متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثالث والثلاثون / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 19/8/2023 م …

 يحتوي العدد الثالث والثلاثون من نشرة “متابعات” الأسبوعية على فقرة عن محاولة التعريف بالإقتصاد المُوازي أو غير النظامي، وفقرة عن الوضع الإقتصادي العربي السيء، بعنوان: “عرب، نفق مظلم”، وفقرة عن وضع الزراعة وإنتاج الغذاء في تونس، في ظل الجفاف وشُحّ العملات الأجنبية، وفقرة عن بعض الوضع في مصر، وفقرة عن مشروع الطريق العابر للصحراء، طريق الوحدة الإفريقية، بين المغرب العربي وبلدان إفريقيا الواقعة جنوب الصّحراء الكبرى، وفقرة عن بيرو وإكوادور بأمريكا الجنوبية، وفقرة عن ارتفاع إيرادات شركات قطاع الإنشاء والبناء التي تستفيد من نقص المباني السكنية ومن ارتفاع الأسعار وفقرة عن دور الإستعمار في تدمير البيئة في البُلْدان المُسْتَعْمَرَة وفقرة عن مكانة الغذاء (الحبوب بشكل خاص) في حرب أوكرانيا…   




 

الإقتصاد “الموازي” أو “غير الرّسمي”

يتراوح حجم الإقتصاد غير الرسمي بين 40% و 50% في الدول العربية (باستثناء مَشْيَخات الخليج) وينتشر الإقتصاد الموازي أو “القطاع غير الرّسمي” عندما يعجز الإقتصاد الرّسمي عن خلق وظائف كافية لاستيعاب قوة العمل (أي العاطلون والوافدون الجدد على ما يُسَمّى “سوق” العمل)، ونظرًا للضغط الذي تمارسه المؤسسات المالية الدّولية لخصخصة القطاع العام ولترك “الباب على الغارب” وعدم تدخل الدولة في الإقتصاد، تحَوَّلَ دور الدولة من التخطيط للمستقبل والتنسيق بين القطاعات والإشراف على الإستثمارات والإنفاق على البنية التحتية القطاعات المنتجة وخدمات الصحة والنقل والتعليم وغيرها، إلى تقديم المال العام للشركات وأصحاب رؤوس الأموال، وتأميم ديون الشركات والمصارف الخاصّة (بشراء الدولة لها وضخ المال العام في خزائنها) مع خصخصة الأرباح، أي “مَنْح” أموال المواطن للشركات الخاصة، وعدم تقاسم أرباحها، رغم استفادة القطاع الخاص، وكذلك الإقتصاد المُوازي من المال العام، عبر استخدام البنية التحتية والخدمات، وبذلك تتخلى الدولة عن مهمتها في رعاية المُجْتَمَع وينخفض عدد الوظائف في القطاع العام والقطاع الحكومي… في ظل هذا الوضع يضطر العاطلون إلى البحث عن عمل في القطاع المُوازي، بدون أجر قانوني وبدون أي تأمين، مع الحرمان من الحق في التقاعد والحماية الإجتماعية والرعاية الصحية، ولا يُسَدّدُ المُسْتثمرون في القطاع الموازي (أو غير الرسمي) الضرائب المباشرة (الضريبة على الدّخْل)، ما يُضْعِفُ من إيرادات الدولة، وما يُخفِّضُ “إسمِيّا” من إجمالي الناتج المحلي، ويقدر حجم القطاع غير الرسمي بين 40% و50% من إجمالي الناتج المحلي العربي فيما يُمثل ما بين 25% و35% من إجمالي الناتج المحلي ببلدان آسيا وأمريكا الجنوبية، وتصل هذه النسبة إلى 16% في الدول المتقدمة الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (34 دولة، الأكثر ثراء في العالم)… أما الناتج المحلي الإجمالي هو عمومًا مجموع قيمة الإقتصاد (إنتاج زراعي وصناعي وتجارة وخدمات…) داخل البلاد، طيلة سنة كاملة

 

عرب، نفق مُظْلم

تبدو صورة الوضع الإقتصادي العربي، وخصوصًا بالدّول العربية غير النّفطية، قاتمة من خلال المؤسسات المالية الدولية ومراكز الدراسات، وتُشير العديد من التقارير، وأهمها الصادرة عن صندوق النقد الدولي، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) إلى استمرار سوء الوضع الإقتصادي العربي خلال سنة 2023، وبالأخص في الدول العربية غير النفطية، فهو سيء للغاية ولا تُشير التوقّعات إلى تحَسُّنَ الوضع في المستقبل القريب ما دام وُكلاء الدّول الإمبريالية والشركات العابرة للقارات يحكمون البلدان العربية ولا تتوفر آفاق برامج ومخططات سياسات وطنية وشعبية.

تدهورت مستويات المعيشة في الوطن العربي بشكل كبير خلال سنة 2022 وفقدت الليرة اللبنانية والجُنيه المصري والدينار التونسي نسبة هامة من قيمتها مقابل الدولار، وتميزت هذه الدّول بارتفاع الدّيون الخارجية وبغياب انعدام خطط تنموية تُؤَمِّنُ الإكتفاء الذّاتي بإنتاج السلع الغذائية والأدوية والصناعات الأساسية، ما يجعلها تلجأ إلى الإستيراد، وتبديد الثروات المحلية وتصديرها خامة، بدل تحويلها وإضافة قيمة زائدة لها…

أكّد تقرير ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) ارتفاع معدلات البطالة في الوطن العربي إلى 12% وبلغت نسبة بطالة النّساء العربيات 22%، سنة 2022، بينما بلغ المتوسط العالمي للبطالة 6%، ولاحظ التقرير أن هذه النسبة ترتفع نسبة بطالة الشابات العربيات اللاّتي تتراوح أعمارهن بين 15 و 24 سنة إلى نحو 44%، وتُستثنى من هذه البيانات دُوَيْلات مجلس التعاون الخليجي، وليبيا، كما ارتفعت مستويات الفقر العربي، خلال سنة 2022 إلى نحو 130 مليون عربي، ليُصبح ثلث المواطنين العرب يعيش تحت خط الفقر، ويتوقع تقرير “إسكوا” أن يتواصل ارتفاع نسبة الفقر خلال سَنَتَيْ 2023 و2024 ليصل الى 36% من مجموع سكان البلاد العربية، كما بلغ معدّل التضخم 14% خلال سنة 2022 ويتوقع تقرير صندوق النقد الدولي أن يتباطأ نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بالوطن العربي سنة 2023، وتعثُّر نسبة النمو الاقتصادي وارتفاع حاجة الدّول غير النّفطية إلى تمويلات بقيمة 384 مليار دولار خلال سنتَيْ 2023 و 2024، ما يؤدّي إلى ارتفاع مدفوعات الفائدة، وزيادة الاعتماد على التمويل قصير الأجل، وما يُؤَدِّي إلى خفض الإنفاق على القطاعات الإنتاجية، وزياد توريد الطاقة السلع الأولية، ما قد يؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي وإلى مخاطر الإحتجاجات الإجتماعية وزيادة الضغوط على المالية العامة، وأفاد تقرير صندوق النذقد الدّولي إن الدول العربية غير النفطية مَدِينة له (بنهاية سنة 2022) بنحو 25,6 مليار دولار، وبلغ حجم ديون مصر منها 20,92 مليار دولار، أو ما نسبته 70% من إجمالي ديون الدول العربية من الصندوق و12,4% من ديون دول العالم وبلغت قيمة الدّيْن الخارجي المصري 165 مليار دولارا بنهاية الربع الأول لسنة 2023، وهي ثاني أكثر دولة مَدينة لصندوق النقد الدّولي بعد الأرجنتين (43 مليار دولار)، وتأتي تونس في المركز الثاني عربيا بعد مصر بحوالي 2,1 مليار دولار والمغرب بملياري دولار والأردن بـ 1,6 مليار دولار والسودان بـ 1,3 مليار دولار ثم الصومال وموريتانيا واليمن وجزر القمر بنصف مليار دولار لكل منها.

يبدو الوضع سيئا جدا في بعض الدول العربية التي أصبحت مُهَدَّدَة بالعجز عن السّداد (ما يُسمَّى “حافة الإفلاس) و أنهكت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مواطنيها في تونس ولبنان واليمن، ويتوقع صندوق النقد الدّولي استمرار ارتفاع مستويات الأسعار والتضخم سنة 2023، وتراجع معدل النمو العالمي إلى 2,7%.

 

تونس، عجز غذائي

تعتَبَرُ تونس بلدًا زراعيا قادرًا على إنتاج ما يحتاجه، وقادرًا على إنجاز السيادة الغذائية، حيث تُمثل الأراضي المزروعة نحو عشرة ملايين هكتارًا أو ما يُعادل 62% من مساحة البلاد ومعظمها ملكيات عائلية صغيرة لا تتجاوز مساحة 75% منها العَشْر هكتارات وفق

بيانات موقع وزارة الفلاحة، غير أن البلاد تُعاني من ندرة المياه، ومن جفاف مستمر للسّنة الرابعة على التّوالي، وشهدت السدود التونسية انخفاضًا كبيرًا في فانخفض حجم مخزون مياه السّدود إلى حوالي نسبة 27% من طاقة استيعابها، خلال شهر آذار/مارس 2023، أي قبل حلول فصل الصّيف حيث انخفض مخزون المياه بسُدّ “سيدي سالم”، أكبر سُدُود البلاد، إلى 17% فقط من طاقة استيعابه، ما يُنذِرُ بكارثة على المحاصيل الزراعية بما في ذلك الحبوب والخضراوات والفواكه، والذي انخفض من1,5 مليون طن خلال موسم 2020/2021 إلى 750 ألف طن خلال موسم 2021/2022 وإلى أقل من 250 ألف طن خلال موسم 2022/2023، بينما تستهلك البلاد حوالي 3,5 ملايين طنا من الحبوب سنويا، وأشارت تقديرات وزارة الفلاحة إلى انخفاض محاصيل الحبوب بنسبة 60% سنة 2023، مقارنة بمستوياتها المعتادة، ، ما يضطر الدّولة إلى تخصيص موارد هامة من العملات الأجنبية (الشحيحة أَصْلاً) لتوريد الحبوب التي ارتفعت أسعارها، خصوصًا منذ بداية الحرب في أوكرانيا (شباط/فبراير 2022) وللتذكير فإن تونس تستورد نصف حاجياتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا.

صنّفت منظمة الأغذية والزراعة ( الأمم المتحدة) البلاد ضمن الدول المُهَدَّدَة بندرة المياه، وقَدَّرَ التقرير السنوي للمصرف الأفريقي للتنمية الأضرار المرتبطة بتغير المناخ في تونس بنحو خمسة مليارات دولار، وبدأت السلطات، منذ منتصف آذار/مارس 2023، قطع مياه الشرب ليلا بمناطق العاصمة ومدن أخرى، في محاولة لخفض الاستهلاك، في خطوة أثارت غضبا واحتجاجا فَاقَمَهُ سوء الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية. كما أدّى ارتفاع درجات الحرارة والحرائق واحتكار المياه من قِبَل المزارع الكُبرى والفنادق والفيلات الفاخرة، إلى ارتفاع خسائر صغار المزارعين ومُرَبِّ المواشي، جراء ارتفاع سعر البذور والأسمدة وتراجع محاصيل الحبوب والخضار والغلال، ولم تتخذ الحكومات المتعاقبة إجراءات لمساعدة الفلاحين الصغار، وحمايتهم من الجفاف ومن ارتفاع أسعار البذور والأسمدة ومن الوُسَطاء والمُحتَكِرِين، أو إجراءات لترشيد استهلاك المياه في القطاع السياحي، أو الزراعات الكُبرى المُعَدِّ إنتاجها للتّصدير، وفقًا لوكالة رويترز 26 تموز/يوليو 2023

 

مصر

ارتفع معدل التضخم السنوي من 14,6% بنهاية تموز/يوليو 2022 إلى مسجلا 38,2%، بنهاية تموز/يوليو 2023، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يوم الخميس 10 آي/أغسطس 2023، مرتفعًا بنسبة 2% عن شهر حزيران/يونيو 2023، بسبب ارتفاع أسعار الغذاء بكافة أنواعها وفُرُوعها، كالقمح المُستورَد من روسيا وأوكرانيا ومُشتقاته، وكذلك الخُضار والفواكه المَحَلِّيّة، وارتفاع أسعار الملابس والأحذية والمسكن والمياه والكهرباء والغاز والوقود والأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية والصيانة، والرعاية الصحية، مع غياب بعض الأدوية من الأسواق، وكذلك ارتفاع أسعار النقل والمواصلات والاتصالات السلكية واللاسلكية. أما خدمات الثقافة والترفيه فارتفعت بنسبة 29,4% والتعليم بنسبة 7,7% والمطاعم والفنادق 50,3%، والسلع والخدمات المتنوعة 29,7%…

يُؤدِّي انخفاض سعر الجنيه المصري من 15,75 جنيها مقابل الدّولار في كانون الثاني/يناير 2022 إلى 30,93 جنيها مقابل الدّولار الواحد بنهاية تموز/يوليو 2023، وفق السعر الرسمي الذي يحدّده المصرف المركزي (38 جنيها مقابل الدّولار في السوق الموازية) إلى ارتفاع كافة السلع المُستورَدَة وكذلك المحلية بسبب زيادة أسعار الوقود والنّقل، وارتفاع كافة الأسعار وبالتالي ارتفاع نسبة التضخم وارتفاع نسبة الفائدة على القروض السكنية أو قروض الإستهلاك، بينما تنخفض القيمة الحقيقية لمعدّلات دَخْل المواطنين…

تختلف بيانات الجهات الحكومية بشأن التّضخّم والفقر والبطالة ومستوى الدّيُون، وبخصوص التّضخّم، كانت أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أقَلَّ بخمسة بالمائة من بيانات المصرف المركزي، وعلى أي حال، لا تُترجم تقارير هذه المُؤسّسات الزيادة الكبيرة والمتسارعة في الأسعار

بدأ العام المالي الجديد 2023 – 2024، يوم أول تموز/يوليو 2023، وتضمّنت الموازنة العامة إنفاقًا بقيمة 2,9 تريليون جنيها، منها 1,3 تريليون جنيها لسداد الدّيون وخدمة الدَّيْن، على أساس 30,9 جنيها مصريا للدّولار الواحد، وتتضمن الموازنة فجوة تمويلية بقيمة 898 مليار جنيهًا، واقتراض 2,1 تريليون جنيها، لسدّ العجز البالغ 7,2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتضمنت زيادة الضرائب التي يُسدّد الكادحون نحو 75% منها وفق تقديرات بعض نواب البرلمان، بينما ارتفعت الأسعار وكذلك معدّلات البطالة والفقر، ولا يُتَوَقَّعُ تحسُّن الوضع خلال سنة 2023، بسبب ارتفاع فوائد الدّين العام وخفض الإنفاق على التعليم والبحث العلمي والرعاية الصّحّيّة، واعتماد الدّولة على القروض لتمويل إنفاقها، ليتضاعف حجم الدّين الخارجي بنحو أربع مرات خلال عشر سنوات، بالتوازي مع تراجع معدلات النمو والاستثمارات المُوجّهة للتنمية وللقطاعات المُنْتِجَة  كالصناعة والزراعة، ومع ارتفاع ضريبة الدّخل على الرواتب، مقابل انخفاضها على أصحاب المِهَن “الحُرّة” والمستثمرين والشركات التي ارتفع حجم ضرائبها المتأخرة لصالح الخزانة العامة…

 

إفريقيا – الطّريق العابر للصحراء الكبرى

عند استقلال الجزائر، سنة 1962، كانت الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وحركة عدم الإنحياز وبعض المُنظّمات الإقليمية تحمل مشروع استقلال وطني وتعاون دولي إقليمي، وعلى الصعيد الإفريقي أسّست تونس والجزائر ومالي والنيجر وتشاد ونيجيريا  سنة 1962، “لجنة ربط الطريق العابر للصحراء”، أو “طريق الوحدة الأفريقية”، على مسافة تقارب عشرة آلاف كيلومترا، لكن بقي المشروع متعثِّرًا طيلة العقود السّتّ الماضية، رغم جهود الجزائر، خلال فترات ارتفاع أسعار النفط، وكانت الجزائر تبحث مع نيجيريا إنجاز خط أنابيب نقل الغاز من نيجيريا إلى مواني الجزائر التي تمتلك محطّتَيْن لتسْيِيل الغاز، على سواحل البحر الأبيض المتوسّط (سكيكدة بشرق الجزائر وأرزيو بغرب البلاد)، وفي حزيران/يونيو 2021، أعلنت الجزائر انتهاء أشغال الجزء الأخير من فرع “طريق الوحدة الإفريقية” الذي يربطها بنيجيريا، عبْر النيجر، وطوله حوالي 4500 كيلومترًا، وبلغت حصة الجزائر من تكلفة بناء الطريق نحو 2,6 مليار دولارا، وسوف يكون الطريق مُحاذِيًا لخط أنابيب تصدير غاز نيجيريا، عبر موانئ الجزائر نحو أوروبا، وشبكة خطوط للألياف البصرية، وبقيت الأجزاء الأخرى غير مكتملة، وهي تعبر تونس بطول 295 كيلومترا ومالي بطول 1688 والنّيجر بطول 2597 كيلومترا وتشاد بطول 643 كيلومترا ونيجيريا بطول 1299 كيلومترا.

يُتوقّع أن يُؤَدِّيَ استكمال إنجاز الطريق العابر للصحراء (طريق الوحدة الإفريقية) إلى مضاعفة المبادلات التجارية برا وتخفيض تكاليف النقل، وأن يفتح آفاقا جديدة لكل من تشاد ومالي والنيجر، التي ليست لها حدود بَحْرِيّة، لاستخدام الموانئ التونسية والجزائرية سواء للتصدير أو التّوريد، خصوصًا بعد استكمال أشغال ميناء “شرشال” ( على بعد حوالي مائة كيلومتر غربي العاصمة الجزائرية)، غير أن نظام المغرب يقترح (بدعم أمريكي وفرنسي) مشاريع مُضادّة كي لا تصبح الجزائر محور المبادلات التجارية بين شمال الصحراء وجنوبها، بفضل الطريق الرابطة بين العاصمة الجزائرية ولاغوس، العاصمة الإقتصادية لنيجيريا، كخطوة لتحقيق حلم الجيل الذي قاوم الإستعمار المباشر في إفريقيا، وكان يُخَطّط لتحقيق التكامل الإقتصادي والاندماج الإقليمي بين دول المغرب العربي ومنطقة دول غرب أفريقيا وجنوب الصّحراء الكبرى.

كان “طريق الوحدة الإفريقية” جزءًا من مشروع شامل يتضمن إنشاء منتدى اقتصادي ومجلس أعمال يجمع الدول الست – التي تمثل 25% من العدد الإجمالي لسكان إفريقيا و 27% من الناتج المحلي الإجمالي لقارة إفريقيا – من أجل تطوير التبادل الإقتصادي والتجاري، وأصبح إنجازه ضروريا من أجل استقلال البلدان الإفريقية عن الدّول الإستعمارية، ومن أجل التّكامل مع المشروع الصِّينِي “الحزام والطريق” أو طريق الحرير الجديد الذي يعبر ميناء شرشال الجزائري، ومن المتوقع أن يصبح هذا الميناء، بعد انتهاء الأشغال الضخمة، من المحطات الرئيسة للمشروع الصيني ولِعُبُورِ السلع الأوروبية نحو جنوب الصحراء، ولم تُنْشَرْ مشاريع النظام القانوني والضريبي (أو لم أعثُر على مثل هذه المشاريع والدّراسات أثناء إعداد هذه الفقرة) لهذه الطريق، وأنظمة الإدارة والأمن والصيانة  وما إلى ذلك…

من جهتها، بدأت الجزائر، قبل عشرين سنة، إنشاء طريق يربط حدودها الغربية مع المغرب، بِحُدُودِها الشّرقية مع تونس، بطول 1216 كيلومترا، ضمن برنامج تكامل اقتصادي وتجاري لبلدان المغرب العربي، وكان من المتوقع أن يتم إنجاز الطريق واستخدامه سنة 2012، لكن تخّللت عملية الإنجاز قضايا فساد ورشوة وغِشّ وتجاوز الميزانية المُقدّرة بأكثر من مائة بالمائة، وجرت، سنة 2015، محاكمة من تم اتّهامهم بالفساد، وأعلنت حكومة الجزائر، يوم السّبت 12 آب/أغسطس 2023، بعد 11 سنة من التّاخير، تدشين الجزء الأخير من الطريق التي تصل الحدود التونسية، وتجدر الإشارة إلى كثافة حركة المُسافرين والسلع بين البلدَيْن، ويُتوقّع أن تُساهم هذه الطريق في زيادة حجم المبادلات التجارية بين البَلَدَيْن، بينما تبقى الحدود البَرِّيّة بين الجزائر والمغرب مُغْلَقَة منذ سنة 1994.

 

أمريكا الجنوبية

أدّى الانقلاب الذي أطاح في “بيرُو” بالرئيس التّقدّمي “بيدرو كاستلو” وسجنه (كانون الأول/ديسمبر 2022)، واغتصاب الحُكْم من قِبل اليمين الموالي للإمبريالية الأمريكية، وتَوَلِّي “دينا بولوراتي” رئاسة البلاد بحكومتها اليمينية، إلى انطلاق احتجاجات شعبية لا تزال مستمرة في بيرو الغنية بالمعادن منها الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الثروات التي أعلن الرئيس بيدرو كاستيو ضرورة تأميمها، ما يؤدّي إلى إزاحة الشركات الأمريكية التي تتخوف من منافسة شركات صينية أو روسية، في هذه المنطقة التي تعتبرها الولايات المتحدة مجالها الحيوي بل فناءً خلفيًّا لها، وتتميز بيرو بوجود تيار يميني قوي وبهيمنة أمريكية اقتصادية وعسكرية شبه مطلقة، منذ ما لا يقل عن ثمانية عُقود، وبعد انقلاب كانون الأول/ديسمبر 2022، أقر المجلس النيابي في بيرو ( منتصف أيار/مايو 2023) اتفاقات أمنية واحتلالا عسكريا أمريكيا يتمثل في دخول قوات بحرية وأفراد عسكريين أجانب بسلاحهم إلى البلاد، ودخول القوات العسكرية الأمريكية بحراً وجواً إلى البلاد، ما أدّى إلى تعزيز العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة وزيادة عدد القوات الجوية والبحرية الأمريكية، منذ حزيران/يونيو 2023، في القواعد العسكرية في بيرو، مقابل “زيادة حجم المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية”، ولا يهدف الدعم العسكري الأمريكي صَدّ عدوان خارجي مُحتَمَل، بل مواجهة القوى التقدمية والشعبية التي تعتبرها حكومة بيرو والولايات المتحدة “تهديدا داخليا” لمصالحها ولمصالح حلفائها، لأن الحركة الإحتجاجية المُنتشرة في أنحاء البلاد تُطالب باستقالة حكومة “دينا بولوراتي” وإطلاق سراح “بيدرو كاستلو” وحلّ الكونغرس وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، وتَدّعي الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها في بيرو “مكافحة الإرهاب وعصابات الجريمة المُنَظَّمَة”، لتبرير وضع القوات الأمريكية في البيرو في حالة تأهُّب دائم للدفاع عن مصالح شركاتها وحلفائها السياسيين…

في إكوادور، اغتال سِتّة مواطنين كولمبيين، مساء الإربعاء 09 آب/أغسطس 2023، المرشح للإنتخابات الرئاسية “فرناندو فيلافيسينسيو”، قُبَيْلَ الانتخابات المُقَرّرَة ليوم العشرين من آب/أغسطس 2023، وتَبَنّت إحدى عصابات الجريمة المنظمة عملية تنفيذ الإغتيال (سبقتها تهديدات من قِبَل نفس المجموعة الإجرامية) لكن هذه العصابات المُنتشرة في البلاد وفي غيرها من بلدان أمريكا الجنوبية تحظى بحماية سياسية وأمنية أمريكية تُمكّنها من تنفيذ العمليات الإجرامية والإرهابية والإغتيالات ضمن صراعات ذات صبغة اقتصادية وسياسية، فبعض هذه العصابات يُمارس استنزاف الإقتصاد من خلال التّهريب العابر للحدود والإتجار بالأسلحة وبالبشر وبالمخدّرات التي تدرّ أرباحًا ضخمة تُبَرِّرُ توتير أمريكا الوُسْطى والجنوبية اجتماعياً وسياسياً وأمنياً، وتُبَرِّرُ القمع وعسكرة الحياة السياسية وتُبرّر التدخل المباشر للولايات بذريعة مكافحة المجموعات الإرهابية وعصابات الجريمة المُنَظَّمَة.

يندرج اغتيال “فرناندو فيلافيسينسيو” ضمن رَدْع وتهديد وترهيب أي تيار سياسي أو أي رمز نقابي أو سياسي أو مُرشّح لمنصب نيابي أو حكومي يتجرّأ على طرح مكافحة الجريمة المنظمة والفساد ومكافحة الفقر، وطرح تأميم الموارد المواد الخام وإعادة توزيع الثروة في برنامجه السياسي، وإذا لم يرتدع “الجاني” تمت تصفيته بالإغتيال، لكي تستمر هيمنة التيارات الموالية للولايات المتحدة والشركات العابرة للقارات. 

كثفت عصابات الجريمة المنظمة أنشطتها الإرهابية في إكوادور لتصبح قضية رئيسية لا يمكن لأي تيار سياسي تجاهلها، خلال السنوات الأخيرة، ولم يكن “فرناندو فيلافيسينسيو”  أو تياره «حركة بناء الإكوادور» محسوبًا على اليسار أو التّقَدُّمِيّة، بل هو تيار وَسَطِي، ولم تكن حظوظ فَوْزِه مرتفعة أمام منافسته “لويزا كونزاليس”، وفق التوقعات واستطلاعات الرأي، لكنه قَدّم برنامجًا يؤَكّد على “إن الفساد والتهريب مُضِرّان بالإقتصاد”، فكانت عملية الاغتيال بمثابة الرسالة السياسية لأمثاله، من اليمين أو اليسار…

 

 

في جبهة الأثرياء

ارتفعت إيرادات 100 شركة إنشاء وبناء عالمية بنسبة 6% سنة 2022، وبلغت 1,9 تريليون دولارا، وفق مجموعة “ديلويت للخَدَمات المهنية” التي أعلنت يوم 11 آب/أغسطس 2023، نمو قطاع البناء في العالم بشكل أبطأ بكثير من السنوات السابقة، وارتفع إجمالي مبيعات الشركات الأوروبية بنسبة 6% عن العام 2021 إلى 373 مليار دولار، لكن قيمة أسهم هذه الشركات في أسواق المال انخفضت بِنِسَبٍ تراوحت بين 15% و 22% بفعل تأثيرات عدة عوامل، منها التركيبة السكانية والتنمية الاقتصادية والإنفاق الحكومي على نشاط البناء الذي يُتوقَّع أن ينتعش بفعل “الجهود العالمية لحماية المناخ” بحسب وكالة الأنباء الألمانية “د. ب. أَ ” 11 آب/أغسطس 2023، ولم يشذ قطاع البناء في الصين عن القطاعات الأخرى لتصبح “شركة البناء الحكومية الصينية” (CSCEC) أكبر مجموعة بناء في العالم وبلغت قيمة مبيعاتها 305 مليارات دولار، وتتصدر الصين قائمة أكبر مائة شركة بناء بإحدى عشرة شركة ومبيعات بلغت 1,048 تريليون دولارا، تليها اليابان بأربعة عشر شركة بلغت مبيعاتها الإجمالية 190 مليار دولارا وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة ب13 شركة بناء بلغت مبيعاتها 165 مليار دولارا، تليها فرنسا بثلاث شركات بلغت قيمة مبيعاتها 133 مليار دولارا، سنة 2022،  مع الإشارة إلى الشركات الفرنسية التي تتصدّر حجم الشركات الأوروبية في قطاع البناء والإنشار، وأهمها مجموعة “فينشي” الفرنسية، بمبيعات قدرها 64 مليار دولار، ومجموعة “بويغ” (التي تُهيمن كذلك على قطاع الإعلام بفرنسا) وشركة  “إيفاج”.

لا تذكر الدّراسة انخفاض القيمة الحقيقية لرواتب عُمّال البناء بهذه الشركات – وهم من يخلقون الثروة – بفعل ارتفاع إيجار المَسْكن وأسعار السلع الأساسية والتّضخّم

 

الإستعمار وتدمير البيئة:

غيّبت الرواية الرأسمالية الإستعمارية الدّمار الذي تعرضت له البيئة في البُلْدان التي تم احتلالها، ولا تزال الدّول المُستَعْمَرَة تُسدّد ثمنًا باهظا لذلك التخريب والدّمار الإستعماريّيْن، فقد سرقت الجيوش الإستعمارية النباتات وبيض السلاحف من حوض نهر الأمازون ومن جزر بحر الكاريبي وطيرا البطريق الكبير من الشمال الأطلسي والدودو من جزر المحيط الهندي، وكان المُستعمِرُون الأوروبيون سببًا في التغير المناخي وفي تدمير البيئة وفي انقراض العديد من الكائنات الحية، وفي تدمير العديد من القرى وإبادة السكان الأصليين، منذ الغزو الأوروبي للعالم بنهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، وأدّى هذا الغزو إلى نهب المواد الأولية لتزويد المصانع الناشئة قبل نهب النفط والمعادن الأخرى لتزويد الصناعات الثقيلة، ما يجعل التدهور البيئي ( وتدهور النُّظُم البيئية البرية والمائية والجوية) مرتبطا بالإستعمار وبالثورة الصناعية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، أو منذ حوالي 1830، وفق المؤرخ البريطاني كريستوفر آلن بيلي ( كتاب بعنوان “ولادة العالم الحديث” – 2003 ) الذي كتب عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن “تدجين الطبيعة والاستغلال المكثّف للأراضي الزراعية إلى حد القضاء على أنواع كثيرة من النباتات والحيوانات عبر تجارة الخشب، والفراء، واللحوم والقهوة… ما  أدى  إلى إنهاء الأشكال الزراعة التقليدية التي كانت تمارسها الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية وآسيا وأفريقيا…”

يقول المؤرخ والمفكر البريطاني كريستوفر آلن بيلي في كتاب بعنوان “ولادة العالم الحديث” صدر عام 2003: “لو كنا قد سألنا المؤرخين والطلاب المحترفين قبل خمسين عاماً عن التغيرات الاقتصادية الكبرى التي حصلت على الكوكب خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لكان الجميع على الأرجح، قد أشار إلى الثورة الصناعية وبدايات الإنتاج المُمَكنَن في بريطانيا العظمى. ولا يمكن لأحد أن يساوره الشك بأهمية عمليات التصنيع طويلة الأمد ودورها في الطريقة التي يعيش بها الناس في جميع أنحاء العالم، إنما خلافاً لعمليات التصنيع وبمنظور عالمي، كان هناك نوعان آخران من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي احتلت مكانة لم تقل أهمية عن التغيرات الأخرى في تاريخ تطور الكوكب، على الأقل حتى حوالي عام 1830″، بحسب المؤرخ كريستوفر آلن بيلي.

لا تزال العديد من مناطق العالم تعاني من نتائج الإجتياح الإستعماري، ومنها جزيرة “هايتي” التي أدّى استعمارها من قِبَل فرنسا إلى “إخضاع الطبيعة” لصالح الشركات الإستعمارية لاستغلال الغابات ومزارع القهوة والمياه، وعند الإستقلال سنة 1804، فُرضت فرنسا على البلاد دفع تعويضات بقيمة 150 مليون فرنك ذهبي ( ما يعادل 15 مليار يورو بالأسعار الجارية)، واضطرت الدولة المستقلة إلى تسديد المبلغ عبر قطع الأشجار وتصدير الخشب إلى فرنسا، ما أحدث كارثة غيرت العادات الغذائية وثقافة البلاد، فقد كانت الغابات والأشجار المُثمرة تغطي حوالي 80% من مساحة البلاد، وأدّى الإستعمار وقطع الأشجار و”إخضاع الطبيعة” طيلة ثلاثة قرون (من القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر) إلى خسارة نحو 98% من المساحات التي كانت تغطيها أشجار جوز الهند والمانغو والتمر الهندي، ولا تتجاوز مساحة الغابات حاليا 2% من مساحة البلاد، جراء تدمير النظم البيئية من قِبَل الاستعمار، وما جزيرة هايتي سوى نموذج لما حصل بالقارة الأميركية من جريمة بيئية واسعة النطاق، منذ الإستعمار الإسباني والبرتغالي والأوروبي عمومًا لأمريكا الجنوبية ثم الشمالية، وأهم هذه الجرائم القضاء على الملايين من طائر البطريق الكبير التي كانت تتواجد على سواحل شمال المحيط الأطلسي، خلال فصْلَيْ الربيع والصيف، لكن انقرض هذا النوع من الطيور حوالي سنة 1844، جراء الصيد المفرط من قِبَل الأوروبيين، بعد اكتشافهم القارة الأميركية، وفق وثائق الرحالة الفرنسي جاك كارتييه (1491-1557) الذي اكتشف كندا ومَكّن فرنسا من احتلال مقاطعة “كيبك”، كما قضى المُتعمرون البرتغاليون والهولنديون، سنة 1662، على طائر الدّوُدُو الذي كان يعيش في المحيط الهندي، في جُزُر مدغشقر وموريشيوس، وما هذه سوى بضعة أمثلة لنهب القوى الاستعمارية لثروات البلدان الأخرى، كالغذاء والخشب والجلود والزيت المستخرج من بيض السلاحف، لتقضيَ على النظام البيئي وتمنع تجديد دورة الطبيعة، ضمن عملية “تدجين الطبيعة” التي أسفرت عن تدمير النظم البيئية، ولا تزال عملية إخضاع الطبيعة متواصلة من خلال الزراعة المكثفة والقضاء على أنواع عديدة من النباتات والحيوانات، ومن خلال فَرْضِ نموذج غذائي وثقافي جديد يتماشى مع مجتمع الإستهلاك ( من مقال بعنوان “الإستعمار الأخضر- الجزء الأول  29 تموز/يوليو 2023)

 

حرب أوكرانيا وسلاح الغذاء

يُشكّل البحر الأسود منفذًا حَيَوِيًّا ومنطقة استراتيجية للإقتصاد الروسي، لكنه أصبح مصدر تهديد لأمن روسيا، خصوصًا منذ انضمام بعض الدّول التي تحُدُّهُ إلى حلف شمال الأطلسي (إضافة إلى تركيا المنتمية للحلف منذ سبعة عقود) وإلى الإتحاد الأوروبي مثل رومانيا وبلغاريا (منذ سنة 2004) وكذلك منذ انقلاب أوكرانيا في شباط/فبراير 2014، حيث نصب حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي عملاءهما في السّلطة، ما يُفسّر استرجاع روسيا لمنطقة القرم سنة 2014، ثم اجتاحت القوات الروسية منذ بداية حرب 2022، المناطق الملاصقة لروسيا وللبحر الأسود ( دونباس وزاباروجيا وخيرسون) وهي مناطق كانت تابعة لروسيا قبل الثورة البلشفية وتأسيس الإتحاد السوفييتي، وتستخدم روسيا وأوكرانيا موانئ البحر الأسود لتصدير الحبوب والأسمدة وعلف الحيوانات والمواد الأولية وغيرها، وحاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها استخدام البحر الأسود للتجسس والعدوان على روسيا، خصوصًا بعد قصف الجسر، بعد عودة القرم إلى روسيا ضمن عملية جيواستراتيجية للسيطرة على المناطق الشرقية من أوكرانيا والتي تسكنها أغلبية ناطقة باللغة الرّوسِيّة والتي استهدفتها المليشيات الفاشية الأوكرانية التي أصبحت تُشكّل ثُلُثَ حجم الجيش الأوكراني المُسَلَّح والمُدَرّب أمريكا وأطلسيًّا…

 من جهة أخرى، تُنتج روسيا وأوكرانيا أكثر من ثُلُث الإنتاج العالمي للحبوب ( خصوصًا القمح والذّرّة)، فروسيا رابع أكبر منتج وخامس أكبر مُصدّر، وأوكرانيا ثامن أكبر منتج وسابع أكبر مُصَدِّر، وبلغت حصة روسيا 17% من صادرات القمح العالمية، وارتفعت إيراداتها بفعل ارتفاع أسعار الغذاء في الأسواق العالمية قبل الحرب في أوكرانيا، وقبل “اتفاقية الحبوب” ( مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب) التي استفادت منها تركيا وأوروبا باحتكار الحبوب القادمة من روسيا وأوكرانيا وإعادة بيعها بأسعار مرتفعة إلى الدّول الفقيرة، ولذلك أعلنت روسيا عدم تجديد الإتفاقية، لأن “الغرب لم يوفي بوعوده، بل زاد التّضييق على روسيا”، وأجمع الإعلام السائد على تقديم زيادة أسعار الحبوب والعلف والأسمدة كنتيجة مباشرة للحرب، ما أدّى إلى إلحاق الضّرر بسكّان الدّول الفقيرة وتجويعهم، فمتى كان الفقراء يُشكّلون مركز اهتمام الدّول الإمبريالية والشركات العابرة للقارات والإعلام السائد؟ وما خلفية هذا الإتهام؟   

لم تؤدّ الحرب، خلال السنة الأولى (شباط/فبراير 2022 – 2023) إلى نقص المَعْرُوض أو ارتفاع الطّلب من القمح والحبوب، لكنّ ساهمت المضاربة في بورصات الحبوب العالمية واحتكار شركات التجارة العالمية، فضلا عن عواملَ سياسية أخرى، في زيادة كبيرة بالأسعار، ولذلك فإن مسؤولية روسيا ضعيفة أو منعدمة في تقلّبات الأسواق، بل إن روسيا تعرّضت لحصار وعقوبات عرقلت تجارتها وصادراتها وجعلتها عاجزة عن تأمين الطلب العالمي على المعادن والنفط والغاز والقمح والأسمدة، فقد ارتبطت “مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب” بتعهّدات أطلسية (أمريكية وأوروبية برعاية الأمم المتحدة) تتمثل في وصولِ المواد الأولية والحبوب والسلع الغذائية والأسمدة والزّيوت الأوكرانية والروسية إلى وجهاتها في الأسواق العالمية، ولكن الدّول التي تُسلّح وتدعم أوكرانيا أقرّت عقوبات جديدة أعاقَت خروجَ هذه الشَّحنات، بفعل منع شركات التّأمين وخدمات السُّفن من التعامل مع روسيا، وبفعل إقصاء المصارف الروسية من منظومة سويفت العالمية للتحويلات المالية وما إلى ذلك من عراقيل حرمت روسيا من تصدير إنتاجها، ما جعل روسيا تتخذ قرار الانسحاب من هذه الاتفاقية، وفق التوضيح الذي قَدّمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين…

أما شحنات الحبوب الأوكرانية والروسية التي تم تصديرها من موانئ البحر الأسود طيلة تلك الفترة ( من شباط 2022 إلى حزيران/يونيو 2023) فكانت حصة الاتحاد الأوروبي 38% من إجمالي ما تمّ تصديره عبر هذه الاتفاقية، وحصلت دول أخرى مثل الصين وتركيا على حصص مماثلة ولم تحصل الدول الفقيرة سوى على حوالي 2,3% من هذه الصادرات كامل الصفقة، أي إن الدّول “الغربية” احتكرت الحصة الأكبر من السّلع الغذائية، وأعادت تصديرها إلى الدّول الفقيرة بأسعار مُضاعَفَة، وما الإهتمام المُفاجئ بفقراء العالم سوى عملية إشهارية تندرج ضمن الإعلام الحربي (البروباغندا) ردّت عليها الحكومة الرّوسية بطرح القمح بأسعار تفضيلية وكميات مجانية للعديد من دول إفريقيا، فيما لم تحصل الدول الفقيرة مثل الصومال والحبشة واليمن والسودان وأفغانستان وجيبوتي سوى على 551 ألف طن من قمح أوكرانيا الذي تم تصديره، طبقًا لاتفاقية الحبوب، أي 3%، سدّد برنامج الغذاء العالمي (الأمم المتحدة) ثمن 396 ألف طنا منها أي أكثر من ثُلُثَيْها نقدًا إلى أوكرانيا، وأنّ 1% فقط من صادرات الحبوب الأوكرانية اتجهت مُباشرة نحو الدول الفقيرة التي تتذرع بها دول أوروبا وأمريكا الشمالية لنقد روسيا وتحميلها مخاطر المجاعة المُحتمَلَة، فيما تجاهلت وسائل الإعلام احتكار الإنتاج الأوكراني الذي أدّى إلى احتكار الحبوب وارتفاع أسعار النقل والتأمين بفعل حَظْر التحويلات المالية الضرورية لبيع الحبوب، ورغم الحصار تمكّنت روسيا، سنة 2022، من تصدير الحبوب بأسعار مخفضة، وحتى بالمجان لبعض الدول الإفريقية الأكثر حاجة، منها بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتيريا، وبعض دول في أمريكا الجنوبية وآسيا.

 أعلنت حكومة روسيا إن حلف شمال الأطلسي استغل فتح موانئ البحر الأسود، لدعم أوكرانيا عسكرياً ولوجستياً، ولتمرير أسلحة إلى أوكرانيا تحت ستار صفقة الحبوب، وتحت ستار الخط الإنساني للمساعدات عبر البحر الأسود، فضلا إمداد أوكرانيا عبر حدودها الطويلة مع بولندا وسلوفاكيا والمجر ومولدوفا ورومانيا، وجميعها أعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو ) باستثناء مولودوفا التي لها صفة شريك للناتو، ويندرج قرار روسيا إنهاء اتفاق نقل الحبوب واعتبار السفن المتجهة نحو القرم أهدافًا عسكرية، ضمن رُؤْيَة شاملة لمستقبل منطقة البحر الأسود ولشكل التعامل مع حلف شمال الأطلسي…  

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.