ثقافة المقاومة في فكر إدوارد سعيد / غنوة فضة
غنوة فضة ( سورية ) – السبت 12/8/2023 م …
ليس هناك “ما هو أجدر بالاستهجان مما يكسبه المثقّف من عادات فكرية تنزع نحو ما يسمّى “التفادي”، أي النكوص والتخلّي عن الثبات في موقفه القائم على المبادئ.
“ثقافة المقاومة في فكر إدوارد سعيد” هو عنوان الكتاب الجديد للدكتورة ناهد راحيل، والصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع (2023)، وهو بحثٌ في الاستراتيجيات النقدية الخاصة بفكر الناقد والمفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد(1935-2003)، وتحليلٌ لما أضمره الخطاب الكولونيالي ضمن سياقاته الاجتماعية والسياسية، آخذاً بعين الاعتبار مؤلفات المفكّر ضد الاستعمار، حيث لم تفصل الباحثة تجربته الشخصية مع النفي والاقتلاع عن توجّهه المعرفيّ، ولا عن منهجه في تحليل الخطاب الرمزيّ الذي أنتجته الثقافة الغربية، وتفكيك استراتيجيات مقاومته.
سؤال الثقافة:
تهتمّ الباحثة بمقاربة سؤال سعيد عن الثقافة، وتتوجّه لدراسة مفهوم “المثقافة”، فالفكر الذي يحصّن أصحابه ويمنعهم من الذوبان في منظومة الهيمنة، يُعنى أيضاً بحوارية الثقافة التي مهّدت لفكرة المركزية الغربية، ويرفض منطق التراتبية الذي يبرّر الحطّ من شأن صوتٍ أو رأي على حساب الآخر.
من هنا تناولت الدراسة ما تبنّاه “سعيد” من مقاومة أشكال الهيمنة الثقافية الغربية، سيما بعد تحوّلها إلى مساحة لـ “التثاقف”، فكان لا بدّ من تحليل استراتيجيات الكاتب في نقد الخطاب الاستشراقيّ، ومحاولات الغرب لصنع “الآخر” و”التسيّد” عليه، الأمر الذي رفع من أهمية “النظرية ما بعد الكولونيالية” وبحثها في علاقات القوى القائمة بين خطاب المستعمر والخطابات المضادة له، وكشفت عن أهمية الكتابة الأدبية كخطاب بديل يواجه الخطاب السلطوي والإقصائي، إلى جانب رصدها للنسق المضمر داخل النصوص بوصفها حادثة ثقافية، قبل أن تحمل أبعاداً جمالية كاشفة للإرث الضارب في جذور المجتمع.
الترجمة بوصفها حركة غير متكافئة
تدرس الباحثة دور الترجمة وإسهاماتها في إعادة إنتاج الثقافة المسيطر عليها بصورة تصبح معها ثابتة ومهيمنة. فالثقافة المهيمنة تترجم من الثقافة المهيمَن عليها ما يتلاءم مع أفكارٍ تماثل تطلّعاتها. وهو ما يخلص إلى أن الترجمة لم تكن متكافئة وتعوزها عدالة التبادلات الرمزية الثقافية، الأمر الذي أدى بحسب رؤية “سعيد” إلى تنميط الشرق في بنى غرائبية، والذي ألزم فعل الترجمة بما لا يكسر أفق التوقّع لدى المتلقّي، وخلق مناخاً محرّضاً لظهور ثنائيات رفعت المتحضّر إلى محور الخير والتعقّل، ودفعت البربري داخل محور الشر والتخلّف، وهو ما أفقد الترجمة جوهرها كفعل حضاري مؤشر على درجة الاختلاف والتعدّد.
فانون وغرامشي وفوكو
تكرّس الكاتبة بحثها في دراسة النظرية الكولونيالية من وجهة نظر روّادها، وسعيهم لتقويض التمركز الغربي ومقولاته الفكرية، وتؤكد بأنه على الرغم من الدور الكبير الذي قام به إدوارد سعيد وجياتري سبيفاك في حقل النظرية، واعتبارهم إلى جانب هومي بابا ثالوثها المقدّس، إلا أن فرانز فانون (1925-1961) يعد الأب الروحي لها، واعتُبِرَ كتابه “معذّبو الأرض” مؤسساً لما قدّمه من علاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وخلص إلى أنّ نهاية الاستعمار لا تعني نهاية الكولونيالية، فالعلاقة هنا لا تتلخّص في الأبعاد المكانيّة، بل هي علاقة نفسية دفعت فانون لتناول قضية النضال للتحرّر، وتحطيم المركز، وتطبيق الفكر النقدي إزاء الهجنة الثقافية.
ليأتي من بعده إدوارد سعيد، وينجح في تحليل المسلّمات الأوربية تجاه الشرق وانطلاقها من منظور استعماري بحت، وهو ما ذهب إليه في كتابه “الاستشراق” ودراسة اعتماد الاستعمار على حركته بوصفها سجلاً معرفياً يُكرَّس للسيطرة والاستعلاء. لذا تقول الباحثة إنه كان من الطبيعي أن يجد سعيد في أفكار فانون وأنطونيو غرامشي وميشيل فوكو ضالته، وهو ما انعكس في صياغته للكثير من المفاهيم النقدية، والأدوات الإجرائية التي وُظِّفَت في تفكيك الرواية الكولونيالية، وكرَّست تفوّق الغرب في مقابل تسفيه الآخر والعمل على اختزال وجوده.
تقارب الباحثة راحيل بين تعريف غرامشي للمثقّف وتصنيفه للنخبة الثقافية، وبين المثقف الحقيقي الذي ذهب سعيد إلى تعريفه. وفي حين يفرّق غرامشي بين المثقف التقليدي المتسم بالثبات وعدم التحوّل، وبين المثقّف العضوي الذي يتسم بتطور الأداء والانغماس في مجتمعه، يشير سعيد إلى المثقّف الحقيقي الذي يتلخّص دوره في الدفاع عن ثوابت الحق والعدل، وفضح الفساد والدفاع عن المستضعفين وتحدّي السلطة، أما عدا ذلك فقد عدّهم أشباه مثقفين، ووصف تاريخهم بكونه سلسلة خياناتٍ متتالية.
تلك النظرة إزاء المثقّف والتخوّف من ضياع مهمته لم تبرّئ الكتّاب والأدباء، بل جعلتهم معنيين بقضايا الالتزام والموقف إزاء السلطة، كونهم شاهدين على الاضطهاد والمعاناة، الأمر الذي كرّس له “سعيد” وبناه عبر مفهوم الالتزام الإنساني عوضاً عن الالتزام السياسي، وخلص منه إلى النموذج الأخير الذي دعاهُ “المثقّف الملتزم”.
التواطؤ بين الرواية والإمبريالية الغربية
تشير الباحثة إلى اهتمام “إدوارد سعيد” بفضح التواطؤ بين الرواية والإمبريالية الغربية. ومن خلال الكشف عن أشكال التمثيل السردية، والروايات التي أسهمت في توسّع الفضاء الإمبراطوري وزيادة سطوته الثقافية، وجعلت من رواية “قلب الظلام” مثالاً عن تجسيد الموقف الإمبريالي إزاء أفريقيا، وعلى توظيف النصوص الأدبية كخطاباتٍ مرّرتها السلطة بصيغة رسائل سردية مضمرة.
فكونراد كما يرى سعيد هو المثقّف الشاهد على العملية الإمبريالية، وتسليمه عبر روايته بالحتمية التاريخية للإمبريالية هو جزء لا يتجزّأ من الثقافة المهيمنة، وهو ما جعل الرواية تخدم الرجل الأبيض حين تجاوزت بناءها الفني نحو الاستغراق بالخطاب التصارعيّ على أفريقيا. من هنا تقول الباحثة إن الرواية التقت مع الإمبريالية وحصّنت إحداهما الأخرى إلى درجة استحالت معها قراءة واحدة من دون التعامل بطريقة ما مع الأخرى.
القضية الفلسطينية والهيمنة الثقافية
تؤكد الباحثة في الجزء الأخير من كتابها على دراسات إدوارد سعيد حول تأثيرات هيمنة الفكر الصهيوني على الخطاب الإنساني. فالفلسطينيون ضحايا ذلك الفكر، وقد أطر النظرُ إلى القضية الفلسطينية من خلال الرؤية الصهيونية وروايتها الفردية مع الصراع، ما يجعلها استمراراً للمشروع الاستعماري الغربي للشرق، وتجسيداً للخطاب الاستعلائي نفسه. مع تحليلٍ منظّم للخطاب الاستشراقي ودوره في التمهيد لظهور الحركة الصهيونية، ولرحلة الاستشراق الصهيوني التي كشفت أبعادَها ممارسةُ “القراءة الطباقية” التي وصفها “سعيد” بكونها: إخراج الأشكال الثقافية الغربية من المنغلقات التي تمت حمايتها فيها، ووضعها بدلاً من ذلك داخل البيئة الكونية التي خلقتها الإمبريالية.
تشير نهاية الدراسة إلى حديث “سعيد” عن التحدي الأكبر، والذي دعاه “التفادي” أو التخلي عن الثبات، وعدم الالتزام بالقضايا الإنسانية المصيرية، وهو في ذلك يشير إلى القضية الفلسطينية التي تمّ التخلّي عنها خوفاً من قول الحقيقة، والإقرار بوجود أقسى حالة من حالات الظلم. ومنه تتحيّد العادات الفكرية التي هي مصدر فساد المثقّف بلا منازع.
فليس هناك “ما هو أجدر بالاستهجان مما يكسبه المثقّف من عادات فكرية تنزع نحو ما يسمّى “التفادي”، أي النكوص والتخلّي عن الثبات في موقفه القائم على المبادئ. وعلى الرغم من علمه أنه الموقف الصائب، لكنه يختار ألا يلتزم به. فهو يريد أن يظهر في صورة من اكتسب لوناً سياسياً أكثر مما ينبغي له، وهو يحاول ألا يظهر في صورة من يختلف عليه الناس”.
تلخّص الباحثة في نهاية كتابها ما قدّمه المفكّر الفلسطيني من استراتيجيات لمقاومة الخطاب الإمبريالي، والمفاهيم التي اعتمدها في تفكيك الخطاب الكولونيالي، والتي تقول بتجديد أدوات القراءة، وتفكيك الصورة النمطية المتحيّزة أيديولوجياً للمركزية الغربية، إلى جانب الوعي بامتلاك سلطة الكلمة والصوت في تمثيل الآخر. وضرورة بلورة نظرية سردية تتمثّل في التشابك مع الخطاب الإمبريالي الرمزي، وتفعيل السرد المضاد لثنائيات: المركز والهامش، السيد والتابع، وتحرير الذات المتموضعة داخل ذلك النسق.
التعليقات مغلقة.