هل بدأ تغيير موازين القوى من إفريقيا؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 15/8/2023 م …
انحدار القُوّة الفرنسية
تُشكّل الطاقة النّووية المصدر الأول للطاقة في فرنسا، يليها النفط الخام والغاز الطبيعي والطاقات المتجددة، وتستخدم فرنسا الطاقة النووية لتوليد نحو 70% من التّبّار الكهربائي المُستخدم للإنارة وللتّصنيع، بفضل اليورانيوم المُستَوْرَد من الخارج وضاعفت فرنسا وارداتها من اليورانيوم الروسي المخصب ثلاث مرات تقريبًا سنة 2022، حيث استلمت 312 طنًا بين آذار/مارس وتشرين الثاني/نوفمبر 2022، أي حوالي 34,7% من الكمية اللازمة لتشغيل 56 محطة كهرباء فرنسية و18 محطة مركزية للتوليد التي تديرها شركة كهرباء فرنسا ( Electricité De France – EDF ) لمدة عام واحد، واستوردت نحو 29% من حاجتها من قازاخستان وحوالي 20% من حاجياتها من اليورانيوم من النِّيجر، وهو الأرْخص، حيث تستغل شركة “أريفا/أورانو” الفرنسية يوارنيوم هذا البلد الفقير الذي حُرِمَ 82% من سُكّانه من التّيّار الكهربائي، ولئن انخفضت حصة الطاقة النووية من الحجم الإجمالي لإنتاج الكهربائي بفعل ما سُمِّي “الطاقات النظيفة”، فلا يُتوقّع الإستغناء عن الطاقة النووية واليورانيوم على مدى متوسّط، حيث أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، في شباط/فبراير 2021، تمديد عمر محطات الطاقة النووية الحالية وبناء ستة محطات “ مفاعل الطاقة التطوري 2 ” (Evolutionary Power Reactor 2 )، بحجة “السيادة” الوطنية.
يتعرض سكّان النيجر إلى مخاطر كبيرة بسبب استغلال رواسب اليورانيوم من قِبَل الشركة الفرنسية أريفا/أورانو، ويعْسُر إحصاء العواقب البيئية والصحية الناجمة عن استغلال مناجم ” أرليت ” المفتوحة (غير مَحْمِيّة) ومعرفة تأثير أنشطة تعدين اليورانيوم في النيجر بدقّة، نَظَرًا للصمت السائد، بل التّعتيم المقصود والمُنظّم بشأن النشاط الإشعاعي المستمر، ونشرت منظمة “أغير إنمان” المحلّية بالنيجر، منذ سنة 2002، تقارير بشأن عدد من الأمراض في “أرليت” والريف المحيط بها، وهي أمراض غير مألوفة تُصيب البشر والحيوانات في المنطقة التي تبدو – بعد أربعة عُقُود من استغلال اليورانيوم – مُدَمَّرَة مليئة بمئات الأطنان من المخلفات المكشوفة في الهواء الطلق، ومن التلوث طويل الأمد، على بعد أقل من خمس كيلومترات من المدينة، ووَثّقت المُخرجة النِّيجرية “أمينة ويرا” في شريطها ” غضب في الرّيح” ( Anger in the Wind ) بعض التهديد غير المرئي الذي يخيم على هذه المدينة التي تسكنها الطبقة العاملة والتي كانت في يوم من الأيام رمزًا للإزدهار.
تشير التطورات الأخيرة في غرب إفريقيا إلى تلاشي عوامل الخوف لدى شعوب الدول الفرَنْكُفُونِيَّة التي لم تعد مستعدة لقبول الاستعمار الفرنسي الجديد، وظهرت الشعارات المُطالبة بتحقيق الاستقلال الحقيقي، وهو ما كان يسعى له باتريس لومومبا وما أدّى إلى اغتياله (1925 – 1961) وكوامي نكروما الذي تمت تنحيته عن السلطة بالقوة ( 1909 – 1972 ) وتوماس سانكارا الذي تم اغتياله ( 1949 – 1987)، وأمثالهم، ويمكن أن تؤَدِّيَ الانقلابات التي حصلت بغينيا ومالي وبوركينا فاسو وآخرها بالنيجر يوم 26 تموز/يوليو 2023 إلى بل تغيير رُموز السّلطة، وربما إلى إنهاء الوجود العسكري لأمريكا الشمالية وأوروبا، ولكن من المُحبّذِ تَغْيِيرُ الأنظمة السياسية وَوَضْع حدّ لنهب الثروات والموارد من قِبَلِ الشركات العابرة للقارات، مهما كان بلد المَنْشأ لهذه الشركات، من أجل استفادة الشّعوب المحلية من هذه الثروات، ومن أجل القضاء على الإستغلال والإضطهاد والفقر والجوع والمرض والتلوث…
تحتوي أراضي بلدان إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى ثروات عديدة منها النفط والغاز والمعادن بأنواعها وموارد وفيرة فيما تضلُّ شعوبها فقيرة، وفق تصريح رئيس بوركينا فاسو (إبراهيم تراوري) خلال القمة الروسية الإفريقية في سانت بطرسبورغ (27و 28 تموز/يوليو 2023) الذي إلى القَطْع مع حالة التَّبَعِيّة،
يُدْرِكُ قادة المنظومة الرأسمالية العالمية فداحة الإستعمار والإستعمار الجديد، ولذلك ورد في تقرير مؤتمر ميونيخ للأمن ( Munich Security Conference 2023 ) الذي عقد من 17 إلى 19 شباط/فبراير 2023: “فقدت العديد من البلدان في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية الثقة في شرعية وعدالة النظام الدولي الذي لم يمنحها صوتاً مناسباً في الشؤون العالمية، ولم يعالج مخاوفها الأساسية بشكل كافٍ، وتعتبر العديد من الدول إن هذه الإخفاقات مرتبطة بشدة بالغرب الذي يقود هذا النظام المُتَّسِم بالهيمنة وازدواجية المعايير، وإهمال مصالح ومخاوف الدول النامية”، ومع ذلك فإن طبيعة الرأسمالية في مرحلة الإحتكار والإمبريالية تقتضي ممارسة المزيد من النّهب وتعزيز السيطرة الاقتصادية والسياسية على المستعمرات (بشكلها القديم والجديد)، ومنذ الحرب العالمية الثانية أصبحت الولايات المتحدة تُهيْمن على هذا النظام، إلى أن بدأ نفوذها ينهار، وإنْ بِبُطْءٍ، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، لصالح قوى صاعدة مثل الصين وروسيا وحلفاؤهما من مجموعة بريكس…
كشفت حرب أوكرانيا ( 24 شباط/فبراير 2022) عدم رغبة العديد من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، دَعْمَ سياسات حلف شمال الأطلسي (ما يُسمّى اصطلاحًا “الغرب”) المناهضة لروسيا ، واغتنمت العديد من حكومات دول إفريقيا (وهي ليست بالضرورة تقدّمية أو ثورية) الفرصة للتقرب من روسيا أو من الصين بحثًا عن شروط أفْضَل للمبادلات التجارية وللعلاقات الدّولية، فيما تبحث الشعوب عن شروط حياة أفْضَل…
أية آفاق للحكم العسكري؟
سيْطَر ضُبّاط الجيش على مقاليد السلطة في غينيا أو مالي أو بوركينا فاسو أو النيجر، من خلال انقلاب، بتأييد من شرائح واسعة من الشعب، لكن السّلطات العسكرية الجديدة لم تُقَدِّم برنامجًا أو نظرية أو بديلاً لنمط الإنتاج ونمط المجتمع القائم، في بلدان إفريقية لا تزال تستقبل قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية أو ألمانية (تحت غطاء الاتحاد الأوروبي)، ولم يتطرق قادة السّلُطات العسكرية الجديدة إلى البرنامج العسكري الأمريكي “أفريكوم” الذي يهدف إلى استبدال فرنسا – وأوروبا – بالولايات المتحدة…
عارضت نيجيريا مشروع “أفريكوم” في عام 2007 – إلى جانب جنوب إفريقيا والجزائر – لكن الولايات المتحدة أطلقت “كطعم” مشروع خط أنابيب الغاز الذي يمتد من نيجيريا إلى أوروبا عبر الصحراء والمغرب العربي والبحر الأبيض المتوسط، وأصبحت السلطات الحالية في نيجيريا في طليعة البلدان التي عزّزت علاقاتها مع الكيان الصّهيوني ومع الولايات المتحدة وأصبحت الحالية مؤيدة للكومنولث وأفريكوم وتوفر 70% من الكهرباء المستهلكة في النيجر، وهي في نفس الوقت رأس حربة مجموعة إفريقيا الغربية التي تُهدّد بالتّدخّل العسكري في النّيجر، حيث تتضاءل مساحة المناورة للضّبّاط الذين تولوا السلطة ( في النيجر )، طالما أنهم يتسامحون مع الوجود المسلح الأمريكي أو الفرنسي أو غيره، إِذْ لا تزال النيجر دولة تحت الاحتلال العسكري الأجنبي، طالما بقيت قواعد عسكرية أمريكية أو قواعد دول أخرى على أراضيها، فالاستقلال السياسي والاقتصادي يعني غياب القواعد العسكرية الأجنبية ويعني توجيه استثمارات الدولة للقطاعات الإنتاجية، وغياب “الديون الخارجية المشروطة وتنسيق جهود التنمية بين الجيران إلخ، وهي عوامل غير متوفّرة حاليا لا في مالي ولا في النيجر ولا في غيرها…
التعليقات مغلقة.