صالح عوض: المارد الإفريقي في جولة حاسمة مع بقايا الاستعمار!! / صالح عوض

صالح عوض  – الخميس 10/8/2023 م …




لم يحظ أي انقلاب في آسيا أو إفريقيا بمثل ما حظي به تحرك الجيش النيجري من اهتمام دولي، فلقد وقف الغرب -فرنسا بالذات- على قدم واحدة، وبتوتر، تضع السيناريوهات لإسقاط المحاولة، وفي الوقت نفسه لم يحظ أي انقلاب بمثل هذا التأييد الشعبي الواسع.. إنها لحظة الوضوح التي تعيد للأذهان أسباب قتل أحمد توري وأحمد سيكارتو وسيلفانوس اوليمبيو وتوماس سانكارا والقذافي.. إنها معركة استعادة السيادة الوطنية على الثروات، والتحرر من الفرنك الإفريقي، ومن سطوة الخزانة الفرنسية.. إنها معركة الكرامة في مواجهة الاستعباد.. معركة الحقوق أمام النهب، وهي معركة كل ما تبقّى لفرنسا فيها يتتابع في الانهيار في ظل صراع دولي حاد في مواقع أخرى خطيرة ستحدد مصير الشعوب والحضارات.

نهب الثروات والمدخرات:

تقف القارة الإفريقية في أولوية رسم الاستراتيجيات الاقتصادية العالمية لدى الدول العظمى لأسباب عديدة أولها التعداد السكاني الذي تجاوز المليار واحتياجات لاستثمارات ضخمة في البنية التحتية والخدمات في قارة لها إمكانيات هائلة في مجال الزراعة، تؤهلها لأن تكون سلة الغذاء العالمي؛ و مساحتها تبلغ 30.190 مليون كم مربع مع تنوع في المناخ و في التربة وبمواسم زراعية مختلفة وفيها العديد من الأنهار، وتمتلك أكبر مخزون من الثروات والمعادن الإستراتيجية، فمن بين 50 معدنًا مهمًّا في العالم يوجد 17 معدنًا منها في إفريقيا باحتياطيات ضخمة، وهي تمتلك النسبة الأكبر من احتياطي “البوكسيت، والفروكروم، والكوبلت، والماس، والذهب، والمنجنيز، والفوسفات، والمعادن البلاتينية، والتيتانيوم، والفاناديوم واليورانيوم”، ويوجد بها احتياطي نفط  يُقدِّره الخبراء ب9 في المائة من إجمالي الاحتياطي العالمي، أي ما يقارب 100 مليار برميل خام.. ولهذا جميعه يسيل لعاب كبار “المستثمرين” العالميين على هذه الوجهة المغرية.. لاسيما في هذه المرحلة التي تشهد تسارعا محموما لدى أصحاب المشاريع الاقتصادية الكبرى.. إلا أن التنافس في منطقة الفرنك الإفريقي -التي تُعد منطقة نفوذ تقليدية لفرنسا- يكاد ينحصر بين ثلاث دول، هي: فرنسا والصين.. وأخيرا روسيا.

دول غرب إفريقيا:

في هذا السياق لابد من رصد عملية النهب التي نظمتها الإدارات الفرنسية المتلاحقة لثروات الدول الإفريقية لاسيما دول غرب إفريقيا التي كانت تديرها في الحقبة الاستعمارية المباشرة.. ولكن لابد من الانتباه إلى الحيل والخدع التي مورست للتغطية من قبيل إشعال الفتن الداخلية و التخويف من الإرهاب لإقامة قواعد عسكرية في الساحل والصحراء تحمي عملية النهب..

لقد اتجهت الدولة الفرنسية إلى خطين يتكاملان الأول: فرض الفرنك الإفريقي (CFA) على 14 دولة أفريقية يبلغ التعداد السكاني لها 150 مليون نسمة، والناتج المحلي الإجمالي لها يبلغ 170 مليار دولار أميركي.. و الفرنك الإفريقي قد تم اعتماده في 26 ديسمبر عام 1945 باتفاقية وقعها شارل ديغول، وبتأطير من قبل وزارة الخزانة الفرنسية وهو بلا مرجعية ولا يصرف في البنوك الفرنسية او الاوربية.. وهو يطبع في مطابع تابعة للبنك المركزي الفرنسي.. وكان الهدف منه التحكم في تكلفة الوصول إلى المواد الخام، ونهب الكتلة النقدية بالعملة الصعبة المحوّلة الى الخزانة الفرنسية بحجة تغطيته.. وهكذا يصبح الفرنك CFA  أداة “العبودية النقدية”، أو “الأداة غير المرئية للفرانكفريقي” (في إشارة إلى الاستعمار الفرنسي الجديد في إفريقيا) أو بعبارة واضحة “العملة الاستعمارية”.

والخط الثاني للنهب الاستعماري بالإضافة للفرنك الإفريقي: يتمثل في الشروط المجحفة لحجم ودائع النقد الأجنبي والتي كانت مقدَّرة بــ100% غداة استقلال دول منطقة الفرنك الإفريقي عن فرنسا وتم خفضها إلى 65% سنة 1973 – خشية انسحابات من منطقة الفرنك الإفريقي وتم تسقيف حجم ودائع النقد الأجنبي عند مستوى 50% منذ سبتمبر/أيلول 2005 بمعنى أن نصف ثروة هذه الدول تذهب إلى الخزينة الفرنسية بحجة تغطية الكتلة النقدية للفرنك الإفريقي وليس هناك إمكانية لاستردادها أثناء عملية الاستيراد شانها شأن الدهب الإفريقي فهي لا تتبع للبنك الفرنسي ولا الأوربي مما يجعل دول المنطقة تخسر الاستفادة من عشرات المليارات من اليورو سنويًّا توظِّفها فرنسا في سدِّ عجزها المزمن!

 لا يقف الأمر عند هذا الحد بل يمتد الى  وجود ممثلين فرنسيين في مجلسي إدارة البنكين المركزيين لمنطقة الفرنك الإفريقي ليس فقط للمراقبة بل وأيضا للتدخل وشلّ هذين البنكين المركزيين عن اتخاذ قرارات في مصلحة دول المنطقة إذا تعارضت مع مصالح فرنسا في الإقليم.

 هذا وقد قرّرَت باريس في 1994من جانب واحد مراجعة قيمة الفرنك الفرنسي. فكان كابوساً لجميع الأفارقة الذين رأوا رؤساءهم ورؤساء بنوكهم المركزية يوقّعون إعلان داكار الأمر الذي دفع مئات ملايين الأسر إلى انهيار قوتها الشرائية مع انفجار تكاليف الاستيراد والارتفاع الهائل في الأسعار.. وهذا ما جاء في اتهام وزراء إيطاليين فرنسا “باستخدام هذه الاحتياطيات المالية في الخزانة الفرنسية وطباعة العملات الأفريقية لتعزيز أجنداتها الاستعمارية الجديدة، ما دفع الناس إلى الفرار والهجرة من البلدان بسبب الفقر والجوع وفقدان سبل الحياة الكريمة.. إن نجاح باريس لم يكن ممكناً بدون تعاون نشط مع النخب السياسية والاقتصادية الإفريقية التي تنتمي الى فئات الضباط والحكام والعائلات الارستقراطية المرتبطة بالاستعمار وتسهيل تهريب أموالها خارج البلاد.. هذا جنبا الى جنب وضع اليد على مناجم الدهب اليورانيوم والمعادن الأخرى تحت حراسة أمنية فرنسية.

المقاومة المستمرة:

منذ إنشاء الفرنك الإفريقي  CFAانطلقت المقاومة الإفريقية له فقد رفضه توماس سانكارا من بوركينا فاسو وموديبو كيتا من مالي، وكلاهما اغتيل وأطيح به… وقتل رئيس توغو سيلفانوس أوليمبيو (1960- 1963) عندما قرر إصدار عملة نقدية بدلا من الفرنك الإفريقي، وعندما فكر الرئيس الليبي  القذافي بإصدار الدينار الذهبي كعملة بديلة للفرنك الأفريقي شنت فرنسا والناتو الحرب على ليبيا.. جاء في رسائل هيلاري كلينتون التي رفعت عنها السرية أن القذافي خصص 143 طنا من الذهب ومثلها من الفضة لإصدار العملة الجديدة، وهذا كان السبب في قرار ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق بضرب القذافي وقتله.

ان تحرر المستعمرات السابقة واستقلالها الاقتصادي والسياسي من خلال انقلابات على النخبة السياسية الخاضعة لفرنسا كما حصل في مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى والنيجر يضيق شريان الحياة الذي تعتاش عليه الدولة الفرنسية، وذلك في مجالات حيوية عديدة.. وهذا ما دفع الحكومة الفرنسية لتحريض بعض الدول الإفريقية للقيام بعمل عسكري لإسقاط الحراك النيجري وذلك في ظل إجراءات عقابية متتالية ضد النيجر.. ولكن الدول الإفريقية المعنية مثقلة بقضايا أمنية متداخلة ولن تجرؤ على فعل شيء.

 في مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى والنيجر تحالف القادة الجدد مع الروس كما مع الصين لمساعدتهم في مواجهة فرنسا، وهم يحتاجون لذلك للتزود بالسلاح وللموقف السياسي الذي يوقف قرارات مجلس الأمن المحتملة، وكذلك للتعاون التجاري والاستثمار وهذا يعطي روسيا موقعا جيوسياسيا لاستنزاف أوربا المشغولة بنفسها والمستنزفة امنيا وماليا وفي مقدمتها فرنسا.

العرب وجيرانهم الأفارقة:

أن أغلبية الشعوب الإفريقية المجاورة للعرب مسلمون، ولكثير منهم صلات مذهبية صوفية مع مراجعهم في الدول العربية، وقد فشلت حملات التنصير والفرنسة خلال قرنين من إخراجهم من انتمائهم، كما فشلت أجهزة الأمن الإسرائيلية من تحويلهم الى خنجر قاتل للشمال الإفريقي العربي، وهاهم يسقطون مهمات التواجد العسكري لقوات الساحل، وهم بهذا الاعتبار يمثلون السياج الأمني الاستراتيجي للدول العربية.. وان نهضتهم هذه انتصار كبير للدول العربية بعد أن كادت افريقيا تفتح ابوابها للكيان الصهيوني.

إن اتسام هذه الدول الإفريقية المتحررة بوضعية الجوار العربي يعني تمتع المنطقة العربية بقدرة جيوسياسية متميزة في إطار التخطيط الاستراتيجي وفتح أفاق واسعة لجمع عناصر القوة والنهضة وهذا يوجب رفض أي تدخل عسكري في المنطقة وأن يعلو صوت الموقف رفضا لأي محاولة.. وفي هذا الإطار لابد من الإشادة بموقف الجزائر الناضج المتوازن المطالب بالعودة للعمل الدستوري ورفض أي تدخل عسكري لان ذلك يمثل خطرا على السلم والأمن الإقليمي بل والسلم والأمن العالمي.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.