الرأسمالية بيضاء / موفق محادين
موفق محادين ( الأردن ) – الثلاثاء 15/8/2023 م …
البعد الأساسي في الرأسمالية الأوروبية والأميركية، هو البعد العرقي لرأسمالية لا تريد شراكة مع أحد، بل الخضوع لمصالحها وحدها.
لم تكن الأطروحات مبالغاً فيها، تلك التي عرفها العالم في ستينيات القرن العشرين، عندما ربط مفكّرون زنوج مثل، فرانز فانون وسنغور، بين الرأسمالية واللون الأبيض، ومثلهم مفكّرون وقادة من الهند والصين، مثل نهرو وماو تسي تونغ، ربطهم الغرب بالمقابل باللون الأصفر، ولم تكن تلك الأطروحات بعيدة عن الثقافة المركزية العنصرية للرأسمالية البيضاء، الأوروبية والأميركية.
نستعيد ذلك ونحن نتابع صحوة القارة الأفريقية من قلب التبعية للرأسمالية، كما ونحن نبحث عن أجوبة للتساؤلات التي ترافقت مع الانهيار السوفياتي ومغادرة الصين للشيوعية، فما الذي يفسّر احتدام الصراع بين المتروبولات الرأسمالية الغربية وبين الصين وروسيا، رغم أنهما غادرتا الاشتراكية وانخرطتا في الحقبة الرأسمالية بشكل أو بآخر، بل أن الصراع القديم بين المعسكرين خلال الحرب الباردة لم يصل إلى هذه الحدة بعد أن صارا جزءاً من النظام الرأسمالي.
إن الإجابة على هذه التساؤلات، بقدر ما تعيد الاعتبار للعوامل السياسية، بقدر ما تؤشر على السمات التي يراد لها أن تظل محجوبة وتتعلق بجوهر الرأسمالية الشمالية نفسها، وهي عرقيّتها وعنصريّتها وهيمنتها على ما عداها من دول، بما في ذلك الدول التي اختارت النهج الرأسمالي.
فلا تكون الرأسمالية، رأسمالية إلا في مراكزها البيضاء، ولا تكون نتائج صناديق الاقتراع، ديمقراطية إذا مسّت المصالح البيضاء في المراكز الشمالية، قد يكون هذا الاستنتاج مفاجئاً وغريباً عند أصحاب القراءات الاقتصادية، سواء كانت من قلب الرأسمالية أو من خصومها، وذلك وفق الانطباعات السائدة حول الرأسمالية كما لو أنها فعلاً عابرة للقارات والسلالات ومن دون أي اعتبارات أخرى.
أولاً: العرقية الرأسمالية البيضاء
ما أن استلم محمد علي حكم مصر 1805 بتوافق دولي، أوروبي تركي، حتى نقل مصر من عصر إلى عصر، فأصبح جيشها من أقوى جيوش المنطقة، وتمكّن من هزيمة الإنكليز والوهابية والجيوش العثمانية وحصار إسطنبول نفسها، فأدخل مصر في تحوّلات رأسمالية كبرى، ودعا أوروبا إلى دعمه تحت شعار رسملة مصر لتصبح على غرار أوروبا، والتي ردّت عليه بتهديده والطلب منه فكّ الحصار عن إسطنبول والعودة إلى مصر.
الدرس المذكور من هذه التجربة يؤكد أن البعد الأساسي في الرأسمالية الأوروبية والأميركية، هو البعد العرقي لرأسمالية لا تريد شراكة مع أحد، بل الخضوع لمصالحها وحدها، فمعركة هذه الرأسمالية ضد الرأسماليات الأخرى في الجنوب والشرق التي تتمتع باستقلال سياسي، لا تقل شراسة عن معركتها ضد الاشتراكية وقوى التحرّر الوطني.
وبات واضحاً أنه إذا كانت الإمبريالية قد كرّست كل طاقات الشرّ داخلها لإسقاط الاتحاد السوفياتي والصين الماوية، والمعسكر الاشتراكي والقوى الوطنية المناهضة للاستعمار، ها هي اليوم تخوض حرباً ضارية ضد روسيا والصين، رغم أنهما أصبحتا جزءاً من المنظومة الرأسمالية، ولكن مع قرار سياسي مستقل، الأمر الذي يؤكد البعد العرقي للعنصرية للرأسمالية الغربية، منذ ولادتها في أوروبا ثم أميركا الشمالية.
هذا ما يفسّر موقف مفوّض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي صنّف العالم بين فسطاطين، الغرب الأوروبي – الأميركي وحلف الأطلسي من جهة، وبقية العالم من جهة ثانية، باعتباره عالماً من البرابرة، واعتبر دعم الناتو للمحمية الأطلسية الصهيونية النازية في أوكرانيا جزءاً من الحرب ضد هؤلاء البرابرة، وهو ما ينسجم مع فكرة صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات، وقبله تشمبرلين مؤسس العنصرية، وما يعرف بالمركزية الثقافية الغربية التي برّرت الهيمنة والاستعمار الغربي للعالم تحت حجة وعنوان ترويض المتوحّشين الكفّار.
ثانياً: الديمقراطية البيضاء
ابتداءً، ثمة خلط بين الديمقراطية والليبرالية، رغم أن الأولى تعبير عن أشكال من الإدارة السياسية في التجارب المختلفة، الرئاسية والبرلمانية وغيرها، فيما الثانية، أي الليبرالية، تربط بين الحريات السياسية وحريات الأسواق، بل تشترط للحريات السياسية التزامها بفلسفة السوق ورفض أي شكل من أشكال التدخّل الاجتماعي – الاقتصادي للحكومات (أظهرت الأزمات الأخيرة أن أكثر الإمبرياليات تشدّداً تدخّلت أكثر من مرة لإنقاذ قطاعات اقتصادية محدّدة مثل المصارف).
ومع ذلك، إذا سلّمنا بالمفهوم البرجوازي المتداول حول الديمقراطية، فإن أكثر القوى تبجّحاً بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والخطاب المدني، هي أكثرها انتهاكاً لها، ونقصد مفهومها الشائع نفسه عبر صناديق الاقتراع، ومن ذلك:
– إسقاط الرئيس التشيلي، سلفادور الليندي، المنتخب عبر صناديق الاقتراع البرجوازية، بل وقتله في انقلاب عسكري دموي دبّرته المخابرات الأميركية، وراح ضحيته مئات الآلاف من المدنيين.
– إسقاط واغتيال رئيس الوزراء المنتخب في الكونغو، باتريس لومومبا، في إثر مؤامرة دبّرتها المخابرات الأميركية أيضاً.
– إسقاط حكم الرئيس المنتخب، سوكارنو في أندونيسيا، في انقلاب مماثل دبّرته المخابرات الأميركية وجنرالاتها، وراح ضحيته مليون إنسان.
– محاولة إسقاط واغتيال الرئيس المنتخب، شافيز في فنزويلا، ومتابعة المحاولة مع خليفته مادورو.
وكان ملاحظاً في كلّ مرّة أن المستهدفين في هذه الانقلابات كانوا قد نجحوا في انتخابات ديمقراطية على الطريقة الغربية، لكنهم كانوا يمثّلون سياسات مستقلة مناهضة للشركات والبنوك والإمبرياليين والرجعيّين والليبراليين المزعومين.
بالعودة إلى لعبة الاقتراع وصناديقها وهي لعبة برجوازية خادعة، نجد أن اختراقها وانتهاكها “مؤدلج” في المطابخ الرأسمالية منذ ظهورها، فالديمقراطية عندهم ليست مطلقة، بل هي موقوفة على ملائمة نتائج الاقتراع لمصالح الغرب وليس الاحتكام لنتائج هذه الصناديق، كما يؤكد فيلسوف المحافظين الجدد، شتراوس ومثله بوبر صاحب فكرة المجتمع المفتوح وأحد منظّري الثورات الملوّنة.
فإذا أدت الانتخابات إلى سقوط الليبراليين، فمن المسموح به في العقل الغربيّ البراغماتي الانقلاب على الديمقراطية، عبر الاحتجاجات والثورات الملوّنة أو الانقلابات العسكرية الدموية، وكذلك الجماعات الأصولية التكفيرية، إذا استعصت الأمور على جماعات الحراك المدني المزعوم.
يشار هنا إلى أن الجذور البعيدة لهذه اللعبة تعود إلى ديمقراطية أثينا، التي شهدت تداولاً دموياً للسلطة أكثر من مرة، وكانت موضوعاً لمقاربات فلسفية عند أرسطو في كتابه (السياسة)، وأفلاطون في كتابه (الجمهورية) الذي ردّ هزيمة أثينا أمام إسبارطة إلى الديمقراطية الأثينية.
كما أنتجت الديمقراطية الوليدة في العصر الرأسمالي الأول، وخاصة في إنكلترا وفرنسا ظواهر مماثلة، أدت أحياناً إلى ما أسماه ماركس بالكوميديا السياسية، كما في حالة نابليون الثالث الذي حوّل نفسه من رئيس جمهورية منتخب إلى إمبراطور.
وكما لاحظ غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجيا الجماهير)، وكذلك فيكتور هوغو في رواياته التي أرخت لهذه المرحلة، فإن الجماهير كذلك وليس الأنظمة فقط تملك استعدادات جمعية برسم التوظيف في بعض الأحيان وتحت عناوين شعبويّة، كما ظهر ذلك في خطابات دانتون وروبسبير خلال الثورة الفرنسية.
في المحصّلة، فإن الديمقراطية في شكلها الغربيّ، ظاهرة برجوازية تشبه القول الشهير حول شبكة العنكبوت (ينتهكها الأقوياء ويسقط فيها الضعفاء)، ولا تقدّم حلولاً حقيقية لقضايا الشعوب في العالم الثالث، التي لم تنجز بعد مرحلة التحرّر الوطني الضرورية لتأمين الشروط الموضوعية لمرحلة الكفاح المدني عبر الديمقراطية وسواها من الأشكال السياسية.
ولقد أثبتت التجارب أن الوهم الديمقراطي خارج معركة التحرّر الوطني أدى ولا يزال إلى نتائج كارثية، وضعت الشعوب تحت رحمة الاحتكارات والنخب الانتهازية والأدوات المحلية العميلة، التي سرعان ما حوّلت الليبرالية المزعومة إلى أصولية جديدة لا تتورّع عن استخدام كل الوسائل وأشكال التضليل لإدامة سلطتها.
ذلك أن المواطنة والقوانين الحديثة، ليست مجرد نصوص دستورية برسم التلقين وحسب، بل وقائع اجتماعية – اقتصادية تولد وتنمو في قلب التحوّلات الكبرى، والانتقال حقاً من المجاميع الكولونيالية المشوّهة التابعة على حافة (الحالة البدائية أو الطبيعة الأولى) إلى المجتمعات المدنية الحضارية، وبحيث تصبح الدولة محصّلة لهذه التحوّلات وخاضعة لها.
ذلك ما يؤكد أنّ ما يحتاجه العالم الثالث هو طريق التحرّر الوطني، حيث يرتبط الصراع الاجتماعي والطبقي وقضايا الديمقراطية وتمكين النساء والشباب بالصراع الوطني ضد التبعية والاحتلال والإمبريالية.
التعليقات مغلقة.