قلعة لبنانية تعانق فلسطين: تصميم رجل هزم عدوه!

الأردن العربي –   الثلاثاء 1/8/2023 م …




سطّر يوسف شعبان حروفاً من ذهب فاجترح معجزة عبر تشييده قلعة مهيبة بأبراجٍ متعددة، بانت من شواهقها “القرى اللبنانية السبع”، وفلسطين المحتلة… صرحٌ تعرّض لاعتداءت العدو لثنيّ الرجل الجنوبي الصامد وتثبيط إرادته دون أن ينال كل ذلك من عزيمته وتوثبه.

قد يلثم المرء عباب السماء بتفوّقه وتميّزه، وقد ينحو إلى تحقيق حلم طفولة بمثابرةٍ حثيثة متوثّبة متوقّدة.

يرفل لبنان وجنوبه بطاقات جبّارة، فالمنطقة التي لفظ أهلها المحتل، فحرّروا أراضيهم وبلداتهم، في أوّل خروج مذل للجيش الإسرائيلي من أراضٍ عربية، تضج حياةً بفضل سواعد الآهلين، “البيئة الحاضنة” الصادقة للمقاومة التي خلقت معادلة ردع سبّاقة عالمياً.

هكذا هم اللبنانيون الذين يجترحون من الألم أملاً… ومن الاحتضار روحاً فنبضاً، ومن اليباس أغصاناً وارفةً وخضرةً،  ومن حضيض اليباب عمرانا!

بعد 17 عاماً على “عدوان تموز” الإسرائيلي، و 23 عاماً على تحرير الجنوب، يزدهي اللبناني، ويحرص العرب والأجانب على زيارة هذه المنطقة الجميلة بطبيعتها، الزاخرة بعضدها وجسارة أهلها، المدرسة في وطنيتها وقوة شكيمة أهلها…

ففي جنوب لبنان اليوم، حركة عمرانٍ حثيثة، وقد تجد منزلاً أو “فيلا” قرب الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة بأميال، حتى النهضة الزراعية والصناعية والسياحية في أفضل حالاتها رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد.

الجنوب وشمال فلسطين: حنوٌّ وعزم!

جنوب لبنان “جار” شمال فلسطين،  لا ينبس إلّا بحنوّ الأخ الشقيق للأراضي المحتلة، ولا ينتصر لها إلا بعزم المقاوم المظفّر….

من نافلة القول، إن الشعوب والأمم هي التي تشيد القلاع والحصون الضخمة، لكن أنْ يفعلها رجل واحد… فذلك و الله عجبٌ ما بعده عجب…

وهكذا هو يوسف شعبان، مواطن لبناني، من بلدة خربة سلم الجنوبية – قضاء بنت جبيل (100 كلم عن بيروت)، دأب على مدى 30 عاماً، ورغم احتلال قريته من قبل العدو الإسرائيلي، على تحقيق ما يرتسم في مخيلته منذ نعومة أظافره. 

القلعة الحلم بساعدَي شعبان

حجراً حجراً، ولِبنة لِبنة، ومدماكاً مدماكا…  شيّد شعبان قلعته الحلم بسواعد تفترس القنوط، وتقول لا للمستحيل ونعم للحياة، رغم أنف المحتل ورغم الظروف الصعبة وغياب الاهتمام الرسمي.

وعلى تخوم فلسطين المحتلة، شمخت حجارة قلعة من 10 أبراج يرى الزائر من أعلاها الأراضي الفلسطينية و”القرى اللبنانية السبع ” المحتلة والجولان السوري.

“الميادين نت” واكب شعبان الذي قارع العدو على طريقته، لا بل جمع العديد من الحكايات المتعلقة بماضي لبنان وعراقة الإرث المعماري الأصيل، وكان حلمه الحفاظ على ثراث الآباء والأجداد.

حلم الرجل كبير،  وما زال قائماً ويتجلّى بتوسيع أفكاره وتنفيذها بأشكال عديدة ومختلفة، ورغم ذلك فإنّ حلمه لم يتحقّق بعد! 

داخل القلعة المهيبة!

تشدّك تلك الأصوات المنبعثة من خلف آلات الحدادة والنجارين والتّبييض، تخال نفسك في “سوق الحرفيين” ، تتبدّد كلّ العولمة في المكان، فجأة ومن دون سابق إنذار تخلع رداء التطور، لتجول في عالم بسيط محفوف بالتعب والعطاء والإرادة، عالم تتعرّف إليه في تلة فوق  بلدة خربة سلم الجنوبية، التي دخلت حديثاً ميدان القلاع الجنوبية المتوقّع لها، أن تنافس القلاع المبعثرة في المكان، بحيث تحيطها قلعة الشقيف ودير كيفا والعلمانية وتبنين. بيد أنها الوحيدة التي تمتاز بأناقة عمرانها وهندستها بالنظر الى دخول باقي القلاع باستثناء الشقيف في نفق الإهمال.

يصعب على المرء في زمنٍ بات محفوفاً بالكثير من الأزمات والهزات الاقتصادية أن يبني قلعة لا مثيل لها، تأخذك إلى زمن الحضارات الفينيقية والرومانية والعثمانية، ولكن بنسخة لبنانية جنوبية.

كيف قيّض ليوسف شعبان أن يبني قلعته التي ضمّنها حِرف أجداده؟ وعبقريته التي منحته شهادة النحت والهندسة؟ وحدها كلمته “الفن حرية نحو التألّق” تؤكّد أنّ من يصمّم على البذل والعطاء سيصل…
مدخلان عملاقان يمثّل الأول والديه، والثاني  يمثّله هو وشقيقته يأخذانك إلى داخل القلعة المؤلفة من طبقات تتخللها أبراج بعدد أخواته.

تماثيل جميلة… وهندسة  رائعة

““يلا تصبو هالقهوة وزيدوها هيل” يعلو من داخل غرفة الجلسة العربية رجل بزيه اللبناني وبقربه تجلس فتاة تصب القهوة”، إنها تماثيل صنعها شعبان بيديه ووزّعها في ردهات الطابق الأول من القلعة. 

يضم المتحف 35 حرفة اندثرت من خبز الصاج والتنور، إلى تحميص البن، الجاروشة، الحداد العربي، النجار، “الكندرجي”، المصوّر القديم، “المُجلي” الذي يجلي الحديد والسكاكين، “الفاخوري” صانع الفخار، بائع الكاز، المصوراتي وكل المهن القديمة.

تعبر من زمن الى آخر، داخل أحدث قلعة في جنوب لبنان، وبين الحرف العتيقة التي تفترش الطابق الثاني من القلعة و”فذلكة” تصميمها.

يعتبر شعبان أن “هذا فنّ ارتجاليّ قائم على مجموعة لوحات جرى رسمها بهندسة متقنة مع إضافة صبغة جنوبية”، انهمك شعبان في إنجاز حلمه على مدى عقود، الذي أضاف إليه “المتحف الوطني” والذي ضم إليه تماثيل نصفية لشخصيات أدبية كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وعلمية كالعالم حسن كامل الصباح، وفنية كفيروز وشوشو ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين.

“الفن يلغي الصعاب”

وفي المكان تماثيل لرئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري، ورئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود، السيّد موسى الصدر، الزعيم الراحل كمال جنبلاط، وهو يعكف على إنجاز تمثال للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وغيرها من الشخصيات التي نحتها شعبان بدقة عالية، رغم أنه ليس نحّاتاً ومع ذلك أبدع وأجزل العطاء…لأنه يعتبر “الفن عشقاً يولد مع الإنسان ويلغي الصعاب مهما كانت، لأن من أراد صعود الإبداع عليه أن يلغي المستحيل”. 

وفي كل ركنٍ من القلعة، حكاية عند “أبو موسى”، الذي يفتخر بإنجاز استغرق أعواماً بدأ في صيف 1993.

وبشغف يتحدث عن الحِرف في قلعته، “صحيح أنها أمست من الماضي ولكنها كانت أساسية في حياتنا، يكفي أن تتعرف إلى البساطة لتعرف قيمة العطاء، وهذا ما أهدف إليه من هذا الجناح، حين ترى الخيّاطة تغزل الخيطان،  والمبيِّض الذي كان يجول في القرى لتبيض الطناجر النحاسية. وحتى الكندرجي وغزل الخيطان وبائع الكاز، وبائع الفول المتجوّل، والمصوراتي، ومهد الطفل إلخ.. فتدرك سريعاً أن التطور نقلنا من عالم إلى آخر، وجعل حياتنا قرية كونية، ولكن حياة الماضي تملك من الحنين والعطاء ما نفتقده اليوم”.

رسم خريطته على “كيس ترابة”!

ميزة قلعة شعبان لا تتمثّل فقط بمحتوياتها الحرفية، ولا النحتية ولا حتى بتصميمها الخارق، بل بكونه بناها بساعديه ووضع تصميمها على “ورق كيس الترابة” (الباطون – الإسمنت)، وهندسها بحرفية عالية فأنتج معلماً مميزاً.

درج مكوكيّ ترافقه حجارة قديمة العهد، تحملك إلى الطابق العلوي حيث سيكون نزلاً للزائر الذي يرغب في قضاء وقت مع ثقافة الحرف والتاريخ. وقد صمّم الجناح بشكلٍ يتواءم مع هندسة القلعة التي تشرف على بحر مدينة صور في بعض منها وفي مقلب آخر تصافح فلسطين، فجمع الخشب والحجر في التصميم ليضفي جواً تراثياً أنيقاً.

القلعة بما تضمّه من مرافق جميلة كالمطعم والحديقة حيث تحلو الجلسات، وصالة وباحة المناسبات، وفندقاً للمنامة، أمست مكاناً يزوره طلاب المدارس، وجنود “اليونيفل” العاملون في جنوب لبنان، فضلاً عن الرحلات من مختلف المناطق اللبنانية.

ويكشف شعبان عن إعجاب الزوّار بإنجازه حتى أن أمير دولة عربية عرض عليه شراءها أو بناء قلعة شبيهة لها في بلاده، ولكنه تمسّك بما حقّقته أنامله، وحلمه أن يشيد هوية قلعة سياحية لبنانية جنوبية. 

في الباحة الخارجية من القلعة، تنتشر منحوتات شعبان الضخمة التي رسمها ونفّذها بيديه مثل الفيل والطيور والسلحفاة وغيرها: ويلفت الرجل إلى الشلال الذي أنجزه في الباحة الخارجية “إنه خريطة لبنان لأن قلعتي لكل لبنان، ونحن نبث ثقافة سياحية جنوبية إلى كل العالم”.

من يراقب القلعة بتصميمها ومحتوياتها يوقن أن تصميم شعبان يتكىء على عناصر ثلاثية الأبعاد “التراث القديم، الخيال، الفن”  فأتت “منحوتة فنية تراثية حرفية” عالية الدقة.

لكن العنصر الأساسي والحاسم  هو التصميم والأمل والعمل…. وهكذا كانت مسيرة موسى شعبان على مدى العقود والسنوات والأزمان.

قبل أن تغادر القلعة، يمكنك الهجوع إلى حدائق غنّاء، وساحات جميلة مع مطعم وفندق صغير، وفي الباحة الخارجية من القلعة، تنتشر منحوتات شعبان الضخمة التي رسمها ونفّذها بيديه مثل الفيل والطيور والسلحفاة وغيرها… 

ولك أن تستمع إلى قصة “مقاوم” على طريقته… وأن تسرح بنظرك إلى المشهد المهيب التليد دوماً وأبداً بين لبنان وفلسطين…. 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.