بريكس- ملاحظات بشأن مشروع العُملة الموحّدة ( محاولة تبسيط مفاهيم الإقتصااد السياسي ) / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 1/8/2023 م …




يمكن اعتبار تحقيق مشروع عملة البريكس خطوة مهمة في الحد من قوة الدولار والولايات المتحدة، غير إن العقبات كثيرة.

انخفضت مؤشرات الثقة في صلابة واستقرار العملة الأمريكية، كعملة معاملات تجارية وتحويلات مالية واحتياطي العملات الأجنبية بالمصارف المركزية وأصبحت الثقة في الدولار تميل إلى الإنخفاض، ومن مؤشرات انعدام الثقة في الدّولار، إعلان عدة دول “نامية” (منخفضة أو متوسطة الدّخل القومي) عن استخدام العملات الوطنية في التجارة الثنائية، ومع ذلك، فإن الدّولار لا يزال مُهيمنا على كافة المعاملات النقدية الدّولية، وأعلنت مجموعة “بريكس ” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، ثم التحقات بها بعض البلدان الأخرى) دراسة مجموعة من المقترحات لإنشاء عملة مجموعة البريكس خلال لقاء ممثلي الدّول الأعضاء بنهاية شهر آب/أغسطس 2023، خلال قمة البريكس بجنوب إفريقيا، وتعتبر عملة “بريكس” واحدة من البدائل التي تدرسها بعض الدول أو التكتلات الإقليمية لِفَكّ الإرتباط بالدّولار…

في البلدان الرأسمالية المتقدمة، تنشر وسائل الإعلام الغربية منذ عدة أشهر مقالات تدعي أنه لا يوجد بديل للدولار لإنجاز معاملات التجارة والتحويلات النقدية الدّولية، وأن التّخلِّي عن الدولار، إذا حَدَثَ، سيكون بطيئًا للغاية (وهي مُحِقّة في مسألة البُطْء ) وأعلنت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين في حزيران/يونيو 2023 “إن الدولار سيظل العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم لفترة طويلة، وربما إلى الأبد”، لكنها ذهبت بعد أسابيع قليلة إلى بكين للتفاوض على حل للنزاع التجاري الذي أطلقته الولايات المتحدة مع الصين.

أدى تجميد الأصول الإيرانية أو الفنزويلية أو الأفغانية أو الروسية إلى تغيير الوضع في الأسواق المالية، فانخفض الطلب في الطلب على سندات الدول المتقدمة، منذ سنة 2022، مباشرة بعد إعلان العُقوبات على روسيا، وتسارعت محاولات فك الإرتباط بالدّولار في بعض مجالات الاقتصاد العالمي، والتي بدأت أولاً بالتجارة عبر الحدود بالعملات المحلية، بين بلدان متجاورة

واستقرت حصة المعاملات بالدولار واليورو حول 80% في السنوات الأخيرة من إجمالي التحويلات المالية العالمية وفق إحصاءات منصة “سويفت” للمعاملات النقدية الدولية، وتُظْهِرُ بيانات أخرى انخفاضًا في قيمة المعاملات باليورو، في الربعين الأول والثاني من سنة 2023، وتراجعت حصته بشكل حاد من مستوى 38% إلى 22,4% في آذار/مارس 2023 وإلى  11,5% في نيسان/أبريل 2023، ولم يتم استبدال حصة اليورو بالدولار فقط، ولكن أيضًا بعملات أخرى، بما في ذلك اليوان الصّيني. أما السبب الرئيس لهذا الانخفاض فهو تراجع مستوى الصادرات والواردات من وإلى دول الاتحاد الأوروبي منذ أيلول/سبتمبر 2022، وخاصة انخفاض الواردات من روسيا.

تظهر الإحصائيات الخاصة باحتياطيات الدول من النقد الأجنبي أن هيكل احتياطيات العملات الأجنبية أصبح أكثر تنوعًا وأن حصة الذهب تزداد بسرعة وبشكل حاد، في حين انخفضت حصة الدولار الأمريكي في الاحتياطيات العالمية من 71,5% في الربع الأول من سنة 2000 إلى 59% في الربع الأول من سنة 2023، بينما تزداد حصة الجنيه الإسترليني واليوان الصيني.

كانت سنة 2022 قياسية بالنسبة لمشتريات الذهب من قبل المصارف المركزية العالمية، واشترت روسيا ما يقرب من 2000 طن من الذهب لزيادة احتياطياتها على مدى السنوات العشرين الماضية، وحَلّت الصّين في المرتبة الثانية، إذ اشترت، خلال نفس الفترة، 1500 طن، تليها تركيا والهند وكازاخستان وأوزبكستان والسعودية، ما يُؤَكّدُ إن الذهب أصْبَحَ أكثر موثوقية ومصداقية من الدولار الذي سيطر على النظام المالي العالمي لما يقرب من قرن.

ارتفعت حصة الروبل الروسي في التجارة الخارجية لروسيا من 13,1% سنة 2019 إلى 39,1% في أيار/مايو 2023، وبلغت حصة العملات “الصديقة” ( لروسيا) والمحايدة 26,9%، وفقًا للمصرف المركزي الروسي (حزيران/يونيو 2023)، وفي أيلول/سبتمبر 2022، بدأت شركة غازبروم تصدير الغاز الروسي إلى الصين والهند بالعملات الوطنية، وفق وكالة بلومبرغ التي تقدر فائض الصادرات الروسية إلى الهند بما يعادل مليار دولار شهريًا، وتبقى البيانات التفصيلية عن الصادرات الروسية والمدفوعات المقابلة سرية، لكن معاملات التجارة الخارجية بين الصين وروسيا، بالروبل واليوان زادت 3,3 مرات بين أيار/مايو 2020 وأيار/مايو 2023، وفقًا للبنك.

يُعَدُّ اقتصاد الصين (الناتج المحلي الإجمالي) هو الثاني في العالم بعد اقتصاد الولايات المتحدة، ويُعْتَبَرُ اليوان المنافس الرئيسي للدولار، وتمكنت الصين، بفضل قوة اقتصادها، من توقيع اتفاقيات تجارة مُقَوّمة باليوان مع العديد من البلدان، بما في ذلك البرازيل – أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية – في نهاية شهر آذار/مارس 2023، وعلى مدار الـ 13 عامًا الماضية، كانت الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل، وبلغ حجم التجارة بين البلدين 775.9 مليار ريال برازيلي (150 مليار دولار) سنة 2022، ما يجعل من الصين منافسًا مُباشرًا للولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية.

تشتري الصين النفط الإيراني مقابل اليوان منذ فترة طويلة، ولكن في كانون الأول/ديسمبر 2022 تم التوصل إلى اتفاق لدفع ثمن النفط السعودي كذلك باليوان، وتتم المعاملات بين مصرف التصدير والاستيراد الصيني والمصرف الوطني السعودي، كما إن جزءًا من تجارة الصين مع الهند وماليزيا وإندونيسيا ودول آسيوية أخرى يتم بالعملات المحلية، مما يقلل حصة الدولار الأمريكي، وفقًا لوكالة بلومبرغ (23 تموز/يوليو 2023)

ناقش أعضاء “بريكس” في حزيران/يونيو 2022، مسألة إنشاء عملة احتياطية دولية على أساس سلة عملات دول البريكس، وقبل بضعة أشهر، في أوائل صيف سنة 2023 ، أصدر وزراء خارجية دول البريكس تعليمات إلى مصرف التنمية الجديد (NDB) لتحديد كيفية إصدار عملة مشتركة جديدة، ودراسة عوامل نجاحها، ودراسة وسائل حماية الدول الأعضاء من العقوبات الغربية عند التعامل مع شركاء خاضعين للعقوبات مثل روسيا…

تُمثّل قوة مجموعة بريكس ( حج اقتصاد جميع البلدان الأعضاء) عاملا إيجابيا يمكن أن يُساهم في نجاح المشروع، حيث تجاوز إجمالي الناتج المحلي لبلدان البريكس 31% من الناتج الإجمالي العالمي، سنة 2020، وبذلك تجاوز إجمالي الناتج المحلي لدول مجموعة السبع،  ويرتفع معدل نمو اقتصاد الدول الأعضاء في مجموعة البريكس باستمرار، ليتجاوز نم اقتصاد أعضاء مجموعة السبع، وهي أكثر الدّول ثراءً، وفقًا لصندوق النقد الدولي.

تتجه اقتصادات دول مجموعة السبع بشكل أساسي نحو الخدمات ومستوى استهلاك السلع والخدمات المستوردة، وبعضها ذو جودة عالية تتجاوز مصنوعات وخدمات البلدان المتقدمة، وفقًا للبنك العالمي، وبلغت حصة مجموعة بريكس من الصادرات العالمية للسلع والخدمات 18,6% سنة 2021، بينما كانت حصة مجموعة السبع 30,3%، وتبلغ حصة دول بريكس 17% من الواردات العالمية بينما تبلغ حصة مجموعة السبع 33,85%، ما يُفيد إن الدول الغنية في مجموعة السبع تعتمد على استيراد المنتجات الأساسية. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهي بصدد فقدان قوتها الاقتصادية تدريجياً، لكنها تعزز قوتها العسكرية التي تعمل كأداة لفرض الدولار المدعوم فقط بالقوة العسكرية وبسيطرة الولايات المتحدة على نظام الدفع، والمعاملات والتحويلات المالية الدولية، وعلى المؤسسات النقدية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي …

تتوفر الظروف الموضوعية والقاعدة الاقتصادية لإنشاء عملة مشتركة لمجموعة البريكس والتي يمكن أن تصبح عملة احتياطية وأن تُسْتَخْدَمَ في سداد المدفوعات الدولية، بين دول مجموعة البريكس أولاً، ومع دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية ثانيا، لكن هذا المَسار طويل وبطيء، فَضْلاً عن المكابح الدّاخلية، فالهند على سبيل المثال، ترغب في تقوية عملتها وتؤخر تقدم تطوير عملة بريكس مما قد يضعف الدولار واليورو كذلك، لكنه عامل سلبي لمشروع عملة بريكس، أما الصين فتطمح لترويج عملتها اليُوَان، كخطوة نحو الحلول محل الولايات المتحدة كقاطرة للإقتصاد العالمي زكقوة عُظْمى مُعترف بها، ويبقى اليوان، حاليا، منافسًا رئيسيًّا وجِدّيًّا لوضع حد لتفوق الدولار بفضل قوة الاقتصاد الصيني، فالعملة الصينية قوية جدا ونمو الاقتصاد الصيني مَرْضِيّ، رغم من الحروب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ومع ذلك لا تخطط الصين للانسحاب من النظام المالي الغربي، بل يتمثل تكتيكها في الترويج التدريجي لليوان، وفي تطوير عملتها الرقمية ومشروع تبادل العملات الرقمية، وتمنح الصين قروضًا باليوان، كوسيلة للتمدّد والإنتشار وفَرْض اليوان كعملة دولية، لكنها، على عكس الهند، لم تنأى بنفسها عن مشروع إنشاء عملة مجموعة “بريكس”.

إن إنشاء عملة جديدة أمر صعب وبطيء. لا تزال العملة المشتركة لدول “بريكس” في مرحلة المشروع المحتمل الإنجاز، ويعتبر أحد الخيارات لضمان بروز نظام تسويات بدون هيمنة ومنافع متبادلة … لقد استغرق عمل الاتحاد الأوروبي أكثر من عشرين عامًا لإنشاء آليات لتشغيل العملة فوق الوطنية للدول الأوروبية (اليورو €)، وهذا على الرغم من وجود منصة مالية قبل ذلك ( ECU ) ساعدت في استقرار العملات الوطنية وفي دراسة سلبيات وإيجابيات العملة الأوروبية المُوَحَّدَة…

أما تجمع دول بريكس فهو إطار تكامل اقتصادي ناشء، ولم يُشكل بعْدُ اتحادًا جمركيا ولا اتحادًا نقديا، وهما وظيفتان أساسِيّتان، يستحيل بدونهما إنشاء عملة موحدة فوق وطنية، لذلك سيكون من الأدق أو من الأصَحّ الحديث عن إنشاء تسوية فوق وطنية وصك مقاصة، وهذا يتطلب حلولاً قائمة على الإجماع لتشكيل القواعد واللوائح لإصدار وتداول واسترداد عملة دفع مشتركة فوق وطنية ومعترف بها دوليًا، بالإضافة إلى نظام التسوية غير النقدية القائم على المقايضة الثنائية والمتعددة الأطراف.

إن أفْضَلَ خيار، في المرحلة الحالية، لإنشاء عملة موحّدة محتملة هو ربطها بسلة من العملات الوطنية للدول الأعضاء، مع هامش مُحدّد سلفًا من التقلبات في قيمتها اعتمادًا على تطور سعر صرف العملات الوطنية، ومع ذلك ورغم هذه المعوقات، فإن للعملة الجديدة فرصة كبيرة في الظهور، لأن الخوف من استمرار هيمنة الولايات المتحدة على العالم أصبح حقيقة، بعد تسارع وتيرة قرارات الحَظْر والحصار، من كوبا إلى روسيا، مرورًا بفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا والعراق خلال العقد الأخير من القرن العشرين،  لكن الولايات المتحدة تهيمن على العالم بأدوات ناجعة، هي السلاح والدولار، ما يتيح لها خنق البلدان ونهب مواردها وتجويع سكانها واحتلالها عسكريًا، إن اقتضت الضرورة…

إن بلدان الجنوب هي أول الرابحين المحتملين بتأكيد سيادتها على مواردها وثرواتها وحدودها، لإضعاف الإمبريالية الأمريكية، بشرط عدم استبدال هيمنة امبريالية بأخرى.

لا تُشكّل دراسة تجربة مجموعة “بريكس” أو أمريكا الجنوبية أو مجموعة شنغهاي أو حتى تجربة نشأة وسَيْر عمل الإتحاد الأوروبي، تَرَفًا فكريا أو فُضُولاً، بل من باب المقارنة ومن باب ضرورة تقديم بدائل لوضع البلدان والشعوب العربية، التي يُعاني بعضها الإحتلال المباشر، وتُعاني البقية من الإحتلال غير المُباشر، ومن الإحتلال الدّاخلي الذي يُديره حُكّام عملاء، ولتحرير أراضينا ولتحرير قُدراتنا وثرواتنا من مجمل أشكال الإحتلال، من الضروري الإهتمام بتجارب الشعوب ودراسة أسباب فشل محاولات الوحدة العربية وكذلك تجارب التعاون المختلفة في دول أو قارات أخرى، لأن لدينا العديد من المزايا غير المستغلة، بسبب الأنظمة القائمة وبسبب وجود الإحتلال الإستيطاني الصهيوني الهادف إلى منع أي محاولة للوحدة العربية، فنحن لدينا ثروات في باطن الأرض، ولدينا الأراضي الزراعية بما يفوق حاجتنا ولدينا مقومات لا تتوفر لدى شعوب أخرى، منها الإمتداد الجغرافي، من المحيط إلى الخليج، ووحدة اللغة والتاريخ المشترك وقبل كل شيء شعبية فكرة وحدة الشعوب العربية، وظهر ذلك جليا خلال مناسبات عديدة منها بطولة العالم لكرة القدم بقَطَر سنة 2022، حيث رفع جمهور كرة القدم، من المغرب إلى الخليج عَلَمَ فلسطين وهتف  لتحرير فلسطين…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.