يوسف عبدالله محمود ( الأردن ) – الخميس 10/8/2023 م …
“أزمتنا هي أزمة منهج في التفكير” د. حليم بركات.
تسويغ “الفقر” ظاهرة طبقية يروج لها المحافظون من الطبقات المتنعمة بالثراء والموالون لهم من الأتباع.
تبرير “الفقر” في المجتمعات الإنسانية تشجعه السلطات الحاكمة المقاومة لحقوق شعوبها.
في كتابه إحياء علوم الدين للإمام الغزالي فقرأ أمثلة تمجّد الفقر، بل وتعتبره من الفضائل!
يقول الغزالي في كتابه: “أَحبُّ العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه” و”الجوع عند الله في خزانة، لا يعطيه إلا لمن أحبّه”. أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين، مصر: المكتبة التجارية الكبرى ص19.
أليس في هذه الأقوال تمجيد وتسويغ للفقراء؟
أليس فيه دفاع وتبرير للمترفين الذين يجمعون ثرواتهم بأساليب غير شريفة؟
من الأمثلة الأخرى المتداولة كثيراً:
“والقانع غنيّ وإن كان جائعاً”
و”القناعة كنز لا يفنى”.
في كتابه “الهوية” يحدثنا المفكر والروائي د. حليم بركات عن هذه الظاهرة غير المقبولة إنسانياً، فالإنسان الجائع هو رجل غضبان، قناعته بجوعه، لا يجوز الدفاع عنها.
قلت إن تسويغ “الفقر” ظاهرة طبقية وسلطوية نشأت بنشوء الطبقات. وقد تم استغلال الدين في الدفاع عن هذه الطبقة، وهنا يميّز د. حليم بركات بين “الدين الرسمي والدين الشعبي”، “يتمثل الدين الرسمي بتشديد المؤسسة الدينية والعلماء والطبقة الحاكمة والمثقفين والتجار والصناعيين والحرفيين الكبار وغيرهم من النّخبة في المدن على النصوص والشريعة والسُّنة والمفاهيم المجردة، والتوحيد والوحي والعلاقة المباشرة دون وسيط بعين المؤمن والله.
أما الدين الشعبي فيتمثل بتشديد الفلاحين في الريف والفقراء في أحياء المدن الشعبية على أهمية العلاقة الروحية بالأولياء والمزارات والأضرحة والفاهيم الحسّية والوساطة والتدرج في التوصل إلى الله عن طريق الأولياء وعلى الشخص أكثر من الكلمة المجردة”. د. حليم بركات: المرجع السابق ص291-292.
بعبارة أخرى فالكاتب يميز بين نوعين من الوعي أحدها رسمي والآخر تقليدي. الوعي الرسمي يوظف في تكريس الخضوع، والتقليدي أو الشعبي يكرس “المتواكل”. ومع الأسف –وكما لاحظ المؤلف- فقد “وجدنا أن العلماء يفرضون أنفسهم أوحياء على تفسير النصوص الدينية، وهم يفعلون ذلك من منظور الطبقات الحاكمة التي يرتبطون بها في مختلف البلدان العربية”. ص297.
وفي إضافة أكثر يشير د. بركات أن الدين تم استعماله كأدوات في الصراع السياسي والاجتماعي، تستخدمه الدول والطبقات الحاكمة والأحزاب والجماعات والأفراد لمصالحها الخاصة.
إن تطويع الدين للدفاع عن الظلم والقهر هنا وهناك هو بحق إساءة لجوهر هذا الدين وإنسانيته. ثمة أنظمة سياسية تستخدمه في الدفاع عن شرعيتها رغم ما يسود بلدانها من ظلم وقهر وابتزاز.
ينتقد هذا المفكر وعالم الاجتماع وصاية بعض الحكام ورجال الدين “على المؤمنين باسم الله” لأن ذلك يجعل المجتمع مُغترباً عن نفسه “كما أن المؤمن يغترب في الدين، إذ يفقد السيطرة على مصيره”. المرجع السابق ص298.
وهنا يُذكّرنا المؤلف كيف أن الأمم القديمة كالرومان مثلاً لجأوا إلى تخويف الناس من الآلهة إذا عصوا حكامهم وإن بطشوا!
وللتدليل على استغلال الدين حتى من قبل المستعمرين في العصور الحديثة يشير إلى ما ذكره زعيم الهند الراحل نهرو من “ان الاستعمار البريطاني في الهند كان يسمح للمساجين السياسيين فقط بقراءة الكتب الدينية”.
وفي هذا السياق أيضاً يشير د. حليم بركات إلى قامتين كبيرتين في القامات الفكرية العربية وهما العقاد وتوفيق الحكيم، فهما رغم علو شأنهما –كما يرى- قالا بالإيمان، والوجدان بدلاً من العقل باعتبار أن الإنسان لا يستطيع أن ينفذ إلى معرفة الحقائق الكونية عن طريق العقل، فيما يستطيع أن ينفذ إليها عن طريق الإيمان والوجدان.
لذا يتحدث عن مقولات “الحقيقة المطلقة” و”الكمال المطلق” ص299.
بعبارة أخرى ووفق هذا التوجّه المغيّب للعقل “تزداد قدرة الطبقات الحاكمة على ضبط الشعب وتحويله إلى رعايا، إذ يقترن خوف الله بخوف السلطة”. ص299.
وويل لشعوب يتم تحويلها إلى رعايا، فهي تظل خانعة مستسلمة للسلطة، تُذعن لها اتقاء قمعها! فهي إن ناقشت أو أبدت رأياً مخالفاً للسلطة، “أتاها العقاب باسم الدين صارماً لا يناقش، فيدخل كل ما يتصل به من متاهات المكبوتات. وما أكثر المكبوتات العربية التي لا يجرء العربي حتى على أن يُناقشها مع نفسه وفي وحدته”. المرجع السابق ص299.
إن الرُّعب الذي بات يشل حياة الكثيرين من العرب إن في السياسة أو حتى في العائلة والمدرسة والجامعة والحزب والمؤسسات باختلاف أنواعها ومجالاتها. ورحم الله الكاتب السوري محمد الماغوط القائل “جميع الأمم مقوّمات قوميتها: اللغة والتاريخ والأرض، إلا الأمة العربية، فمقوّمات قوميتها الأرض واللغة والتاريخ والخوف”!
تُرى، متى ينتهي “خوف” هذه الأمة إذا ما تجرّأ أبناؤها فناقشوا سلطات بلدانهم في أمور تتعلق بشؤونهم الحياتية، بكل حرّية ودون رُعب؟
متى تسقط مقولة “إذا أردت أن تعيش عليك أن تخرس”!.
متى لا يُخرس الرّعب الألسنة؟
لا حياة إنسانية كريمة دون “حرية”.
التعليقات مغلقة.