ما بين إصبع السيّد وعباءته.. أي مستقبل للعلاقات الداخلية بين اللبنانيين؟ / أحمد عبد الرحمن

أحمد عبد الرحمن ( لبنان ) – الإثنين 14/8/2023 م …




منذ زمن بعيد، تعرّضت قوى المقاومة في لبنان لكثير من المضايقات والاستفزازات التي وصلت في كثير من الأحيان إلى اعتداءات واضحة وفاضحة أدت في عديد منها إلى سقوط شهداء وجرحى.

في بعض البلدان العربية، ومنها فلسطين، يُستخدم بكثرة مصطلح “وسّع عباتك” أو “عباءتك”، وفي بعض الأحيان “وسّع صدرك”، كناية عن دعوة رموز المجتمع وكبار العائلات والشخصيات الاجتماعية المعروفة إلى استيعاب وتمرير كثير من الأمور التي قد يراها البعض صبيانية أو متهوّرة ومستهترة، والتي يقوم بها بعض الأشخاص أو العائلات غير المنضبطة.

ولأن العاقل دائماً ما يتحمّل إساءات الآخرين ويتجاوز عنها، رغم قدرته على الرد عليها ووضع صاحبها في حجمه الطبيعي وفي المكانة التي يستحقها، فإنَّ سمات الصفح غالباً ما تتغلّب على الرغبة في الثأر ورد الإساءة بمثلها. 

لكن في أحيان أخرى، وخصوصاً عندما يفهم بعض المقامرين والمجرمين بأن توسعة العباءة هي نتيجة ضعف وقلة حيلة وعدم قدرة على الرد، يضطرّ الكبار إلى رفع السبّابة في وجوههم، للإشارة بأنَّ لكل شيء حداً، وأن التسامح والتساهل لن يستمرا إلى الأبد، بل يمكن عند الضرورة، وخوفاً من زيادة حجم الضرر وارتفاع منسوب التسيّب والاستهتار، استخدام وسائل أخرى تضبط المسائل وتعيد ترتيب الأمور بالشكل الصحيح. 

 في لبنان الذي تتعدد فيه الولاءات، وتكثر فيه الطوائف، وتختلف فيه التوجّهات السياسية، يمكن لنا أن نرى بوضوح تطبيقاً عملياً للأمر الذي أشرنا إليه آنفاً، ولا سيما بين قوى وجماعات محور المقاومة التي يقف على رأسها حزب الله بقيادة أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله، الذي يملك من الحكمة والصبر والصفح ما لا يملكه غيره، وبعض القوى المرتهنة للسفارات الأجنبية والأجندات الخارجية، التي تتصدّرها منذ زمن بعيد أحزاب مكشوفة الوجه ومعروفة التوجهات يشهد التاريخ على جرائمها بحق اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء.

منذ زمن بعيد، تعرّضت قوى المقاومة في لبنان لكثير من المضايقات والاستفزازات التي وصلت في كثير من الأحيان إلى اعتداءات واضحة وفاضحة أدت في عديد منها إلى سقوط شهداء وجرحى، ما أدى إلى رفع مستوى التوتّر والانفعال في الشارع اللبناني إلى درجته القصوى. 

آخر هذه الاعتداءات، وربما أخطرها، ما جرى قبل أيام قليلة، والذي تمثّل في الهجوم “الغوغائي” الذي قام به العشرات من العشوائيين والطائفيين الذين يتلقّون أوامرهم من غرف العلميات السوداء على شاحنة حزب الله التي كانت تحمل السلاح، والتي انقلبت على الطريق الدولي في مقابل كنيسة الكحّالة.

هذا الهجوم الذي بدا منظّماً ومقصوداً أظهر بما لا يدع مجالاً للشكّ أنَّ المخطط العملياتي الذي يستهدف سلاح المقاومة في لبنان وعموم المنطقة، والذي تديره غرفة عمليات مركزية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والذي تمثّل “إسرائيل” والسعودية رأس حربته المتقدمة، إلى جانب دول عربية وخليجية أخرى وجماعات وأحزاب معروفة التوجهات ومكشوفة الأجندات، بلغ مرحلة متقدّمة من عمره، وانتقل خطوة أخرى إلى الأمام متجاوزاً عقدة الخوف من الطرف الآخر، ومعتقداً أنه وصل إلى مرحلة يستحيل معها إيقافه أو التصدّي له أو التغلّب على آثاره التي تسعى لتضييق السبل وقطع الطرق على استكمال المقاومة مشروعها الجهادي في المنطقة، والذي يعتمد بشكل أساسي على إمداد كل الساحات بالمال والسلاح، والذي اقترب، بحسب معظم المعلومات الاستخبارية الأميركية والإسرائيلية، من بلوغ مقصده والوصول إلى نهاياته السعيدة.

هجوم الكحّالة، وإن بدا للبعض أنه جاء في سياقات أخرى بعيدة كل البعد عما ذكرناه آنفاً، وأنه مجرد احتكاك عابر بين مواطنين يؤيدون أحزاباً لبنانية معينة معروفة بمعاداتها لحزب الله وقوى المقاومة وشباب الحزب الذين كانوا يرافقون شاحنة السلاح، إلا أن التدقيق في تفاصيله، والانتباه بشكل جيد لحيثياته، يُظهر من دون أدنى شك أن ما جرى هو تنفيذ لأمر عملياتي صدر عن جهات عليا ونافذة تملك مقاتلين مسلّحين ومدرّبين على الأرض، وأن هؤلاء المقاتلين يملكون عقيدة قتالية وأيديولوجيا سياسية تؤهلهم لخوض قتال يمكن أن يؤدي إلى قتلهم آخرين من بني جلدتهم ومن شركائهم في الوطن، ويمكن أن يؤدي أيضاً إلى خسارتهم أرواحهم، كما حدث في الحادث الأليم.

هذا الأمر الخطر للغاية، الذي يمكن له أن يأخذ البلد إلى أتون حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، وتأكل الأخضر واليابس، وتذهب بالأوضاع إلى مسار مدمّر عانت منه الدولة اللبنانية أكثر من غيرها، تكرر أكثر من مرة خلال الشهور المنصرمة.

هذا الأمر يدفعنا إلى الاعتقاد، إلى جانب المعلومات الموجودة بحوزتنا، بأنَّ ما يجرى ليس مجرد حدث عابر أو انفعال عارض، بل هو مدبّر ومخطط له بعناية، ويحاول استغلال أي لحظة فارقة لإشعال عود الثقاب من خلال بعض السفهاء والجهلة الذين يعدّون، كما يبدو من تصريحات بعضهم العنترية، مجرد مستخدَمين ليس أكثر. وقد أعمى عشقهم للمال الحرام بصيرتهم، وحيّد عقولهم، وجعلهم كالحافلة التي لا يملك قائدها إمكانية السيطرة على مقودها.

وفي نظرة سريعة، يمكن لنا أن نرى أن ما نشهده من أحداث يسعى البعض من ورائها لإيقاظ الفتنة التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، يجري بطريقة البناء على بعض التطورات واستغلال بعض التحركات، وليس بطريقة مباشرة تؤدي إلى كشف أهداف من يقف ورائها وتعريته أمام حاضنته الشعبية وفضح انقياده إلى أجندات تخريبية.

هذا الأمر إن دل على شيء، فإنما يدل على أن من يقف وراء تلك الأحداث هم مخططون محترفون ويملكون من الخبرة الاستخبارية والعملياتية الشيء الكثير، إذ إننا لم نشهد مثلاً هجوماً مباشراً على مخزن أسلحة للمقاومة أو ما شابه، ولم نرَ تفجيراً كبيراً ومباشراً ضد أحد الأهداف الحيوية للمقاومة، كما كان التكفيريون يفعلون على سبيل المثال، بل إننا نرى أحداثاً يُراد لها أن تبدو مجرد ردود فعل من سكان مناطق لا تناصر قوى المقاومة، وأن هؤلاء السكّان لا يرغبون في وجود المقاومين بين ظهرانيهم أو أن يقوموا بعملهم المقاوم من أراضيهم.

في 6 آب/أغسطس 2021، اعترضت مجموعة من سكان قرية شويّا في قضاء حاصبيا شاحنة تحمل راجمة صواريخ جراد تابعة لحزب الله كانت قد نفذّت صبيحة ذلك اليوم قصفاً صاروخياً في محيط المواقع العسكرية الإسرائيلية في مزارع شبعا المحتلة رداً على قصف إسرائيلي سابق، واعتدوا على بعض المقاومين المرافقين لها، وحاولوا الاستيلاء عليها. 

في ذلك الوقت، ورغم صعوبة المشهد على أنصار المقاومة، ورغبة الكثيرين منهم في الرد بقوة على ذلك الاعتداء السافر، فإنَّ سماحة السيد حسن نصر الله، وكعادته، “وسّع عباءته” وتجاوز أحزانه التي عبّر عنها بقوله: “عندما رأيت مشاهد شويّا، تمنيت لو أمكنني الوصول إلى الشباب وتقبيل جباههم وأيديهم”، مضيفاً: “بيئة المقاومة هي أهلٌ للصبر والتحمّل، وستكون دائماً في مواقع التضحية والصمود”. 

بعد هذه الحادثة المشينة بنحو شهرين، وتحديداً في 14 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وأثناء مسيرة سلمية نظمتها حركة أمل وحزب الله للمطالبة بتنحية طارق البيطار، المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، تم إطلاق نيران القناصة بشكل كثيف تجاه المشاركين في المسيرة لحظة مرورهم بمنطقة الطيّونة غرب العاصمة اللبنانية بيروت، ما أدى إلى استشهاد 7 منهم وإصابة آخرين.

وقد تبعت ذلك اشتباكات مسلحة بين منطقة الشيّاح التي تُعتبر حاضنة شعبية لأنصار حركتي أمل وحزب الله، وعين الرمّانة؛ إحدى أهم حواضن القوات اللبنانية، تمت السيطرة عليها لاحقاً بعد تدخّل الجيش اللبناني.

 بعد تلك الحادثة التي وصفتها قوى المقاومة بالكمين الغادر، والتي اعتبرت تصعيداً خطراً للغاية من حزب القوات اللبنانية تحديداً، أطلق السيد نصر الله كلاماً بدا للبعض بأنه إشارة إلى البدء بتغيير استراتيجية التعامل مع الجماعات والأحزاب المرتهنة لمحور الشر، وسمى للمرة الأولى حزب القوات اللبنانية ورئيسه بشكل واضح وعلني، قائلاً: “إن سمير جعجع حرّض بعض الحلفاء القدامى على المواجهة مع حزب الله. هذا الحزب لم يترك لغة الحرب القديمة ولغة التقسيم، وهو من حضّر مسرح الجريمة في الطيّونة”.

ولكن، رغم هذا النسق غير المألوف في خطاب الأمين العام لحزب الله، ورغم الإشارة الواضحة إلى من يقف خلف تلك الجريمة النكراء، فإنَّ السيد ترك للجيش اللبناني والقضاء مهمة استعادة حق الشهداء، ولم يذهب إلى ما كان يطالب به الكثير من أنصار المقاومة بضرورة تأديب حزب القوات ورئيسه والقوى التي تقف خلفه وتدعمه بالمال والسلاح، وهو في ذلك، أي السيد نصر الله، وسّع عباءته من جديد، وفوّت على المتربصين فرصة جديدة لإشعال نار الفتنة بين اللبنانيين، ومنع ذهاب البلاد إلى محرقة تُخطّط لها منذ سنوات طويلة.

الحادثتان السابقتان اللتان أشرنا إليهما، تُضاف إليهما حوادث أخرى، وجعلتا العلاقات الداخلية اللبنانية تقف على حافة الهاوية وتترقّب في كل لحظة حوادث أخرى يمكن لها أن تطيح ما تبقّى من السلم الأهلي الذي يحرص بعض الأحزاب اللبنانية ذات الارتباطات الخارجية على إسقاطه من أعلى الجبل وردمه بأطنان من مشاعر الكراهية والحقد التي تملأ قلوبهم وتبدو من دون مواربة أو خجل على ألسنتهم.

هذا ما تحقَّق للأسف الشديد يوم الأربعاء الماضي في منطقة الكحّالة في منطقة عالية في جبل لبنان، عندما هاجم مسلحون ومواطنون موالون لحزب القوات اللبنانية شاحنة تنقل عتاداً عسكرياً لحزب الله انقلبت أثناء عبورها من المنطقة، وحاولوا الاستيلاء على محتوياتها، مستخدمين الحجارة والبندقيات الآلية في تنفيذ ذلك الهجوم، الأمر الذي أدى إلى سقوط شهيد من القوة المرافقة للشاحنة، ما اضطرهم إلى الدفاع عن أنفسهم وشاحنتهم، ما أدى إلى سقوط مطلق النار قتيلاً.

هذا الحادث الخطر للغاية، الذي وصفه أحد الجنرالات الصهاينة بأنه عمل بطولي قام به اللبنانيون ضد ما سمّاه “إرهابيي” حزب الله، فيما وصفته العديد من القنوات العربية، ولا سيما تلك الموالية للسعودية، بأنه اشتباك بين مقاتلي حزب الله وسكان مسيحيين مسالمين، في استحضار واضح وهادف للبعد الطائفي بين اللبنانيين، دق ناقوس الخطر من جديد.

وقد أثار تخوفات واسعة من إمكانية ذهاب الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، وإلى انفلات الأوضاع بشكل متسارع، ما يدفع باتجاه اقتتال داخلي يسعى له البعض بشدة، في سبيل تقديم نفسه لغرف العمليات في بعض السفارات العربية والأجنبية بأنه القادر على وقف تمدد قوى المقاومة، وأن باستطاعته تنفيذ ما لم تستطع الغارات الإسرائيلية المكثفة على سوريا والغارات الأميركية على الحدود العراقية السورية تحقيقه، وهو منع وصول السلاح إلى المقاومة في لبنان وقطع الطرق التي يستخدمها حزب الله لرفع حجم ترسانته الصاروخية وقدراته العسكرية.

ولأن هذا الأمر أصبح واضحاً ومعلناً من مناصري ذلك الطرف وقياداته، الذين لم يعودوا يستترون خلف شعارات مذهبية أو عبارات تعبوية، كما السابق، فإن رد فعل قوى المقاومة، لا سيما حزب الله، المعني الأول بهذه المسألة، يمكن أن يأخذ منحى آخر في هذه المرة.

هذا المنحى يمكن أن يخرج عن المألوف، ويمكن له أن يتضمّن استخدام وسائل وأدوات جديدة تلجم المعتدين، وتضع حداً لسلسلة طويلة من الاستفزازات والاعتداءات، وتقطع تلك الألسن الآثمة التي تحرّض على المجاهدين وتشرعن قتلهم والاعتداء عليهم، وتقطع اليد المجرمة التي تضغط على الزناد وتصوّب سلاحها الغادر إلى صدور المقاتلين الشرفاء والأبطال.

ولمعرفة هذا المنحى الجديد، وحتى لا نذهب بعيداً في إطلاق العنان لأفكارنا، علينا أن ننتظر وقتاً قليلاً لنعرف هل تغيّر المقاومة في لبنان، وحزب الله على وجه التحديد، استراتيجيتها في التعامل مع عملاء السفارات، وهل تلجأ إلى أساليب أخرى تساهم في لجمهم ووضعهم في حجمهم الطبيعي أم تبقى، كما هي الحال حتى الآن، تتعامل بسعة صدر وطول نفس مع خطورة ما يمكن أن ينتج من هذا الخيار من تداعيات صعبة تزيد فيها حجم الاعتداءات ويرتفع بناء عليها حجم الاستفزازات.

كل ما سبق سنعرفه بالتأكيد في الخطاب المهم للغاية للسيد حسن نصر الله مساء اليوم الاثنين، الذي نعتقد أنه سيكون من أهم خطابات التي سيلقيها، لا سيما في ظل تزايد المخاطر الداخلية والخارجية على خيار المقاومة وقواه الحية والشريفة في لبنان والمنطقة، وكشف أعداء هذا الخيار عن وجوههم القبيحة من دون خجل أو حياء.

في خطاب الاثنين الحاسم، سنعرف هل ما زال في عباءته الشريفة متسّع لمزيد من الصفح والغفران تجاه من خانوا أوطانهم وباعوا شرفهم بحفنة من الدولارات المغمسة بالذل والعار أم طفح الكيل هذه المرة وبلغ السيل الزبى، وسيضطر إلى رفع سبّابته في وجه أعداء الداخل والخارج، ليقول لهم بكل وضوح، كما العادة، إنَّ اليد التي ستمتد إلى سلاح المقاومة ستُبتر، وإنَّ اللسان الذي يحرّض على هذا السلاح الشريف سيُقطع، وإنَّ الفترة التي كنا نتعامل معكم فيها بطول نفس وصفاء سريرة وطيبة قلب انتهت بغير رجعة، وعليكم من الآن وصاعداً أن تدفعوا ثمن غدركم وخيانتكم!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.