبية لرغبة الأحزاب الخضر التي تسيطر على التحالف الحكومي والتي فرضت القطيعة مع الغاز الروسي عبر الانخراط في سلّة العقوبات المفروضة على روسيا.  فتبديد هذه العناصر التي كوّنت مصادر القوّة للولايات المتحدة تجعلنا نستذكر الآية القرآنية في صورة الحشر: “وظنّوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله فأتاهم الله من حيثُ لا يحتسبوا وقذفَ في قلوبهم الرعبَ يخرّبون بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار” (2).  فكيف يمكن للولايات المتحدة ومعها دول الاتحاد الأوروبي مواجهة التحدّيات السياسية والاقتصادية والعسكرية لكل من الصين وروسيا وسائر دول الجنوب الإجمالي؟

5-التصدّع داخل المعسكر الغربي.

التصدّع داخل المعسكر الغربي ليس بجديد وقد ورد ذلك في التقارير السابقة للمؤتمر القومي العربي وللأمانة العامة.  إلّا أن القرارات التي اتخذت من قبل المعسكر الغربي في مواجهة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا أظهرت إلى العلن التصدّعات بين دول الحلف الأطلسي كما بين دول الاتحاد الأوروبي مع مؤسسة الحلف الأطلسي ومؤسسة الاتحاد الأوروبي.  من جهة أخرى هناك تصدّعات بين دول الاتحاد الأوروبي والأطلسي وتصدّعات داخل هذه الدول.

لذلك نرى دولا كفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة تحكمها نخب منقطعة عن قاعدتها الشعبية فتتخذ قرارات غير شعبية خاصة في الاستغناء عن الغاز الروسي وفي الانخراط في الحرب الأوكرانية ضد روسيا.  وتواجه حكومات تلك الدول استحقاقات انتخابية في الأشهر القادمة قد تطيح بها وتأتي بحكومات تأخذ قرارات معاكسة ما يفاقم التصدّع مع الاتحاد الأوروبي والأطلسي.  فالنخب الحاكمة في معظم هذه الدول تلتزم بتوجيهات منتدى دافوس الاقتصادي الذي يدعو إلى التخلّص من النفط والغاز واعتماد مصادر أخرى للطاقة ما أدّى وسيؤدّي إلى تفكيك البنى الصناعية وإلى افقار المجتمعات الغربية.  كما أن الضرائب المفروضة على كاهل المكلّف الأوروبي لا تستقيم مع نوع الخدمات التي يتلقّاها المواطن الأوروبي ونظيره الأميركي.

من جهة أخرى نجد ان الانقسامات الداخلية العائدة للهويات الفرعية تهدّد تماسك المجتمعات الغربية كما يحصل في بلجيكا بين الجالية الفرنسية والجالية الفلمنكية، او في فرنسا بين اليمين المتطرّف والجاليات العربية والإسلامية وما يواكبها من أعمال شغب.  فهذه الاعمال انتقلت إلى بلجيكا وحتى سويسرا وموجودة في إيطاليا وبولندا والدول الإسكندنافية. وموجات الاضطراب انتقلت إلى المملكة المتحدة حيث النزعات الانفصالية في اسكتلندا عن المملكة المتحدة تتفاقم.  أما في المانيا فنشهد صعود حزب الأ أف دي البديل عن تحالف حزب الخضر والحزب الاشتراكي والحزب المسيحي الديمقراطي.  فأين ما يتجه المرء يرى الانقسامات الداخلية في الدول الأوروبية ومع بعضها ببعض ومع مؤسسات الاتحاد الأوروبي تنذر بانفجار الوضع الداخلي وانهيار الاتحاد.  وهذه الانقسامات الداخلية تؤثّر على العلاقات الثنائية.  فحالة العلاقة الفرنسية البريطانية متردّية، وحالة العلاقة الفرنسية الإيطالية متفجّرة بسبب سياسة الهجرة المتبعة في فرنسا والتي تعارضها إيطاليا، والعلاقة بين بولندا وألمانيا على وشك الانهيار بعد تجدّد مطالب بولندا بالتعويضات عن الحرب العالمية الثانية (أكثر من تريليون دولار!).  فليس هناك من وحدة حال بين دول الاتحاد الأوروبي وليس هناك من توافق على سياسات الاتحاد الأوروبي.  فالمجر في حالة تمرّد على قرارات الاتحاد فيما يختص بالعقوبات على روسيا فتعتبرها عبثية وغير واقعية.

أما في الولايات المتحدة فعناصر الانقسام العامودي تهدّد وحدة الدولة الاتحادية.  ولقد ذكرت التقارير السياسية السابقة التي قدّمت للمؤتمر القومي العربي عناصر الانقسامات فلا داعي لتكرارها بل فقط للتذكير بها والتأكيد على تفاقمها.  لم يّحسم الصراع بين مناوئي الدولة العميقة التي يترأسها الرئيس السابق دونالد ترامب ومعه المرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت كندى جونيور وبين أركان الدولة العميقة التي تمثّلها قيادات الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. فهناك تفاهم غير معلن بين الحركة الشعبوية المحافظة التي بقودها ترامب والحركة الشعبوية اليسارية التي بقودها كندي.  هذا يعني أن الصراع مع الدولة العميقة سيشتد وقد يأخذ منحا عنيفا.

أضف إلى ذلك ثقافة الووك التي تروّجها إدارة بايدن تصطدم مع الموروث الثقافي والقيمي للمجتمع الأميركي خاصة فيما يتعلّق بالقيم الاجتماعية وحقوق الأقليات كالمثليين والمتحوّلين الجنسيين.  وثقافة الووك ناتجة عن مصطلح “صحوة” في اللغة الإنجليزية مفاده التيقّن إلى الظلم الذي أصاب الاقلّيات عبر القرون الماضية وخاصة فيما يتعلّق بالسود.  وامتدّت هذه “الصحوة” لضمّ كل الاٌقلّيات العرقية والدينية ومؤخّرا الجنسية التي تتصدّر اليوم القائمة.  فاي نوع من التمييز مرفوض بما فيه التمييز بين الرجل والمرأة ليس في مجال الحقوق والموجبات فحسب بل حتى في التعريف والتمييز بين الجنسين.  فهناك مطالبة من قبل مروّجي تلك الثقافة لمنع الوعي بالجنس عند الأطفال حتى يبلغوا سن الرشد فيختاروا عندئذ الجنس الذي يريدونه!  وامتداد ثقافة الوك الى المدارس وفرضها على الأطفال أدّت إلى دق ناقوس الخطر.  ومن يعارض تلك التوجّهات فيُتهم بالعنصرية أو نفي العلم أو حتى العمالة لصالح روسيا!  فثقافة الاقصاء أصبحت القاعدة والهجوم على الحرّيات العامة وخاصة حرّية التعبير أصبحت من سمات إدارة بايدن.  كل ذلك ينذر بانفجار كبير في الولايات المتحدة.

من مظاهر التصدّع بين “الحلفاء” التدخّل الأميركي في شؤون الاتحاد الأوروبي.  حاولت الإدارة الأميركية بالتوافق مع بعض المسؤولين في الاتحاد فرض اقتصادية أميركية ككبيرة الاقتصاديين في مؤسسة الاتحاد.  كان الامتعاض واضحا من قبل عدد من القادة الأوروبيين ما اضطرت الاقتصادية الأميركية سحب ترشيحها. ظاهرة أخرى هي رفض الرئيس الأميركي ترشيح وزير الدفاع البريطاني لمنصب امين عام الحلف الأطلسي.  فهو يفضل “امرأة” انسجاما مع ثقافة الووك الذي يعتمدها في بلاده وطرح ترشيح اورسولا فان در لاين رئيس لجنة الاتحاد الأوروبي.  وحادثة أخرى موقف الرئيس الفرنسي من الاملاءات الأميركية في فرض الغاز الأميركي بعد نسف خط الانبوب نورستريم.  فهناك احداث كثيرة تشير أن الوحدة الظاهرة لقيادات الأطلسي والاتحاد واجهة فقط لا غير لا تخفي عمق التصدّعات. الاستحقاقات الانتخابية القادمة ستظهر قوّة القوى الشعبوية الأوروبية الرافضة للإملاءات الأميركية التي تسبب الكوارث الاقتصادية والسياسية للأوروبيين.

هذا التصدّع هو ما منع اتخاذ مواقف سياسية تؤدّي إلى إيقاف الحرب في أوكرانيا التي اثبتت أنها مصلحة أميركية تدفع ثمنها أوروبا.

6-الجهوزية العسكرية الأميركية وضعف فعّالية السلاح الغربي في الميدان ونفاذ الذخائر في الترسانات الغربية والاميركية

 لفترة طويلة وربما حتى الساعة يعتبر الكثيرون أن العنصر الأساسي في تحديد موازين القوّة هو القدرات العسكرية والجهوزية العسكرية.  واستطاعت الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية تكريس تلك النظرية لتثبيت التفوّق الأميركي والغربي على العالم اجمع.  غير أن ما كان صحيحا في الماضي وحتى مطلع الألفية الجديدة لم يعد صحيحا اليوم.  فالتفوّق العسكري للولايات المتحدة وللدول الغربية لم يعد قائما بل ربما السجل يدل على مسار انحداراي منذ الحرب العالمية الثانية.  والملاحظة الثانية هي أن التفوّق العسكري له إيجابيات ولكنه ليس شرطا كافيا كما أظهره فشل “التفوّق” العسكري في الحرب الكورية في مطلع الخمسينات، وكما كرّسته خسارة فرنسا لمستعمرتها في الفيتنام في منتصف الخمسينات، وكما أكّدتها الهزيمة النكراء للولايات المتحدة في الفيتنام في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.  والهزيمة تكرّرت في أفغانستان وقبل ذلك في العراق فيما يتعلّق ب “التفوّق” العسكري الأميركي على خصومها.  لكن بالمقابل نسجّل لذلك “التفوّق” احتلال جزيرة غرناطة في بحر الكاريبي المنزوعة من السلاح ومن قوّات عسكرية في منتصف الثمانينات.  كما نسجّل الخروج السريع من لبنان في 1983 ومن الصومال.  فالولايات المتحدة عاجزة عن دفع ضريبة الدم خاصة بعد حرب فيتنام.

أما المغامرة الأخيرة التي وقعت فيها الولايات المتحدة ومعها كافة مكوّنات الحلف الأطلسي هو مواجهة روسيا دون أي تحضير ودون أي تخطيط لكافة الاحتمالات العسكرية في الميدان.  لم تتوقع القيادات إطالة العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا بل كانت تتوقّع انهيار روسيا في بضعة أسابيع بسبب العقوبات الاقتصادية.  لذلك لم تحتسب قوّات الأطلسي وعلى راسها الولايات طبيعة المعركة ومعرفة الخصم والاحتياجات في العدد والعتاد والذخيرة.  كما أن المعلومات عن الخصم كانت خاطئة ولم تحتسب للإمكانيات لدى روسيا.  كما لم تحتسب ما يمكن أن تجهزه من معدّات وذخيرة إذا ما طالت الحرب.  فلا التخطيط ولا الاستخبارات ولا التدريب كان متوفّرا لدى القوّات الأطلسية ما يجعل مسؤولية الأميركيين على المحكّ.    ف “التفوّق” العسكري الأميركية والغربي هو فقط على شاشات التلفزيون وأفلام هوليوود الدعائية التي أصبحت قاعدة معرفة “الخبراء” العسكريين والسياسيين في الاعلام الغربي كما أوضحه الخبير العسكري الروسي الأصل اندري مرتيانوف.

أما فيما يتعلّق بالقدرات العسكرية فهناك آراء متعدّدة حول العتاد الموجود لدى جيوش العالم فيما يتعلّق بالعدد وبالنوعية.  فالأرقام الحقيقية غير متوّفرة لأنها من الأسرار العسكرية الاّ أن ما هو متداول ويحظى بحد أدني من التوافق كي لا نقول من الإجماع فهو أن الولايات المتحدّة تملك “أحسن” الأسلحة و”افتكها” وأن قوّتها النارية تفوق على جميع الدول في العالم.  ونضع هذه التصنيفات بين مزدوجين لأنها استنسابية ولا تستند إلى مقاربات موضوعية وخاصة بعد اختبار الأسلحة في حروب حقيقية طويلة المدى وفي مناخات وبيئات جغرافية متعدّدة وصعبة كالجزيرة العربية واليمن وسورية ولبنان.  فبالنسبة لدبّابات “برادلي” على سبيل المثال التي تٌعتبر درّة الدبابات الأميركية فأداءها في الحرب الأوكرانية كشف عيوبا كثيرة.  أما طائرة الاف 35 درّة الطيران الحربي الأميركي فالعيوب فيها أكثر من أن تحصى.  لذلك لا داعي للاسترسال في نوعية التسليح والقوّة النارية. 

هناك معلومات حول الجهوزية النسبية الأميركية كما جاء على لسان رئيس هيئة الأركان القوّات المسلّحة المشتركة الأميركية.  فمارك ميلي أدلى بشهادة امام الكونغرس الأميركي لدى تولّيه منصب رئاسة هيئة الأركان المشتركة سنة 2019 أن جهوزية القوّات المسلّحة الأميركية لا تتجاوز 40 بالمائة وأن طموحه في مهامه الوصول إلى 60 بالمائة سنة 2024.  فحتى ذلك الهدف لا يؤهّل القوّات الأميركية مواجهة الجيش الروسي أو الصيني أو حتى الإيراني.  المحاكات الدورية التي تقوم بها بمراكز الأبحاث ودوائر البنتاغون تعترف بأن أي مواجهة مع أي من تلك الدول ستنتهي ب “تقهقر” (rout) القوّات الأميركية.  هذا يعني أن في موازين القوّة العامل العسكري ليس لصالح الولايات المتحدة أو الأطلسي بل لروسيا والصين.

ما يؤكّد نسبية الجهوزية العسكرية الأميركية هو التقارير الدورية التي تصدرها معهد هريتاج فوندشن المرموق.  ففي شهر شباط كل سنة يصدر المعهد تقييمه السنوي لجهوزية وأداء القوّات المسلحة بمختلف فروعها أي القوّات البرّية والجوية والبحرية وقوّات المارينز.  خلاصة هذه التقارير أن جهوزية جميع هذه الفروع “هامشية” (marginal) في أحسن الأحوال ولعدّة أسباب تعود للإهمال وقلّة الكفاءات على صيانة المعدّات والكلفة الباهظة لإنتاج تلك الأسلحة التي يبرهن الميدان أنه ليست بالمستوى المطلوب لمواجهة سلاح متطوّر ومتناسبة مع حاجات الميدان وجيش عقائدي ملتزم.  فالأنباء مليئة بأخبار عن أخفاقات “تقنية” للطائرات المتطّورة كدرّة التاج طائر أف 35 التي أصبحت قيادة البنتاغون تموضعها في مواجهة سلاح الدفاع الجوّي الروسي.  كما أن هناك إخفاقات في أداء الدبابات ومنظومة الباتريوت.  ليس هدف الورقة تقييم السلاح الأميركي الذي أظهر محدودية فعّاليته في الجزيرة العربية وفلسطين واليوم في أوكرانيا بل للإشارة أن الجهوزية العسكرية الأميركية غير متوفرة.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار تفكيك البنية الصناعية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا فإن قدرة هذه الدول على إنتاج السلاح والذخيرة بالسرعة التي تفرضها مقتضيات الحروب المعاصرة، فهذه القدرة برهنت عن محدوديتها في الحرب الأوكرانية حيث أجمعت القيادات الأميركية والغربية على الاعتراف بنفاذ مستودعاتها في الأسلحة والذخيرة.  فعن أي جهوزية يمكن التكلّم عنها؟

الانفاق المالي الأميركي على التسليح الباهظ والذي يفوق اجمالي الانفاق العسكري للعديد من الدول بما فيها الانفاق في روسيا والصين يدّل على مدى الهدر وعدم الكفاءة للصناعة العسكرية الأميركية.  فتلزيم صناعة السلاح للشركات الخاصة أفضى إلى التضحية بمنسوب الكفاءة والفعّالية والكلفة لصالح مصلحة الشركات التي همّها الأول والأخير الأرباح وليس جدوى السلاح.  لذلك أصبحت كلفة الإنتاج مرتفعة جدا دون مردود عسكري يعكس مدى الانفاق ما أدّى إلى ضرورة ترويج وتسويق ذلك السلاح لدى البنتاغون والكونغرس الأميركي.  لذلك نرى العلاقة غير الطبيعية بين قيادات وزارة الدفاع والشركات التصنيع لترويج تلك الشركات للحصول على عقود كبيرة.  بالمقابل يصبح العديد من القيادات في البنتاغون مسؤولين في تلك الشركات.  فعلى سبيل المثال فإن وزير الدفاع الأميركي الحالي لويد استن كان لواء في البنتاغون قبل أن يتقاعد وعند تقاعده حصل على مقعد في مجلس إدارة رايثيون التي تصنّع منظومة الباتريوت.  واليوم عاد الى البنتاغون كوزير للدفاع!  لذلك يمكن القول إن الأرقام الفلكية التي تصرفها الحكومة الأميركية على التسليح ليست دليلا على فعّالية السلاح المنتج بل على مدى الهدر والفساد القائم.  فالسلاح الروسي لا يقل كفاءة عن السلاح الأميركي وكلفته جزء بسيط مقارنة مع نظيره الأميركي.  ونضيف أن الترسانة الأميركية لا تملك الكثير من السلاح التي تملكها روسيا خاصة فيما يتعلّق بالصواريخ الفارطة للصوت وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.  وعلى صعيد الحرب السيبرانية فالقدرات الأميركية والغربية ليست متفوّقة على القدرات الروسية والصينية كما تبيّنه وسائل الاعلام يوميا. 

هذا لا يعني أن الولايات المتحدة خالية من قدرات نارية.  فهي تستطيع تدمير المعمورة الاف المراّت.  لكن هذا الفائض من القوّة النارية لا تستطيع الولايات المتحدة أن تحوّله إلى قيمة مضافة توظّف في السياسة وفي الاقتصاد.  فهناك جسم عملاق صاحب حركة بطيئة ومحدودة ولا يستطيع أن يؤثّر في مسار الأمور كما يريد.  هناك قدرة على التخريب والتدمير ولكن ليس هناك قدرة على ترجمة تلك القدرات إلى إيجابيات رغم عدد القواعد العسكرية وضخامة الاساطيل والسلاح المتوفر لديها.  اليوم لا تستطيع الولايات المتحدة شنّ الحروب بسبب فقدان القدرات العسكرية اللازمة، ولا تستطيع صوغ تسويات لأن ليس لديها ما تقدّمه وليس لديها قدرة على التنازلات التي تفرضها التسويات، وأهم من كل ذلك لأنها لا تكترث لمصالح أطراف التسوية طالما كانت محكومة بقاعدة اللعبة الصفرية حيث الربح لها والخسارة للآخرين.  والتجربة تدلّ أن أي “تسوية” أو “أتفاق” تتعهد به فهي على استعداد لنقضه عند أول فرصة ممكنة لأنها تعتبر نفسها صاحب استثنائية يعفيها من أي التزام.  فكيف يمكن التفاهم معها؟

7-ضعف القيادات في أوروبا والولايات المتحدة والخروج عن القانون (مصادرة أموال الدول، وانتهاك قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي)

في تقديرنا العنصر ربما الأهم في تحديد موازين القوّة أو بالأحرى موازين الضعف في الغرب هو نوعية القيادات السياسية والعسكرية المسؤولة عن إدارة الدول والحروب. وهذا الضعف هو في شخصية النخب الحاكمة وأو الطامحة للحكم في تلك الدول التي يحكمها نموذج سياسي اقتصادي لا يمكن إلا أن يفرز ذلك النوع من القيادات الرديئة.  فما يُسمّى بالعملية الديمقراطية التي تأتي بهؤلاء إلى السلطة يسيطر عليها المال في انتقاء الأشخاص وبالتالي الخيارات والسياسات العبثية التي أوصلت الغرب إلى حالة التراجع فالأفول والاحتضار تمهيدا للانهيار الكامل.  فالولاء هو للمال ولصاحب المال وليس للناخب.  أزمة النخب تعكس ازمة النظام المسمّى بالنظام الديمقراطي والذي يستوجب نقاشا حول جدواه ولكن ليس في هذا التقرير الذي يعبّر عن تقدير موقف.

رداءة النخب الحاكمة في السياسة والاقتصاد والعسكر جعلت دول الغرب تخسر مكانتها في العالم بعدما كانت تسيطر عليه.  فلا نجاحات سياسية واقتصادية وعسكرية بل إخفاقات متتالية تتوّجها انحدارات في القيم والأخلاق التي تمثّلها ثقافة الووك والتي تروّجها ادبيات ومخرجات منتدى دافوس التي تسعى إلى إعادة هندسة العالم وفقا لمعايير تتناقض مع الموروث الثقافي للمجتمعات.

من جملة القرارات التي افقدت المصداقية لدى دول الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي قرار مصادرة أموال الاحتياط النقدي لروسيا.  فلمّا يتمّ السطو على أموال أكبر دولة نووية في العالم في سياق خارج عن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة فهذا يعني أن أوروبا والولايات المتحدة لم تعد ملاذات آمنة للأموال الخارجية المستثمرة في اقتصادات تلك الدول. هذا القرار كان دافعا أساسيا في تسريع البحث عن بدائل للدولار في مجموعة دول البريكس وتحويل اتجاهات الاستثمار نحو آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية بدلا من أوروبا والولايات المتحدة.  سوء التقدير عند النخب الغربية الحاكمة أمر قاتل وهو على جميع المستويات في السياسة والعسكر والاقتصاد والامن وحتى البيئة التي يزعمون الحرص عليها.

8-ثقافة متراجعة وانحطاط أخلاقي وتفشّي الفساد

تراجع مستوى النخب الحاكمة يتلازم مع تراجع مستوى الثقافة وازدياد الانحطاط الأخلاقي داخل المجتمعات الغربية وفي العلاقات الدولية.  والعنوان المشترك لهذه الظواهر هو الفساد المتفشّي في أجهزة السلطة والقضاء والجامعات وفي الأسواق وبطبيعة الحال في مصنع الثقافة المعاصرة الذي هو الاعلام المرئي والمسموع وخاصة عالم السينما والتلفزيون.  ليست مهمة هذه الورقة تفصيل معالم الفساد في هذه الدول لضيق المساحة المتاحة بل تكتفي بالإشارة لها كعامل أساسي في رحلة التراجع فالأفول والانهيار القادم للغرب.  وليس في الأفق ما يبعث الامل في إمكانية اجراء تغيير عبر العملية الديمقراطية لان المال أصبح المسيطر عليها ويأتي بمن يلبّي مطالب أصحاب المال.

هناك دراسات عديدة حول مدى الفساد في الولايات المتحدة في الدولة، في القضاء، في البنتاغون، في الجامعات، في الاعلام الذي لم يعد معنيا بنقل الوقائع بل فقط لترويج سردية تخدم فقط الاوليغارشيات المالية والمصالح الخاصة.  ففضيحة الاعلام في عدم فضح فساد عائلة الرئيس الأميركي بايدن قبل الانتخابات وبعدها أحد الدلائل العديدة عن ذلك الفساد.  كما أن تغطية الحرب الأوكرانية كانت خلافا لسير الأمور في الميدان ما جعل الكثيرون في الولايات المتحدة يعتقدون أن أوكرانيا بلد ديمقراطي (لا إشارة إلى الغاء الأحزاب والصحافة المعارضة للحكم!).

وربما أهم مظاهر الفساد في الاعلام وفي السياسة هو ازدواجية المعايير في تقييم الاحداث.  فالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا “احتلال غير مبرر”، بينما احتلال أجزاء من سورية “تحرير ونصرة أقليّات”.  واحتلال العدو لفلسطين “دفاع عن النفس” والعقوبات على الصين “إجراءات لضبط عدوانية الصين” الخ.  أما شتيمة الإسلام ورموزه فهو يؤكّد حرّية التعبير بينما انتقاد الكيان وجرائمه هو
“خطاب الكراهية”.  والقرار الأخير للاتحاد الأوروبي لمنع عودة النازحين السوريين إلى سورية يؤكّد ازدواجية المعايير حيث لا قاعدة قانونية ولا منطق سياسي ناهيك عن منطق انساني لذلك القرار. الفساد هو مفتاح سلوك وقرارات الدول الغربية وهذا ما يجعل معظم دول العالم وخاصة عالم الجنوب الاجمالي يبتعد عن الغرب ويرفض الاملاءات.

الفساد يضعف القدرات على المواجهة لأنه يفرغ الدول من مقوّمات الصمود أو الدفاع.  والغرب الذي ينخره الفساد فقد القدرة على التحكّم بالعالم.  كيف يمكن الوثوق بدول تنخرط بحروب دون أي تخطيط لها ودون أي تحضير لاحتمالات نتائج عكسية لولا الفساد الذي يعمّ في الدوائر المعنية في صنع القرار؟  وكيف يمكن الوثوق بما تقوله وحتى الاتفاقات التي تعقدها وهي جاهزة على نقض كل ذلك عند أول مفرق أو فرصة؟  فالكذب “دبلوماسية” ليس إلاّ!

نتائج اختلال موازين القوة في الغرب

الدافع الأساسي للسياسية الخارجية الأميركية منذ 1992 هو تثبيت القطبية الأحادية بعد تفتت الاتحاد السوفيتي.   ولم تكن الولايات المتحدة صادقة في تنفيذ وعودها التي قطعتها لغورباتشوف بالنسبة لعدم تقدّم الحلف الأطلسي شرقا وذلك لضمان خروج قوّات حلف وارسو لتوحيد المانيا.  فكان التوسع شرقا متلازما مع حقبة نهب المرافق الاقتصادية للاتحاد السوفيتي على يد الاوليغارشية اليهودية الروسية.  كما أن خطّة تدمير روسيا وضعها زبغنيو برجنسكي في مقال شهير له في مجلّة “قورين افيرز” سنة 1997.   أداة تلك السياسة هو الحلف الأطلسي الذي تمّ توسيعه شرقا للوصول إلى حدود روسيا.  والخطوة الثانية كانت تفتيت روسيا تمهيدا لمحاصرة الصين وتفتيتها. 

غير أن وصول بوتين إلى الرئاسة أفشل مخططات الأطلسي وأنذر منذ 2007 في مؤتمر الأمني في ميونيخ بضرورة التخلّي عن القطبية الأحادية واحترام حقوق الدول وإيقاف توسّع الأطلسي شرقا لأن ذلك يهدّد الأمن القومي الروسي.  فالأمن لا يتجزّأ ولا يمكن تحقيق أمن دولة ما على حساب دولة أخرى.  فأمن أوروبا لا يكون على حساب روسيا وأن الأخيرة يجب أن تكون شريكة في الهيكلية الأمنية المطلوبة.  لكن لم تكترث الولايات المتحدة لنداءات بوتين واعتبرت أنه لا يستطيع إيقاف المشروع الأطلسي.  فكانت العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لإجبار حكومة فلوديمير زيلنسكي على التفاوض.  وبالفعل في شهر نيسان قبل زيلنسكي التفاوض وتم التوافق على تسوية.  لكن التدخل الأطلسي بإيعاز أميركي وعبر رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسن أفشل الاتفاق.  الأطلسي أراد الحرب ظانّا بإمكانه هزيمة روسيا.  إلاّ أن فشل نموذج الأطلسي الذي يتطلّب التوسّع الدائم والحروب دائمة في أوروبا لأجيال قادمة وصل إلى طريق مسدود عند اعلان بايدن وبلينكن أن الترسانة الأميركية نفذت من الذخيرة والسلاح التي تستطيع تقديمه لأوكرانيا.

نتيجة العملية العسكرية في أوكرانيا حقّقت أحد الأهداف الاستراتيجية لروسيا وهو منع دخول أوكرانيا إلى الحلف.  وهذه هزيمة استراتيجية للحلف ومن خلاله للولايات المتحدة.  وإذا كانت الولايات المتحدة تستطيع استيعاب الهزيمة فهذا لا ينطبق على دول الاتحاد الأوروبي والأطلسي. هذا يعني تدمير أوروبا الصناعية عبر أمولة الاقتصاد الاوروبي وتفكّك البنية الصناعية والدخول مرحلة الانكماش الإجمالي (global recession) عززته سياسة العقوبات على روسيا والدول التي تنتصر لها.  هذا هو معنى فشل مؤتمر الأطلسي في فيلنيوس في ليتوانيا في 11 و12 تموز/يوليو 2023.  حاول الرئيس الأميركي بايدن إخفاء معالم الهزيمة عبر اعلانه أن روسيا هُزمت استراتيجيا في منع توسّع الأطلسي شرقا وإذ قمة فيلنيوس تعلن التحاق السويد بالأطلسي.  روسيا غير مكترثة لدخول السويد في الحلف لأنها ليست على حدود روسيا بينما أوكرانيا هي أكبر دولة أوروبية موجودة على حدود روسيا.

الغرور الأميركي يرتد على الولايات المتحدة. فنسف أنبوب نورستريم 1 و2 جعل العديد من حلفاء الولايات المتحدة يتساءلون حول جدوى التحالف معها. فالولايات المتحدة بنسفها للأنبوبين وجّهت ضربة قاسمة للاقتصاد الألماني.  فماذا يمكن أن يقول أهل تايوان الذين لا يريدون مواجهة عسكرية مع الصين إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على نسف معامل رقائق اشباه المواصلات (semiconductor chips) لمنع الصين من الاستفادة منها؟  سلوك الولايات المتحدة ودول الأطلسي والاتحاد الأوروبي يخيف دول العالم فتبتعد عنها.  هل هذا ما تريده الولايات المتحدة والاطلسي؟  فهي خسارة في المصداقية التي تنعكس في خسارة استراتيجية سياسية لا يمكن التعويض عنها.  كسر خطوط الحمر والدخول في المحرّمات من سمات القوى المهزومة التي لا تستطيع تقبّل الواقع.  حالة الانكار التي تسود قيادات الأطلسي ستؤدّي حتما إلى التساؤل حول جدوى استمرار المنظمة وكذلك الامر بالنسبة للاتحاد الأوروبي.

من جهة أخرى أوضحت القمة أن لا قدرة على التوافق على دخول أوكرانيا على الأقل في الوقت الراهن تجنّبا لمواجهة مباشرة مع روسيا.  وهذا إقرار بالضعف.  أما المشكلة الثانية هي عدم قدرة المؤتمرين على تحديد فترة زمنية لدخول أوكرانيا ما أثار غضب زيلنسكي فكأن الرد الأميركي أنه “غير وفي”.  يبدو أن أيام زيلنسكي أصبحت معدودة.  فالأطلسي لا يستطيع الاستمرار في الدعم العسكري في العتاد والذخيرة إلى ما لا نهاية والاتحاد الأوروبي لا يستطيع الاستمرار في الدعم المالي وألاّ أفق ممكن لنصر اوكراني.

مؤتمر قمة الأطلسي أوضح ان من يخضع لإملاءاته فهو الخاسر.  الطريقة التي تعامل به قادة الأطلسي مع زيلنسكي تدل على مدى العنجهية.  فالرئيس الاوكراني كان معزولا من قبل القادة الاطلسيين والمفارقة هي أن شعبية زيلنسكي في بلاده أعلى بكثير من شعبية القادة الاطلسيين.  الشعب الاوكراني في المناطق الغربية ملتف حول رئيسه.  فهو وشعبه فعلوا كل ما طلب منهم من قبل الأطلسي وفي آخر المطاف تم تركهم.  المطلوب القتال حتى آخر اوكراني كي يتم حفظ ماء الوجه لقادة فاشلين.  الوعود التي قطعوها لزيلنسكي للتراجع عن الاتفاق الذي توصل أليه مع روسيا كانت وعودا كاذبة والآن عليه وشعبه أن يواجهوا مصيرا مشؤوما.  أوكرانيا وقياداتها أخطأت في خياراتها أكثر من مرّة والجريمة التي ارتكبت بحق البلاد تتحمّل مسؤوليتها القيادات الأطلسية والأوروبية والاوكرانية على حد سواء. 

من معالم الضعف التي لا تخضع لاي جدل أو تبرير خروج الولايات المتحدة والاطلسي من أفغانستان بالطريقة المذلّة التي أعادت ذكرى الخروج في فيتنام عام 1975.  فالطريقة الفوضوية للخروج كشفت عدم القدرة على التخطيط ولا على تقدير إمكانية الاستمرار في الاحتلال.  فالإخفاق في تقدير موازين القوّة هو اخفاق بنيوي وليس ظرفيا ما يؤكّد مقولة الجنرال الفيتنامي جياب أن الأميركيين تلاميذ غير نجباء لا يتعلّمون من اخطائهم.  وخروج الولايات المتحدة ساهم إلى حد كبير في تسريع المراجعات للخيارات والسياسات للعديد من دول المنطقة كما تؤكّده المواقف الأخيرة لحكومة الرياض، والحبل على الجرّار لسائر الدول. 

الحرب في أوكرانيا تفيد الاوليغارشيات في أوروبا والولايات المتحدة حيث المكّلف الأميركي والاوروبي يدفع الفواتير التي تذهب إلى إثراء الاوليغارشية.  لذلك رفض البيت الأبيض لأي نوع من الرقابة على تدفّق الأموال والأسلحة إلى أوكرانيا كذريعة بينما يقين الموقف هو لجهات أخرى. وفشل الولايات المتحدة في تجنيد دول العالم الجنوب الإجمالي في الانخراط في العقوبات ضد روسيا والصين ما يؤكّد بشكل ملموس تراجع النفوذ الأميركي في العالم.  اما الحل للانكماش الاقتصادي فهو في التراجع عن سياسة العقوبات وإيقاف الحرب.  لكن لا تستطيع القيادات الغربية المتورطة مراجعة سياساتها فلذلك لا بد من تغيير القيادات والسياسات في الغرب وقد يحصل ذلك عند الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في هذا العام أو العام المقبل.  النتيجة قد تكون الخروج من الأطلسي والخروج من مؤسسة الاتحاد الأوروبي.  اليوم الاهتمام الأميركي هو ربح الانتخابات الرئاسية وليس الحرب في أوكرانيا ما يبعد احتمال التصعيد الذي قد يؤدّي إلى مواجهة مباشرة مع روسيا كما يبعد احتمال اجراء تسوية تكرّس فشل السياسة الأميركية.

مسار الحرب في أوكرانيا كشف عدم قدرة الولايات المتحدة والاطلسي على قلب موازين القوّة في الميدان وعدم قدرة الأطلسي على التسوية.  فالكراهية تدفع السياسة في الغرب والولايات المتحدة ما يجعل دور العقلانية محدودا.  وكما أشرنا أعلاه فإن الحرب في أوكرانيا كشفت النوعية المتدنية للسلاح الغربي الذي لم يصمد أمام القوّة النارية الروسية ولا التكتيك الروسي.  فالأطلسي كشف ضعفه في العتاد والعداد وفي رداءة استخباراته وقلّة التحضير والتخطيط.  وهذه العورات سببها أن الخلفية التي تتحكم بموازين القوة في البنية السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافة وتفشّي الفساد والاستهتار بالخصم أدّى إلى ضحالة النتائج.

في آخر المطاف، بعد الفشل الذي تكبّده الأطلسي ومعه الاتحاد الأوروبي في اوكرانيا يصبح السؤال ماذا يستطيع أن يفعل في شرق آسيا؟  الفشل يولد الفشل ودول أسيا التي تراقب المشهد الأوروبي لن تقبل أن تتحول دولها إلى مسارح للصراع بين الولايات المتحدة والصين.  هذا يعني أن لا مستقبل للحلف الأطلسي إلاّ الزوال ولا مستقبل للاتحاد الأوروبي إلاّ الانحلال ولن تنفع التصريحات العنترية حول وحدة الأطلسي وتماسك الاتحاد الأوروبي فالوقائع هي التي ستحكم على مستقبل المنظومتين.

ثالثا-موازين القوّة في الإقليم: الكيان الصهيوني، وتركيا، والجمهورية الإسلامية في إيران

1-الكيان الصهيوني

تراجع القدرات العسكرية الصهيونية في حسم المواجهات مع الفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، وفشل اخماد المقاومة الشعبية في انحاء فلسطين تلازم مع تفاقم الازمة السياسية الداخلية في الكيان. 

في مقاربة موازين القوّة يمكن القول إن الكيان الصهيوني يفتقد إلى العمق الاستراتيجي في المساحة الجغرافية والعدد البشري.  يحاول تعويض هذا النقص باعتبار الولايات المتحدة عمقه الاستراتيجي على الأقل على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.  غير أن البعد السياسي الأميركي كعنصر من العمق الاستراتيجي أمر يخضع لنقاش.  فنشهد منذ عدّة سنوات تحوّلات تمّت الإشارة إليها في التقارير السابقة وتعود إلى تراجع النفوذ الصهيوني لدى شرائح واسعة من الشباب الأميركي في الجامعات بسبب نجاح جهود منظمة “بي دي أس”.  كما أنه هناك تراجع ملموس لدى الشباب اليهودي في التأييد للكيان بسبب سلوكه تجاه الفلسطينيين.  فالسرديات السابقة ان الكيان دولة لشعب بلا أرض لم تعد قائمة، وأن حق الدفاع عن النفس لا يبرر قتل الأطفال والنساء وتدمير المنازل وطرد الفلسطينيين من منازلهم ولا تبرّر مصادرة الأراضي الفلسطينية.  فكثير من الشعارات التي كانت تُرفع ولا تخضع لأي نقاش أصبحت مشكوكة بأمرها.  وكذلك الامر بالنسبة للمساعدات للكيان حيث ترتفع الأصوات للتدقيق في استعمال تلك المساعدة وإذا ما كانت تخالف القانون. لم يكن هذا موجودا منذ سنوات ولكن أصبح اليوم واقعا.  القضية مسألة وقت عندما ينكسر حاجز الكذب والتضليل في الاعلام الشركاتي المهيمن وعندما يصبح الاعلام المستقل الموازي المرجع الأساسي للمعلومات.

وعلى الصعيد الدولي فإن العلاقات بين حكومة الكيان والولايات المتحدة متوترة ولا يوجد في الأفق ما يمكن أن يغيّر طبيعة العلاقات في إدارة بايدن.  الدعم للكيان الصهيوني شيء والدعم لحكومة نتنياهو شيء آخر ولكن الفرق بين الاثنين ينحسر بشكل ملموس.  هذا ينذر في تحوّل قد لا يكون بعيدا في الموقف الأميركي تجاه الكيان الذي يصبح يوما بعد يوم عبئا على الولايات المتحدة.  في السنوات الماضية عبّرت قيادات عسكرية في جلسات استماع في الكونغرس الأميركي أن سلوك الكيان قد يهدد المصالح العسكرية الأميركية في المنطقة.   فتحرير لبنان سنة 2000 وفشل حرب تموز على المقاومة في لبنان والاخفاق في دخول غزّة وحتى مخيّم جنين جعل الدور العسكري الوظيفي للكيان قاب قوسين أو أدنى.  لكن ما زالت العلاقة قوية مع القيادات السياسية الأميركية سواء كانت من الحزب الديمقراطي أو من الحزب الجمهورية إلا أن ذلك الدعم يعود إلى قوّة اللوبي الصهيوني في الاعلام والمال.  لكن هناك أصوات تتصاعد تنتقد ذلك الواقع وإن لم تصل إلى النقطة الحاسمة لتغيير جذري.  لكن ارهاصات التحوّل موجودة لمن يريد قراءتها ورصدها.

هناك من يخالف هذا الرأي ويعتبر الكيان امتداد للولايات المتحدة كما هناك من يعتبر أن نفوذ اللوبي الصهيوني ما زال قويا ومتحكما بالقرار السياسي الأميركي.  غير ان معالم تراجع النفوذ الصهيوني بدت واضحة خاصة في خسار رموز الصهيونية في الكونغرس الأميركي لصالح مرشحين معارضين للكيان (رشيدا طليب، الهان عمر، الكسندرا اوكازيو كورتيز، جاسون بومان على سبيل المثال).  هؤلاء (ومعهم برني سندرز) قاطعوا بشكل علني ورسمي خطاب رئيس الكيان الصهيوني الذي يزور الولايات المتحدة والذي دعي إلى القاء خطاب في الكونغرس.  هذه سابقة لم تشهدها الولايات المتحدة قبل اليوم.   منذ سنوات كان عدد النواب المعارضين للكيان صفرا أما اليوم فيصل العدد إلى 17.  ما زالت الأصوات المعارضة للكيان أضعف من تلك التي تناصر الكيان لكنها أصبحت موجودة وتتنامى مع كل دورة جديدة للكونغرس.  كما يمكن ملاحظة المواقع الناقدة للوبي الصهيوني والكيان في الاعلام الموازي المستقل والتي لم يستطع اللوبي اسكاته.

على الصعيد السياسي فإن الكيان يواجه مأزقا سياسيا وطريقا مسدودا على الصعيد الخارجي.  فظفرة التطبيع مع الدول العربية وصلت إلى طريق مسدود.  زيارة وزير الخارجية الأميركي لبلاد الحرمين لحث حكومة الرياض على التطبيع قوبل برفض قاطع والتمسّك بالمبادرة العربية.  فلا تطبيع قبل انجاز حل الدولتين وهذا ما لا تستطيع الولايات المتحدة فرضه على حكومة الكيان أو لا تريده في الأساس.  وطفرة التطبيع اصطدمت بالحملة الشعبية العربية التي كان المؤتمر القومي العربي جزءا أساسيا في أطلاقها.  وربما الضربة القاضية لتلك الموجة التقارب بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية الذي أخمد احتمالات الفتنة التي كان يراهن عليها الكيان بين مكوّنات المنطقة.

إضافة إلى كل ذلك لا بد من تسجيل أن عنصرا أساسيا في مقاربة موازين القوّة فُقد في كيان العدو وهو التماسك الداخلي.  صحيح انه هناك توافق بين مكوّنات المجتمع الصهيوني على العداء مع الفلسطينيين وعدم إعطاء أي حق لكن الخلافات الأخرى السياسية والطائفية تتفاقم.  والتظاهرات ضد محاولات “الإصلاح” في الجسم القضائي ليست إلاّ محاولة لتغطية الفساد الذي يطال النخب الحاكمة ولا يعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية.  المهم هنا أن فقدان التماسك الداخلي ينذر بثورة ملوّنة وباللجوء إلى العنف والحرب الاهلية داخل الكيان ما يعزّر نقاط الضعف لديه.

أما على صعود الجهوزية العسكرية فما زالت القدرات العسكرية كبيرة.  لكن لا الأداء ولا التزام بنفس المستوى التي كانت تتمتع به في السابق. في حرب تموز كان هم رئيس هيئة الأركان تصفية محفظته في البورصة بدلا من متابعة العمليات.  أما ضريبة الدم فليس هناك من استعداد على دفعها ما يجعل فعّاليات القدرات القتالية محدودة.  فالتكنولوجيا غير كافية لسد تلك الثغرات.  النتيجة هي تراكم الإخفاقات والأخيرة كانت في عدم التمكن من دخول مخيّم جينين وهذا دليل كاف عما تقوله هذه الورقة.

وأخيرا لا بد من تسجيل تنامي الهجرة المضادة من الكيان حيث الهجرة الوافدة أقل من الهجرة الخارجة إضافة إلى خروج الرساميل في القطاعات التكنولوجية ما يؤكّد فقدان الثقة في ديمومة الكيان.

2-تركيا

المشهد التركي متقلّب.  فقبل الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخّرا كان الموقف التركي يشير إلى تحوّل في الخيارات والسياسات.  فظاهريا اعتبر العديد من المراقبين أن الخلافات بين تركيا والاتحاد الأوروبي من جهة وبين تركيا والولايات المتحدة شكّلت ركيزة للانتقال من صفوف الأطلسي إلى المعسكر الاوراسي.  قد يكون ذلك الامر لكن ليس بالضرورة في المدى القريب لأن ما زالت القيادة التركية تراهن على تفاهم ما مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.  من هنا نفهم الموقف التركي الداعم لأوكرانيا في المواجهة مع روسيا عبر ارسال طائرات مسيّرة وحتى أنشاء مصانع لتلك الطائرات في أوكرانيا. لكن هذا لم يمنع تركيا من أن تقوم بدور الوسيط بين أوكرانيا وروسيا في صفقة توريد الحبوب من أوكرانيا وروسيا تحت رعاية الأمم المتحدة.  تحاول القيادة التركية الاستفادة إلى الحد الأقصى من التناقضات في المشهد الدولي لممارسة استقلالية قرارها السياسي.  فهي لم تقطع العلاقات مع الغرب وإن كانت في اسواء أحوالها.  كما أنها لم تندمج كلّيا مع روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران رغم دعم الدولتين لها خاصة في المرحلة التي سبقت الانتخابات الرئاسية في تركيا.  فالدولتان دعمتا تركيا في وضعها الاقتصادي الناتج عن سياسة استدانة مفرطة من الغرب الذي يبتزّ من خلال الديون لمصادرة قرارها الاستقلالي. وهي لم تقطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني رغم ادعاءها في حرصها على مصالح المسلمين والأماكن المقدسة. فالتقارب مع الدول العربية وخاصة مصر وبلاد الحرمين ودولة الامارات تلازمت مع المزيد من التقارب مع الجمهورية الإسلامية في إيران والصين وروسيا.  غير أن هذا التقارب لم يمنع القيادة التركية من الاستمرار في العلاقة مع الغرب رغم خصومة الغرب لتركيا.  فالغرب رفض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والغرب وخاصة الولايات المتحدة كانت وراء المحاولة الانقلابية في 2016.  كما أن الكتلة الاوراسية استطاعت تحييد بعض الأوراق التي كانت تمتلكها روسيا كورقة أذربيجان بعد الخلاف الأخير بين أذربيجان وأرمينيا والتي حسمت فيها روسيا والتي كانت تركيا تستعملها كورقة ابتزاز على روسيا.  ويمكن أضافة سحب ورقة تركمنستان التي انضمت الي منظمة شنغهاي بعد تحفّظ استمرّ لعدّة سنوات.

ما زالت أحلام احياء دولة عثمانية تراود القيادة التركية غير أن مقوّمات إنجاز ذلك المشروع غير موجودة.  فموازين القوّة التي تمتلكها تركيا غير كافية لتحقيق تلك الاحلام التي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بدعم دولي. اعتقدت القيادة التركية أن الدعم الغربي لها قائم لكن ذلك الرهان لم يأخذ بعين الاعتبار الضعف الموجود في الغرب ولا المقاومة في غرب آسيا والوطن العربي لذلك المشروع.  الضعف في الغرب والضعف في تركيا على الصعيد الاقتصادي والتماسك الداخلي المهتز رغم فوز اردوغان بالانتخابات ولكن في الدورة الثانية يعني أن الخيارات التي يمكن أن يتخذها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المزاج الداخلي التركي.  فهذا المزاج يضغط لتسوية العلاقات مع سورية كما يضغط لتحسين العلاقات مع كافة دول الجوار.  لكن هذا يتطلب مراجعة جذرية عن مواقف سابقة خاصة في الملف السوري. فالخروج من شمال سورية هو المدخل لعلاقات طبيعية مع سورية.

موازين القوّة لتركيا تتعاظم عندما تنخرط كلّيا في الكتلة الاوراسية.  فهي ستكون محطة مفصلية بين أوروبا وآسيا لمبادرة الحزام الواحد الصيني. وأن امتداد عمقها الاستراتيجي لوسط آسيا لن يحصل إلا بموافقة الكتلة الاوراسية.  تركيا في الكتلة الاوراسية غير تركية “المستقلة” صاحبة مشروع عثمانية جديدة مرفوض عربيا ومتحفّظ عليه غربيا.  فهل نسيت القيادة التركية دور دول الأوروبية في تفكيك الإمبراطورية العثمانية؟

المشهد الاقتصاد التركي لن يستقيم إلاّ عبر التفاهم والتشبيك مع دول الجوار ومع روسيا والصين.  والتفاهم مع سورية شرط ضرورة للوصول إلى عمق الدول العربية.  فقيمة تركية هي عبر التفاهم مع سورية والمحيط العربي والإيراني والروسي ومع الابتعاد من الغرب الذي لم يكن في يوم من الأيام صديق لاي كيان عربي أو مسلم.

هذه الورقة تتوقع أن في وقت قد لا يكون بعيدا ستتخلى تركيا عن تردّدها في التفاهم مع سورية والشرط الأول هو الانسحاب من شمال سورية.  فاستعادة سورية لعافيتها السياسية سيؤدّي إلى عافية اقتصادية تستفيد منها تركيا على الأقل في فتح الممرّات تجاه الدول العربية.  وإعادة أعمار سورية ستتجاوز الحدود الضيقة لسورية لتشمل كافة بلاد الشام والرافدين ما يجعلها شريكا جادا لتنمية تركيا.  فتنمية تركيا مصلحة سورية أيضا في عصر التشبيك الاقتصادي والكتل الاقتصادية العملاقة.

3-الحمهورية الإسلامية في أيران

تحظى الجمهورية الإسلامية في أيران على عناصر عديدة من مكوّنات موازين القوّة. فالمساحة الجغرافية والعدد السكّاني يعطي لها عمقا من الصعب التغلّب عليه وخاصة فيما يتعلّق بالطبيعة الجغرافية.  وإذا أُخذ بعين الاعتبار النفوذ في المنطقة فالجمهورية الإسلامية في إيران أصبحت جزءا لا يتجزّأ من محور المقاومة الذي يمتد من الشاطئ الشرقي لبحر المتوسط إلى وسط آسيا.

أما على الصعيد الاقتصادي فالجمهورية محاصرة منذ إقامة الثورة في أواخر السبعينات من القرن الماضي وهي مستهدفة من موجات متدفّقة من العقوبات غير القانونية ومن قبل الدول الغربية ما أدى إلى كبح نموها وتنميتها.  غير أن سياسة تنويع البنية الاقتصادية والتقليل من الاعتماد على النفط ساهم في صمودها رغم الصعوبات والتداعيات على الصعيد الاجتماعي.

التنوّع العرقي والديني في إيران كان موضعا للتدخّل الخارجي غير أن التماسك الداخلي ساهم إلى حد كبير إلى كبح الفتنة التي أطلقها الغرب ومعه بعض دول الجزيرة العربية.  لكن التفاهم الأخير بين الجمهورية الإسلامية وبلاد الحرمين كان نقطة تحوّل كبيرة في مسار الصراع في المنطقة ويبشّر بتراجع حدّة التوّتر الذي اشعله الغرب خدمة للكيان الصهيوني وللمصالح الأميركية في المنطقة.  هذا التماسك الداخلي مرّ بامتحانات صعبة عبر طوابير خامسة وسادسة تحرّكها الاستخبارات الغربية لكن استطاع التماسك الداخلي الصمود امام تلك المحاولات.

صمود الجمهورية والتقدّم في الميدان التكنولوجي والصناعي ساهم إلى اعتبارها لاعبا أساسيا في وسط وغرب آسيا.  لذلك تم قبول عضويتها في منظمة شنغهاي في الاجتماع الأخير لقمة الدول المشاركة في نيو دلهي.  هذا ما سيؤهّل الجمهورية للعب دور كبير في وسط آسيا وغربها وفي حل الخلافات والنزاعات القائمة بما فيها الصراع السوري التركي والحرب في اليمن وتثبيت الاستقرار في أفغانستان بعد خروج الولايات المتحدة منهزمة منه. 

الجزء الثالث-المستجدات في الساحة العربية: حول نظام عربي جديد؟

1-تمهيد

الخطة الغربية وخاصة الأميركية في المشرق العربي وسائر أقطار الوطن العربي ترتكز على تفتيت الامة وتجزئتها إلى دويلات مبنية على هويات فرعية ومتناحرة.  فعملت على تدمير التماسك الداخلي على كافة الأصعدة في السياسة والاقتصاد والمجتمع.  والعمود الفقري للتماسك الداخلي للمجتمعات العربية هو الدولة المركزية التي تحميها مؤسسة الجيش. ع والاستراتيجية الأميركية في هذا السياق تهدف إما إلى تحييد الجيش كما حصل في مصر بعد كامب دافيد وإما إلى تدميره كلّيا كما حصل في العراق والمحاولات المستمرة في سورية لتدميره.  والهجوم على الدولة يأتي عبر “ثورات ملوّنة” تقودها منظّمات غير حكومية مرتبطة بالدوائر الخارجية وترفع شعارات كحماية الحرّيات وحقوق الانسان والبيئة التي تدمّرها المؤسسة الأمنية بما فيها الجيش على حد زعم تلك المجموعات.

التحوّلات التي يشهدها العالم والاقليم تعود إلى ظروف خاصة بالدول الصاعدة.  لكن في الأساس وتيرة الصعود لم تكن أن تقوم بتلك السرعة منذ بداية الالفية الثالثة لولا العامل العربي بشكل عام وعامل المقاومة العربية بشكل خاص.  فالمقاومة في لبنان وفي العراق وفي فلسطين وصمود سورية واليمن من العوامل الأساسية في تمكين تلك التحوّلات.  فالمقاومة في هذه الساحات استنزفت قدرات الكيان والاطلسي وحوّلت انظار الأطلسي من روسيا والصين إلى الصراع في المنطقة. 

فلا بد من تذكير بالمحطّات التالية.  تحرير لبنان في أيار 2000 رافقته في أيلول انتفاضة القدس الأولى.  المقاومة في العراق أوقفت المشروع الأميركي لشرق أوسط كبير بقيادة الولايات المتحدة.  وفي 2005 كان الانسحاب الصهيوني من قطاع غزّة.  تعويضا عن الإخفاق في العراق ولإعادة الاعتبار للردع الصهيوني بعد الخروج من لبنان والكيان كان عدوان تموز 2006 على لبنان قرارا اميركيا بتنفيذ صهيوني بحجة تحقيق “ولادة شرق أوسط جديد” (لاحظ التراجع من “كبير” إلى “جديد”!).  بعد حرب تموز خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخطاب شهير في مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007 حدّد فيها ضرورة الخروج من الأحادية القطبية ومقاربة امن الدول على قاعدة عدم إمكانية تجزئته.  فلا يمكن تحقيق الامن لدولة ما على حساب دولة أخرى.  منذ ذلك الحين حاول الأطلسي/الأميركي كبح الظهور الروسي المتجدّد عبر الهائه في جورجيا فكان الرد الروسي حاسما. 

عند انتخاب أوباما قام بمراجعة المشهد وقرّر التحوّل إلى شرق آسيا لأن شرق الأوسط لم يعد يشكّل أولوية جيوسياسية للولايات المتحدة.  هذا لم يمنع الولايات المتحدة بالانخراط في المنطقة ولكن عبر وكلاء وظيفتهم الفتنة.  فكان ما يُسمّى ب “الربيع العربي”.  سورية كانت المحطة الرابعة المستهدفة بعد مصر وتونس وليبيا غير أن صمودها أفشل المشروع الجديد وما رافقه من طروحات تنّصيب جماعات إسلامية في السلطة في الدول العربية برعاية غربية وتركية.  الحرب الكونية على سورية جعلت كل من روسيا والصين تتدخل في مجلس الأمن في أواخر 2011 لإيقاف التسلّط الغربي.  فكان القرار الغربي بإطلاق عنان جماعات التعصّب والغلو على سورية ما أدّى فيما بعد إلى تدخّل روسي وإيراني لنصرة سورية.  من هنا اكتسبت روسيا مكانة عسكرية على الصعيد الدولي حاولت الولايات المتحدة من تخفيف دور روسيا عبر الانقلاب في أوكرانيا واخراجها من الحياد للانخراط مع الأطلسي.  وفي نفس الوقت أطلقت الصين مبادرة الحزام الواحد الطريق الواحد (2013) الذي تكامل مع مشروع روسيا لوحدة اقتصادية اوراسية.

العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا كانت تتويجا لمسار النهضة الاوراسية والجنوب الإجمالي حيث الأطلسي والاتحاد الأوروبي أخطئا في تقدير موازين القوّة فانكشفت العورات وعدم القدرة على استقطاب العالم.  الدول العربية رفضت الانخراط في جبهة العقوبات على روسيا كما شهدّت مسارا استقلاليا متزايدا في بلاد الحرمين عن الاملاءات الأميركية.

ويمكن تلخيص أبرز نقاط التحوّل في المشهد العربي بالنقاط التالية:

  • تصاعد وتيرة المواجهة بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني وبلورة مفهوم وحدة ساحات المواجهة.
  • مرحلة انتقالية استراتيجية مع تراجع حدّة التوتر العربي-العربي بعد المراجعة في السياسة في بلاد الحرمين والتحوّل في الأولويات: من مشهد المواجهة إلى مشهد التنمية.
  • مرحلة انتقالية قبل التحرير النهائي في سورية سمتها الأساسية تباطؤ في الخطوات التنفيذية لفك الحصار عن سورية بسبب الضغوط الأميركية من جهة وتصاعد المواجهة مع القوّات الأميركية لتحرير شرق سورية من الاحتلال الاميركي.
  • مرحلة انتقالية في المشهد الاقتصادي والسياسي في مصر والاقتراب المتزايد مع الصين وروسيا.
  • ثبوت وقف إطلاق النار في اليمن.
  • الانسداد النسبي في الأفق السياسي والاقتصادي في لبنان.
  • تفاقم الوضع الداخلي في السودان.

2-تصعيد المواجهة في فلسطين

شهدت الساحة الفلسطينية تطوّرات كبيرة في مقاومة الاحتلال الصهيوني.  فهذه المقاومة أخذت منحى العمليات الفردية الشعبية ومنحى المواجهة مع فصائل المقاومة في آن واحد ما يجعل مستوى التنسيق العملياتي مترفعا جدا.  هناك جدل إذا كانت العمليات الفردية تتم بالتنسيق أم لا لكن المهم هو التلازم في نوع العمليات ما يجعل مهمة الكيان صعبة للغاية في محاولاته البائسة في استشراف منحى التنسيق.  عمليات المقاومة أعطت قيمة مضافة للعناصر المكوّنة لمحور المقاومة في تحديد المهام الوظيفية لوحدة الساحات.  وقد بات واضحا ان محاولات العدو في استفراد عناصر المقاومة بات بالفشل خاصة وأن تلك الفصائل استطاعت منفردة الصمود امام الاستهداف الصهيوني فالرد عليه بقساوة كما حصل في مخيم جنين مؤخرا فإفشال المخطط مع الجهوزية لكافة الفصائل والقوى المقاومة في فلسطين وخارج فلسطين الدخول إذا ما اقتضى الامر. 

المستوى الجديد الذي وصلت إليه المقاومة تدل على أن العدو لم يعد باستطاعته فرض قوانين الاشتباك كما أن زمام المبادرة لم يعد حكرا عليه كما برهنت معارك سيف القدس في العام الماضي.  هذا دليل على تآكل قدرات الكيان وعلى تنامي قدرات المقاومة.  ويمكن وصف المشهد اليوم أن نقطة توازن ردعية وصلت إليها المقاومة كما برهنته معركة جنين البطولية حيث عجز العدو احتلال المخيم والبقاء فيه بسبب الخسائر التي تكبّدها في العداد والعتاد كما أظهرته فيديوهات وصائل التواصل الاجتماعي.

من جهة أخرى نلاحظ ظهور السلاح في الضفة الغربية وسلاح التفخيخ ما يستعيد ذكر فعّاليته في كل من أفغانستان والعراق.  فمن انتفاضة الحجارة سنة 1987 إلى الصواريخ الدقيقة مسافة قطعتها المقاومة الفلسطينية في الابداع والتجدّد لم يستطع الكيان منعه.   كما أن العمليات الفردية والتفخيخ مرورا بعمليات الدهس والطعن أساليب قتالية متجدّدة تربك العدو. فالأداء العسكري الفلسطيني تطوّر بشكل ملحوظ ينال الاعجاب من الخصم كما من الصديق.

الضفة الغربية هي الساحة الجديدة للمواجهة ومن هنا يجب التوقّع أن اهتمام الكيان الصهيوني سيكون منصبّا على الضفة وعلى السلطة لتعزيز التعاون الأمني.  هنا تكمن خطورة المواجهة بين المقاومة أفرادا وفصائل وبين القوى الأمنية الفلسطينية ما يربك مسار المقاومة.  فالعمل على تحييد التنسيق الأمني يصبح من أولويات مهام المقاومة والقوى المتحالفة معها.   الخطر الثاني هو استمرار استهداف القدس من قبل قوّات الاحتلال والمستعمرين.  لكن المعادلات التي فرضتها المقاومة في المواجهات الأخيرة تساهم في الضغط على حكومة الكيان الذي عليه أن يختار بين شرّين أحلاهما مر:  إما المواجهة الشاملة مع المقاومة والتي لن تنحصر في القدس أو الضفة بل قد تشمل كل الجبهات، أو التخلّي عن التحالف اليميني فإشعال الشغب اليميني الذي قد يؤدّي إلى حرب أهلية داخلية.

تنامي القوّة الفلسطينية يعود إلى عوامل ذاتية وعوامل موضوعية.  ففي ميزان القوّة ما تفتقده المقاومة في المساحة الجغرافية في العمق الاستراتيجي عوّضته عبر عضويتها في محور المقاومة الذي يعطيها ذلك العمق الاستراتيجي جغرافيا وعسكريا وسياسيا.  كما أن دعم الجماهير العربية للقضية لم يتوقّف ولم يضعف.  فمظاهرات المونديال في قطر كانت خير دليل على العمق الاستراتيجي التي تنعم به القضية الفلسطينية وشعبه. ونجاحات المقاومة شكّلت قيمة مضافة تُصرف في محور المقاومة كإضافة إلى المزيد من فائض القوّة الذي يعطي بدوره قيمة مضافة للمقاومة على الأرض.  فكلام السيد حسن نصر الله ومواقف الدولة في سورية والدعم الجماهيري الذي تقوده القوى الشعبية المناهضة للتطبيع فكل ذلك يشعر المقاوم في فلسطين أنه ليس وحده وأن الأمة معه.  كل هذا يعني أن وتيرة التسليح لفصائل المقاومة وانتشار السلاح بين المواطنين الفلسطينيين مستمرّة من قبل مكوّنات محور المقاومة وهذا ما سيجعل الاحتلال أمرا في غاية الصعوبة ولن يستطيع أن يدوم.  فالتحرير أصبح قناعة عند الشعب الفلسطيني ما يجعل الحلول الأخرى غير التحرير لا صدى لها ولا افق سياسي.

مسألة التمسّك بحل الدولتين الذي شكّل يقين المبادرة العربية في قمة بيروت 2002 والتي رفضها المؤتمر القومي العربي قد تكون عذرا عند بعض الدول العربية للتملّص من دعوات التطبيع.  فيصبح حل الدولتين شرطا ضروريا لا يستطيع الكيان القبول به كشرط مسبق للتطبيع.  وهو يسعى إلى فصل التطبيع عن حل القضية الفلسطينية.  كما أن المبادرات الدولية لحل القضية الفلسطينية عبر تطبيق قرارات الأمم المتحدة كما تدعو إليه الصين وحتى روسيا فإن ذلك له وظيفة أساسية وهي رفض طروحات الكيان لضم الضفة الغربية وتحويل فلسطين إلى دولة يهودية.  كما أن تلك المبادرات لا تستطيع نقض حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في كفاحه للتحرير.  فكل ما يزعج الكيان مفيد وإن كان دون مستوى طموحات الشعب الفلسطيني وتضحياته فذلك الامر لن يوقفه عن مسيرة التحرير عبر المقاومة.  وليس هناك من استراتيجية بديلة عن خيار المقاومة على كافة الأصعدة، السياسية، والعسكرية الميدانية، والاقتصادية، والثقافية. هذا يعنى أن هناك تكامل بين المشروع المقاوم لتحرير فلسطين وبين المشروع السياسي والدبلوماسي لنزع شرعية الكيان عربيا ودوليا وأن مقتضيات التعاطي السياسي والدبلوماسي لا تلغي بالضرورة مقتضيات العمل المقاوم. وهنا يكمن مصدر القوةّ الأساسي هو أن لفلسطين، قيادة مقاومة وشعبا مقاوم، فهي صاحبة قضية.  فالصراع هو صراع البقاء والوجود وليس صراعا على الحدود.  وقضية البقاء هي العمود الفقري في صراع الارادات التي تفوّقت على العناصر المادية لميزان القوّة.  فالصراع في فلسطين يمتد إلى أكثر من قرن من الزمن وما زال على وتيرة مرتفعة جدّا رغم عدم التكافؤ الناري بين الكيان ومن يدعمه من جهة وبين الشعب الذي كان في كثير من الأحيان معزولا.   غير أن تضامن الجماهير العربية أعطت حيوية للنضال الفلسطيني وسيستمر حتى التحرير.

العنصر الذاتي هو نوعية القيادات المقاومة في فلسطين على الصعيد السياسي والعسكري ما يخلق مناخا للثقة المتبادلة بين القيادات والكوادر والبيئة الحاضنة.  هذا يعزّز في التماسك الداخلي امام محاولات الاختراق الصهيوني عبر أدواته.  وهذا التماسك ينعكس في انخرط كوادر فلسطينية كانت محيّدة بقرار سياسي فإذ التطوّرات الميدانية تنسف قاعدة تلك “الحيادية” لضم تلك الكوادر إلى قافلة المقاومة.  والمقصود هنا حركة فتح في منحى مقاوم متجدّد.  لذلك تكتسب دعوة أمناء الفصائل إلى القاهرة أهمية كبرى في مسار توحيد الصف الفلسطيني ودعم التماسك الداخلي وذلك في أجواء وعي متزايد في تغيير موازين القوّة بين المعسكر الغربي ومحور المقاومة لصالح المقاومة.  لكن حتى لو لم تفض الدعوة إلى الموقف الفلسطيني الموحد الذي يؤمّن التماسك الوطني فإن وتيرة الاحداث المقاومة كفيلة بإخماد الأصوات الداعية للعودة إلى الحوار مع الكيان الذي لا يريد أي حوار.

الشعب الفلسطيني عبر مقاومته وعبر التحامه بمحور مقاوم عريض خرج من عنق الزجاجة التي كانت تسمح بالضغط وابتزاز المقاومة.  فالتحوّلات في المنطقة تساهم في تخفيف قدرة الابتزاز كما أن صمود المقاومة بعد كل المحاولات العسكرية والسياسية لإجهاضها أعطى حتى للدول العربية كدول الجزيرة العربية أو مصر الورقة للتملّص من الضغوط عليها.  فاهتمام الدول العربية لم يعد احتواء المقاومة بل أمور أخرى كالخروج من المأزق الاقتصادي والاجتماعي الذي يهدد جميع الأقطار العربية. 

يبقى أن منحى النضال الفلسطيني السياسي في المرحلة القادمة يجب أن يتناول شرعية وجود الكيان.  فمن مهام القوى الشعبية في فلسطين وفي الامة العمل على نزع شرعية الوجود للكيان الصهيوني لأن وجوده غير شرعي سواء من منظور الأمم المتحدة أو سواء من منظور المبدأ التي أوجد الكيان على ارض فلسطين.  فالكيان الصهيوني الذي أوجده قرار صادر عن الأمم المتحدة كان مقرونا بالتزامات قاطعة لم ينفّذها الكيان كحق العودة والتعويض والاكتفاء بتوزيع الأراضي بين فلسطين والكيان.  فعدم التزام الكيان بتلك القرارات يلغى مفعول القرار الأساسي.   كما أن جميع قرارات الصادرة عن الأمم المتحدة لم يلتزم بها الكيان إضافة إلى الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها يوميا ضد الشعب الفلسطيني تعزّز عدم شرعية الكيان وحقّه في البقاء.  فشعار الحركة الشعبية المقبل هو نزع شرعية الكيان إضافة إلى استمرار كافة أشكال المقاومة عسكريا وسياسيا وقانونيا واقتصاديا. 

3-التحوّل في بلاد الحرمين

ما حصل في بلاد الحرمين خلال الأشهر الماضية يشكّل تحوّلا مفصليا في ميزان القوّة في المنطقة ويعيد النظر في الفرز القاتل بين الدول العربية.  فالتقارب الذي حصل بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية يساهم في تغيير الأولويات في المواقف السياسية التي كانت سائدة في المنطقة.  والتقارب الذي حصل برعاية صينية كانت قد أطلقتها حوارات في العراق برعاية روسية وعمانية أثمرت عبر توكيل الصين بصوغ التفاهم.  فالشعار الجديد المرفوع هو المشاركة في التنمية بدل من التنافس بين الدول.  وأحد دلائل عمق التحوّل تصريح وزير خارجية حكومة الرياض بالترحيب ب “العلاقة الاستراتيجية العسكرية” لتحقيق أمن الخليج.  هذا الموقف كان المؤتمر القومي العربي قد استشرفه منذ سنوات حيث أعتبر امن الخليج هو من صنع دول المنطقة وبرعاية دولية روسية وأو صينية أو مشتركة.  وهذا ما نشهد قيامه في هذه الأيام.

هذا التحوّل على صعيد العلاقات بين الرياض أثار حفيظة الولايات المتحدة والاطلسي ومعه الاتحاد الأوروبي لأنه يخلق خللا في استراتيجية الهيمنة التي تعتمد سياسة
“فرّق تسد”.  وهناك أطراف عربية منزعجة من ذلك التقارب وتغذّي التحفّظ تجاه طهران وتراهن أن ذلك التقارب ظرفي لن يدوم.  لكن بالمقابل نرى أن طبيعة الإجراءات التي رافقت ذلك التقارب تغذّي جدّية التقارب.  فهذا المناخ الجديد عزّزه تعميق العلاقات مع كل من الصين وروسيا في قضايا استراتيجية وليست هامشية.  فالتفاهم مع روسيا على سياسة نفطية مشتركة جعل كل من بلاد الحرمين وروسيا ضامنين الاستقرار في الأسواق النفطية من خلال تفاهم على حصص الإنتاج وسعر برميل النفط وفي المستقبل القريب على تسعير برميل النفط بعملة غير الدولار.  فالتبادل المتنامي بين الدول في العملات الوطنية هو قرار استراتيجي لا يمكن الاستخفاف به رغم محاولات التشكيك التي تصدر من الدوائر الغربية وملحقاتها في الوطن العربي وغرب آسيا.

في جوّ هذا المناخ السياسي الجديد تستطيع حكومة الرياض ان تعطي بعدا دوليا لمشروعها التنموي الكبير في المملكة والتشابك مع دول الجوار.  فزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة في الربيع الماضي شهد افتتاح خط سكة القطار السريع الذي يربط بين المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة وشمالا مع الخليج العربي.  ومشروع “نيوم” قد يستفيد من الاستثمارات الصينية التي تتماهى مع مشروعها الحزام الواحد وفرط التواصل (hyperconnectivity).

هناك تساؤلات أثيرت حول قرار حكومة الرياض في التوجّهات الجديدة.  لكن من كان يتابع بدقة المشهد السياسي في بلاد الحرمين يرى أن التوجّه الجديد يأتي في مسار بدأ مع وصول ولي العهد إلى سدّة المسؤولية.  فالقرارات الداخلية بمكافحة الفساد وقرارات القضاء على الشرطة الدينية وتحجيم دور المؤسسة الدينية التي كانت ركيزة النظام في تحالف آل سعود معها وإعلان ولي العهد أن تصدير الوهابية كان تلبية لقرر أميركي وتحجيم دور بعض امراء آل سعود في منافسته على السطلة، فكل ذلك يدلّ على أن مستوى القرارات عالي الأفق ويساهم في التماسك الداخلي الذي يؤمّن استقرار النظام.  وهذا الاستقرار لن يتم إلاّ بتخفيف وتيرة التوتر والانقسام في المنطقة ومن هنا يُفهم مغزى التفاهم الجديد بين الرياض وطهران رغم وجود من يستثمر في التناقض بين الدولتين. 

من جهة أخرى بات واضحا أن العلاقة مع الإدارة الأميركية علاقة متوترة بسبب عنجهية المسؤولين في البيت الأبيض الذين لم يخفوا يوما احتقارهم لبلاد الحرمين ولقياداتها ولشعبها ولثقافتها.  فهي كما جاء على لسان الرئيس السابق دونالد ترامب “بقرة حلوب” خاصة فيما يتعلّق بالطاقة.  فالسياسة الجديدة المتبعة في تحديد الإنتاج والاسعار والتنسيق مع دول الأوبك وروسيا هو خدمة لمصالح بلاد الحرمين وليس خدمة لإملاءات البيت الأبيض.  والتوجّه نحو الصين وروسيا في العلاقات السياسية والاقتصادية ينذر بأن المملكة تريد الالتحاق بالمحور الصاعد دون أن تقطع علاقاتها التاريخية مع الغرب.  ففي رأينا عامل الزمن سيعطي مفعوله ويبرز عدم جدوى الاستمرار بعلاقة مميّزة مع الغرب الذي لم يعد باستطاعته أن يقدّم الحماية كما ظهر في سنوات ولاية ترامب. كما لا يستطيع تقديم التكنولوجيا المتطوّرة التي تحتاجها المملكة لتطوير بنيتها الاقتصادية والتي تريدها ان تكون مرتكزة على تكنولوجيا متقدمة لم يعد ينتجها الغرب.

والتفاهم الجديد ليس محصورا على ثنائية بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية بل تشمل التقارب مع انقرة لتستكمل صورة صفر مشاكل مع دول المنطقة والجوار.  وهذا ما يُسجّل لصالح ولي العهد الذي قد يكون من أطلق القفزة النوعية في تحويل المشهد السياسي الداخلي والخارجي والذي يتصالح من موروثه الثقافي وخارج الهيمنة الأميركية أو على الأقل في تخفيف سلبياتها.

من تداعيات التفاهم، سواء تلك التي تحقّقت أو قيد التحقّق، تثبيت الهدنة في اليمن.  أما النتيجة الثانية هو دعم التقارب العربي مع سورية فكان قرار القمة العربية في استعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربية.  وعلى صعيد المنطقة فإن البيئة السياسية لترويج الفتنة المذهبية قد تراجع بشكل ملموس وربما إلى مستوى الهامشية الذي لا يهدد استقرار وأمن المنطقة وينزع من يد الغرب ورقة الفتنة التي تنفّذ سياسية “فرّق تسد”.

لكن السؤال يصبح أين هذا التوجّه من العلاقة مع المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن؟  ما زلنا في بداية الطريق في التحوّل في المشهد السياسي.  لكن تخفيف حدّة التوتر السائدة عامل إيجابي يجب البناء عليه.  التسوية في لبنان قد تكون من ارهاصات التحوّل في بلاد الحرمين ولكن مسار الأمور يقول إن سياسة الاقصاء لم تعد مجدية بعد ثبوت صمود سورية والمقاومة في لبنان وفي كل مكان رافض للهيمنة الغربية.  فالتقارب العربي من سورية ناتج عن صمودها وصمود المقاومة إضافة إلى الشعور بضعف المحور الغربي كما أظهرته الإخفاقات في أفغانستان وفي الخليج ومؤخرا في أوكرانيا.  الضغوط الغربية وخاصة الأميركية على كبح خطوات الانفتاح العربي-العربي لا تستطيع أن تستمر لأن فعّالية التهديدات الأميركية تتآكل مع الخطوات التي تتخذها دول مجموعة البريكس خاصة في التحكّم في شرايين المال.  أما القدرة على التخريب فلا تستطيع أن تواجه العروض المغرية لأغراض تنموية تعرضها الصين وروسيا.

بلاد الحرمين تتمتع بالعديد من عناصر القوة سواء كانت في المساحة الجغرافية أو القدرات المالية.  والان قد تثبت أن قيادتها قد تكون على مستوى تحدّيات العصر والمرحلة.  ونسج علاقات استراتيجية وصداقة مع الكتلة الاوراسية ومحور المقاومة يعطي لبلاد الحرمين بعدا استراتيجيا لم تكن حاصلة عليه بسبب الارتباط بالغرب.  هذا البعد سيحسّن القدرة التفاوضية لبلاد الحرمين مع دول الغرب إضافة إلى الأوراق الاقتصادية والمالية التي تمتلكها إذا ما استمرّت على النهج الجديد.

لكن هذا التحوّل في موقف بلاد الحرمين يزعج إلى حد بعيد الولايات المتحدة التي فاجأها هذا التحوّل.  فسرعان ما أرسلت الرسائل الظاهرية والباطنية إلى ادواتها التي نجحت إلى حدّ ما في كبح الانفتاح العربي تجاه سورية والوصول إلى حلول في اليمن وإلى انهاء الآزمة السياسية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان.  وهناك أدوات عربية مرتبطة بدوائر القرار الغربية تعمل على أفشال ذلك التحوّل وحتى على محاولات في الداخل في بلاد الحرمين.  لكن موازين القوّة التي تملكها بلاد الحرمين قد تكون كافية لتجاوز تلك المحاولات لعرقلة مرحلة الانفتاح وإنتاج نظام عربي مختلف عن النظام الذي تحكّم بمسار الأمور خلال العقود منذ كامب دافيد واحتلال العراق.

4-مسار الحرب على سورية والانفتاح العربي عليها

العمق الاستراتيجي التي لم تحقّقه الجغرافيا (أرض واسعة وكثافة سكّانية كبيرة) حقّقته التحالفات الاستراتيجية التي اثبتت فعّاليتها مع الزمن.  فعناصر الثبوت كانت التماسك الداخلي في مؤسسات الدولة وخاصة في مؤسسة الجيش كما في مكوّنات المجتمع رغم الضغوط الهائلة لتفكيك الأواصر.  فسورية واجهت حربا كونية عليها طيلة العقد الماضي وما زالت حتى الساعة.  وما عزّز التماسك الداخلي الأداء العسكري للجيش العربي السوري في مواجهة عصابات الغلو والتعصّب والتوحّش.  ومؤازرة القوى الحليفة لسورية من حزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران وروسيا لم يكن ليثمر لولا أداء الجيش العربي السوري.  فلا تنكّر لدور الحلفاء ولكن لا استخفاف بدور الجيش العربي السوري الذي استفاد الجيش الروسي كثيرا من خبرته القتالية في سورية ليوظّفها في العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.

اما الاندفاعة العربية تجاه سورية فتشهد نوعا من التباطؤ نتيجة الضغوط الأميركية والاطلسية لكنها لا تستطيع أيقاف الاندفاعة ومنعها.  خطوات التشبيك مع العراق بعد زيارة رئيس وزراء العراق لإنجاز مشاريع في البنى التحتية وتوثيق العلاقة مع الجزائر خطوات قد تساهم في ردع التحفّظ العربي الخليجي وتفتح المجال في فترة قادمة لكسر الحصار على سورية سياسية واقتصاديا.  في هذا السياق يقوم المؤتمر العربي العام الذي يشكّله كل من المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية والجبهة التقدمية العربية ومؤسسة القدس في تحضير حملة عربية ودولية لكسر الحصار على سورية ورفع العقوبات عنها أو تعطيل مفعولها لأنها غير قانونية وغير أخلاقية كقانون قيصر.  وهذه الحملة قد تكون نواة انشاء جبهة عربية وإسلامية ودولية واسعة لمواجهة سياسات العزل والقهر التي تفرضها الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي.

ولا بد من التذكير والتشديد أن الواقع الاقتصادي المتردّي جدّا في سورية يعود ليس فقط للحصار المفروض عليه بل للاحتلالات الثلاثة وفي مقدمتها الاحتلال الأميركي لحقول النفط والغاز في شرق سورية واحتلال مصادر الإنتاج الزراعي فيها.  فالعجلة الاقتصادية تبدأ في قطاع الطاقة لتشغيل كافة المرافق الاقتصادية.  ومن هنا تصبح الأولية تحرير شرق وشمال شرق سورية أمرا ملحّا وحيويا.  لم تخف الإدارة الأميركية هدفها في تجويع الشعب السوري ومعاقبته لعدم تخلّيه عن خياراته وخيارات الدولة في نصرة فلسطين ورفض الهيمنة الأميركية على المنطقة.  وطالما كان الاحتلال الأميركي لأجزاء من سورية دون أي كلفة فسيستمر ذلك الاحتلال.  فالقيادة السورية تعمل مع حلفاءها الدوليين والاقليميين على إيداع خطة عملياتية لإخراج الولايات المتحدة من سورية في أسرع وقت ممكن لأنه من ضرورات استعادة العافية لسورية.

فعند اعداد هذا التقرير تفيد المعلومات أن وتيرة الاشتباكات مع القوّات الأميركية تتصاعد خاصة فيما يتعلق في إسقاط الطائرات المسيّرة الأميركية بوسائل الدفاع السورية المدعومة بالوسائل الدفاعية الروسية.  ميزان القوّة على الأرض يشير أن عدد القوّات الأميركية محدود وأن البيئة المحيطة بالقواعد الأميركية في شرق سورية بيئة يزداد عداءها ضد الوجود الأميركي في المنطقة.  أضافة إلى ذلك متانة القوى المتحالفة مع سورية في الميدان أمر لا يمكن تجاهله.  والمعلومات الأخيرة تفيد أيضا أن العداء للوجود الأميركي يزداد في العراق ما يجعل ظهيرة الوجود الأميركي مكشوفة.  أما على الصعيد السياسي فاسترجاع مقعد سورية في الجامعة العربية ينزع أي غطاء عربي عن الاحتلال الأميركي في شرق سورية.  فهل تقرأ القيادات الأميركية تلك التحوّلات في موازين القوةّ على الأرض بشكل جيد؟  المعلومات المتوافرة من البيت الأبيض حيث يسيطر المحافظون الجدد يرون أن تصاعد وتيرة التوتر في سورية قد تكون “مفيدة” لتحويل الأنظار عن أوكرانيا وكأن الاستراتيجية الجديدة لدى المحافظين الجدد هي استبدال فشل في سورية بفشل في أوكرانيا.

يبقى السؤال الجوهري: هل تشتبك القوّات الروسية مع القوّات الأميركية؟  حتى الساعة تجنّبت روسيا والولايات المتحدة المواجهة المباشرة لكن ليس هناك من دليل على استمرار ذلك التوافق الضمني.  لكن تعيين الجنرال بوبوف لقيادة القوّات الروسية في سورية تدل على أن المواجهة قد تكون وشيكة.  وبوبوف معروف بميله العدواني تجاه خصوم روسيا!  وإذا استذكرنا تصريح وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن في تبرير الانسحاب المفاجئ الأميركي من أفغانستان في صيف 2021 أي أنه حصل للحد من إعطاء أهدف لضرب الوجود الأميركي في أفغانستان من قبل روسيا وحلفائها فيما تصاعدت المواجهة في أوكرانيا التي كانت تتوقعها الولايات المتحدة.  والمشهد في سورية لا يختلف عن المشهد في أفغانستان من حيث انكشاف وجود القوّات الأميركية في بيئة جغرافية وعسكرية معادية لها.  فهل يتعظّ المحافظون الجدد؟  المعلومات تفيد أن المحافظين الجدد لا يكترثون لحقائق الميدان بل سيدفعون إلى المواجهة.  القضية تصبح في يد القيادات العسكرية الأميركية واحتمالات المواجهة حقيقية.

من شروط استعادة العافية في سورية استعادة السيادة على كافة الأراضي السورية سواء في الجنوب أو الشمال الغربي أو الشرق.  التفاهمات التي نتجت عن اللقاءات الروسية الإيرانية التركية والسورية تجد صعوبة في التنفيذ بسبب تلاعب الرئيس التركي الذي يحاول حتى آخر لحظة اللعب على التناقض بين روسيا والولايات المتحدة.  موازين القوّة التي تملكها تركيا لا تمكّنها من الاستمرار في تلك السياسة فعليها عاجلا قبل آجلا أن تحسم خياراتها الاستراتيجية خاصة فيما يتعلّق بالغرب.  فالأخير لا يريد تركيا قوية ومستقلة بل خاضعة للإملاءات الأطلسية والأوروبية.  وهذه الاملاءات تظهر في الضغوط على تركيا في مقاربة ملفّ عودة اللاجئين السوريين إلى سورية والضغط عليها للمشاركة في العقوبات على روسيا.  المصالح الاستراتيجية لتركيا تكمن في التفاهم مع سورية لأسباب عديدة منها سياسية ومنها أمنية ومنها اقتصادية. فسورية بوّابة الجنوب للسلع التركية تجاه الدول العربية.  لذلك نعتبر أن موازين القوّة ستفرض على تركيا الالتزام بالاتفاقات التي قطعتها مع كل من روسيا وإيران تجاه سورية

5-الهدنة في اليمن

من تداعيات التغيير في المناخ العربي تثبيت الهدنة في اليمن أو على الأقل إطالتها.  لكن القوى الدولية وفي طليعتها الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية التي لا تريد حلاّ للازمة في اليمن تكبح وتيرة التفاهم.   وترجمة الهدنة إلى صيغة حوار سياسي بين جميع الأطراف المتحاربة يكرّس وحدة اليمن ويقوم بإعادة تشكيل السلطة لإعادة البناء والتنمية.  فهناك نزعات انفصالية يجب كبحها وهناك نزعات تسلّط على مقدّرات البلاد لا يمكن الموافقة عليها لأنها تقصي مكوّنات أساسية في اليمن.  والمؤتمر القومي العربي في دوراته السابقة دعا إلى الحوار بين جميع المكوّنات لأن لا حل خارج الحوار.  لكن ليس كل الأطراف المتنازعة مقتنعة بأن موازين القوّة تفرض الحوار فما زال الكثيرون يعتقدون بأن هناك إمكانية فرض الامر الواقع بسبب اعتقادهم أن تلك الموازين هي لصالحهم.

التباطؤ في ترجمة الهدنة إلى قاعدة للحوار السياسي يعود إلى خلافات بين قوى التحالف (خاصة بين المملكة ودولة الامارات) وإلى الضغوط الأميركية لعدم إيقاف الحرب.  هذه هي المرحلة التي يجد اليمن نفسه أسيرا لها.  موقف بلاد الحرمين أساسي في هذا الموضوع ويخضع لتجاذبات خارجية وداخلية تمنع حسم الموضوع.  فالقدرة على استمرار الحرب غير متوفرة عسكريا وسياسيا واقتصاديا وخاصة في مناخ دولي مناهض للهيمنة الاميركية

6-الصراع الداخلي السوداني

الصراع الداخلي في السودان هو في جوهره صراع على السلطة ينذر بحرب أهلية لشدة خطورته.  وهذا الصراع هو بين فئتين تنتميان إلى توجهات مشتركة في نقل السودان من موقع متعاطف مع المقاومة إلى موقف يتماهى مع المواقف الغربية.  فكانت إجراءات التطبيع مع الكيان الصهيوني التي كانت قد سبقت الحركة العسكرية الانقلابية الأخيرة سلسلة من إجراءات استهدفت مكانة اللغة العربية والعلاقة الاستراتيجية مع مصر وتوتير العلاقة مع اثيوبيا التي تدعمها كل من الصين وروسيا.  وما يلي هو وصف لما يحدث في السودان.

فمع التغيير المستحق الذي جرى في السودان في نيسان أبريل 2019، بدأت تحديات السودان الداخلية والخارجية تتعاظم يوماً بعد آخر، فقد برز مع بداية الفترة الانتقالية تحدي هوية السودان التي استهدفت بالتغيير حين حذفت اللغة العربية كلغة رسمية للدولة من الدستور الانتقالي الذي ظل يحكم السودان منذ بداية هذه الفترة وحتى الآن، وحين حذف منه كذلك توصيف هوية السودان بوصفه دولة عربية أفريقية .ثم تعاظمت التحديات من خلال مشروع التطبيع الذي كان محلاً للتنافس بين شركاء الحكم الانتقالي من عسكريين ومدنيين، وفي إطار هذا التنافس قام المدنيون بإلغاء قانون مقاطعة اسرائيل لعام 1958، ووقعت الحكومة المدنية على اتفاقية ابراهام، وشارك رئيس مجلس الوزراء المدني رئيس مجلس السيادة العسكري في القمة الرباعية التي جمعتهما برئيس وزراء الكيان الصهيوني والرئيس الأمريكي.

وكان استدعاء مجلس الوزراء لبعثة أممية تُعنى بتشكيل حاضر السودان وصناعة مستقبله بعيداً عن إرادة مواطنية أمراً بالغ الخطورة وضع السودان أمام أعظم تحدي يتصل باستقلاله وسيادته، وقد أكدت هذه البعثة من خلال ممارسة أعمالها مخاطرها الكبيرة على حاضر ومستقبل السودان، وقد تجلت أولى تلك المخاطر في الحرب التي نشبت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وقد كان لهذه البعثة دوراً مباشراً في اشعال هذه الحرب من خلال محاولة فرض وثيقتين على السودان، هما دستور انتقالي جديد ووثيقة شراكة سياسية جديدة تجمع بعض الجماعات السياسية مع قائدي الجيش والدعم السريع، علماً بأن الحرب كانت هي خطة بديلة للخطة السياسية التي أراد الغرب وحلفائه الاقليميين والمحليين إخضاع السودان عبرها، وقد تم التحضير لهذه الخطة البديلة خلال سنوات الانتقال الأربع بتطوير قوة الدعم السريع كماً ونوعاً وتسليحاً وانتشاراً حتى تمكنت بالفعل من السيطرة على السلطة بشكل شبه كامل يوم اندلاع الحرب في 15 نيسان/أبريل 2023.

دمرت هذه الحرب البنى التحتية في الخرطوم، كما أزهقت من خلالها أرواح أبرياء كثر، وبشكل خاص في بعض ولايات دارفور التي جرت فيها عمليات تطهير عرقي أعقبها عمليات استيطان لمجموعات سكانية تم استجلابها من دول غرب أفريقيا التي عاشوا فيها أزمان طويلة تسببوا فيها في أزمات داخلية كبيرة، وقد ترافق مع عمليات التوطين التي جرت في ولايات دارفور عمليات توطين أخرى في شمال ووسط السودان، الأمر الذي يشكل خطوة بالغة الخطورة في اطار مشروع تغيير ديموغرافي يهدد السودان وهويته واستقراره، وينسحب التهديد بشكل مباشر على مصر. 

إن تطور الأوضاع في السودان قد بلغ أعلى درجات التهديد الوجودي للدولة السودانية لا سيما بعد مشاركة نحو 80 ألف مقاتل من دول غرب أفريقيا في تلك الحرب ضمن قوات الدعم السريع، الأمر الذي يستدعي حشد الحكمة الوطنية والطاقات الوطنية من أجل العمل المخلص لإنهاء الحرب وتحقيق الاستقرار، وصون الاستقلال الوطني والمحافظة على سيادة ووحدة السودان، ومعالجة آثار وتداعيات الحرب.

ليس هناك من آفاق لحّل الازمة إلاّ بالعودة إلى الشعب والاحتكام إلى رأيه.  فالخيارات والسياسات التي تفرض خلافا لموروث سياسي وثقافي للسودان لا يمكن أن يفضي إلى استقرار لذلك الاحتكام إلى الشعب هو المخرج الوحيد والممكن.  هنا أيضا يظهر دور التماسك الداخلي أو عدمه في تحديد موازين القوّة.  فالدولة التي تفتقد إلى ذلك التماسك تكون ضعيفة واستهداف الجيش هدفه أيضا استهداف التماسك الداخلي.  فلذا لا بد من ابعاد الجيش عن التجاذبات السياسية الداخلية حفاظا على وحدة وعلى وحدة التماسك في السودان.

7-الازمة الدستورية في تونس

ما زالت أزمة الحكم في تونس قائمة وإن أخذت منحى الازمة الدستورية.  فالمشاركة الضئيلة للشعب التونسي في الاستحقاق الانتخابي الأخير يفقد الغطاء الشرعي للإجراءات التي تتخذها السلطة.  والمرحلة الانتقالية التي تلت التحوّل الكبير في تونس في ربيع 2011 ما زالت تداعياتها قائمة في زعزعة الاستقرار الداخلي وفقدان التماسك الداخلي.  وفقدان التماسك الداخلي يجعل تونس عرضة للتدخلات الخارجية والعربية في نسف محاولات التفاهم الوطني ما زاد في عمق التصدّع الداخلي.  وليس هناك من تحالفات استراتيجية تحمي التماس الداخلي يمكن الاعتماد عليها. فلا بد من إعادة مسار الحوار بين كافة مكوّنات المجتمع التونسي للوصول إلى توافق.  فليس هناك من قوّة تستطيع فرض ارادتها حتى لو أتت عبر صناديق الاقتراع كما حصل في المرحلة السابقة ووصول النهضة إلى الحكم.  التوافق عبر الحوار الداخلي هو الطريق الوحيد.

إن تراجع الوضع الاقتصادي والاجتماعي ينذر بانفجار جديد.  فعدم الاهتمام بالشأن الاقتصادي يساهم في تراجع شعبية الرئيس قيس سعيد الذي يُسجّل له رفض التطبيع مع الكيان.  لذلك يصبح المسار الداخلي مرتبط بالمسار الخارجي لتوجّه تونس.  تدخل بعض الدول العربية والدول الأوروبية والولايات المتحدة وضغوط صندوق النقد الدولي يزيد في صعوبة الوصول إلى حلول.  وهذه الحلول لن تأتي عبر سياسة الاقصاء بل عبر التحاور مع جميع المكوّنات للمجتمع التونسي.  كما أنها لن تأتي مع تفاهم ما مع الغرب بل مع الكتلة الصاعدة من دول البريكس إلى منظمة شنغهاي التي تمتلك الإمكانيات للتعاون مع تونس.  لا يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يقدّم أي شيء في ظل تنامي العنصرية ضد العرب والمسلمين ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تقدّم أي شيء غير مساعدات الصندوق النقد التي تساهم في إفقار الدول وليس في إيجاد الحلول لها.

8-مصر

ما زالت مؤسسة القوّات المسلحّة مستهدفة من الغرب عبر أدوات محلّية ترفع شعارات مختلفة كالحريّات والحركة الديمقراطية وعبر الضغط الذي تمارسه المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي لإخراج مؤسسة الجيش من البنية الاقتصادية وخاصة فيما يتعلّق بالمرافق الاستراتيجية.  فاستهداف الجيش هو مقدمة لاستهداف التماسك الداخلي تمهيدا لتنفيذ مخطّطات التقسيم والتفتيت ليس فقط في مصر ولكن في كافة أنحاء الوطن العربي.

استهداف الجيش ليس بجديد.  فبعد تحييده من ناحية الصراع العربي الصهيوني أصبحت المرحلة التالية إخراجه من دائرة العجلة الاقتصادية.  والصراع ما زال قائما بين طبقة راس مالية طفيلية مرتبطة بالخارج والنهج النيوليبرالي المدمّر وبين إرث ثورة 23 يوليو في ريادة القطاع العام ودول المؤسسة العسكرية فيه.

الأوراق السابقة التي قّدمت للمؤتمر القومي قاربت الوضع الداخلي في مصر والخيارات الخارجية.  ما زالت تلك المقاربة صحيحة حيث تعمل مصر على استعادة استقلالها السياسي والاقتصادي تدريجيا رغم المعاناة الداخلية.  فتعميق وتوثيق العلاقات مع روسيا والصين يتيح لمصر فرصة تنويع تحالفاتها ومصادر تسليحها ويساهم في دعم مسار استقلاليتها.  وقد ترى ثمار تلك العلاقات في سلسلة مشاريع تم الاتفاق عليها مع الصين منها بناء عاصمة إدارية قيمتها 50 مليار دولار يتم تمويلها من قروض داخلية ومساهمة صينية.  الطريق بطيء ولكن على أسس ثابته. 

استعادة دور مصر الريادي في الوطن العربي مرتبط بمسار استكمال استقلال قرارها السياسي والداخلي.  كما هو رهن التحرّر من مكبّلات كامب دافيد.  الرهان هو على عامل الوقت والصبر الاستراتيجي لاستكمال مسيرة استعادة الاستقلال للقرار المصري ودورها العربي.

أما على صعيد مشاريع التنمية نكرّر أن لا افق لتنمية داخل الحدود الموروثة من حقبة الاستعمار إلاّ عبر التشبيك مع دول الجوار المباشر في الوطن العربي.  لا يمكن تصوّر مشروع تنموي في مصر والسودان بعيدا عنه.  وكذلك الامر بالنسبة لتونس وليبيا.  وعلى الصعيد الإفريقي مصر مدعوة لاسترجاع دورها التي ارسخته في ثورة 23 يوليو.  اهمال إفريقيا خلال العقود الماضية أفضى إلى أزمات كأزمة سد النهضة.  التفاعل مع الدول الإفريقية يشكل محور الدائرة الثانية للعمل التي أطلقها القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر.

أما التكامل مع بلاد الشام وبلاد الحرمين فلا شيء يمنع ذلك إلا تداعيات كامب دافيد.  فما زال الجيش الأول للجمهورية العربية المتحدة الجيش العربي السوري، وما زالت العقيدة القتالية للجيش المصري العداء للكيان الصهيوني المحتل.  رصاصات الشهيد البطل محمد صلاح تؤكّد ذلك.  فكما تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الصهيوني فإن تحرير مصر من اكبال كامب دافيد أت.

9-الازمة السياسية والاقتصادية والمالية في لبنان

ما زالت الازمة السياسية والاقتصادية والمالية مستعصية.  فموازين القوّة على الصعيد الداخلي لا تسمح بفرض الحلول دون توافق.  وهذا التوافق مستحيل بسبب التركيبة الطائفية في لبنان وارتباط عدد مراكز القرار بدوائر خارجية تتغيّر وفقا للظروف والأزمان.  اليوم القرار الخارجي مصدره الولايات المتحدة التي ترى استمرار الازمة في لبنان استنزافا من رصيد المقاومة وخلفائها. إلاّ أن الحلفاء الإقليميين في المنطقة وخاصة بلاد الحرمين بدأوا يشعرون بعبثية الموقف الأميركي وأنه لا بد من الوصول إلى تسوية ما تتماهى مع التحوّلات في المنطقة.  غير أن الموقف الأميركي ما زال متصلّبا تجاه سورية ولبنان في آن واحد وبالتالي طالما هناك فئات داخلية مرتبطة بالقرار الأميركي فإن آفاق التسوية تكون مسدودة.

لكن التطوّرات الأخيرة التي حصلت بين لبنان والكيان الصهيوني خاصة في ترسيم الحدود البحرية كرّست المعادلة التي فرضتها المقاومة وهي “كاريش” مقابل الشروط اللبنانية.  فالمقاومة استطاعت أن تفرض معادلة الردع مع الكيان وشروط الاشتباك.  المبادرة لم تعد في يد الكيان ولا حتى بيد الولايات المتحدة في الصراع بين لبنان والكيان.  لكن ما زالت الولايات المتحدة قادرة على تعطيل أي مسار إصلاحي ينهض لبنان من خلاله.  استعادة العافية في سورية هي شرط ضرورة وكفاية لاي استقرار في المشرق العربي بما فيه لبنان.  والاستعصاء على حل الخلافات الداخلية في لبنان لن يحلّ إلا عبر تغطية عربية يكون لسورية الدور الأكبر مع مباركة من بلاد الحرمين.  فالأخيرة بمفردها لا تستطيع ضبط إيقاع التوازنات الداخلية في لبنان بل تستلزم خبرة سورية في الموضوع.  لا يمكن للقوى الداخلية أن تجعل لبنان ساحة صراعات بمعزل عما يحصل في المحيط المباشر.  فالتحوّلات في المنطقة خلقت موازين قوّة جديدة لن تسمح لأي فريق بتخريب المعادلات.  لذلك تطوّر التقارب بين دمشق والرياض شرط ضرورة للعودة إلى استقرار ما في لبنان.

أما على الصعيد الاقتصادي والمالي فهناك مشروعان متنافسان.  مشروع تقوده ما بقي من الدولة العميقة أي تحالف زعماء الطوائف مع الاوليغارشية المصرفية في لبنان والمشروع الذي أعدّه المنتدى الاقتصادي والاجتماعي الذي يصلح كخارطة طريق ليس للبنان فقط بل أيضا للوطن العربي.  القاعدة الأساسية هي أن لا تنمية ممكنة في لبنان، أو أي قطر عربي، إلاّ عبر التشبيك مع دول الجوار المباشر.  في هذه الحال نتكلم عن محور بلاد الشام وبلاد الرافدين بما فيها فلسطين المحرّرة في مستقبل قريب.  لكن لن يكتب للمشروع الثاني أي مستقبل إن لم تكن هناك إصلاحات في البنية السياسية وقبل كل شيء في نوعية القيادات.  الصراع القائم على نوعية الرئيس المرتقب للبلاد شرط ضرورة وليس شرط كفاية.  فموازين القوّة التي ستأتي بشخص يقود نهضة لبنان هي نفس الموازين التي ستأتي برئيس حكومة له نفس المواصفات إن لم تكن أكثر من مواصفات رئيس الجمهورية لأن معظم صلاحيات السلطة التنفيذية منطوة بمجلس الوزراء ورئيسها.

بالمقابل لن يكتب النجاح للمشروع الذي يقوده تحالف امراء المال والمصارف والزعامات الطائفية لأن الانفجار الداخلي سيكون أقوى مما يملكه هذا التحالف المرتبط بدوائر قرار خارجية لن تستطيع حمايته بسبب التغيير في موازين القوّة لصالح قوى التغيير والتنمية في المنطقة التي تتلازم مع قوى المقاومة.

10-التطبيع في المغرب

ارتفعت وتيرة التطبيع في النظام القائم في المغرب لجعل الهوة بين منظومة الحكم والموقف الشعبي من قضية فلسطين فجوة غير قابلة للردم إلاّ بالتراجع عن المواقف التطبيعية.  ودعوة رئيس وزراء الكيان الصهيوني في الظروف الحالية تأتي خارج سياق التحوّلات في المنطقة وعلى الصعيد الدولي وكأنها هديّة مجاّنية إلا إذا اعتبرت دفعة لاعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء المغربية. ما زالت النخب الحاكمة في المغرب تعتبر أن الولايات المتحدة تملك أوراق اللعبة وبالتالي “اكتساب” شرعية السيادة على الصحراء المغربية يعتبر مكسبا للدولة ونخبها الحاكمة.  غير أن الولايات المتحدة لا تملك أي شرعية للموافقة على سيادة الصحراء المغربية لإن حلّ النزاع الصحراوي لن يكون إلاّ في إطار وحدوي لاتحاد المغرب الكبير.

النخب الحاكمة في المغرب لم تقرّأ التحوّلات في موازين القوّة دوليا. فالولايات المتحدة ومعها الحلف الأطلسي في حالة تراجع استراتيجية لا تستطيع الاستمرار في فرض الاملاءات.  بالمقابل الحلف الصاعد يملك من الأوراق والعروض التي لا يستطيع الاتحاد الأوروبي والاطلسي عرضها على المغرب.  فهذه التحالفات الخارجة عن السياق التاريخي لمسارها تضعف المغرب ولا تعطيه أي قيمة مضافة خاصة مع تفاقم الفجوة مع القاعدة الشعبية للمغرب.  عاجلا أم آجلا ستظهر الاستحقاقات أن الغرب لا يستطيع أن يقدّم شيء وأن “الشرعية” التي يمنحها قد تكون اختفت.

11-الجزائر

الجزائر هي الضلع الغربي لمحور المقاومة ولذلك تخضع لضغوط ومحاصرة لا يمكن الاستهانة بها.  وهذه الضغوط تأخذ منحى الفتنة الداخلية والاحتجاجات الداخلية.  التطبيع بين المغرب والكيان يضع الجزائر على حدود الكيان غربا وهذا عامل جديد لأن التدخّل في الشأن الداخلي في الجزائر يصبح ممكنا.  لكن موازين القوة الدولية وفي غرب آسيا ستساعد الجزائر على تجاوز تلك التحدّيات خاصة إذا ما قُبلت عضوية الجزائر في منظومة البريكس.

على الصعيد العلاقات الخارجية فإن الجزائر توثّق العلاقات مع الصين وروسيا وهذا يعطيها نوعا من الاستقلالية في التحرّك بعيدا عن الضغوط الغربية.  ونسجّل الموقف المتصلّب في الجزائر تجاه الحكومة الفرنسية في العديد من الملفّات ما يعني أن “الحزب الفرنكوفوني” في الجزائر أصبح في موقع حرج.

من جهة أخرى كانت زيارة الرئيس الجزائري للصين مثمرة وأنتجت اتفاقات على الصعيد الاقتصادي والدفاعي والأمني ما يثبت موقع الجزائر في الكتلة الصاعدة.  أما على صعيد العلاقات مع روسيا فهي تاريخية بالأساس وترتقي اليوم من مستوى التعاون إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية حيث وقّع الرئيس الجزائري على اتفاق أكثر شمولية من اتفاق 2021 ليشمل المزيد من القطاعات الاقتصادية لرفع مستوى التبادل التجاري الذي وصل إلى أكثر من 3 مليار دولار.

12-ليبيا

ما زال الوضع في ليبيا غامضا حيث التخبّط السياسي بين القوى المتناحرة يعكس مدى تدخّل القوى الخارجية في الشأن الليبي.  استطاع الأطلسي تدمير ليبيا وللأسف بمباركة عربية آنذاك واليوم هناك حالة استعصاء للخروج من الأزمة.  وهناك تساؤلات إذا ما كانت القوى السياسية قادرة على التحاور والتوافق على حلول تنهي حالة الفوضى في البلاد كما هناك تساؤلات حول إمكانية بقاء ليبيا ككيان مستقل.  حالة الفوضى القائمة تهدد الأمن الوطني لكل من مصر والجزائر وتونس فهل تلك الدول قادرة على اتخاذ إجراءات تحميها والمحافظة على وحدة الأراضي الليبية؟

13-البحرين والامارات.

تحاول كل من الامارات والبحرين التوازن بين التطبيع المشين مع الكيان الصهيوني والتقارب مع سورية والجمهورية الإسلامية في إيران.  هذه المعادلة محكومة بالفشل.  فمقتضيات التطبيع لن تسمح للدولتين الانخراط في التقارب مع سورية ولا المشاركة في استعادة عافية سورية الاقتصادية.  الضغوط التي تخضع لها من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني كفيلة بجعل خطوات التقارب مع سورية خجولة ومحدودة.  بالمقابل “منافع” التطبيع محدودة ولن تصمد أمام الفرص التي ستضيع أمامها عند استقرار بلاد الشام وبلاد الرافدين.  فالخيار أمام البقاء خارج المعادلات الجديدة أو التراجع عن التطبيع.

أما الأمارات فما زالت منخرطة في مشاريع مشبوهة لتقسيم اليمن لتحقيق بعض الطموحات الجيوسياسية كالسيطرة على باب المندب وجزيرة سقطرة ألاّ أن موازين القوّة التي تملكها لا تسمح لها بذلك.  لكن لديها قدرة على عرقلة مسارات التسوية في اليمن والسودان وليبيا إن لم يؤخذ بمصالحها.  فهل تستطيع الاستمرار في مناخ إقليمي ودولي خارج عن السياق التي تعتمده؟

14-عمان والكويت وموريتانيا

عمان تلعب دورا أساسيا في ترطيب الأجواء بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية في إيران.  ورغم العلاقات مع الكيان الصهيوني ما زالت رافضة لخطوة التطبيع معه طالما افق حل القضية الفلسطينية وفقا للمبادرة العربية ما زال مسدودا.

أما الكويت فتحافظ على علاقات مع جميع الأطراف دون الانحياز إلى أحد أو الخروج من الاجماع الخليجي والعربي.  لكن يُسجل للبرلمان الكويتي والشعب الكويتي المواقف الرافضة للكيان والتي ما مازالت تحافظ عليها.

كذلك الامر بالنسبة لموريتانيا التي ما زالت رافضة لإعادة العلاقات المنتهية مع الكيان الصهيوني منذ 2010.  وحاول الكيان ادراج موريتانيا في قائمة الدول التي ستنخرط في الاتفاقات الابراهيمية إلاّ أن الرد الرسمي الموريتاني كان قاطعا ومتمسّكا بقطع العلاقات من الكيان.

من الواضح أن موازين القوّة في الساحة العربية لم تعد مؤاتية للانخراط بالمشاريع الغربية.  فبعد الحرب الكونية على سورية بمباركة عربية، وبعد استثمار في احتلال العراق بمباركة عربية، وبعد تدمير ليبيا بمباركة عربية كان صمود سورية يقلب موازين القوّة في المنطقة ويبرز عدم جدوى الاستمرار في تلك السياسات خاصة بعد كشف مواطن الضعف في الغرب وصعود الدول الرافضة للهيمنة الغربية.

15-العراق

بدأ الاستثمار في الفتنة السنية الشيعية في العراق مع الاحتلال الأميركي.  ولن تنتهي الفتنة في الوطن العربي إلاّ أذا انتهت في العراق. فالعملية السياسية التي افرزها الاحتلال الأميركي لم تؤدّ إلى نهضة العراق، ولم تنجح في كبح الفتنة، ولم تنجح في منع الفساد القاتل.  وما زال العراق يترنّح تحت وطأة التجاذب الدولي والإقليمي.  لكن الموقف الأخير لحكومة بغداد في مساعدة سورية ولبنان ينذر بتحوّل خارج إطار التجاذبات الإقليمية والدولية.  والخروج من التجاذبات يكمن في الحوار مع كافة مقوّمات المجتمع السياسي في العراق دون اقصاء أحد.  فزمن الاقصاء أدّى إلى المزيد من اللاستقرار وتعطيل بناء الدولة.  والدول التي استثمرت في الانقسام الداخلي المفتعل في العراق مدعوة إلى لمّ الشمل وضمّ الجميع.  فلا مصلحة لأي دولة في الهيمنة على الجوار لأن لن ينتج عن ذلك إلاّ المزيد من الفتنة وعدم الاستقرار.  نبذ النموذج اللبناني من الدستور العراقي قد تكون خطوة في إعادة اللحمة الداخلية المختفية بعد الاحتلال الأميركي.

الجزء الرابع-نحو نظام عربي وإقليمي جديد

لم يشك المؤتمر القومي العربي في أي يوم في صحة خياراته وخاصة فيما يتعلّق بنهضة الامة وتحرير فلسطين عبر خيار المقاومة.  كما أن المؤتمر كان يحرص دائما على بناء الجسور وهدم المتاريس عبر الحوار وترويج ثقافة الاشراك ونبذ الاقصاء.  والدعوة المستمرة لتفعيل الكتلة التاريخية بين مختلف تياّرات الأمة ما زالت الاستراتيجية الصحيحة لجعل ضغط القوى الشعبية ضغطا فاعلا وحاسما على الحكومات العربية.  فالتحوّلات التي حصلت خلال السنوات الماضية في موازين القوّة على الصعيد العالمي والإقليمي والعربي صنعتها إلى حد كبير السواعد العربية.  فالمقاومة بشكل عام وصمود سورية امام الحرب الكونية عليها وصمود اليمن الذي في أحلك أيام الحرب التي شنّتها قوّات التحالف برعاية أميركية خرجت تحت القصف جماهيره لنصرة فلسطين. هذا يعني أن الصراع بين المشروعين المتصارعين سيفضي وفقا للخلل في موازين القوّة لصالح الكتلة الصاعدة إلى الهزيمة الاستراتيجية للغرب بكافة تشكيلاته لينحسر دوره السياسي والاقتصادي والعسكري لصالح دول الصاعدة.  فتراكم النجاحات للمقاومة كان سببه احتضانها من قبل مكوّنات المجتمعات العربية ما يؤكّد صحّة التمسّك بالكتلة التاريخية التي هي تعبير عن الثقافة الوحدوية التي يدعو المؤتمر إلى نشرها.

 المعادلات الجديدة يجب أن تفضي إلى نظام عربي جديد يركّز على المشتركات ويترك جانبا الخلافات.  وقاعدة النظام العربي المرتقب نظام يتخذ من التشبيك مع دول الجوار في الوطن العربي كاستراتيجية للتنمية المشتركة.  فلا تنمية مستقلّة ممكنة دون التشبيك.  العالم الغربي برهن مرارا وتكرارا عن عدم صدقه في التعاون بل ما يهمه هو الثروات العربية بأقل ثمن ممكن دون الاكتراث إلى مصير الشعوب.  التشبيك الاقتصادي خطوة في مسار إقامة السوق العربية المشتركة التي أقرّتها القمم العربية في الستينات من القرن الماضي بسبب التدخل الغربي والصهيوني.  أما اليوم فالتدخل الغربي فقد فعّاليته وهناك بدائل أخرى على الصعيد الدولي للتعاون والتنمية المشتركة.  والكيان الصهيوني يواجه مأزقا وجوديا رغم محاولاته لتثبيت وجوده في عدد من الدول التي رضخت للضغوط الخارجية فكان التطبيع مع الكيان الصهيوني محصورا فقط بين الحكومات.

الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي نشرت نداءً في مطلع 2021 عنوانه “نداء الوحدة”.  في هذا النداء تأكيد على أن الوحدة العربية ممكنة بسبب التحوّلات في موازين القوّة التي نجحت في الماضي منع أي تقارب عربي-عربي.  أما اليوم فهذه القوى معطّلة ولا يمكن الاختباء وراءها لعدم الانخراط في الخطوات التشبيكية التي توصل الامة إلى حالة الوحدة الاقتصادية والسياسية.  كما أن النداء أكّد تصوّر إمكانيات الأمة فيما لو تحققت الوحدة بغض النظر عن شكلها الدستوري.  فالكتلة الجغرافية والبشرية الممتدة على قارتين وموارد الطاقة والمعادن والثروات الزراعية والمائية تجعل هذه الامة قوّة لا يمكن تجاوزها.  كما أن النداء رسم تصوّرا لتنفيذ المسار.  المهم هنا هو التأكيد أن تلازم الوقوف مع قضية فلسطين هناك واجب في ادراج في الخطاب السياسي العمل من أجل تحقيق الوحدة.

عندما تأسس المؤتمر القومي العربي عام 1990 كان واضحا أن الهدف هو الوصول إلى الوحدة العربية للنهوض.  فلا نهضة عربية في ظل التجزئة، ولا استقلال سياسي في ظل التجزئة التي تفرز التبعية للخارج، ولا تنمية مستقلة في ظل التبعية، ولا عدالة اجتماعية في غياب التنمية، ولا مشاركة من مكوّنات المجتمعات العربية في تقرير المصير والخيارات الأساسية في ظل التجزئة التي تفرزها الهويات الفرعية، وأخيرا لا تجدد حضاري في ظل التجزئة والتبعية والفقر والطغيان والاقصاء.

النظام العربي الجديد قد تقوده أربعة ضلوع.  الضلع الأول هو سورية في المشرق العربي.  والجزائر هي المحور الثاني في المغرب العربي الكبير، وبلاد الحرمين ومعها اليمن في الجزيرة العربية، ومصر في دول وادي النيل.  هذا ما افرزته موازين القوّة خلال العقود الثلاثة الماضية بفعل المقاومة وبفعل صعود الكتلة الاوراسية ودول الجنوب الإجمالي.  سمة النظام العربي الجديد ستكون التركيز على المشتركات والايجابيات وترك نقاط الخلاف.  كما أن امن الأقطار العربية هي صلب النظام وسمته عدم إمكانية تجزئته.  فلا أمن لقطر عربي على حساب قطر آخر.  ولا أمن عربي إلاّ عبر الامن المشترك.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.