عن أزمة حركة التحرر العربية وتوصيف النظام العربي في مرحلة الانحطاط الراهنة / غازي الصوراني

غازي الصوراني ( فلسطين ) – السبت 29/7/2023 م …





لعل العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها، حيث انتقل النظام العربي بمجمله، من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي سابق، إلى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي والاقتصادي كعنوان جديد، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق بين التحالف البيروقراطي – الكومبرادوري المهيمن على النظام العربي من جهة، وبين التحالف الأمريكي – الإسرائيلي من ناحية ثانية، مما فاقم من مظاهر الإفقار والبطالة والحرمان، والاستبداد المرتكز إلى الأجهزة الأمنية، في ظل حالة غير مسبوقة من العزلة الهائلة الاتساع بين الشعوب وأنظمتها ، وهي حالة أسهمت بدورها في اتساع انتشار التيارات الدينية الأصولية “الإسلام السياسي” الذي قد يسيطر على المشهد السياسي الرسمي العربي بديلاً للأنظمة المتهالكة الراهنة إذا ما تم التوافق بينه وبين النظام العالمي الرأسمالي، الأمر الذي يؤكد على ضعف وتراجع فصائل وأحزاب حركة التحرر العربية وتفاقم أزمتها الذاتية إلى درجة أوصلتها إلى هذه الحالة من الانكفاء وغياب التأثير في مجريات الوضع السياسي والمجتمعي العربي.
هنا تتمظهر المؤشرات والعوامل الذاتية، الدالة على أزمة كافة الأحزاب والفصائل والقوى التي تشكل في مجموعها حركة التحرر العربية ، فالأزمة في تقديري ليست مشكلة “تخلف وتقدم” فحسب على نحو ما يذهب إليه المثقف الليبرالي ، لان هذه الصيغة ، تخفي علاقة التبعية البنيوية لنظام العولمة ، كما تخفي دور الصراع الطبقي كمحدد رئيسي في صياغة مستقبل حركة التحرر العربية .
والسؤال هنا، إذا كانت تلك هي القضية ، وهذه هي الأزمة والطبقة المسؤولة عنها، وكان الحل، هو السير على طريق التحرر الوطني والديمقراطي والتنموي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صراعات وتحولات اجتماعية عميقة، تزيح عن السلطة تلك الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن الأزمة والعاجزة عن حلها، فلماذا إذن تعثر سيرنا على هذا الطريق ؟ هنا يتضح بجلاء عجز العامل الذاتي ، الذي نستنتج منه، إن حركة التحرر العربية في ظل أوضاعها الراهنة ، لم تعد حركة ثورية بسبب انتقال معظم أطرافها إلى النهج البورجوازي وبالتالي إلى المواقع السياسية البورجوازية الحاكمة أو المشاركة فيها ، كما هو الحال في السلطة الفلسطينية ومعظم البلاد العربية .
من ناحية أخرى ، يبدو أن فجوة الانفصام بين النظرية الثورية وممارستها في فصائل وأحزاب الحركة التحررية العربية ، كانت –ولا تزال- واسعة إلى درجة التفارق والتناقض بينهما، وهذا ما يفسر بسهولة أسباب الهزائم المتتالية التي منيت بها الثورة بمختلف نواحي القصور والعجز التي يحفل بها تكوين وممارسات القيادات اليسارية، وعلى سبيل المثال فإن الغالبية العظمى من قيادات اليسار ورموزه بدلاً من أن تعيش بين جماهيرها الطبقية بين العمال وفقراء الفلاحين، وتتكلم لغتها وتربط مصائرها ومصائر أسرها بمصيرها ، عاشت نوعاً من الإنفصام الواضح بين الحزب و الفكر الثوري من ناحية والوجود الاجتماعي والجماهيري من ناحية ثانية .
إذن ، نحن أمام حركة تحرر عربية تعيش حالة من النكوص، تشير إلى طبيعة ازمتها الراهنة، التي تدل على العجز الواضح ، في ظروف ومستجدات يبدو فيها الباب مشرعاً أمام المشهد القادم، وأقصد بذلك مشهد ” الإسلام السياسي”.
ولذلك فإن النقد الجاد الكامل والصريح، هو نقطة البداية، لإعادة صياغة فصائل وأحزاب حركة التحرر العربية ، إلى جانب إعادة صياغة أهداف الثورة التحررية الديمقراطية العربية، وممارستها على أساس علمي، بعد أن توضحت طبيعة الطريق المسدود الذي وصلته الأنظمة العربية، وانتهت إليه مسيرة هذه الحركة بسبب أزمة فصائلها وأحزابها عموماً، وأزمة قياداتها خصوصاً، التي عجزت عن توعية وتثقيف وتنظيم وتعبئة قواعدها وكوادرها لكي تنجز مهامها التاريخية، إذ أن هذه الأوضاع القيادية المأزومة، التي جعلت بلدان الوطن العربي، في المرحلة التاريخية المعاصرة ، من أقل مناطق العالم إنتاجاً للعمل الديمقراطي الثوري الطويل النفس القادر على حماية نفسه، والمنتج في المدى الطويل لتحولات سياسية ومجتمعية نوعية، ودائمة ومطردة التطور على هذه البقعة أو تلك من الأراضي العربية .
إن أزمة حركة التحرر العربية ، تستدعي المبادرة إلى دراسة الخصائص والمنطلقات السياسية والفكرية التي تميزت بها فصائل وأحزاب حركة التحرر في مجتمعاتنا طوال الحقبة الماضية، والتي ربما كان إهمالها في الماضي أو الخطأ في تحديد أبعادها وانعكاساتها على الحركات اليسارية أحد الأسباب الرئيسية لتعثرها وفشلها، ومن أهم هذه المنطلقات التي باتت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة وإعادة الصياغة :
أولاً : إشكالية القومية العربية والعلاقة الجدلية بين الماركسية والقومية : حيث بات من الضروري أن تقوم القوى اليسارية العربية في كل قطر ادراج البعد التوحيدي القومي كبعد رئيس في عملها ، بما سيضيف عمقاً جديداً لقواها بدلاً من أن يبقى كما كان الأمر حتى الآن ، عبئاً عليها وعامل إضعاف لها .
ثانياً : إشكالية التبعية وكسرها وتجاوزها : وهي اشكالية مرتبطة بتبعية بكل البلدان العربية ، كأجزاء متناثرة ، للنظام الرأسمالي المعولم وفق محددات قانون التطور اللامتكافئ، وبالتالي فإن وحدة التحليل الأساسية من منظور القوى الثورية التي تسعى إلى التغيير، تتحدد أساساً وحصراً بالمجال القومي الديمقراطي العربي الذي تستطيع فيه هذه القوى تعبئة نفسها بشكل فعال وأخذ زمام المبادرة على نحو قادر على خلق صيرورته النضالية الراهنة والمستقبلية .
ثالثاً : القاعدة الاقتصادية والأبنية الفوقية : ففي ظروف التخلف والتبعية تلعب الأبنية الفوقية المتصلة بالسلطة السياسية وبالثقافة والأيديولوجية بصفة عامة دوراً أكثر أهمية بكثير من تأثير القاعدة الاقتصادية بحكم تخلفها. إذ أن التحالف الطبقي الحاكم في الأنظمة العربية يلعب دوراً هاماً في دعم البنى الفوقية القديمة وتحويلها إلى رصيد لقوى التخلف والرجعية .
رابعاً : الحاضر والماضي : هنا أقول بصراحة ، لابد من الوعي بأهمية العمل الفكري والسياسي الهادئ والمتدرج باتجاه القطيعة المعرفية مع كل رواسب التخلف في ماضينا، التي أتاحت عودة الماضي ليحكم الحاضر، او عودة الميت ليحكم الحي، وهذه العودة تتجسد في بلادنا اليوم على شكل اصوليات يمينية سلفية رجعية أو على شكل القوى اليمينية الحاكمة في الانظمة العربية، وكلاهما من جوهر واحد وان اختلف شكل أحدهما على الأخر وهذا ، نذير آخر حي بنوع المستقبل الذي تتحدث عنه تلك الأصوليات.
إنني لا أزعم –كيساري ماركسي وطني و قومي ديمقراطي- أنني أنفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر الماركسي القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا، ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من المفكرين والمثقفين في إطار القوى الوطنية والقومية اليسارية الديمقراطية، على مساحة الوطن العربي كله، وهي أيضا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة .
وفي هذا السياق فإن رؤيتي، تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة في المجتمع العربي ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف ، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الديمقراطية اليسارية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية ، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي، انطلاقاً من إدراكي بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا فلسطين وغيرها من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في النظام السياسي وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي ، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية كما هو الحال في العراق والسودان واليمن ولبنان والجزائر .
إنني ، اذ اؤكد على أن اللحظة الراهنة من المشهد العربي، هي لحظة لا تعبر عن صيرورة ومستقبل وطننا العربي، رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض، أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن، يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية وإسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة العمال والفلاحين وكل الكادحين والمضطهدين العرب، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن حقائق الصراع الاجتماعي / الطبقي ، والكامنة في قلوب وعقول هذه الجماهير التي سينبثق من بين صفوفها ، حركات وأحزاب يسارية وديمقراطية جديدة، تعيد إحياء وتفعيل الدور الطليعي المنتظر لحركة التحرر العربية، وهو أمر طبيعي يتوافق مع سنن الصراع وسنن التاريخ إذا ما بقيت فصائل وأحزاب الحركة التحررية العربية القائمة على ما هي عليه من ترهل وتراجع سياسي وفكري وتنظيمي وجماهيري .

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.