متابعات، نشرة أسبوعية – االعدد الثلاثون / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 29/7/2023 م …
يتضمّن العدد الثلاثون من نشرة “متابعات” الأسبوعية فقرة عن تداعيات التطبيع بين النظام المصري ( منذ 1977) والكيان الصهيوني، في مجال نقل وتَسْيِيل الغاز الطبيعي وتصديره، تليها فقرة في قالب عرض وتعليق بشأن “مُذكّرة التفاهم” بين الإتحاد الأوروبي وتونس، بشأن اعتقال وسجن المهاجرين غير النظاميين بتونس قبل وصولهم إلى أوروبا أو بعد ترحيلهم منها، وفقرة عن مكانة سوريا في تاريخ وحضارة البشرية من خلال التذكير بابتكار أول أبْجَدِية وأول وثيقة مكتوبة تحترم قواعد نحوية، في أوغاريت، مهد أول أبجدية متكاملة في تاريخ الإنسانية، وفقرة عن “لعنة المعادن” في إفريقيا، التي أصبحت ميدان صراعات مسلحة، حيثما وُجدت المحروقات والمعادن الأخرى كالنحاس والذهب والكوبالت، وفقرة عن بعض تداعيات الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على إمدادات الحبوب والأسمدة التي ارتفعت أسعارها بشكل قياسي، وتمسّك الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بإطالة أمد الحرب، وفقرة عن بعض مؤشرات الإقتصاد العالمي، وخاصة عن دور الشركات الإحتكارية الكبرى، وفقرة عن غطرسة الولايات المتحدة التي تظهر في الدّاخل ضد العاملين في مختلف القطاعات وفي الخارج عبر عسكرة الدبلوماسية ومحاولة عرقلة مشاريع جميع المنافسين، بل تحويل المنافسين والخصوم إلى أعداء، وفقرة قصيرة عن آفاق التعامل التجاري بغير الدّولار.
في جبهة الأعداء
لم يكن استسلام النظام المصري سياسيا وعسكريا فحسب، بل كان اقتصاديا أيضًا من خلال اتفاقية “كويز” أو المناطق الصناعية المؤهلة (Qualified Industrial Zone )، وهي سَبْعُ مناطق، خصوصًا ببور سعيد والقاهرة والإسكندرية (هناك اتفاقية مماثلة بين الكيان الصهيوني والأردن، قبل أن تلتحق الإمارات والمغرب وغيرها بركب التطبيع السياسي والإقتصادي والعسكري…) وهي عبارة عن ترتيبات أقرها الكونغرس الأمريكي لتسهيل دخول السلع الصناعية المصرية إلى السوق الأمريكية، شرط احتوائها على ما لا يقل عن 11,7% من “المُكونات” التي تستوردها مصر من الكيان الصهيوني، بداية من سنة 2004، وتم تخفيض هذه النسبة سنة 2007 إلى 10,5%…
توسّعت العلاقات الإقتصادية إلى الطاقة والمحروقات، بعد اكتشاف مخزونات هامة من الغاز قُبالة سواحل مدينة حيفا المُحْتَلّة وقبالة السواحل المصرية في البحر الأبيض المتوسط، ويعمل الكيان الصهيوني (بدعم من الولايات المتحدة وأوروبا) على خلق تنافس بين تركيا، حيث توجد شبكة من خطوط أنابيب نقل الغاز من روسيا وبلدان الإتحاد السوفييتي السابق إلى ميناء جيهان التركي، ثم إلى أوروبا قبل قرار أوروبا ( بأمر أمريكي) التوقف عن استهلاك الغاز الروسي، ومصر التي ترغب أن تخلق شبكة لتخزين وإعادة تصدير الغاز نحو أوروبا، وتعتزم حكومتا تركيا والكيان الصهيوني ( خلال لقاء قمة قادم ) توقيع اتفاق بهذا الشّأن، ما يؤدّي إلى خفض نشاط مَحَطّتَيْ “إيدكو” و “دمياط” لتَسْيِيل الغاز الصهيوني الذي يصل عبر خط أنابيب إلى مصر، قبل إعادة تصديره مُسَالاً إلى أوروبا التي تحتاج كميات كبيرة من الغاز، بعد قرار مقاطعة الغاز الروسي وهو عالي الجودة ورخيص الثمن، مقارنة بالغاز الصخري الأمريكي الذي فرضته الولايات المتحدة على حلفائها، وهو منخفض الجودة ومرتفع الثمن، وأدّى قرار التوقف عن توريد الغاز الروسي إلى مُضاعفة أسعار المحروقات وارتفاع نسبة التضخم، خصوصًا بفعل ارتفاع أسعار الحبوب والأسمدة بعد انخفاض حجم صادرات روسيا وأوكرانيا منها…
يُحاول منتجو الغاز (إيران وقَطَر والكيان الصهيوني ومصر ) تلبية جزء من حاجيات أوروبا للغاز، ومدّ خطوط أنابيب نقل الغاز إلى مصر وتركيا وقبرص، ووقّعت مصر والكيان الصهيوني اتفاقية مع الإتحاد الأوروبي، يوم 19 تموز/يوليو 2023، لنقل الغاز المسروق من سواحل فلسطين إلى محطات الإسالة في مصر (إدكو ودمياط التي تُديرها شركة “إيني” الإيطالية للطاقة)، ويتم شحنه سائلا إلى السوق الأوروبية، لفترة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وتدّعي الدّعاية الرسمية المصرية إن هذه الصفقة “للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة” وهي في الواقع لن تكون مصر غير مَعْبَر للغاز المنهوب من فلسطين إلى أوروبا، ولا يُتوقّع أن يتجاوز حجم الغاز الذي يُعاد تصديره من مصر، نسبة 10% من حجم الغاز الذي كانت تُصدّره روسيا إلى أوروبا، وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيدعم الاقتصاد المصري “بمبلغ مائة مليون يورو؛ للتغلب على الآثار السلبية التي أحدثتها الحرب الأوكرانية”، لكن وجب البحث في مفهوم “الدّعم” (عادةً يعني ذلك قرضًا ) وشروطه وكيفية إنفاقه، ومن المرجّح أن يكون مشروطًا بشراء معدات أو إنتاج (حبوب مثلا) من أوروبا التي رحبت بتعزيز العلاقات الإقتصادية المصرية الصهيونية، خصوصًا، بعد اكتشاف مخزونات كبيرة من الغاز في البحر الأبيض المتوسّط سنة 2015 وتوقيع اتفاقيات عديدة أهمها اتفاقية سنة 2018 وأخرى سنة 2019 و2023 ولا يرتقي دور مصر إلى شريك للإتحاد الأوروبي، بل لا يتجاوز دور مصر الوساطة لتسييل الغاز وعبوره نحو أوروبا، مقابل عُمُولَةٍ، بينما تُبالغ الدّعاية الحكومة، منذ سنة 2015، في تضخيم “الفوائد الإقتصادية والسياسية واجتذاب الإستثمارات الأجنبية، لتصبح مصر مركزًا إقليميا رئيسيا في مجال الطاقة…”، وهي دعاية ظَهَر زَيْفُها منذ 1979، عندما وَعَدَ الرئيس المصري أنور السادات بالفوائد العظيمة للتطبيع، ولم يرَ الشعب المصري سوى زيادة الفقر والبطالة والهجرة وارتفاع نسبة الأُمِّيّة، وفي مجال الغاز بالذّات كانت مصر تبيع الغاز إلى الكيان الصهيوني بأقل من سعر التكلفة، حتى نَضب الغاز وتم تفجير “مجهولين” لأنابيب نقل الغاز، وسدّد النظام غرامة (قد تبلغ ثلاثة مليارات دولارا ) للكيان الصهيوني بسبب “عدم احترام بنود الإتفاق”، وأصبحت مصر سمسارًا، تستورد الغاز الذي ينهبه الكيان الصهيوني من سواحل فلسطين… أَهَذِهِ فوائد التّطبيع؟
سوريا – مَهْد الحضارة الإنسانية
تم اكتشاف أقدم أبجدية في التاريخ في أوغاريت، ولذلك سُمِّيَت “أبجدية أوغاريت”، وهي مدينة قديمة على الساحل السوري، يعود تاريخها إلى 1500 قبل الميلاد، وتم العثور على هذه الأبجدية مكتوبة على ألواح صغيرة في القصر الملكي لهذه المدينة التي تم اكتشافها سنة 1948، ووفقًا لعلماء الآثار ، فإن “أوغاريت” هي أقدم نظام كتابة أبجدي رقمي، بنظام نحوي متكامل، في العالم.
نشأ نظام الكتابة “المسماري” في سوريا، في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، واستمر هذا النظام لأنه كان أسهل في التعلم والاستخدام من السومرية والأكادية، وتُؤَكِّدُ الألواح المكتشفة في المواقع الأثرية في رأس الشمرة ورأس ابن هاني بمحافظة اللاذقية الساحلية وجود مدارس لتعليم القراءة والكتابة بعدة لغات منها السومرية والأكادية والقبرصية المنوانية والحثية والمسمارية والحورية، وفقًا لبعض المُؤرخين واللُّغَوِيّين السوريين الذين أكدُوا إن نظام الكتابة المسمارية يتكون من 30 علامة أو رمزًا أبجديًا مسماريًا، منها 27 حرفًا ثابتًا والثلاثة الأُخري صوتيًة، وكانت أبجدية أوغاريت أساس ظهور الأبجدية الفينيقية التي تم بختكارها سنة 1000 قبل الميلاد ، وأساس الأبجدية الآرامية وغيرها من الأبجديات المشتقة من الفينيقية والآرامية، مثل العبرية واليونانية والنبطية والتّدمرية والسريانية والعربية.
نشأت على أرض سوريا (وبلاد ما بين النّهْرَيْن، أي دجلة والفُرات) أكثر من أربعين حضارة، عَمّرَ بعضها طويلا، فيما كانت الأخرى قصيرة الحياة، ووَرِثَت سوريا الكبرى (سوريا الحالية وفلسطين والأردن ولبنان) تنوعًا ثقافيا ودينيا وأثنيا نادرًا، وتُعتبر “أوغاريت” التي أسسها وطورها الكنعانيون بين 1200 و 1600 قبل الميلاد، من أهم هذه الحضارات التي أثّرت في المسار الحضاري والثقافي العالمي، وتُعَدّ أبجدية أوغاريت من أهم ما ورثته الإنسانية عن سوريا، غير أن السلطات الإستعمارية الفرنسية ( من 1918 إلى 1946) نهبت آثار سوريا، ومنها أوغاريت، وأرسلتها في سفن ضخمة إلى فرنسا ويوجد بعضها حاليا في متحف “اللوفر” بباريس، المليء بتراث البلدان التي استعمرتها فرنسا…
استهدفت المجموعات الإرهابية، وكذلك القوات الغازية الأخرى ( تركيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها) المواقع الأثرية السورية، وهي من تراث الإنسانية، في تدمر وفي محافظة اللاذقية ومحافظة حلب وغيرها…
“مُذَكّرة التفاهم” بين الاتحاد الأوروبي وتونس
وقع الاتحاد الأوروبي وحكومة تونس، يوم 16 تموز/يوليو 2023، مذكرة تفاهم لتقييد الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط، مقابل تلويح الإتحاد الأوروبي بطُعْم “التعاون الإقتصادي” مع تونس، إذا تمكّنت أجهزتها القمعية من مكافحة الهجرة غير النظامية وإعادة طالبي اللجوء المرفوضين إلى بلدانهم، ورَوّج الإتحاد الأوروبي ووسائل الإعلام كذبة “المُساعدة المالية بقمية 900 مليون يورو”، وهي في الواقع مبالغ وعَدَ بها الإتحاد الأوروبي سابقًا وعَلَّقَ تسديدها منذ سنة 2021، ولما تعمّدت أجهزة شرطة الحدود وخفر السواحل التونسية تجاهل القوارب المُحَمَّلَة بالمهاجرين، ضغطت حكومة إيطاليا على الإتحاد الأوروبي، بهدف الحَدّ من عدد المهاجرين الذين يصلون شواطئ جنوب إيطاليا بحكم قُرْبِها من سواحل تونس وليبيا. أما المبلغ الحقيقي الذي وعد به الإتحاد الأوروبي فيتراوح بين 100 و 150 مليون يورو، يتم إنفاق الجزء الأكبر منها في شراء مُعدّات أوروبية، منها قوارب سريعة وأجهزة مراقبة وتصوير وغيرها من وسائل المراقبة التي تستخدمها شرطة الحدود وخفر السواحل…
بدأ الحديث عن ارتفاع عدد مواطني إفريقيا جنوب الصحراء بتونس، بالتزامن مع الإنتخابات العامة الإيطالية التي فاز بها اليمين المتطرف، وانتشر الخطاب العُنْصُري في تونس، باستخدام نفس العبارات التي يستخدمها اليمين المتطرف في أوروبا ضد المهاجرين العرب والأفارقة ومن تم تصنيفهم في خانة “المُسلمين”، في المقابل، وبذلك تم توجيه غضب فقراء تونس، بسبب ضَنَك العَيْش، ضدّ فقراء آخرين لا يختلفون معهم سوى في اللون، وبلغ حد الإعتداء على أصيلي إفريقيا ما دون الصحراء بالشتائم وبالضرب وباستعبادهم وتشغيلهم مجانًا، لتصبح تونس مكانًا غير آمن لإعادة اللاجئين المقبوض عليهم والمطرودين من أوروبا، وفقا لمنظمات الإغاثة الدولية، وكانت ذروة الإشتباكات بين المهاجرين الأفارقة وسكان تونسيين، في بداية تموز/يوليو 2023، فكانت فرصة لتعميم موجة القمع والإعتقالات ونقلت قوات الأمن التونسية مئات اللاجئين في شاحنات إلى الصحراء، على حدود تونس مع ليبيا والجزائر، بدون ماء ولا غذاء، في ظل تعدّد زيارات وفود الإتحاد الأوروبي إلى تونس، وتُوِّجَتْ هذه الزيارات واللقاءات بتوقيع “مذكرة تفاهم” كجزء من اتفاقية بعنوان “من أجل شراكة استراتيجية شاملة”، ولم تأت هذه المُذَكِّرَة بجديد، بل أكّدت على “المساعدة المالية” التي يُفْتَرَضُ أن يُقدّمها الإتحاد الأوروبي، مقابل خدمات تتمثل في حراسة حدود أوروبا على بعد مئات الكيلومترات “لمكافحة الهجرة غير النظامية عبر البحر الأبيض المتوسط”، وبذلك تم اختزال “الشراكة” المزعومة في تعزيز جهاز القمع التونسي لمواجهة الفُقراء المَحَلِّيِّين والأفارقة الراغبين في الهجرة بحثًا عن حياة أَفْضَلَ، فيما خفّضت دول الإتحاد الأوروبي عدد تأشيرات دخول مواطني المغرب العربي إلى أراضيها، مكتفية بنهب خبرات وكفاءات المغرب العربي وإفريقيا من الأطباء والمُهندسين والفَنِّيِّين
استغل الإتحاد الأوروبي الأزمة الاقتصادية في تونس لِتحويلها إلى شركة أمْنية مُتَعَاقِدَة من الباطن مع الإتحاد الأوروبي لحراسة حدوده، وفرض حالة الطوارئ في البحر الأبيض المتوسط وسواحله، دون معالجة مشاكل البطالة والفقر وجذور الهجرة في تونس وفي جنوب الصحراء الكبرى…
تعدّ تونس حاليًا ما بين ثماني مئة ألف و مليون عاطل عن العمل، وهو معدل بطالة مرتفع للغاية يصل أحيانًا إلى 18 أو 19٪ من السكان العاملين. والثلث من بين هؤلاء مؤهلون تأهيلا عاليا، ومع ذلك لا يمكنهم الحصول على تأشيرات سفر. لذلك ينبغي أن نشجع نظاما للتبادل والتنقل يسمح للشباب التونسي، من العمال الموهوبين أو اليد العاملة غير الكفأة، بالسفر والحق في الإقامة في أوروبا والتمكن من العمل هناك.
لم يتغير وضع عُمال وفلاّحي وموظفي وفقراء تونس بعد انتفاضة 2010/2011، بل ساء الوضع وارتفع عدد المُعَطّلين عن العمل من حوالي 500 أو 600 ألف إلى حوالي مليون، ولا تزال نسبة بطالة الشباب تفوق العشرين بالمائة ما جعل الآلاف من التونسيين يُغامرون بحياتهم ويُهاجرون بشكل غير نظامي عبر البحر الأبيض المتوسّط، ولا يمكن لأي زعيم أو حزب أن يَتّسِمَ بالجِدّ]َّة إذا لم يُقدّم حلولا عَمَلية قابلة للتنفيذ، تُؤدّي إلى تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأغلبية المواطنين، بدل إثارة النّعَرات وإطلاق حرب بين الفُقراء.
إفريقيا – لعنة المعادن
اندلع خلاف حاد بين شركة التّعدين الصينية (موليبدنوم) ونظيرتها الكُنْغُولية ( جيكامينز) وهي شركة قطاع عام محلّيّة، اتهمت شركتَها الصينية بإخفاء معلومات حول حجم احتياطياتها، خصوصا من النحاس والكوبالت في الكونغو، وأدّى الخلاف إلى حظر تصدير هذه المعادن بين تموز/يوليو 2022 ونيسان/أبريل 2023، مما أدى إلى بقاء عشرات الآلاف من الأطنان من النحاس والكوبالت في المخازن وفي الموانئ، بما يُعادل 7% من الإنتاج العالمي السنوي، ما رفع سعر الكوبالت في الأسواق العالمية سنتَيْ 2022 و 2023، وَيَنْدَرِجُ هذا الخلاف ضمن سياق أوسَعَ فقد أعلنت حكومة جمهورية الكونغو الدّيمقراطية، منذ فَوْز فليكس تشيسكيدي بالرئاسة، إعادة التفاوض مع الشركات الأجنبية بشأن عقود استغلال الثروات المنجمية وزيادة حصّة الكونغو من عائداتها، وزار الرئيس فليكس تشيسكيدي الصين بنهاية شهر أيار/مايو 2023 لمناقشة عقود التعدين الصينية، وحصل على موافقة الحكومة الصينية لإعادة التفاوض.
نشرت وسائل إعلام كونغولية، بين 11 و18 تموز/يوليو 2023، خبر اتفاقية جديدة بين شركة التّعدين الصينية العملاقة ( ) وشريكتها المحلية “جيكامينز” ونشرت تفاصيل الاتفاقية المتعلقة بمنجم ( Tenke Fungurume ) كنموذج للإتفاقيات الجديدة بخصوص النحاس والكوبالت وغيرها من المعادن، حيث وافقت شركة التعدين الصينية (موليبدنوم) على دفع مليارَيْ دولار لشركة ( Gecamines )، الكنغولية، شريكها في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لإنهاء نزاع حول حقوق مشروع التعدين المشترك المملوك للقطاع العام، وتمثل هذه الاتفاقية نقطة تحول رئيسية في العلاقات بين الكونغو والصين بشأن استغلال الموارد المعدنية للبلاد، وتتمثل تفاصيل الجانب المالي للإتفاق في تسديد الصين 800 مليون دولار لشركة Gecamines كتعويض وما لا يقل عن 1,2 مليار دولار من الأرباح على مدى عدة سنوات، ويُخول هذا الإتفاق حصول الشركة المحلية ( Gecamines ) على 20% من القيمة الإجمالية لمنجم (Tenke Fungurume – TFM المتعاقد عليه من الباطن وشراء حجم إنتاج يتناسب مع حصتها البالغة 20% في المنجم، وفقًا للقانون الكونغولي، وتُمكّن الإتفاقات الجديدة جمهورية الكونغو الديمقراطية من تحسين وضعها للإستفادة من مواردها المعدنية الهائلة، بصفتها المنتج والمورد الرائد للمعادن في إفريقيا ولأكثر من 70% من الكوبالت في العالم، فيما تعاني البلاد (وخصوصا العاملون والفقراء) من الفقر والتّدخل الأجنبي منذ عُقُود طويلة، ويمكن أن يكون لهذه الخطوة تأثير كبير على اقتصاد البلاد ورفاهية شعبها.
اتسم الوضع في الكونغو الديمقراطية وأنغولا وموزمبيق ونيجيريا وهي دول نفطية وغَنِيّة بالمعادن، بالإضطراب والحروب التي تُغذّيها دول امبريالية وشركات أجنبية، منذ أكثر من ستة عقود في بعضها ومنذ الإستقلال (1975) في موزمبيق وأنغولا، وتختلف طبيعة التّدخلات من الإنفصال ( جنوب السودان) أو محاولات انفصال الأقاليم الغنية بالنفط والمعادن (مقاطعة كاساي في الكونغو وإقليم بيافرا في نيجيرا ومقاطعة كابيندا في أنغولا الخ)، وكانت الولايات المتحدة وحكومات دول أوروبا والكيان الصهيوني، تدعم وتُجهز وتدرب القوات الإنفصالية فيما كانت الحكومات المركزية، وخاصة المحسوبة في عداد التّقدّمية، تحصل على دعم الإتحاد السوفييتي وكوبا، إلى ان انهار الإتحاد السوفييتي سنة 1991، فتغيرت المعادلة، وتغير شكل التّدخّل، وأصبح جيش جمهورية رواندا يتدخل عسكريا وبشكل مباشر في الكونغو وموزمبيق، بدعم القوى الإمبريالية وشركاتها، فضلا عن الشركة الحكومية (Crystal Ventures ) التي تهيمن على العقود الحكومية في رواندا، بسبب ارتباطها بالحزب الحاكم وبالرئيس “بول كاغامي”، في قطاعات الطاقة والبناء والأمن، ولها جيش من المرتزقة يتدخّل عسكريا في جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وإقليم دارفور السوداني المُحاذي لتشاد، وفي موزمبيق، بدعم مالي وعسكري ولوجيستي من الإتحاد الأوروبي الذي يدعم الرئيس الرواندي “بول كاغامي” وحزبه ( الجبهة الوطنية الرواندية )، وهو المسؤول عن فعمليات الإبادة الجماعية التي اتخذت طابعًا أثنيا في رواندا، في النصف الأول من عقد تسعينيات القرن العشرين…
أصبح جيش رواند ومرتزقة شركة (Crystal Ventures ) شرطة القارة، بدعم من الإتحاد الأوروبي، وأحيانًا بتفويض رسمي من الأمم المتحدة، وخاصة في شمال موزمبيق، منذ سنة 2021، حيث خرج من تحت الأرض “جهاديون” إرهابيون يُهدّدون حقول النفط والغاز، ما وَفَّرَ ذريعةً للجوء إلى قوى خارجية، تمقلت في ثلاثة آلاف من الجنود النظاميين والمرتزقة الروانديين لحماية حقول المحروقات، بتمويلقدره عشرون مليون يورو سنويا من الاتحاد الأوروبي الذي تعمل شركاته في هذا البلد الذي تُقدّر احتياطيات النفط فيه بنحو 12 مليار برميل، وخمسة مليارات متر مكعب من الغاز، فضلا عن اكتشاف مخزون هائل من النفط في مجمل السواحل بشرق إفريقيا (الصومال وكينيا وموزمبيق…)، كما أصبح الجيش والمرتزقة أداةً يستخدمها رئيس رواندا لسحق خصومه، وأداة لدعم عملاء الإمبريالية في إفريقيا، حيث أصبح من المُعتاد اتهام الخُصُوم السياسيين بالإرهاب للحصول على دعم القوى الإمبريالية ( الأمريكية والأوروبية بشكل أساسي) والكيان الصهيوني بذريعة مكافحة الإرهاب، وعلى سبيل المثال زار “بول كاغامي” (نيسان/ابريل 2023) نظيره في بنين وتفاوض معه لبيع خدمات قواته ضد المجموعات الإرهابية، وكذلك إخماد أي تمرد ضد السلطة، ما يزيد من نفوذ نظام رواندا في إفريقيا، وما يُعَزِّزُ مكانته كمتعاقد من الباطن مع الإمبريالية، أي كسمسار أو وكيل وعميل للإمبريالية، وبذلك توسّعت طموحاته إلى ما هو أبعد من منطقة البحيرات الكُبْرى، وعلى مدى السنوات العشر الماضية تم نشر أربعين ألف جندي رواندي، دربتهم الولايات المتحدة وفرنسا، في مناطق “النزاعات المُسلّحة” بإفريقيا، ما يجعل من رواندا ونظامها وجيشها ومرتزقتها حلفاء موثوقين للإمبريالية التي تُعوّل عليهم في الحفاظ على النظام في إفريقيا بثمن رخيص.
الحرب في أوكرانيا وإمدادات الحُبُوب
توقّف شحن الحُبُوب من موانئ أوكرانيا، منذ بداية الحرب (شباط/فبراير 2022) قبل أن تُوقّع روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة وتركيا (لأن المحادثات جرت في مدينة اسطنبول) اتفاقا (تموز/يوليو 2022) لاستئناف شحن حبوب أوكرانيا عبر موانئ البحر الأسود، لمعالجة أزمة الغذاء العالمية، خصوصًا في البلدان الفقيرة، ولكن لم يتم تصدير الحبوب إلى البلدان الفقيرة، بل استحوذت عليها تركيا والدّول الأوروبية، لتُعيد تصديرها بحوالي ضعف أسعارها المعتادة، وانتهت مدة الإتفاق الذي تم تمديد صلاحياته عدة مرات، يوم 18 تموز/يوليو 2023، وأعلنت حكومة روسيا عدم تجديد الإتفاق “بسبب إخلال ببند رئيسي فيه، وعدم التزام الدول الغربية بتنفيذ شروط الإتفاق، ومنها عدم إدماج مصارف روسية على صلة بالصفقة في نظام سويفت للتحويلات المالية الدّولية، وعدم السماح بتصدير الأمونيا الروسية إلى الأسواق العالمية…” وأكّد بيان الحكومة الروسية ” استعداد روسيا تقديم الحبوب مجانا أو بأسعار مُنخَفضة للدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا…”
استفادت أوكرانيا من اتفاق الحبوب الذي مَكّنَها من تصدير نحو 33 مليون طن من الحبوب والأغذية والأسمدة إلى بقية دول العالم بين آب/أغسطس 2022 ومنتصف تموز/يوليو 2023، بواسطة أكثر من أَلْف سفينة، كما استفادت تركيا ودول أوروبا التي ضاربت بالأسمدة وبالإنتاج الزراعي الأوكراني لبيعه بأسعار مُضاعَفَة إلى البلدان التي كان يُفْتَرَضُ أن تستفيد من الإتفاق، منها مصر والجزائر وتونس وبلدان إفريقية عديدة، حيث تظهر البيانات التي أوردتها وكالة “بلومبرغ” الأمريكية، نقل 40% من الحبوب المشحونة بحرًا إلى أوروبا و30% نحو آسيا و13% إلى تركيا و12% إلى أفريقيا و5% للمشرق العربي، وحال إعلان روسيا نيتها عدم تجديد الإتفاق بسبب عدم استفادة الدّول الفقيرة منه، أعلنت بيانات حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وأوكرانيا “إن روسيا تقصف مخازن تخزين الحبوب الأوكرانية في أوديسا”، وهو ما نَفَتْهُ روسيا رسميا، يوم 19 تموز/يوليو 2023، مُعلنة: “إن روسيا تقصف مصانع ومستودعات الأسلحة، وما القصفُ الذي استهدف أوديسا سوى ردا على الهجوم الأوكراني على جسر القرم”، وأعن ناطق باسم الأمم المتحدة: “لم تٌدّم الأمم المتحدة أي ضمانات وتتعهّد برفع القيود المتعلقة بتصدير الأسمدة الروسية أو التعامل المصرفي…” فما دَوْر الأمم المتحدة إذًا؟
تختلف التوقعات بشأن تأثير تجميد العمل باتفاق الحبوب، بين من يتوقع “أن تأثير التجميد سيكون محدودا على وضع الأمن الغذائي العالمي، لأن كثيرا من الدول اتخذت إجراءات احتياطية” وبين من يُنْذِرُ بأزمة حادّة، وتُشير الأخبار إلى ارتفاع أسعار القمح بنحو 77,5 دولارا للطن الواحد، أو أكثر من 12% بين يومَيْ 18 و 21 تموز/يوليو 2023، من نحو 650 دولارا إلى 727,5 دولارا، وفق موقع وكالة “بلومبرغ” الأمريكية، وتظافرت عدّة عوامل ساهمت في رفع أسعار الحبوب، من بينها موجة الجفاف في معظم مناطق العالم، حيث أعلنت حكومة الصين انخفاض إنتاج القمح لموسم الصيف لأول مرة منذ سبع سنوات، نتيجة هطول أمطار غزيرة على المناطق الزراعية الرئيسية قبيل موسم الحصاد. أما صندوق النقد الدّولي فقدْ ندّدَ بانسحاب روسيا من الاتفاق، “لأن هذا القرار يُفَاقِمُ أزمة الأمن الغذائي العالمي وينذر بارتفاع أسعار الغذاء وزيادة التضخم، خاصة بالنسبة للبلدان المنخفضة الدخل”، وفق وكالة رويترز يوم الإربعاء 19 تموز/يوليو 2023، مع الإشارة إننا لم نعهد من الصندوق، منذ تأسيسه سنة 1944، اهتمامه بالدّول الفقيرة كما لا يذكر التاريخ تنديده بأي موقف أو إجْراء أو عدوان أمريكي…
تُطالب روسيا بتلبية مطالبها وبتنفيذ اتفاق مواز يخفف القواعد المفروضة على صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة.
لم تتوقف الولايات المتحدة وحلفاؤها عن إطالة أمد الحرب أوكرانيا، فقد ارتفعت شحنات الأسلحة من 30 دولة من دول الناتو إلى أوكرانيا بشكل حاد في الأشهر الأخيرة، وَزَوَّدَ حلفُ شمال الأطلسي جَيْشَ أوكرانيا ب 230 دبابة قتال رئيسية و 1550 مركبة مدرعة لشن هجوم مضاد، بنهاية نيسان/ابريل 2023، فضلا عن المعدّات الثقيلة والذخائر العنقودية التي قَدّمتها الولايات المتحدة، واقترحت المفوضية الأوروبية (أيار/مايو 2023) ميزانية إضافية لزيادة قدرة إنتاج الذخيرة إلى مليون قذيفة سنويًا لتجديد مخزونها ومساعدة أوكرانيا، وفي منتصف شهر أيار/مايو 2023، أعلنت الحكومة الألمانية تقديم “مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة 2,7 مليار يورو”، وقدّمت الولايات المتحدة “مساعدات” عسكرية بنفس القيمة، إضافة إلى عتاد وصواريخ مُضادّة للطائرات بقيمة مليارَيْ دولارا، ما يرفع الدّعم العسكري الأمريكي المُباشر لأوكرانيا إلى حوالي أربعين مليار دولارا، منذ بدء الهجوم الروسي في 24 شباط/فبراير 2022…
عن وكالتَيْ بلومبرغ و رويترز من 19 إلى 21 تموز/يوليو 2023
بعضٌ من مؤشّرات الإقتصاد العالمي
كان قرار الإغلاق ووقف الرحلات وحركة التجارة ونقل السّلع، فُرْصَةً لإعادة هيكلة الإقتصاد العالمي والقضاء على معظم الشركات الصغيرة المُستقلة، بهدف تعميم نظام التعاقد من الباطن (المناولة) وإعادة هيكلة التجارة العالمية التي كان معدل نموها سلبيا سنة 2022، وبداية سنة 2023، وفق مجموعة “سيتي بنك”، ما ألحق أضرارًا كبيرة بالدول “النامية”، أي الواقعة تحت الهيمنة، التي لا تستطيع ضخ تحويلات مالية كبيرة لتعزيز قدرة المواطنين على الإستهلاك، كما فعلت الولايات المتحدة والدول الغنية، وارتفع الطلب، سنة 2021، وزاد معه النمو التجاري، قبل أن يتراجع سنة 2022، بفعل التغيير الحاصل في طبيعة الإنفاق، أي إن الإنفاق زاد على الخدمات (الإتصالات والهواتف والحواسيب والتجهيزات الإلكترونية) وانخفض على السلع المادّية الأخرى، وتشير التوقعات إلى تدهْور نمو الاقتصادي العالمي الذي لا يتوقع أن يتجاوز 2,3% سنة 2023، وأقل من ذلك سنة 2024، بعد رَفْع أسعار الفائدة التي تُخفّض الطّلب على السلع، لأن المصارف المركزية تهدف من وراء رفع سعر الفائدة إلى تحفيز التباطؤ بذريعة ” السيطرة على التضخم”، ولو أدّى ذلك إلى تباطؤ النمو…
يُرَوّج بعض الإقتصاديين من أتباع المدرسة الكينزية أن العولمة بلغت ذروتها ( هناك خلاف حول مفهوم العولمة وماهيتها ) لتفسير مَيْل نمو التجارة العالمية نحو الإنخفاض منذ أكثر من عقد، ويعتمدون في ذلك على بعض البيانات الجُزْئية والمُتَحَيِّزة التي يُصدرها صندوق النقد الدّولي ومنظمة التجارة العالمية، والتي لا تهتم بظروف عمل وحياة الكادحين والفُقراء، بل تورد أرقامًا جافّة، عن النمو، دون الإهتمام بمن يستفيد من النمو.
كانت صادرات العالم، في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين ( حكم النيوليبرالية ببريطانيا والولايات المتحدة) تعادل 15% من الناتج الإجمالي العالمي، وارتفعت نسبتها إلى نحو 25% قُبيْلَ أزمة 2008، ثم بدأت ينخفض معدّلها لتبلغ نسبتها حوالي 20% سنة 2020، وفق بيانات صندوق النقد الدولي، الذي يُفسّر ارتفاعها إلى 25% بفعل تعميم ( فَرْض ) العولمة في جميع أنحاء العالم، وتُظْهر بيانات صندوق النقد الدولي انخفاض معدل نمو التجارة العالمية أقل من نمو الناتج الإجمالي العالمي، خلال العقد الذي سبق الإغلاق سنة 2020، وذلك لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وتتوقع منظمة التجارة العالمية انخفاض نمو التجارة العالمية مجددا إلى ما دون نمو الناتج الإجمالي العالمي سنة 2023، بسبب الإجراءات الحِمائية والتوتر الجيوسياسي…
لم يُعرقل انخفاض نمو التجارة العالمية ارتفاع إيرادات وأرباح أكير شركات البيع بالتجزئة في العالم، فقد سجلت أكبر خمس شركات تجزئة (أمازون، وول مارت، هوم ديبت، كاستكو ومجموعة سي في إس الطبية ) ارتفاع إيراداتها بقيمة 1,6 تريليون دولارا سنة 2021 وبقيمة 1,8 تريليون دولارًا سنة 2022، وارتفعت إيرادات “شركة وول مارت الأمريكية” من 559 مليار دولارا سنة 2021 إلى نحو 573 مليار دولار سنة 2022…
لا توجد من بين الشركات الخمس شركة تنتج تجهيزات أو سلع ضرورية، فقد حلت شركة أمازون في المرتبة الثانية (بعد وول مارت) بإيرادات بلغت 470 مليار دولارا سنة 2021 وارتفعت إلى 514 مليار دولار سنة 2022 واحتلت مجموعة سي في إس الطبية ( خدمات الصيدلة والرعاية الصحية وخدمات البيع بالتجزئة) المرتبة الثالثة بإيرادات بلغت 292 مليار دولارا سنة 2021، ونحو 322 مليار دولار سنة 2022، وحلّت شركة كاستكو المتخصصة في تجارة التجزئة في المرتبة الرابعة بإيرادات بلغت 196 مليار دولارا سنة 2021، وبنحو 227 مليار دولار سنة 2022 وحَلّت شركة هوم ديبت المتخصصة في منتجات المنازل والبناء والخدمات وغيرها في المرتبة الخامسة بإيرادات قدرها 157 مليار دولار سنة 2022، بارتفاع 4% عن سنة 2021…
الولايات المتحدة، عدو رئيسي للإنسانية
بدأت موجة الإضرابات تتسع إلى قطاعات عديدة خلال صَيْف 2021، وبلغت حدًّا غير مسبوق، منذ حوالي نصف قَرْن، صيف سنة 2023، وإذا كان إضراب كاتبي السيناريو وممثلي هوليود الأكثر حضورًا في وسائل الإعلام، فإن العديد من الإضرابات التي سبقته والتي تجري حاليا (تموز/يوليو 2023) أو المزمع تنفيذها قريبا تشمل قطاعات عُمّال التوصيل ( يو بي إس ) وعمال صناعة السيارات ( “جنرال موتورز” و “فورد” و “فيات-كرايسلر” ) وقطاعات البحث الجامعي وغيرها، أو ما يفوق مليون عامل وموظف ينتمون إلى مختلف النقابات (لا يمكن للعاملين غير المنتسبين إلى نقابات تنفيذ الإضراب)، وقد تشمل الإضرابات الفنيين في المجال السَّمْعِي/ البَصَرِي، يمكن تلخيص المطالب في زيادة الرواتب ومعاشات التقاعد وتحسين ظروف العمل، والحق في التأمين الصحي والإجتماعي، وتمكّن النقابيون من تسليط الضوء (رغم التّعتيم الإعلامي) على الأرباح القياسية التي حققتها العديد من المصارف والشركات الإحتكارية، بفضل ضخ المال العام، سنة 2008 ثم سنة 2020، ولم يتم التوصل إلى حلول لتفادي الإضرابات…
يُقابل هذا القمع والإستغلال والإضطهاد داخل الولايات المتحدة، عجرفة وعدوان على الشعوب والبلدان، سواء ضمن حلف شمال الأطلسي أو بشكل مستقل عنه، في إطار سياسة القطب الواحد الذي لا يترك متنفسا للحلفاء ولا للمنافسين أو الخصوم، مثل الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة عَدُوًّا وتدعي إنها تُشكل خطرًا على الأمن القومي الأمريكي !
تحاول الولايات المتحدة إقصاء الصين (أو روسيا أو أي منافس) من العديد من المجالات، من بينها مجال التقنيات الحديثة للإتصالات والشبكات الرقمية، للتحكم في التكنولوجيا المعتمدة على الأقمار الصناعية والكابلات البحرية، وهي ميادين مُخَصّصة للتنافس بين القوى العًظْمى القادرة على شق المحيطات ومد حوالي 1,4 مليون كيلومترًا من الألياف المغطاة بالمعادن وأكثر من 500 من الكابلات البحرية الموجودة بالفعل أو المُخَطَّط لها، والتي تنقل 99% من البيانات العابرة للقارات ونحو عشرة مليارات دولارا من المعاملات المالية الدولية يوميا، وتصل إلى ما يقرب من 1400 محطة ساحلية في جميع أنحاء العالم.
يتمثل الأمر في نقل كمية كبيرة من البيان بأقل التكالف وفي أقرب وقت، ولما بدأت الصين تتحكم بالتكنولوجيا في مجال الطاقة الشمسية وفي مجال الإلكترونيات وفي مجال الإتصالات، أقرت الولايات المتحدة، ومن ورائها دول الإتحاد الأوروبي وكند وبريطانيا وأستراليا واليابان إقصاء الشركات الصينية، وتمثل شركة “هواوي” للإتصالات نموذجًا لمحاولة إقصاء الصّين، بهدف عرقلة وتأجيل وصولها إلى المركز الأول (بدل الولايات المتحدة) وقيادة المنظومة الرأسمالية العالمية…
يُشكل السباق في مجالات التكنولوجيا الحديثة رهانًا ضخما، يتطلب استثارات هائلة، فقد استثمرت الشركات الأمريكية الإحتكارية مثل “غوغل” و “ميتا” و “مايكروسوفت” حوالي مليارَيْ دولارًا في الكابلات بين سنتَيْ 2016 و 2022، وهو ما يمثل 15% من الإجمالي العالمي. خلال السنوات الثلاث المقبلة، ويتوقع أن ترتفع الإستثمارات خلال السنوات 2023 – 2025 إلى أربعة مليارات دولارا إضافية، تُمثل نحو 35% من الإنفاق الإجمالي المتوقع على الكابلات، وتعمل الولايات المتحدة على استبعاد الصين من سوق الكابلات البحرية ومن صناعة التقنيات الرقمية الجديدة برمتها، لأنها تريد الحفاظ على سيطرتها لأسباب عسكرية وجيو- استراتيجية وسياسية، واختلاق ذرائع واهية مثل “التّجسّس”، بينما أظهرت الوقائع إن الولايات المتحدة (التي تسيطر على شبكة الإنترنت ) والكيان الصهيوني يتجسّسان على الحُلفاء والأصدقاء والأعداء والمنافسين على حدّ السّواء، واعتراض البيانات في المحطات الأرضية، ومنعت الولايات المتحدة، سنة 2018، شركات آمازون وميتا الأمريكيتَيْن من التعاون مع الشركة الصينية “تشاينا موبيل”، لِمَد{ِ كابل من كاليفورنيا إلى سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ، وحَظَرت الولايات المتحدة مشاركة الصين في أي مشروع تكنولوجي، كما تعرقل الولايات المتحدة أي خطوة أو حتى محاولة صينية لربط جنوب شرق آسيا بأوروبا أو بالولايات المتحدة، وبقي تنفيذ مثل هذه المشاريع محصورًا بين بضْع شركات احتكارية، أمريكية المنشأ، تستفيد من العقود الحكومية الأمريكية ومن المال العام، رغم فارق تكلفة الأشغال التي تقل بنسبة تتراوح بين 20% و 30% عندما تُنفّذها الشركات الصينية، بنفس الجودة، وعندما تعجز الولايات المتحدة عن الرّدع بواسطة الحَظْر والعقوبات والغرامات تلجأ إلى الحلول العسكرية، وهي عنيفة بطبيعتها، مثل تفجير خط “السّيْل الشّمالي” (نورد ستريم) لنَقْل الغاز بين روسيا وألمانيا…
تقويض بطيء لهيمنة الدولار
صَرّحت وزيرة الخزانة الأمريكية “جانيت يلين” في مقابلة مع شبكة سي إن إن: “إن استخدامنا للعقوبات المالية المرتبطة بالتعامل بالدولار يحتوي خطر تقويض هيمنة عملتنا، بمرور الزمن، على أن الدّولار لا يزال يُحافظ حاليًّا على هيمنته بفضل الأسواق المالية العالمية”، ويُشكّل الدّولار أحد عوامل الهيمنة الأمريكية، وقد يُساهم انهياره في خَلْقِ أزمةٍ تُقوّض الهيمنة الأمريكية على التحويلات المالية الدّولية وعلى المبادلات التجارية العالمية التي يتم معظمها بالدّولار ما يجعل الدّولار مُهيمنا على الأسواق المالية العالمية، ولذلك تتخوف الحكومة الأمريكية وأَوْساط المصارف ورأس المال المالي، بقيادة وول ستريت، من الزيادة الكبيرة في استخدام العُمْلَة الصينية (يوان) لتمويل التجارة العالمية، ومنها تجارة النّفط التي ساهمت في ترسيخ هيمنة الدولار، والتي أصبح قِسْمٌ منها يتم بعملات أخرى، ويتوقّع أن يزداد استخدام العُملات المحلية والتجارة بغير الدّولار بين العديد من البلدان، منها الدّول المُنْتَمِيَة إلى مجموعة بريكس أو مجموعة شنغهاي، أو بين روسيا والصين ودول أخرى يخضع بعضها للحضْر الأمريكي والعقوبات أحادِيّة الجانب، رغم حُدُود قابلية العملات المحلية للتحويل، بما فيها اليوان الصيني أو الروبل الروسي، أو عملات البرازيل والأرجنتين في المنظومة المَصْرِفِيّة الدّولية، غير أن هذه الصيغة تدفعها لزيادة المبادلات التجارية فيما بينها، كَحَلٍّ، ولو مُؤَقّت، لانخفاض احتياطيات الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، إذْ يُتَوَقّع أن يستمر رأس المال المالي في تفضيل الدولار الذي قد يبقى مهيمنا لفترة أخرى، لأن انحدار القوة الأمريكية سوف يكون بطيئًا…
التعليقات مغلقة.