بانوراما الأحداث في ذكرى التاسع من آب “أغسطس” 1945 / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 9/8/2023 م …
تقديم
خلال شتاء سنة 1945، قصف جيش الولايات المتحدة مدينة درسدن بألمانيا وقَتَلَ نحو خمسة وأربعين ألف شخص، وقصف طوكيو (آذار/مارس 1945) عاصمة اليابان ومناطق أخرى وقتَلَ أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، وأحرق الجيش الأمريكي 67 مدينة يابانية سنة 1945 لإجبار الجيش الياباني على الاستسلام، وفي التاسع من أغسطس 1945، دَمّر الجيش الأمريكي مدينة ناغاساكي بواسطة قنبلة نووية، هي الثانية بعد ثلاثة أيام من إلقاء القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما اليابانية.
ارتفعت معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض خطيرة لدى الناجين من التفجيرات وزادت مخاطر الإصابة بسرطان الدم بنسبة 46% وارتفعت مخاطر إصابة الأطفال حديثي الولادة بالإعاقة الجسدية، مثل صغر حجم الرأس أو الإعاقة العقلية، وكشفت الدراسات التي أجريت على الناجين أن العلماء كانوا يَعْلَمُون أن الإشعاع يمكن أن يغير الحمض النووي ويسبب أشكالًا مختلفة من السرطان، وخاصة سرطان الدم، وهو ما حصل بالفعل بين ضحايا هيروشيما وناغاساكي، وكتب المؤرخ التقدمي هوارد زين (1922-2010) أن القصف النووي لليابان كان إجراميًا وغير ضروري، ولقد مُخطّط الغزو الأمريكي لليابان جاهزًا، ورفض القادة العسكريون الأمريكيون محاولات الإستسلام التي قام بها جيش اليابان، قبل إلقاء القنبُلَتَيْن.
بعد الحرب، احتلت الولايات المتحدة بعض المُستعمرات اليابانية السابقة، ومنها كوريا الجنوبية ( كانت كوريا قبل التقسيم، مُستعمَرَة يابانية من 1905 إلى 1945) وأطلق الجيش الأمريكي الحرب الكورية (1950-1953) التي أدت إلى تقسيم الجزيرة إلى دولتين: كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، وتستضيف كوريا الجنوبية واليابان أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في آسيا.
لا تزال شعوب آسيا تستذكر فظائع الإستعمار الياباني، لكن الولايات المتحدة التي هيمنت على الجميع بعد الحرب العالمية الثانية، تريد إنجاز “مُصالحة تاريخية”، وإقامة حلف عسكري في منطقة المحيط الهادئ، شبيه بحلف شمال الأطلسي، خِدْمَةً للإستراتيجية وللمصالح الأمريكية في مواجهة الصين، بمناسبة الذكرى السبعين لاتفاقية الهُدْنة بين كوريا الجنوبية (وأمريكا) وكوريا الشمالية 18تموز/يوليو 1953 – 2023، ومَهّدت الولايات المتحدة لهذا الحلف بتنفيذ عدة مناورات عسكرية بين جيوش الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، بذريعة “مواجهة تهديدات الصين وكوريا الشمالية”
كانت القيود المفروضة على اليابان وألمانيا تقتضي عدم امتلاكهما أسلحة هجومية، وتولِّي الجيش الأمريكي الدّفاع عنهما، غير أن ذلك أصبح لاغيًا بحكم الواقع، حيث يُشارك الجيش الألماني في كافة الحروب العدوانية الأمريكية، منذ حوالي 35 سنة، وتُزَوِّدُ ألمانيا الكيان الصهيوني بغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية، وبأسلحة هجومية متطورة، تُباع بثُلُثَيْ ثمنها، كما أقَرّت حكومة اليابان خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2022، زيادة الميزانية العسكرية بنسبة 100% وتطوير القدرات الهجومية للجيش، واستقبال معدّات نووية بالقواعد العسكرية الأمريكية الضخمة…
ثمن الإصطفاف الأوروبي وراء الولايات المتحدة
بدأت الولايات المتحدة، منذ أكثر من عقد تكثيف استخراج النّفط والغاز الصّخْرِيّيْن، وألغى الكونغرس قرار حظْر تصدير المحروقات السّاري منذ 1974، وكانت تلك القرارات مُقَدِّمَةً لمخطّط هيمنة شامل، فضغطت الولايات المتحدة على دول أوروبا في اتجاهَيْن: الأول زيادة الإنفاق الحربي، والثاني التّخلِّي عن شراء المحروقات الروسية (عالية الجودة ورخيصة الثمن) ثم فَجّرت الإستخبارات العسكرية الأمريكية أنبوب نقل الغاز الروسي “نورث ستريم 2 ” لتشتري أوروبا الغاز الصخري الأمريكي بخمسة أضعاف السعر الذي تُسدّده الشركات الأمريكية، وفرضت على الشركات الأوروبية الإنسحاب من روسيا ووَقْف التّعامل معها، وأصبح التأثير الاقتصادي لانسحاب الشركات الأوروبية من روسيا مصدر قلق لمؤسسات الإتحاد الأوروبي لأن الشركات الأوروبية، وبالأخص في قطاعات الطاقة والتمويل (المصارف) والسيارات تضرّرت كثيرًا، وأظهرت التقارير السنوية لنحو 600 شركة أوروبية – من إجمالي 1871 شركة أوروبية لا تزال متواجدة بِرُوسيا – ارتفاع الخسائر (بسبب القرارات السياسية المتعلقة بالحرب في أوكرانيا) إلى أكثر من مائة مليار يورو، ما يجعلها غير تنافُسِيّة مقارنة بالشركات الأمريكية أو الصينية…
تُسدّد أوروبا ثمن اصطفافها، بينما يتراجع النفوذ الأمريكي في مناطق أخرى من العالم، وزيادة حجم وقيمة المُبادلات التجارية بِغَيْر الدّولار واليُورُو، وزيادة عدد الدّول التي طلبت الإنضمام إلى مجموعات “بريكس” أو “شنغهاي” وغيرها، ما قد يُسبب عزلة تجارية تدريجية وما قد يُقَوِّضُ هيمنة الإمبريالية الأمريكية، على مدى متوسط أو طويل، ما اضطر الولايات المتحدة إلى ترك مجال للمفاوضات مع الصّين، من خلال زيارة وزير الخارجية ووزيرة الخزانة الأمريكية لبِكِينْ لإقناع القادة الصينيين باستئناف مشتريات الصين من سندات الخزانة الأمريكية، لأن الصين بصدد بيع السندات التي تحتفظ بها، في حين تحتاج الخزانة الأمريكية إلى بيع سندات جديدة بما يعادل 1,1 تريليون دولارا، في ظرف غير مُوَاتٍ بسبب زيادة حجم وقيمة المبادلات التجارية الدّولية بالعملات المحلية وبغير الدولار ولا اليورو، وأصبحت حتى السعودية تبيع كميات (قليلة) من النفط بالعملة الصينية (يوان) وتتفق مع روسيا ( وهي من خارج مجموعة أُوبك) على تخفيض إنتاج النّفط للمحافظة على استقرار أسعاره المرتفعة نِسْبِيًّا…
زيادة نفوذ الصين
في ظل اصطفاف الإتحاد الأوروبي وراء الولايات المتحدة، رغم اهتراء نفوذها، تُواصل الصين توسع نفوذها، وقَدّمت عرضًا عسكريا مع روسيا، تمثل في انتشار بحري كبير، حيث قامت السفن الروسية والصينية بدوريات بالقرب من جزر ألوشيان، ردًا على مناورات بحرية الولايات المتحدة وبريطانيا، كما كثفت الصين وروسيا الدّوريات العسكرية المُشترَكة في القطب الشمالي…
بعد حوالي سبعة أشهر من قمة الصين الأولى مع دول الخليج، ارتفعت المبادلات التجارية بين الصين وبعض دُوَيْلات الخليج (السعودية والإمارات)، وقد تتعزز الإستثمارات الخليجية في الصين بمناسبة الاكتتاب العام الأولي القادم لمجموعة “سينجينتا “الصينية العملاقة للبذور في شنغهاي مقابل 9 مليارات دولار، حيث أبدت هيئة أبوظبي للاستثمار وصندوق الاستثمارات العامة السعودي اهتمامهما لشراء أسْهُم الشركة الصينية، مع الإشارة إلى تَواضُعِ الإستثمارات الخليجية في الصين، والتي لا تتجاوز 5,3 مليار دولار، لكنها زادت بسرعة مقارنة بالسنوات السابقة، كما زادت استثمارات الشركات الصينية في الخليج، وفازت العديد من الشركات الصينية بعقود لبناء “نيوم”، المدينة المستقبلية في خطة “رؤية 2030” لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونمت التجارة الثنائية بين الصين من جهة والسعودية والإمارات من جهة ثانية، خصوصًا بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسّعودية بوساطة صينية، وهذه واحدة من مظاهر الدور السياسي المتنامي للصين الذي أثار مخاوف بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي من زيادة المبيعات العسكرية الصينية للمنطقة بنسبة 80% خلال العقد الماضي، بينما انخفضت المبيعات العسكرية الأمريكية بنسبة 30% لأن الولايات المتحدة لم تَعُدْ شريكًا موثوقًا وفعالًا، ما جعل آل سعود يُقاومون الضغط الأمريكي لِخَفْض أسعار النفط.
من مظاهر الصراع الدّولي في إفريقيا
تُعد النيجر سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وتُقَدَّرُ حصّة النّيجر بحوالي 4% من الإنتاج العالمي لليورانيوم، ولديها أكبر احتياطي اليورانيوم الخام في إفريقيا، وتستغل شركة “أورانو” (أريفا) العابرة للقارات المملوكة بنسبة 90% للدّولة الفرنسية، يورانيوم النيجر، لتوليد ثُلُث التيار الكهربائي الذي تحتاجه فرنسا، في حين لا يحصل سوى 18% من سكّان النِّيجر على التيار الكهربائي، ويحمي الجيش الفرنسي – بحجة حماية منطقة الساحل من الجهاديين – مناجم اليورانيوم والموظفين الفرنسيين في شركة أورانو (أريفا )، وبعد الانقلاب الذي نفذه الجيش النيجيري بقيادة الجنرال عبد الرحمن تشياني يوم 26 تموز/يوليو 2023، أعلن المجلس الوطني لحماية الوطن اعتزامه وضع حد لاستحواذ الاستعمار الفرنسي على ثروة البلاد ووقف تزويد فرنسا باليورانيوم الذي يُمكّنها من إنتاج ثلث التيار الكهربائي الضروري للاقتصاد الفرنسي ، بينما يبقى حوالي 82% من سكان النيجر بدون كهرباء، في بلد يُعتَبَرُ سُكّانه من أَفْقَر سكان العالم، حيث لا يتجاوز متوسط العمر المتوقع 52 عامًا للرجال و 54 عامًا للنساء، ويعمل أكثر من 40% من الأطفال دون سن 14 عامًا في مناجم اليورانيوم ويمرضون ويموتون دون علاج، ليبلغ معدل وفيات الأطفال 11,5% في بلد مليء بالذهب والماس واليورانيوم، ولا تكتفي شركة “أُورانو” (أريفا) بنَهْب اليورانيوم بل تتخلص من عشرات ملايين الأطنان من النفايات السّامة بالإشعاعات في الهواء الطلق لتحمل الرياح الجزئيات الصغيرة على بعد مئات الكيلومترات، وتُؤدِّي هذه النفايات السامّة إلى تلويث مياه الشرب الشّحيحة أصْلاً، وألقت شركة أريفا، لفترة أربعين عاما، بنحو عشرين مليون طن من نفايات أحد المناجم الصحراوية ( منجم “كوميناك” في “أرليت”) في الصحراء، ما أَدَّى إلى تعرُّضِ أكثر من مائة ألف شخص لخطر التلوث بالإشعاعات النّوَوِيّة…
الإرهاب في خدمة مصالح الإمبريالية
بدأ البرنامج العسكري الأمريكي الخاص بقارة إفريقيا تحت إسم “أفريكوم”، منذ سنة 2007، أما فرنسا التي استعمرت المغرب العربي والبلدان المُحيطة بالصّحراء الكُبرى، فإنها استبدلت الإستعمار المُباشر بالإستعمار غير المباشر، مع الإبقاء على حُضُور عسكري وازِن، وعلى نفوذ مالي ونَقْدِي من خلال الفرنك الإفريقي ( CFA ) ومن خلال استغلال الشركات الفرنسية لثروات إفريقيا، والهيمنة على قطاعات المناجم والبُنية التحتية والطاقة والموانئ البحرية والجوية إلى أن بدأت حصة الصين ثم روسيا والهند وتركيا تزداد من ثروات إفريقيا، وكلّما انخرطت فرنسا في المُخططات العدوانية الأمريكية (تدمير ليبيا ) زاد نُفُوذ المنافسين في إقريقيا، وبعد سنة واحدة من تدمير وتفتيت ليبيا وفتح ثكناتها أمام المنظمات الإرهابية لنهب سلاح الجيش اللِّيبي، أعلنت فرنسا التدخل العسكري االمُباشر في شمال مالي (حيث توجد قاعدة عسكرية أمريكية ضمن برنامج أفريكوم) بذريعة مكافحة الإرهاب الذي زادت قُوّته بفعل حيازة الأسلحة الليبية، واستهدفت المنظمات الإرهابية حقل الغاز الجزائري “عين أميناس” ( 16 كانون الثاني/يناير 2013)، وللعلم فإن القوى الإمبريالية لا تُحارب المنظمات الإرهابية، بل تستغلها، وخلقت بعضها، وسبق أن صرح رئيس الحكومة الفرنسية ووزير خارجيتها الأسبق لوران فابيوس أن المنظمة الإرهابية “جبهة النُّصْرَة”، فرع القاعدة “تقوم بعمل جيد في سوريا”، وأجْرت القناة التلفزيونية الحكومية الفرنسية ( فرنس 24) مقابلة مع زعيم “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” يوم 18 آذار/مارس 2023…
أرسلت الإمبريالية الفرنسية مزيدًا من الجنود والطائرات الحربية والعتاد في المنطقة المُحيطة بالصحراء الكُبرى (منطقة “الساحل”) بدعم أمريكي وبريطاني وألماني، لحماية الشركات متعددة الجنسيات، ذات المنشأ الفرنسي، التي تنهب الثروات، ومنها الذّهب في مالي، ولم يكن يُسمح لجنود مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد مهاجمة الإرهابيين قبل الحصول على إذن من الجيش الفرنسي، ما أدّى إلى زيادة غضب الجنود والمواطنين في بلدان غربي إفريقيا ضد القواعد العسكرية الفرنسية وضد السّلطات الفرنسية ووكلائها في إفريقيا. أما الولايات المتحدة فإنها أنشأت العديد من قواعد الطائرات الآلية والتجسس الإلكتروني…
مُؤشِرات رفض الهيمنة الإمبريالية
اعتبرت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي تغيير الأنظمة الموالية لها، عبر انقلابات عسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تعزيزًا لنفوذ روسيا والصّين في إفريقيا، ما جعل وُكلاء فرنسا وخصوصًا المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) التي تسيطر عليها فرنسا بالكامل، تُصْدِرُ إنذارًا للنيجر، واالتهديد بتدخل عسكري، إذا لم تتم إعادة السلطة السابقة إلى الحُكم، قبل يوم الإثنين 07 آب/أغسطس 2023، مع التّلميح لتدخل عسكري أمريكي وأوروبي، وفرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا عقوبات حصارًا اقتصاديا صارما على النيجر، وحظرت الرحلات الجوية والواردات والصادرات والمساعدات الإنسانية والمعاملات النقدية، وقطعت نيجيريا التي توفر نحو 70% من الكهرباء، التيار، ما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي في العاصمة نيامي ومدن رئيسية أخرى، وبذلك يكون شعب النيجر ضحية مصالح الشركة الفرنسية “أريفا” التي غيرت اسمها سنة 2018 إلى “أورانو”، مع الإشارة إلى حدوث مظاهرات واحتجاجات عديدة منذ أكثر من عشر سنوات ضد الإستعمار الإقتصادي الذي تُجسّده هذه الشركة التي تنهب الثروات ولا تُسدّد ضرائب ( مُقدّرة بنحو ثلاثين مليون يورو سنويا)على تصدير اليورانيوم ولا على المواد والمعدات المستخدمة في الاستخراج، وتجهل حكومة النيجر حجم اليورانيوم المنتج في واحدة من أَفْقَر دول العالم، ولذلك أصبح استغلال اليورانيوم من قِبَل “أريفا – أورانو” مُستَهْجَنًا من قِبَل فئات واسعة من شعب نيجيريا، وتحولت المعركة من احتجاجات ذات صبغة عمالية ومطالب اجتماعية إلى معركة سياسية ضد الإمبريالية، لأن المواطنين أدركوا إنهم بقوا فُقراء لأن شركة “أريفا / أورانو” تستغل ثرواتهم لتصبح واحدة من أكبر شركات التعدين متعددة الجنسيات في العالم، وبلغت إيراداتها ضعف حجم اقتصاد النيجر بأكمله، ولها نفوذ سياسي قوي تستمدّه من نفوذ الإمبريالية الفرنسية، وعلى سبيل المثال فقد كان الرئيس السابق للنيجر محمد إيسوفو خريج المدارس الفرنسية، وموظفًا (مُهندس تعدين) في أريفا/ أورانو، وأصبح ( من 1985 إلى 1992) رئيس عمال مناجم أريفا / أورانو، قبل تعيينه من قِبَل فرنسا (بشكل غير مباشر) رئيسًا للوزراء من سنة 1993 إلى 2011، ثم عينته فرنسا في منصب الرئاسة ( كان وزير المالية أيضًا موظف سابق في أريفا) وظل تابعًا مخلصًا لأولياء نعمته، خلال تدمير ليبيا الجارة واغتيال رئيسها، وخلال احتلال شمال مالي، ونشرت بعض صُحُف نيجيريا سنة 2017 ملفًّا عن الفساد والرشاوى التي يحصل عليها رئيس الجارة النيحر، ما يُفنّد ادعاءات الصحافة الفرنسية التي وصفت محمد يوسفو ببطل محاربة الفساد في النيجر، كما كشفت صُحُف نيجيريا عن صفقات بين أريفا/أورنو والمنظمات الإرهابية بدعم من المخابرات الفرنسية (المديرية العامة للأمن الخارجي – DGSE – ) منذ سنة 2010، وفق صحيفة وول ستريت جورنال (أيلول/سبتمبر 2010)، ولا يختلف الرئيس محمد بازوم عن أسلافه من عُملاء فرنسا.
لهذه الأسباب ندّدت سلطات ووسائل إعلام أوروبا والولايات المتحدة بانقلاب الجيش على الرئيس محمد بازوم وتحركت المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا بسرعة واجتمعت يوم 30 تموز/يوليو 2023 ومنحت تفويضًا لجيش نيجيريا “لإعادة السلطة إلى الرئيس محمد بازوم”، خلال أسبوع، مهددة باستخدام القوة بطريقة أخرى، وانتهت المهلة يوم الأحد 06 آب/أغسطس 2023، لكن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لم تتخذ أي إجراء باستثناء بنين التي ركزت قواتها على الحدود المشتركة.
هل من باب الصدفة أن تكون وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية “فيكتوريا نولاند”، في غرب إفريقيا وفي نيامي، عاصمة النيجر، يوم الإثنين 07 آب/أغسطس 2023، بالتزامن مع نهاية المهلة التي حدّدتها المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا؟
لقد رفضت فيكتوريا نولاند ، مقابلة الرئيس المخلوع محمد بازوم، وتحدث بدلاً من ذلك مع تشياني وقادة عسكريين آخرين، واعترفت بفشل محاولات الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ولمّحت إلى فَشل فرنسا، ما أدّى إلى استبعادها من قِبَل الولايات المتحدة التي “تحاول إيجاد حل دبلوماسي”، مع التذكير بأن لفرنسا 1500 جندي وللولايات المتحدة ألف جندي في النيجر التي كانت (قبل الإنقلاب) تعتبر رأس حربة في غرب إفريقيا ضد روسيا والصين، ولكن انقلبت الأمور بعد الإنقلاب العسكري، وأعلن وزير الخارجية الأمريكي “أنطوني بلينكن” إنه على اتصال منتظم مع القادة الأفارقة، مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ومع الشركاء الأوروبيين، وللتذكير فإن أنتوني بلينكين أدّى في آذار/مارس 2023 أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أمريكي إلى النيجر التي تُعتَبَرُ واحدة من آخر معاقل المؤسسات الأمنية الأمريكية في المنطقة، حيث تمتلك الولايات المتحدة قاعدة جوية بها 200 جندي بالقرب من المطار الدولي بالعاصمة “نيامي” وقاعدة كبيرة للطائرات بدون طيار في منطقة أغاديز بمساحة 25 كيلومترًا مربعًا، وهي ثاني أكبر قاعدة أمريكية في إفريقيا بعد جيبوتي، مُجَهَّزَة بأحدث أنظمة اتصالات الأقمار الصناعية، وهي بمثابة مركز الاستخبارات والمراقبة الرئيسي للأمريكيين في منطقة “الساحل”، وتستوعب القاعدة طائرات النقل( MQ-9 Reapers و C17 )، التي تأثرت الآن بإغلاق المجال الجوي، وسبق أن ، كشفت صحيفة نيويورك تايمز، سنة 2018، عن وجود قاعدة سرية أخرى شمال النيجر (في ديركو) تُديرها وكالة المخابرات المركزية لمراقبة ليبيا والجزائر
تَعَزَّزَ التعاون العسكري بعد توقيع اتفاقية عسكرية بين الولايات المتحدة والنيجر سنة 2015، بشأن “الأمن والحكم الرشيد… والتعاون في مجال المعدات والتدريب وتنظيم مهام مشتركة…” وأعلنت الولايات المتحدة تعليق الوجود العسكري الأمريكي والفرنسي في النيجر، في أعقاب الانقلاب…
أشارت بعض الصحف الأمريكية والبريطانية إلى التباعد بين قرارات قادة الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا وتطلعات الشعوب الأفريقية، وعَبّر العديد من المثقفين والأكاديميين وكذلك المتظاهرين في شوارع بعض المدن الإفريقية عن معارضتهم “للهيمنة الفرنسية والإمبريالية في المنطقة” واتهام فرنسا بالإستحواذ على الموارد وخلق عدم الإستقرار وانعدام الأمن والجريمة المنظمة في الأراضي الأفريقية، وفق اللافتات والخطابات والشعارات التي رُفِعت أثناء مظاهرات النيجر وبعض البلدان الأخرى، وتُنَدّدُ بعضها بالإمبريالية الفرنسية وبعملائها، مثل رئيس بنين (باتريس تالون) الذي تُردّد الإشاعات “إنه معروف بتهريب المخدرات وغسل الأموال وله علاقات جيدة بتجار الهيروين في شيكاغو”، وفقًا لتقرير صادر عن موقع “المنطقة الرمادية” ( The Grayzone ).
قررت الحكومة العسكرية في النيجر إغلاق مجالها الجوي، وأعلن الجيش أن أي انتهاك لهذا الفضاء سيتم صده بقوة، واحتشد حوالي ثلاثون ألف شخص في ملعب نيامي العاصمة لدعم الجيش، ملوحين بأعلام النيجر وروسيا وبوركينا فاسو، ما يُشير إلى التوتر الذي خلقه إنذار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، حيث اعلن رؤساء السينغال وبينين وساحل العاج تنديدهم بالإنقلاب الذي دعمته حكومات مالي وبوركينا فاسو التي تحررت من الوصاية الفرنسية، لكن سوف تزيد معاناة شعوب غرب إفريقيا بسبب إغلاق الحدود وبسبب التضخم القياسي والجفاف، وبالتالي فلا مصلحة لأي شعب في التهديد العسكري وإغلاق الحدود، خصوصًا إذا كان ذلك خدمة للإمبريالية…
خاتمة
هذا عَرْضٌ سريع (وانتقائي) لبعض أحداث الأسبوع الذي يُصادف ذكرى واحدة من أكبر جرائم الإمبريالية الأمريكية، ذكرى إلقاء قنبلة نووية على مدينة ناغاساكي اليابانية وسكّانها، ولا بد من التذكير باستمرار بالجرائم الإمبريالية والتذكير بأن أهم ضمان لعدم تكرارها يتمثل في القضاء على حكم الإمبريالية ورأس المال، ليحل محلهما نظام عالمي مبني على التعاون والتضامن بين الشّعوب، وعلى المُساواة وعلى العدالة في توزيع الثروات بين المواطنين…
تباينت الجرائم الأمريكية منذ إلقاء القنْبُلَتَيْن النَّوَوِيَّتَيْن: الحرب والاغتيالات السياسية والدمار الاقتصادي والحصار والحظر والانقلابات إلخ، وحصلت كل هذه الجرائم بتواطؤ القوى الاستعمارية الأوروبية التي تراجَعَ دورها، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا والبرتغال، وتجاوزت حدّة وفظاعة الجرائم الأمريكية جميع جرائم القوى الإستعمارية القديمة، إلى أن أصبحت قوة الولايات المتحدة (وحلف شمال الأطلسي) تُشكّل خطرًا على البشرية، فقد أقامت الولايات المتحدة أكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم وصَمّمت ونَفَّذَتْ عَسْكَرَةَ العلاقات الدولية لترسيخ مكانتها باعتبارها القوة الإمبريالية الأولى.
تحيي شبكة الدفاع عن الإنسانية ، يوم التاسع من آب/أغسطس، ذكرى جرائم الولايات المتحدة التي ارتكبتها ضد شُعُوب جميع القارات منذ أكثر من قرن، وهي جرائم متنوعة، ضدّ الإنسانية، منها الانقلابات العسكرية والغزوات وقصف السكان والإختطاف والإخْفاء القَسْرِي والاغتيالات وغيرها، وظلّت الدولة الوحيدة التي ألقت قنبلتَيْن نوَوِيَّتَيْن الأولى على مدينة هيروشيما يوم السادس من آب/أغسطس 1945، والثانية على مدينة ناغاساكي اليابانية يوم 9 آب/أغسطس 1945، ما أدّى إلى قتل 140 ألف مدني على الفور في هيروشيما و 70 ألفًا في ناغاساكي، ثم مئات الآلاف في وقت لاحق من آثار القنابل التي صنعتها الولايات المتحدة بمشاركة علماء ألمانيا النازية الذين اختطفتهم، بداية من سنة 1943، وكان هدف الولايات المتحدة اختبار القنبلة بالحجم الطبيعي (وليس في المُختَبَر). ولم تكن القنبلة مبررة عسكريًا لأن ألمانيا استسلمت بالفعل قبل ثلاثة أشهر، واستسلمت إيطاليا قبل أكثر من عام، وهُزمت اليابان بالفعل وطلبت إجراء مفاوضات لمناقشة شروط استسلامها، غير أن الولايات المتحدة رفضت لأن القادة الأمريكيين أرادوا الهيمنة على العالم بالإرهاب، بعد أن خططوا للهيمنة المالية (إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، منذ سنة 1944) والهيمنة الدبلوماسية من خلال الأمم المتحدة التي أُنْشِئت كذلك سنة 1944.
يمكن أن يصبح هذا اليوم، التاسع من آب/أغسطس، نقطة انطلاق لبناء شبكة وتحالف مناهض للإمبريالية (الأمريكية والأوروبية والقوى الممثلة في حلف شمال الأطلسي…)، للدفاع عن مستقبل البشرية، غير أن إنجاز هذا الهدف يتطلب ثباتًا وصبرًا ومُثابرة، لأن الولايات المتحدة تقود حلف شمال الأطلسي وتُهيمن على نظام التحويلات المالية الدّولية وعلى الشبكة الإلكترونية ونظام الإتصالات العابرة للقارات، وتجسّست وكالات الإستخبارات الأمريكية على قادة العالم، بمن فيهم الحُلَفاء…
التعليقات مغلقة.