الامبريالية في صنع الثقافة المحلية / الفضل شلق
الفضل شلق ( لبنان ) – الإثنين 31/7/2023 م …
تحدثنا عن صناعة الثقافة. التعبير ليس جديداً. استخدمه رواد مدرسة فرانكفورت. تعتمد كل صناعة على إنتاج سلع وعلى مستهلكين. في هذه الحالة، أي صناعة الثقافة، يكون المستهلكون هم السلع. في التحليل الماركسي التقليدي، بل في الاقتصاد السياسي قبل ماركس وبعده، تنتج البروليتاريا، ويُنتزع منها ما تنتج ليصير سلعة عندما يتم تداوله في السوق. في صناعة الثقافة لا يُنتزع الإنتاج من الناس، سواء كانوا منتجين أو مستهلكين. الهدف من الإنتاج هنا أن يكون المنتوج منغرزاً في الذهن، مكوناً للشخصية، وأن يكون المستهلك المتلقي للثقافة هو أيضاً سلعة في سوق التبادل. فهو ذو بروفيل يُباع ويشترى، وإرادة حرة، أو هكذا يعتقد، بينما هي مفقودة وقد تسربت الى صاحبها معرفة الغير، وصارت هي ما يشكل الإرادة. يتم تشكيل الإنسان أو إعادة تشكيله، عبر الثقافة المتلقاة؛ تصير جزءاً منه، ويصير هو جزءاً منها. فهي ليست أمراً خارجيا كأي مصنوعة أخرى، بل تتشكّل منها جوانية الإنسان. تصير هي مكوّن شخصيته الأساسي.
لا بد وأن في كل مجتمع ثقافة وتراث وذاكرة جماعية. منها ما هو متخيّل ومنها ما هو حصيلة تطوّر تاريخ فعلي. لكن الثقافة العليا، أي الثقافة الامبريالية، تطغى على كل الثقافات الوطنية التي تصير محلية وخاضعة للامبريالية. الجديد في الثقافة العليا الامبريالية، أنها ليست مواجهة مع المتلقي، ولا لزوم للاحتلال. بل هي ما تندرج فيها الثقافات المحلية، بالأحرى أصحاب الثقافات المحلية.
لا شيء يمنع الثقافة العالمية الطاغية من استخدام الثقافات المحلية واستيعابها. إنتاج عالم الوعي الجديد. اعتبر القيمون على برنامج America Got Talent التعبير الفني الراقص الذي تقدمه فرقة المياس كشيء يغيّر العالم، وكان استقبالها ذو حفاوة زائدة. العرض الفني الراقي فيه من العالمية ما جعله قابلاً للاستقبال والحفاوة في هذا البرنامج الأميركي، الذي يستقبل عارضين من مختلف أنواع العالم. وله السيطرة إذ هو من يقيّم ما يقدم له. ومن يراجع تاريخنا ويقرأ كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، أو كتاب “طبقات الأطباء” لابن أبي اصيبعة، أو كتاب “يتيمة الدهر” للثعالبي، يدرك أوجه التشابه حين صارت اللغة العربية هي الثقافة العليا في عالم واسع، مع أو بدون سيطرة عسكرية مباشرة.
الرأسمالية تغيّر أشياء كثيرة. ففي حالة الثقافة العربية كانت الثقافة العليا، وكانت في نفس الوقت للنخبة، أما الثقافة العالمية الراهنة فهي ليست نخبوية؛ هي في جيب ودماغ كل من تصل إليه. هي ما تصبو إليه جميع الثقافات المحلية، على الأقل كي تنال الاعتراف بها. الثقافة الامبريالية تحتاج أن تصل الى كل العامة لدى كل الشعوب كي يتسع سوق استهلاكها، وكي تستوعب أكبر عدد من البشرية، ليصيروا المستهلكين/السلع.
الإنسان يصنع الثقافة، والإنسان ابن الثقافة؛ إن كانت محلية فهي موروثة أي صنعت له، وإن كان ابن ثقافة أخرى، فقد صنعت له أيضاً. الثقافة المُمَارسة هي خليط من ثقافة موروثة وأخرى مستوردة. الثقافة في الممارسة شيء وفي المخيلة شيء آخر، ولأن الدولة تفضّل أن تكون الثقافة باسمها أي مكرّسة لها وفي نفس الوقت مكرّسة بها. ولأن الهوية بمعنى الانتماء السياسي تفترض ما كان وما سيكون. في جميع الأحوال، يصعب التمييز بين الثقافة، وسياسات الدولة، ومواقف النخب، والمشاعر الدينية، وسيطرة المقدسات، حتى ليكاد الدنيوي أن يُرفّع لمستوى المقدس، وتنشأ مقدسات جديدة تراكم نفسها فوق القديمة، وربما حلت مكانها. تراكمات تؤدي الى الخلط بين ما نعرف وما نجهل.
من المفارقات أننا نريد الحداثة ونفخر بما يسمى التراث، ومعظمنا يجهل التاريخ أو ينكره. نقدّس ما لا نفهم، ونجهل ما نريد، ولا نميّز أو نعجز عن التمييز بين ما نريد وما يُراد لنا. نغفل عن أن الكتابة جرأة على التعبير عما نفكر ونعرف ونجهل. كل عنصر من عناصر ثقافتنا له أصل أجنبي، كذلك بالنسبة الى ثقافات الغير، في كل منها ما يُنسب الى الغير وإلينا. ما هو أجنبي عندنا محلي عند غيرنا، وما هو محلي عند غيرنا عالمي عندنا. نفعل كل شيء لإنكار عالمية الثقافة، وأن الثقافة كالسياسة التي كما قال أحد كبار الساسة في القرن العشرين: كل شيء في السياسة هو محلي. في يوم لا ريح فيه يبدو البحر هادئاً. نراه صفحة منبسطة لا موج فيها، ولا ندري أن تحت ذلك تيارات داخلية، بالأحرى هياج داخلي.
تزدهر صناعة الثقافة في الصيف فصل العلانية. هو أيضاً فصل هجرة المغتربين (المهاجرين) من مهاجرهم. كما نتعرى، أو شبه نتعرى، للنزول الى البحر، الذي نتشمس على شاطئه، وقليلاً ما نسبح فيه. تشدنا الجبال لإقامة المهرجانات، التي تشكّل مصدر رزق للقيّمين عليها. وفي كل ذلك تعود “الذاكرة التاريخية” التي غالباً ما تكون مصنوعة، والتي هي ذاكرة عما لم يكن موجوداً في أية مرحلة تاريخية.
يحتاج كل مجتمع الى ثقافة. تختلف ثقافة الطبقة العليا عن الطبقات الدنيا. الأولى تتغيّر مع كل احتلال أجنبي، إذ تنضم الطبقة العليا الى القوى المسيطرة، قوى الاحتلال، بينما تبقى ثقافة الطبقات الدنيا ثابتة أو شبه ثابتة، فتُتّهم بالغباء والبلادة، وعدم القدرة على مسايرة العصر. في الزمن الجديد يتجه صناع الثقافة الى الطبقات الدنيا، فهي سوق للاستهلاك واسع. لذلك تتناسب هذه الثقافة مع الثياب الرثة والرخيصة، مثل الجينز والتي شيرت، كي تبدو متناسبة مع رثاثة ثياب الفقراء.
في العلوم الحديثة، بالأحرى في الفيزياء الحديثة، نرى الأشياء باشعاعات تصدر عن المرئي الى العين. في الثقافة ترى الأشياء بانبعاثات من العقل الى الموضوع. لذلك لن تكون الرؤية الثقافية موضوعية كما الرؤية الفيزيائية. رغم تقدم العلوم، لم يستطع الإنسان أن يتخلص من مركزيته. لذلك يقول بعض كتاب الحداثة أن ما بعد الحداثة هي لحظات في قلب الحداثة. ليس معنى ذلك أننا نرجع الى الوراء بل هي غشاوة العدسة الامبريالية التي تتوسّط بيننا وبين الأشياء والآخرين. لا نرى بعيون مجردة بل بعيون تكيفت بالثقافة. وهذه قررتها لنا الامبريالية. يفترض في الحداثة أن تكون الرؤية موضوعية في انطلاقها من الأشياء والآخرين الى وعينا. السيطرة الامبريالية تصيبنا بالعحز عن ذلك، وتقلب الرؤية الى ما ينبعث منا الى الأشياء والآخرين. ما زالت السيطرة الامبريالية مصدراً للتخلف. والعداء للامبريالية يتطلّب الموضوعية. لكننا ما زلنا عاجزين عن جعل نفسنا آخر يتطلّب منا الرؤية الموضوعية. نقصّر في رؤيتنا لأنفسنا. ولذلك نعجز عن التقييم الموضوعي لموازين القوى. كلما ازدادت مركزية الأنا (الهوية) في مواجهة الامبريالية كلما ازداد عجزنا في مواجهتها. ويتناغم العجز في رؤيتنا لأنفسنا التي هي أيضاً تظهر لنا بعيون الامبريالية، بالأحرى من خلال الثقافة التي غرزتها الامبريالية فينا، وجعلتها مصدراً للرؤية، أو بالأحرى الرؤى، حتى التي ترتبط بالدين الذي يجدر أن يكون بطبيعته مغايراً للامبريالية. حتى الدين الذي يشكّل جزءاً هاماً من هويتنا وتاريخنا تضمه الامبريالية الى عدة الشغل لديها. فيصير آلة أو أداة امبريالية، وعن حسن نية لدى جميع الأطراف. والطريق الى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة. نحن والامبريالية لسنا جهتين متقابلتين. نناضل ضد الامبريالية، لكن من داخلها، إذ هي تشكّل الوعي لدينا. ما زلنا نرفض الامبريالية لكن نرى الأمور من خلال عدستها.
كل ذلك والحديث يطول، يعني أن النضال ضد الامبريالية داخلي، وان اختلفت الدول، وأن النضال الجدي هو النضال السياسي، وضد كل أشكال الهيمنة عندنا وفي الخارج. طغاة بلادنا يزعمون أن الثقافة تجمعهم والطبقات المحكومة، بينما الممانعة والمقاومة ضد الخارج يجب أن تكون ثقافية. ربما كان ذلك نوعاً من النفاق والانتهازية، فهم أكثر تواصلاً مع الثقافة الامبريالية من غيرهم. وحتى في السياسة هم واجهة لقوى الهيمنة الامبريالية. نضالنا هو في الأساس نضال سياسي ليس من أجل الهوية (الثقافية) بل ضد التسلّط والاستغلال، فهو نضال سياسي.
التعليقات مغلقة.