وقعت الحرب / د. عماد الحطبة
د. عماد الحطبة ( الاردن ) – السبت 12/8/2023 م …
وقعت حروب كثيرة منذ ذلك الزمن، وعلى عكس أمانينا وقع معظمها ضد بلادنا، وكان معظم ضحاياها من إخوتنا، بل إن بعض من شاركونا اللعب ذات يوم كانوا من ضحايا تلك الحروب.
لعبة كنا نلعبها في طفولتنا، نرسم دائرة ونقسمها إلى مثلثات، ونكتب في كل مثلث اسم دولة، ويقول أحدنا وقعت الحرب ويذكر اسم الدولة فيركض الجميع ويبقى من يقف في مثلث تلك الدولة، يصرخ قِفْ، وعليه تقدير المسافة مع أحد اللاعبين بعدد الخطوات. وفي حال لم ينجح في الوصول، أو كان عدد الخطوات أكثر من اللازم، فإن اللاعب يخسر. كان الخيار يقع في الغالب من الأحيان على فلسطين وأميركا، لأننا كنا نتمنى أن تقع الحرب في فلسطين لتحريرها، أو في أميركا لهزيمتها.
وقعت حروب كثيرة منذ ذلك الزمن، وعلى عكس أمانينا وقع معظمها ضد بلادنا، وكان معظم ضحاياها من إخوتنا، بل إن بعض من شاركونا اللعب ذات يوم كانوا من ضحايا تلك الحروب. كنا هدفاً لأعداء كثيرين استهدفوا وطننا بسبب ما فيه من ثروات، أو بسبب موقعه الجغرافي، لكننا كنا أقسى أعدائنا.
منذ استقلال دولنا المجزوء، لأنه كان على مقاس المشاريع الاستعمارية، ونحن نعاني حروباً ضد كل مشروع يحاول التصدي للتركة الاستعمارية، واعتماد خيارات وطنية، أهمها السيادة واستقلال القرار الوطني. وفي كل مرة كان الاستعمار يجد بين ظهرانينا من يقف مع مخططاته، فيدعمها بالمال والرجال، بل في كثير من الأحيان يبادر إلى طلب معونة المستعمر ضد أشقائه. هذا ما حدث لمصر عبد الناصر، وسوريا الأسد، وجزائر هواري بومدين، والمقاومة الفلسطينية، والمقاومة اللبنانيتين الوطنية والإسلامية.
آخر حروبنا كان ما يسمى “الربيع العربي”، عندما اجتمعت الأرض علينا، فدمّر الاستعمار، بيديه ويد بعض منا، معظم ما حققناه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. عدنا قبائل وطوائف وأدياناً، وعادت قواعد المستعمرين وجنوده يعيثون فساداً في بلداننا، ولم يبقَ من استقلالنا سوى يوم للذكرى نحتفل به كل عام. باتت أغنى دولنا تعاني ضائقة اقتصادية، وبالكاد تكفي احتياجات مواطنيها.
حتى في الحالات التي استطاعت قوى المقاومة الصمود، أو هزيمة العدو الاستعماري، وجدت نفسها في مواجهة حملات لعزلها والتقليل من شأن انتصاراتها. هذا ما حدث للمقاومة الفلسطينية خلال غزو لبنان عام 1982 وحصار بيروت، وما حدث للمقاومة اللبنانية بعد تحرير الجنوب (2000) وحرب تموز (2006)، إذ لن ننسى البيان السعودي – العربي، الذي أعلن تخليه عن المقاومة وتأييده العدو الصهيوني. تكرر الأمر بعد هزيمة المشروع الاستعماري في كل من سوريا والعراق على يد محور المقاومة، فلقد اصطفّ الأشقاء إلى جانب الأعداء في محاولة تقويض إنجاز المقاومة.
أثبتت المقاومة أن حالة النصر، التي نشأت عام 2006، كانت مستمرة ومتصاعدة، وأن خيار الهزيمة لم يعد موجوداً. لمسنا تعديلاً في مواقف أشقائنا العرب، وإن كنا ندرك أنه موقف المضطر الذي أُسقط بيده، إلّا أننا اخترنا غضّ الطرف عن قناعاتنا، وفتحنا قلوبنا قبل أبوابنا لأشقائنا. اعتقدنا أن العودة العربية إلى سوريا سوف تمتدّ إلى لبنان، لتساعد على حل أزمات البلدين الاقتصادية، وربما بعض الأزمات السياسية، كملف الرئاسة اللبنانية، وملف الاحتلال الأميركي لأجزاء من سوريا.
أصبح من الواضح أننا أفرطنا في التفاؤل، فتلك الدول، وإن كانت أبدت بعض التململ من الشروط الأميركية المرتبطة بالعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وهو أحد أسباب تفاؤلنا، إلّا أنها لم تغادر المركب الأميركي وبقيت سياساتها الإقليمية مرتبطة، إلى حد كبير، بالمشاريع الاستعمارية. أوغلت تلك الأنظمة في التطبيع. حتى المملكة السعودية التي تعلن رفضها التطبيع، تُبطِن غير ما تظهر، فهي تستقبل الوفود الإسرائيلية سراً وعلانية، وتسمح للطيران الإسرائيلي بالعبور في أجوائها، وتعلن عداءها السافر لفكرة المقاومة وللمقاومين.
لم تُنجَز صفقة الكهرباء للبنان من الأردن ومصر عبر سوريا، ولم تفتح السفارة السعودية في دمشق أبوابها، والاستثمارات العربية، التي اعتقدنا أن جزءاً منها سيتدفق إلى سوريا، أو حتى مصر، بعد قمة الرياض، ضلت طريقها، وتركت سوريا تعاني الضغط على عملتها الوطنية وما ينجم عنه من تأكّل الأجور وزيادة التضخم. وتُركت مصر تعاني أعلى نسبة تضخم في تاريخها، وتوجهت تلك الاستثمارات إلى الأسواق الآسيوية والعالمية لتوظَّف في مصلحة السياسات الغربية، كما هي الحال في توجيه 21 مليار دولار من السعودية إلى الاستثمار في مجال التعدين والنفط في باكستان، إحدى الدول الدائرة في الفلك الأميركي، وشريكة السعودية في تحالف العدوان على اليمن.
في لبنان، الذي أدمته طعنات أشقائه قبل أعدائه، والذي يعاني أزمة اقتصادية تكاد تقوض دولته من أساسها، حضر الأشقاء العرب من خلال أحداث مخيم عين الحلوة، التي زادت في معاناة سكان الجنوب نتيجة تدفق اللاجئين من المخيم ومحيطه، وجاءت الرسالة الخليجية، التي تطالب المواطنين الخليجيين بمغادرة لبنان، لتزيد في الطين بلة، وتشيع جواً من الحذر والقلق، ليأتي حادث الكحالة ورد فعل القوى الانعزالية عليه، والدعم الذي وجده رد الفعل هذا من وسائل الإعلام المرتبطة بدول ما يسمى “محور الاعتدال العربي”، ليؤكد أن ما يجري في لبنان ليس أحداثاً معزولة، بل سلسلة مترابطة ومخطَّطة بدقة من ردّات الفعل المبرمجة، والتي تبحث عن أفعال تساعدها على التعبير عن ذاتها.
ليس بعيداً عن كل ذلك قيام قوات المستعمر الأميركي بنقل مجاميع من الإرهابيين إلى قاعدة التنف لتدريبهما واستخدامهما للسيطرة على الحدود العراقية السورية. في هذا السياق، جاء الهجوم المجرم على حافلة نقل الجنود السوريين، والذي أسفر عن سقوط 20 شهيداً. كان الرئيس بشار الأسد وضعنا في أجواء التحفظ بشأن الآمال المعقودة على الدول العربية بعد قمة الرياض، عندما أكّد أن سوريا تأمل مساعدة أشقائها، لكنها لا تنتظر منهم شيئاً.
لا يمكن أن تقع الحرب من دون أن تمر على فلسطين، فما حدث في جنين ونابلس وطولكرم ورام الله جزء من أحداث المعركة التي يشنها الاستعمار على وطننا وأمتنا، بتعاون غير مسبوق من سلطة عباس في رام الله. ومثلها محاولات الولايات المتحدة نشر قطعها البحرية في المياه الإقليمية اليمنية، وإعلان الأسطول الخامس الأميركي نشر 3000 عسكري في منطقة الشرق الأوسط.
الحرب ما زالت قائمة، والعدو يحاول أن تقع الحرب بين ظهرانينا وفي أرضنا، وليس من سبيل أمامنا إلّا نقل المعركة إلى أرض العدو وتكبيده أكبر الخسائر. وأُولى المعارك يجب أن تكون بتحرير البادية السورية من الإرهاب بضربة قاصمة لا تخضع للمساومات السياسية. عندها سنكون في موقع نخوض كل معاركنا السياسية والعسكرية وفق شروطنا.
التعليقات مغلقة.