قراءة في كتاب -ما العمل؟- ــ الجزء الأول / علي محمود

علي محمود  – السبت 19/8/2023 م …




 

“لقد كان الناس وسيظلون أبدا، في حقل السياسة، أناسا سذجا يخدعهم الأخرون ويخدعون أنفسهم، ما لم يتعلموا استشفاف مصالح هذه الطبقات أو تلك وراء التعابير والبيانات والوعود الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية”
لينين، المؤلفات، الطبعة الروسية الخامسة، المجلد 23، ص 40-48

تنبيه:
إن اللينينية تمثل مرحلة ديالكتيكية في تطور النظرية الماركسية، والديالكتيكية تعني وجود تناقض، الذي يدفع إلى التطور في سياق سيرورة متناقضة محركها ذلك التناقض، ولعل صدور كتاب “ما العمل؟” لحظة تاريخية ضمن هذا التطور، فحول، ومن خلال أطروحاته اغتنت النظرية السياسية للماركسية وممارستها، فحول مسألة الوعي السياسي الطبقي، والأطروحة المركزية في كتاب “ما العمل؟” تتكثف وتتعارض بشكل جدلي أطروحات فرعية تتعلق بمسائل كبرى تمس الممارسة السياسية، عالجها لينين على شكل ثنائيات تربطها علاقات ديالكتيكية من قبيل:
– الوعي العفوي والوعي السياسي (الاشتراكي الديموقراطي)
– النضال الاقتصادي (المطلبي، النقابي) والنضال السياسي ونظرية “التعاريج الوجلة” الاقتصادوية، وشعار “إضفاء الطابع السياسي على النضال الاقتصادي”.
– النضال الديموقراطي (برنامج الحد الأدنى) والنضال الاشتراكي (برنامج الحد الأقصى) وتمفصلهما.
– مسألة التحالفات وإشكالية البرنامج الثوري خلال مرحلتي النضال من أجل الثورة الديموقراطية البورجوازية والثورة الاشتراكية.
– الدعاية والتحريض من منظور اقتصادوي ومن منظور اشتراكي ثوري.
– التنظيم الحرفي (المهني) والتنظيم السياسي الثوري و وظيفة الجريدة السياسية كمركز لبناء الحزب الثوري البروليتاري.
– الحزب والطبقة والجماهير والقادة ونظرية الطليعة الثورية البروليتارية.
– الحزب الثوري ومنظمة المحترفين الثوريين.
تشكل هذه القضايا أهم ما تناوله لينين في كتابه “ما العمل؟”، وككل كتب لينين، التي شكلت محطات في تطور النظرية الماركسية (“المادية والمذهب النقدي التجريبي” = تطوير الفلسفة المادية الماركسية، “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” = تطوير للاقتصاد السياسي الماركسي وللاستراتيجية الثورية العالمية، “الدولة والثورة” = تطوير لنظرية الدولة الماركسية وإغناء لمفهوم دكتاتورية البروليتاريا …)، يمثل كتاب “ما العمل؟” قفزة نوعية في تأسيس العلم السياسي الماركسي، ومن الملفت للانتباه أن هذا الكتاب تعرض أكثر من غيره للتشويه والإفراغ من مضمونه الثوري العميق، بل وجد لدى مثقفي البورجوازية الصغيرة صعوبة كبيرة في إدراك كنهه، وانعكس ذلك في الترجمات المختلفة المشوهة له، وكذلك في العروض المقدمة حوله، وقد أبدعت البورجوازية الصغيرة في تشويه مضامينه أحيانا، وصب جم غضبها وحقدها عليه، نظرا لصلابة مبادئه التنظيمية القائمة على الانضباط البروليتاري، العدو اللدود للمثقفين البورجوازيين الصغار، ولذلك تجدهم أول ما يهاجمون من الكتب اللينينية هذا الكتاب خاصة في دعواتهم إلى فصل اللينينية عن الماركسية.
إن كتاب “ما العمل؟” هو بمثابة التأسيس الإيديولوجي لنظرية الحزب الثوري البروليتاري ومحطة أولى في هذا التأسيس، تلاها كتاب “خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء”، الذي شكل التأسيس التنظيمي لنظرية الحزب الثوري اللينينية، ولذلك تجب دراستهما من أجل الاطلاع والفهم المعمقين لتلك النظرية.
يشكل هذا البحث المخصص لكتاب “ما العمل؟” الذي يضم ثلاثة أجزاء، مقدمة من أجل الدراسة المعمقة له، ستتلوه أجزاء أخرى تسير في نفس الاتجاه سيتم فيها التطرق لكتاب “خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء” بارتباط مع الجدل الذي دار حول نظرية الحزب اللينيني خاصة جدال لينين و روزا لوكسمبورغ …
بناء عليه، ننبه القارئ المناضل المنخرط في سيرورة بناء الحزب البروليتاري إلى ضرورة دراسة هذا الكتاب بكل تأن ومنهجية وعمق، فالثورة علم وعلينا التعامل معها كذلك، فليست الكتب الثورية العلمية للمطالعة وتجزية الوقت ولا للتباهي واستعراض العضلات، فالنظرية الثورية تستدعي الممارسة الثورية ولا مجال للتهرب من ذلك. وبطبيعة الحال ندعو إلى القراءة الجماعية (تسبقها قراءة شخصية لكل مشارك) المعتمدة على منهجية الدراسة من خلال تقسيم المواضيع والتيمات ودراستها على حدى وتركيبها ضمن نسق واحد يجمع مكوناتها، فمثلا يمكن الانطلاق من النقد الإيديولوجي، الذي قام به لينين تجاه الشعبوية والاقتصادوية والنزعة الإرهابوية، واستعراض الأطروحات والأطروحات اللينينية المضادة، والانطلاق بعد ذلك في دراسة المحاور التي سطرناها أعلاه، وبعد ذلك تتم عملية التركيز للأفكار والأطروحات ومناقشتها جماعيا ضمن سياق الوضع الراهن، عبر القيام بمقارنات بين الوضع الروسي و وضعنا الخاص، والتأكد من راهنية الأطروحات اللينينية حول كيفية العمل السياسي الثوري من أجل بناء الأداة الثورية للطبقة العاملة : الحزب البروليتاري الثوري.
في الأخير، يجب التأكيد على ضرورة وجود مسير أو موجه يربط بين المداخلات والأفكار والتصورات، ويعمل على تطوير النقاش وتوجيهه، وتكليف أحد المشاركين بصياغة الخلاصات.
l – مقدمات تاريخية
أصبحت اللينينية تشكل المرحلة الثانية في تطور النظرية الماركسية، وذلك بعد 33 سنة من النضال الشاق خاضه لينين ضد القيصرية الروسية ونظامها الاستبدادي، وبشكل موازي ضد كل التيارات الفكرية والفلسفية والسياسية التي كانت تقف حجر عثرة في وجه انتشار وتطور الفكر الماركسي في روسيا بارتباط مع حركة عمالية ناشئة ومتطورة باستمرار. هكذا استحقت اللينينية من بين ماركسيات أخرى مجايلة لها أن تصبح كما أسماها البلاشفة، وخاصة ستالين، الذي عرفها ب:
“اللينينية هي ماركسية المرحلة الامبريالية والثورة البروليتارية، وبدقة أكثر، فاللينينية هي نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية بشكل عام، ونظرية وتكتيك دكتاتورية البروليتاريا بشكل خاص”.
لقد نشأت اللينينية بداية في تربة روسية ضمن شروط اقتصادية واجتماعية وسياسية عرفت المميزات التالية:
1- الأرضية الأولى: إلغاء الرق وتطور الرأسمالية الصناعية في روسيا الذي صاحبه تشكل البروليتاريا الصناعية الحديثة، وانبثاق الخطوات الأولى للحركة العمالية.
ا- عرفت روسيا القيصرية بداية تطور رأسمالي يعتبر متأخرا مقارنة بتطور الرأسمالية في أوروبا الغربية، فإلى حدود 1860 لم تكن هناك في روسيا إلا معامل ومصانع قليلة، فقد كان الاقتصاد الإقطاعي المرتكز على نبالة الأرض مسيطرا، وتظهر الأبحاث التاريخية أنه في ظل هذا النظام الاجتماعي القائم على الرق لم يكن بإمكان الصناعة أن تتطور، ففي الفلاحة كان عمل القن ذا إنتاجية ضعيفة، وخلال سنة 1861 قامت الدولة القيصرية بإلغاء نظام القنانة بعدما أنهكتها الحرب في منطقة القرم، وكذلك تحت تأثير ضغط الانتفاضات وتمردات الفلاحين ضد الملاكين العقاريين الكبار، ورغم أهمية هذا القرار، فقد ظل الملاكون العقاريون الكبار يضطهدون الفلاحين، حيث كانوا يقومون باقتطاع جزء هام من الأراضي التي كانوا يتمتعون بها سابقا، ومن أجل تحررهم كان على الفلاحين أن يؤدوا قيمة شراء تلك الأرض، كما اضطر الفلاحون لكراء أرض الملاك العقاري في أصعب الظروف، بالإضافة إلى تأجير الأرض بمقابل نقدي كان الملاك العقاري غالبا ما يلزم الفلاحين بالعمل المجاني على قطعة من الأراضي التابعة له، وهذا ما كان يسمى ب “أداء العمل” أو السخرة، وفي أغلب الأحيان كان الفلاح يؤدي ثمن كراء الأرض عينا، أي نصف المحصول ويسمى هذا بالروسية “إسبولو” أي العمل بالنصف. إن الفارق مع المرحلة السابقة هو أن الفلاح كان حرا بشخصه لا يمكن بيعه ولا شراؤه كشيء من الأشياء.
إن بقايا الاقتصاد الإقطاعي والضرائب الثقيلة، وثمن كراء الأرض، كل هذا كان يتجاوز مدخول الأراضي الفلاحية، مما كان يسبب الدمار وتفقير الجماهير الفلاحية، وجعل الفلاحين يغادرون قراهم بحثا عن مورد رزق، فيتم تشغيلهم في المعامل والمصانع، وأصبحوا يشكلون يدا عاملة رخيصة، وإلى حدود 1903 كان الفلاحون يتعرضون إلى عقوبات جسدية لأبسط الأسباب، بينما، وقد أصبحوا عمالا يتعرضون إلى قمع القوزاق خلال الإضرابات. هكذا، لم يكن لدى العمال أو الفلاحين أي حق سياسي في روسيا القيصرية، لقد كانت الأوتوقراطية أشد أعداء الشعب، وبذلك استحقت روسيا القيصرية لقب “سجن الشعوب”، ففي إطار هذا النظام الإقطاعي الاستبدادي، كانت القوميات والأقليات غير الروسية تتعرض لمختلف أشكال الاضطهاد، من الإهانات والتجاوزات والمجازر، فقد كانت القيصرية تجعل الروس ينظرون إلى تلك الشعوب كأجناس دونية، وكانت تلك القوميات، بالإضافة إلى معاناتها من الاضطهاد تعاني من الصراعات فيما بينها، التي كانت غالبا ما تكون بإيعاز من القيصرية، وكانت كثير من القوميات تتعرض إلى مذابح كما هو الحال عند التتار والأرمن والمناطق العابرة للقوقاز واليهود، وبطبيعة الحال كانت تلك المناطق القومية تخضع لنظام خاص، حيث يحتل الموظفون الروس كل مهام الدولة، كما أن كل المسائل في الإدارات، وكل القضايا أمام المحاكم يتم تداولها باللغة الروسية، كما كانت هذه القوميات ممنوعة من نشر الجرائد والكتب بلغتها، أما استعمال اللغة الأم في التعليم فقد كان ممنوعا في المدارس. لقد كانت الحكومة القيصرية تتبع سياسة الروسنة المفروضة فرضا على القوميات غير الروسية، لقد كان القياصرة جلادين للشعوب غير الروسية.
ب- بعد القضاء على نظام القنانة في روسيا، تطورت الرأسمالية الصناعية فيها بشكل سريع، ففي 25 سنة الممتدة من 1865 إلى 1890، وأخذا بعين الاعتبار فقط عدد العمال في المصانع، نجد أن عدد العمال في السكك الحديدية قد ازداد من 706 ألف إلى مليون و433 ألف عامل، وعندما عرفت الصناعة الكبيرة الرأسٍمالية تطورا كبيرا وسريعا، ففي نهاية هذا العقد فقط، في 50 إقليما من روسيا، وصل عدد العمال في المصانع الكبيرة وفي الصناعة المنجمية وفي السكك الحديدية إلى مليونين و207 آلاف، وفي عموم روسيا أصبح مليونان و792 ألف. هكذا إذن، نشأت بروليتاريا صناعية عصرية تتميز عن المعامل الصغيرة والصناعة الصغيرة أو الحرفية، سواء من حيث تمركزها في المقاولات الكبيرة الرأسمالية أو فيما يخص نضاليتها الثورية، وقد لعبت السكك الحديدية دورا كبيرا في هذا التطور، حيث تم بناء خلال عقد 1890 – 1900، 21 ألف ڤيرست (وحدة قياسية روسية حيث يساوي ڤيرست 1066،8متر) أي أكثر من 22 ألف كلم، وقد ساعد هذا التطور في تقدم مجموعة من القطاعات لاحتياج السكك الحديدية للفحم والبترول، مما ساعد في تطور صناعة التعدين وصناعة المحروقات. ورغم هذا التطور الحاصل في مجال الصناعة الرأسمالية، ظلت روسيا متأخرة بالنسبة لباقي الدول الرأسمالية الأوروبية الكبرى، فقد ظل أغلب سكانها يتعاطون النشاط الفلاحي بمقدار خمسة أسداس من الساكنة، بينما السدس في الصناعة الكبيرة والصغيرة وفي التجارة والسكك الحديدية وفي النقل وأوراش البناء والاستغلاليات الغابوية. إذن رغم هذا التطور، ظلت روسيا عموما بلدا ذا اقتصاد زراعي متأخر، بلد بورجوازي صغير، أي ما زالت تهيمن فيه الملكية الصغيرة والاستغلالية الزراعية الفردية ذات المردود الضعيف.
إن التطور المتكلم عنه أعلاه لم يحصل في المدن وحدها فقط، بل مس البوادي أيضا، فبدأ الفلاحون يعرفون تفككا وتمايزا طبقيا، فمن داخل الفلاحين الأغنياء، انبثقت فئة عليا وتسمى الكولاك أي البورجوازية القروية، ومن جهة أخرى أفلس العديد من الفلاحين، فازداد عدد الفلاحين الفقراء والبروليتاريين وأشباه البروليتاريا، بينما أصبح عدد الفلاحين المتوسطين في تناقص.
إن هذه البورجوازية القروية كانت تغتني عبر اضطهادها للفلاحين الفقراء والمتوسطين، وباستغلال عمل الأجراء الزراعيين والمياومين، لقد تحولت إلى رأسمالية زراعية.
ابتداء من سنوات السبعينات وخاصة الثمانينات من القرن 19، استيقظت الطبقة العاملة الروسية ودخلت معمعان النضال ضد الرأسماليين نتيجة معاناتها في المعامل والمصانع، ففي فترة 1880- 1890، كان يوم العمل يساوي 12،5 ساعة، ويصل أحيانا في صناعة النسيج إلى 14 و15 ساعة. إضافة إلى هذا كان هناك استغلال فاحش لليد العاملة النسائية والأطفال، وقد كان الأطفال يقدمون ساعات عمل مساوية لعمل الكبار. كان أغلبية العمال يتقاضون من 7 إلى 8 روبل في الشهر، وأعلى أجر في قطاع التعدين وصهر الحديد لا يتعدى 35 روبل في الشهر، ولم تكن هناك أي حماية في العمل من الحوادث ولا التأمينات، بينما كانت المساعدة الطبية مؤدى عنها. أما ظروف السكن فقد كانت سيئة إلى حد كبير.
في ظل هذه الأوضاع انطلقت نضالات العمال وبدا وعيهم يتطور، كان العمال في هذه المرحلة يصبون غضبهم على الآلات وتكسير زجاج بناية المعمل وتخريب الكونطوارات والمكاتب، لكن سرعان ما بدأت فئة من العمال تعي أن النضال الفعال ضد الرأسماليين يتطلب التنظيم. هكذا نشأت أولى الجمعيات العمالية، وفي سنة 1875، في أوديسا تشكل “اتحاد عمال روسيا الجنوبية” وهي المنظمة العمالية الأولى، استمرت حوالي 8 أو 9 أشهر، حيث قامت الحكومة القيصرية بتدميرها، وفي سنة 1878، تأسس في بترسبورغ “اتحاد العمال الروس في الشمال”، وكان على رأسه خاتورين او بنورسكي، ومما جاء في برنامج هذا الاتحاد، أن أهدافه مرتبطة بالأحزاب العمالية الاشتراكية الديموقراطية في الغرب، وحدد لنفسه هدفا نهائيا وهو الثورة الاشتراكية، وقلب النظام السياسي والاقتصادي للدولة كنظام غير عادل كحد أقصى. لقد كان أو بنورسكي قد عاش لمدة ما في الخارج، وتأقلم مع نشاط الاشتراكية الديموقراطية الماركسية والأممية الأولى، مما ترك أثره على برنامج الاتحاد. وحدد هذا الأخير لنفسه كمهمة مباشرة، تحقيق الحرية والحقوق السياسية للشعب (حرية التعبير، الصحافة، الاجتماع …) بالإضافة إلى تحديد يوم العمل. كان الاتحاد يضم 100 عضو ونفس العدد من المتعاطفين، وبدأ يقود النضالات العمالية، لكن الحكومة القيصرية قامت بتحطيمه هو الآخر. ورغم ذلك ظلت الحركة العمالية تتطور وتكبر وتتسع إلى مناطق أخرى، وستعرف سنوات الثمانينات اتساعا في الإضرابات، ففي خمس سنوات، من 1881 إلى 1886، كان هنالك 48إضرابا شارك فيها 80 ألف مضرب، ومن بين هذه الإضرابات هناك إضراب كبير انطلق من معمل موروزوف دوريخوف زوريف، الذي كانت له أهمية خاصة في تاريخ الحركة الثورية. كانت هذه المؤسسة تضم 8000 عامل يعيشون في أوضاع سيئة، حيث الأجور تتدنى باستمرار، بالإضافة إلى الغرامات المفروضة على العمال، فخلال المحاكمة التي تلت الإضراب تم إظهار أنه عند كل روبل تم ربحه يخصم منه لصالح رب المعمل من 30 إلى 50 كوبيك على شكل غرامات، وبسبب ذلك انطلق الإضراب في 1885، و كان الإعداد مسبقا للإضراب يقوده العامل المتنور بيوتر مويسينكو، عضو سابق في “اتحاد العمال الروس في الشمال”، وكانت له تجربة ثورية غنية، فعشية الإضراب استطاع أن يبلور مع عمال آخرين الأكثر وعيا دفتر مطالب تمت المصادقة عليه في ندوة سرية للعمال، وقد تم قمع الإضراب باستعمال القوة المسلحة، وتم اعتقال 600 عامل، سيقدم العشرات منهم للمحاكمة.
أمام تنامي الحركة العمالية، ودخول معامل أخرى الإضراب، أصدرت الحكومة قانونا حول الغرامات، يقول أن الأموال التي تتحصل من الغرامات لا يجب أن يأخذها صاحب المعمل، بل توظف لخدمة حاجيات العمال أنفسهم. هكذا، مع تجربة موروزوف والإضرابات الأخرى تطور الوعي بأهمية التنظيم، فظهر قادة ومنظمون ذوي موهبة كبيرة وسط الحركة العمالية، يدافعون بحزم عن مصالح الطبقة العاملة. بشكل مواز، وتحت تأثير تصاعد الحركة العمالية في روسيا، وتأثير أوروبا الغربية، بدأ نشوء أولى المنظمات الماركسية في روسيا.
2- الأرضية الثانية: الشعبوية والماركسية في روسيا، بليخانوف وجماعته “تحرير العمل”، نضال بليخانوف ضد الشعبوية وانتشار الماركسية في روسيا.
قبل ظهور الجماعات الماركسية في روسيا، كان العمل الثوري في روسيا حكرا على الشعبويين، اللذين كانوا يشكلون خصوما للماركسية.
في سنة 1883، ظهرت أول جماعة ماركسية روسية، تحت اسم “تحرير العمل” تم تنظيمها في الخارج من طرف بليخانوف، وذلك في مدينة جنيف، حيث كان يقيم بعد هروبه من قمع ومطاردات النظام القيصري. لقد كان بليخانوف في بدايته شعبويا، لكنه في الهجرة تعرف على الماركسية، فانفصل عن الشعبوية ليصبح داعية بارزا للماركسية، وبالفعل قامت جماعته الثورية بمجهود كبير لنشر الماركسية في روسيا. وقد قام بليخانوف بترجمة أعمال ماركس و انجلز، نذكر منها: “بيان الحزب الشيوعي”، “العمل المأجور و الرأسمال”، و “الاشتراكية الطوباوية و الاشتراكية العلمية”. وقد قام بطبعها في الخارج وتوزيعها سرا في روسيا، وبالإضافة إلى هذا، قام بليخانوف و زازوليتش و أكسلرود وآخرون من المجموع بكتابة سلسلة من الكتب، حيث يعرضون مذهب ماركس و انجلز و أفكار الاشتراكية العلمية.
عندما انطلقت جماعة “تحرير العمل” في النضال من أجل نشر الماركسية، وذلك بالصحافة الروسية بالخارج، لم تكن الحركة الاشتراكية الديموقراطية موجودة في روسيا. وما كان ضروريا في هذه الفترة هو فتح الطريق أمام الحركة في الميدان النظري والإيديولوجي. وقد كانت العرقلة الإيديولوجية الأساسية لانتشار الماركسية، تتمثل في انتشار المفاهيم الشعبوية، التي كانت تهيمن وسط العمال المتقدمين والمثقفين ذوي الروح الثورية.
لقد كان لتطور الرأسمالية في روسيا دورا كبيرا في ظهور الماركسية، لقد ساعد ذلك في إثبات الدور الطليعي للطبقة العاملة القادرة على النضال الثوري المنظم، وهو بالضبط الدور الذي يرفضه الشعبويون اللذين كانوا يعتبرون أن القوة الثورية الرئيسية ليست الطبقة العاملة بل الفلاحون، وبالتالي إمكانية قلب نظام القيصر والملاكين العقاريين، وذلك عبر تمردات الفلاحين فقط. لم يكن الشعبويون يدركون أنه بدون تحالف مع الطبقة العاملة وتحت قيادتها، لا يمكن للفلاحين وحدهم أن يهزموا القيصرية والملاكين العقاريين. لم يكن الشعبويون أيضا يدركون أن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر ثورية وتقدما في المجتمع.
لقد حاول الشعبويون أن يجروا الفلاحين إلى النضال ضد الحكومة القيصرية، في هذا الإطار، كانت الشبيبة المثقفة الثورية ترتدي لباس الفلاحين والذهاب إلى البوادي وإلى الشعب كما كان يقال، ومن هنا، تمت تسميتهم بالشعبويين، ولكن الفلاحين لم يسيروا وراءهم، ولا يفهمونهم، وكان أغلبية الشعبويين يتم اعتقالهم من طرف البوليس، مما جعل الشعبويين يقررون متابعة النضال ضد الأوتوقراطية القيصرية بقواهم الذاتية، مما أدى إل أخطاء أكثر خطورة. هكذا، ستقوم المنظمة السرية الشعبوية “نارودنايا فوليا” (إرادة الشعب) باغتيال القيصر ألكسندر الثاني في يوم فاتح مارس 1881، لكن هذا العمل لم يكن له أي نفع بالنسبة للشعب، فليس اغتيال أشخاص معزولين هو ما سيؤدي إلى إسقاط الأوتوقراطية القيصرية ولا تحطيم طبقة الملاكين العقاريين. هكذا، أخذ القيصر ألكسندر الثالث مكان ألكسندر الثاني، ومعه ازدادت معاناة العمال والفلاحين.
إن طريق العمليات المعزولة، أو الإرهاب الفردي، كانت خاطئة ومسيئة للثورة. لقد كانت سياسة الإرهاب الفردي تنهل من النظرية الشعبوية الخاطئة، التي تؤكد على دور “الأبطال” النشيطين و”الجموع” السلبية، التي تنتظر إنجاز الأبطال. إن هذه النظرية الخاطئة كانت تزعم أن أفراد النخبة هم اللذين يصنعون التاريخ، بينما الجماهير، الشعب، الطبقة، الجموع، عاجزة عن الأعمال الواعية والمنظمة، حيث لا يمكن لها سوى أن تتبع الأبطال بشكل أعمى، وهذا هو الذي أدى بالشعبويين إلى التخلي عن العمل الجماهيري الثوري وسط الفلاحين والطبقة العاملة وانتقلوا إلى الإرهاب الفردي، وهو مما أدى باستبان خارتورين، وهو أحد أكبر الثوريين في تلك المرحلة إلى التخلي عن العمل التنظيمي داخل “اتحاد العمال” ليهتم خصيصا بالإرهاب.
بعملهم هذا، كان الشعبويون يبعدون العمال عن النضال ضد طبقة الرأسماليين، وذلك عن طريق الأعمال الفردية غير ذات منفعة للثورة، كانوا يعرقلون تطور المبادرة الثورية ونشاط الطبقة العاملة والفلاحين. كانوا كذلك يمنعون الطبقة العاملة من فهم دورها القائد، ويفرملون عملية خلق الحزب المستقل للطبقة العاملة. ورغم أن التنظيم الثوري للشعبويين قد تم تحطيمه من طرف الحكومة القيصرية، فإن المفاهيم الشعبوية ظلت باقية بين المثقفين الثوريين.
هكذا، ومن أجل أن تنمو الماركسية في روسيا وتتعزز، كان عليها خوض النضال ضد الشعبوية، وكان هذا هو الدور الذي اضطلعت به تاريخيا جماعة “تحرير العمل”. لقد أبرز بليخانوف أن أفكارهم ومفاهيمهم لا علاقة لها بالاشتراكية العلمية رغم ادعائهم ذلك، لقد كان بليخانوف هو أول من قام بنقد ماركسي للشعبويين محطما أفكارهم ومفاهيمهم، وفي نفس الوقت قام بدفاع بارز عن المفاهيم الماركسية.
فما هي الأخطاء الرئيسية للشعبويين، التي وجه لها بليخانوف الضربة القاضية؟
1-كان الشعبويون يعتبرون أن الرأسمالية في روسيا ظاهرة عرضية، وبأنها لا تتطور، ومن ثمة فالبروليتاريا لم تنشأ، ولم تتطور في هذا البلد.
2- لم يكن الشعبويون ينظرون إلى الطبقة العاملة كطبقة طليعية في الثورة، وكانوا يحلمون بالاشتراكية بدون بروليتاريا، ومن ثمة، بالنسبة لهم، فإن القوة الثورية الرئيسية هم الفلاحون، يقودهم المثقفون، وكانوا يعتبرون الجماعة الفلاحية (المير) هي جنين وقاعدة الاشتراكية.
3-كان الشعبويون يساندون ويدافعون عن وجهة نظر خاطئة ومضرة حول مسار التاريخ الإنساني، أي أنهم كانوا لا يعرفون ولا يفهمون قوانين التطور الاقتصادي والسياسي للمجتمع، أي أنهم كانوا متأخرين جدا، فحسب وجهة نظرهم ليست الطبقات ولا صراعها هو ما يصنع التاريخ، بل أفراد النخبة الأبطال، التي تتبعها الجماهير والشعب بشكل أعمى. وفي هذا السياق كتب بليخانوف كتبا ساهمت في تكوين جيل من المناضلين الماركسيين، وهذه الكتب هي: “الاشتراكية والنضال السياسي”، “خلافاتنا”، “دراسة حول تطور المفهوم الواحدي للتاريخ”. هذه الكتب عبدت الطريق لانتشار الماركسية في روسيا، وقد قال لينين حول كتاب “دراسة حول تطور المفهوم الواحدي للتاريخ” المنشور سنة 1895 “بأنه قام بتربية جيل بكامله من الماركسيين الروس” (لينين مجلد 14، ص 347، الطبعة الروسية).
*خلاصات النقد البليخانوفي للشعبوية:
في نقده الحاسم للشعبوية بين بليخانوف، وبرهن على ذلك، أنه من العبث طرح السؤال على الطريقة الشعبوية:
– هل على الرأسمالية أن تتطور أو لا تتطور في روسيا؟
يقول بليخانوف جوابا على هذا السؤال، واعتمادا على الوقائع، بأن روسيا قد دخلت في طريق تطور رأسمالي، وليس هناك من قوة تستطيع تحريفها عن ذلك، وبالتالي فإن مهمة الثوريين ليست في فرملة تطور الرأسمالية في روسيا، وهو أمر على كل حال لا يستطيعون القيام به، وبالتالي، فمهمة الثوريين هي الاعتماد على القوة الثورية الهائلة، التي تولدها الرأسمالية خلال تطورها، أي الطبقة العاملة، ومن ثمة تطوير وعيها الطبقي وتنظيمها ومساعدتها على خلق حزبها العمالي الخاص.
وقد دحض بليخانوف كذلك، المفهوم الأساسي الثاني للشعبوية، المتعلق بإنكار الدور الطليعي للبروليتاريا في النضال الثوري. لقد كان الشعبويون يعتبرون ظهور البروليتاريا في روسيا ك “مأساة تاريخية” في نوعها، وفي كتاباتهم يتحدثون عن “الجرح البروليتاري”. لقد بين بليخانوف بأنه بالرغم من التفوق العددي للفلاحين، وبالرغم من أن البروليتاريا أقل عددا، فإن على الثوريين أن يضعوا أملهم الرئيسي في البروليتاريا ونموها المستمر.
فلماذا البروليتاريا بالضبط؟
إن البروليتاريا رغم ضعفها العددي الحالي، فإنها الطبقة الكادحة المرتبطة بالشكل الأكثر تقدما في الاقتصاد، أي بالإنتاج الكبير، ومن ثمة فلها مستقبل كبير، وهو الأمر الذي يساعدها على النمو والتطور السياسي، وقابليتها للتنظيم بحكم شروط العمل في الإنتاج الكبير، وهي على هذا الأساس تلك الطبقة التي ليس لها ما تفقده سوى قيودها.
بالمقارنة مع البروليتاريا، فالفلاحون لا ينمون كطبقة، بل يعرفون تفككا سنة بعد أخرى، ما بين بورجوازية (الكولاك) والفلاحون الفقراء (الموجيك)، إضافة إلى تحولهم إلى البروليتاريا أو أشباه البروليتاريا، ومن جهة أخرى ليس لهم قابلية سهلة للتنظيم نظرا لتشتتهم بسبب وضعهم كملاكين صغار، ويجدون صعوبة في الالتحاق بالحركة الثورية.
لقد كان الشعبويون يزعمون أن الاشتراكية لن تتحقق عبر دكتاتورية البروليتاريا، لكن عن طريق الجماعة الفلاحية، التي كانوا يعتبرونها جنين الاشتراكية وقاعدتها، وهذا أمر غير ممكن التحقيق، فلا هم قاعدة ولا جنين للاشتراكية، لأن داخل الجماعة الفلاحية كان يهيمن الكولاك، مصاصو دماء الفلاحين الفقراء والعمال الزراعيين والفلاحين الصغار. إن الملكية الجماعية للأرض التي كانت موجودة، التي يتم فيها بين حين وآخر إعادة توزيع الأرض، حسب عدد الأفواه لا يغير في الأمر شيئا، لأن من كان يستفيد من هذه الأرض هم أعضاء الجماعة، اللذين يمتلكون بهائم العمل والأدوات الزراعية والبذور، وهؤلاء هم الفلاحون الأغنياء (الكولاك) وفي هذه الظروف، فإن الفلاحين بدون حصان، والفقراء بوجه عام والفلاحين الصغار، كانوا يضطرون إلى تسليم أراضيهم للملاك ويشتغلون كمياومين.
3- وبالنسبة للأطروحة الثالثة، فقد انتقدها بليخانوف، معتبرا أنها مجرد مثالية، وأن الحقيقة ليست في جانب المثالية بل في مادية ماركس و انجلز، و هنا قام بليخانوف بعرض بعض الأطروحات الأساسية للمادية التاريخية، معتبرا أن الأبطال ليسوا هم صانعو التاريخ، بل، إن التاريخ هو الذي يصنع البطل، و بالتالي ليس الأبطال من يخلق الشعب، بل الشعب هو من يخلق الأبطال و يساهم في تقدم التاريخ. إن الأبطال وأفراد النخبة لا يمكنهم أن يلعبوا دورا جادا في حياة المجتمع إلا في حدود معرفتهم وفهمهم الصحيح لظروف تطور المجتمع.
لقد كان لكتابات بليخانوف ونضاله ضد الشعبويين دورا في خلخلة تأثير الشعبويين وسط المثقفين الثوريين. أما الإفلاس الإيديولوجي للشعبوية، لم يكن قد تحقق بعد بالكامل، وهذه المهمة وضعها التاريخ على عاتق لينين.
بعد سحق حزب “نارودنايا فوليا” تخلى أغلب الشعبويين عن النضال الثوري ضد الحكومة القيصرية، وأصبحوا يدعون إلى التصالح والتفاهم مع الحكومة، فشعبويو سنوات الثمانينات والتسعينات أصبحوا الناطق باسم مصالح الكولاك.
لقد قامت جماعة “تحرير العمل” بصياغة مشروع برنامج الاشتراكية الديموقراطية الروسية الأول في سنة 1884، والثاني في 1887، وكانت هذه خطوة هامة على طريق بناء حزب اشتراكي ديموقراطي في روسيا، لكن الجماعة ارتكبت أخطاء كذلك في برنامجها الأول، تضمن بقايا مفاهيم شعبوية، عندما قبلت بتكتيك الإرهاب الفردي.
لم يدرك بليخانوف أن في مسار الثورة، على البروليتاريا أن تجر معها الفلاحين، وبالتالي بتحالفها مع الفلاحين، بإمكانها تحقيق الانتصار على القيصرية، ومن جهة أخرى، اعتبر بليخانوف البورجوازية اللبرالية كقوة قادرة على تقديم الدعم ولو كان هشا للثورة، بينما لم يهتم في كتاباته بالفلاحين، ومما جاء في كتاباته ما يلي:
“خارج البورجوازية والبروليتاريا لا نرى قوة اجتماعية أخرى يمكن أن تعتمد عليها عندنا، تركيبات المعارضة أو الثوريين” (بليخانوف، مجلد 3، ص 119، الطبعة الروسية).
نجد هنا بذرة المفاهيم المنشفية المستقبلية عند بليخانوف.
فلا جماعة “تحرير العمل” ولا الحلقات الماركسية في هذا الوقت كانت مرتبطة بالحركة العمالية، فنحن هنا ما زلنا في فترة ظهور النظرية الماركسية والأفكار الماركسية، ومبادئ البرنامج الاشتراكي الديموقراطي.
ففي العشرية الممتدة ما بين 1884 و1894، لم تكن الاشتراكية الديموقراطية سوى مجموعات وحلقات صغيرة غير ذات ارتباط بالحركة العمالية الجماهيرية، تماما كطفل لم يولد بعد، بل كان لا زال يتطور في أحشاء أمه.
كانت الاشتراكية الديموقراطية كما قال لينين تمر ب “سيرورة تطور رحمي”. لقد قال لينين أن جماعة “تحرير العمل” لم تقم بتأسيس الاشتراكية الديموقراطية إلا نظريا، ولم تقم إلا بخطوة أولى نحو الطبقة العاملة. لقد كان على لينين أن يحل إشكالية دمج الحركة الماركسية مع الحركة العمالية في روسيا، وفي نفس الوقت تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها جماعة “تحرير العمل”.
3- الأرضية الثالثة: بدايات النشاط الثوري عند لينين، “اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة في بترسبورغ”
في سنة 1887، دخل لينين جامعة كازان، و سرعان ما تم اعتقاله و طرده من الجامعة لمشاركته في الحركة الثورية للطلبة، و في كازان انتمى لينين إلى حلقة ماركسية كان ينظمها فيدوسييف، وما أن استقر لينين في سامارة، حتى شكل حوله أول حلقة ماركسية في هذه المدينة، ومنذ هذه الفترة، كان لينين يبهر بمعرفته للماركسية، ، و في نهاية 1893، سيستقر في بترسبورغ، حيث منذ تدخلاته الأولى خلق انطباعا قويا لدى الحلقات الماركسية هناك، و ذلك بمعرفته العميقة بماركس و قدرته الهائلة على تطبيق الماركسية على الوضع الاقتصادي و السياسي لروسيا المعاصرة، إيمان قوي غير قابل للتحطيم في انتصار القضية العمالية، وبمواهب تنظيمية لامعة، كل هذا جعل من لينين القائد المعترف به من طرف ماركسيي بترسبورغ.
لقد كان لينين محبوبا جدا من طرف عمال الطليعة، اللذين يشاركون في الحلقات، وقي سنة 1895، قام لينين بتجميع كل الحلقات العمالية الماركسية في بترسبورغ (حوالي 20 حلقة) وذلك في تنظيم واحد، أطلق عليه “اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة”، ومن الدعاية للماركسية وسط عدد صغير من العمال المتقدمين متجمعين في حلقات الدعاية، اقترح لينين الانتقال إلى التحريض السياسي في صفوف أوسع الجماهير العمالية، وقد كان هذا المنعطف (التحريض الجماهيري) ذو قيمة كبرى في تطور الحركة العمالية في روسيا.
نحن الآن في بداية التسعينات، حيث عرفت الصناعة تطورا هائلا، وازداد عدد العمال، وتطورت الحركة العمالية، فمن سنة 1895 إلى 1899، حوالي 220 ألف عامل دخلوا في إضراب. لقد أصبحت الحركة العمالية قوية جدا في الحياة السياسية للبلاد، الشيء الذي أكد الأطروحات الماركسية ضد الأطروحات الشعبية فيما يخص الدور الطليعي للطبقة العاملة، وقد قام “اتحاد النضال …” بقيادة لينين بربط نضال العمال من أجل المطالب الاقتصادية بالنضال السياسي ضد القيصرية. لقد أصبح “اتحاد النضال …” يقوم بالتربية السياسية للعمال، لقد كان هذا الاتحاد التنظيم الأول الذي حقق اندماج الاشتراكية مع الحركة العمالية، فعندما كان ينفجر إضراب في معمل ما، كان” الاتحاد ..” العارق بالأوضاع الداخلية للمعمل عن طريق أعضاء الحركات، يقوم مباشرة بتوزيع المناشير و الإعلانات الاشتراكية، و عبر هذه المناشير يتم إدانة الاضطهاد و شرح كيفية دفاع العمال عن مصالحهم، و يتم عرض المطالب العمالية، ففي نهاية 1894، قام لينين بمساعد العامل بابوشكين بصياغة أول منشور تحريضي مع نداء للعمال في معمل سبيمباكينوف في بترسبورغ، و نفس الشيء تحقق في خريف 1895 خلال إضراب للعمال في مصنع تورمتون، و فد انتهى الإضراب بالنجاح، و في وقت قصير استطاع “الاتحاد …” أن ينشر عشرات النداءات الموجهة لعمال المصانع، الشيء الذي كان يرفع من معنويات العمال، فيدركون أن وراءهم اشتراكيون يدافعون عنهم .
ومن النماذج النضالية التي قادها” الاتحاد …” ذلك الإضراب، الذي قام به مجموعة عمال النسيج في بترسبورغ سنة 1896 بقيادة “اتحاد …”، وكان المطلب الرئيسي هو تقليص يوم العمل، وتحت تأثير هذا الإضراب أصدرت الحكومة القيصرية قانون 2 يونيو 1897، وقبل هذا القانون لم يكن هناك أي قانون، بحيث لا وجود لحدود يوم العمل.
في دجنبر 1895، اعتقلت الحكومة القيصرية لينين، ورغم اعتقاله استمر في نضاله الثوري بإرسال النصائح والتوجيهات والكراسات والمناشير من داخل السجن، ومن أشهرها “بصدد الإضرابات” و”المنشور” وكذلك “إلى الحكومة القيصرية”، ومن السجن كذلك كتب مشروع برنامج الحزب (كتب بالحليب بين سطور كتاب في الطب). و قد ساهم “اتحاد النضال …ط في تجميع مجموعة من الحلقات في مدن و مناطق أخرى، ففي وسط التسعينات، نشأت منظمات منظمات ماركسية في ترانسكوكازيا و في مدينة موسكو، و في سنة 1894 تأسس “الاتحاد العمالي” في موسكو، و في نهاية التسعينات تشكل “الاتحاد الاشتراكي” في سيبيريا، و في سنوات التسعين ظهرت في إيفانوفو- فوسنسنك، و ياروسلافل، و كوسبروما مجموعات ماركسية، ستشكل فيما بعد “اتحاد الشمال للحزب الاشتراكي الديموقراطي”، و ابتداء من سنة 1895، تم تنظيم مجموعات و اتحادات اشتراكية ديموقراطية في روستوف-سوغ- دون، إيكاتيرينوسلاف، كييف، نيكولايف و تولا و سامارة و كازان و مدن أخرى.
تاريخيا، حسب لينين، شكل “اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة” في بترسبورغ أول جنين جاد لحزب ثوري يعتمد على الحركة العمالية.
هكذا، شكلت تجربة لينين الثورية خلال مرحلة “اتحاد النضال ” ملهما للينين في أعماله اللاحقة من أجل بناء حزب اشتراكي ديموقراطي في روسيا. وبعد اعتقال لينين ورفاقه المقربين، حصل تغيير داخل قيادة “اتحاد النضال” في بترسبورغ، فقد ظهر أناس جدد يعتبرون أنفسهم شباب ويصفون لينين ورفاقه بالشيوخ، واتبع هؤلاء الشباب خطا سياسيا خاطئا، وكانوا يروجون لفكرة أنه يجب فقط دعوة العمال إلى النضال الاقتصادي ضد الباطرونا، وأن النضال السياسي هو من اختصاص البورجوازية اللبرالية، وعليها أن تتحمل مسؤولية القيادة، وهؤلاء هم من سموا لاحقا بالاقتصادويين، وهم أول مجموعة من المتصالحين والانتهازيين.
4- الأرضية الرابعة: نضال لينين ضد الشعبوية و “الماركسية الشرعية”. فكرة لينين حول تحالف الطبقة العاملة والفلاحين. أول مؤتمر للحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي بروسيا.
لقد رأينا في صفحات سابقة كيف اطلع بليخانوف بمهمة نقد الشعبوية في روسيا، لكن رغم ذلك ظلت مجموعات من الشباب والمثقفين تحمل أفكار الشعبوية وتدافع عنها، وأصبحوا يحاربون الماركسية بقوة، ويحاولون تسويد وجه الاشتراكيين الديموقراطيين، لقد أصبحوا عرقلة في وجه انتشار الفكر الماركسي في روسيا. فجاء الدور على لينين ليتحمل المسؤولية التاريخية في دحضهم والتقليص من تأثيرهم، وهنا الحديث عن كتاب لينين الشهير: “من هم أصدقاء الشعب …”، الذي كتبه سنة 1894. وفي حقيقة الأمر فإن شعبويي 1890 – 1900 قد تخلوا عن أي نضال ضد الحكومة القيصرية، فقد كان الشعبويون اللبيراليون ينادون بالمصالحة مع الحكومة القيصرية، وكما يقول لينين:
“إنهم يفكرون ببساطة أن الحكومة إذا طالبناها بشكل جيد وطيب، بإمكانها أن تحل كل شيء من أجل الأحسن” (لينين، مجلد 1، ص 161، الطبعة الروسية).
لقد كان الشعبويون يغضون النظر عن وضعية الفلاحين الفقراء، وعن الصراع الطبقي في القرية، وكانوا يمجدون استغلاليات الكولاك، لقد أصبحوا الناطقين باسم مصالح الكولاك. أما مجلاتهم فقد كانت تقوم بحملات ضد الماركسيين، عبر تشويه مقصود لتصورات الماركسيين الروس، ويزعمون أن الماركسيين يريدون خراب البادية، ويريدون أن يقدموا كل موجيك (فلاح فقير بالروسية) إلى جحيم المعمل، وقد رد لينين على ذلك بأن الوضع ليس برغبة الماركسيين بل نتيجة السير الحقيقي لتطور الرأسمالية في روسيا، الذي يزيد من أعداد البروليتاريا، والحال أن البروليتاريا ستكون حافرة قبر النظام الرأسمالي.
لقد أبرز لينين أن أصدقاء الشعب الحقيقيين هم اللذين يرغبون في القضاء على الاضطهاد الرأسمالي، وعلى الملاكين العقاريين الكبار، والقضاء على القيصرية، وهؤلاء ليسوا الشعبويين بل الماركسيين.
وفي كتابه “من هم أصدقاء الشعب …” تكلم لينين لأول مرة عن التحالف الثوري العمالي الفلاحي، كوسيلة رئيسية لقلب القيصرية والملاكين العقاريين والبورجوازية. وعبر كتابات مختلفة، وجه لينين نقده لوسائل النضال السياسي عند الشعبويين خاصة مجموعة “نارودنا فوليا” و من تبعهم من الاشتراكيين الثورين حول الإرهاب الفردي كتكتيك، و قد بين لينين أن هذا التكتيك مضر بالحركة الثورية، لأنه يبدل نضال الجماهير بنضال الأبطال المعزولين، و من ثمة غياب الإيمان بالحركة الثورية الشعبية، و سطر لينين من خلال كتابه الأهداف الأساسية للماركسيين الروس، و المتمثلة في تنظيم حزب عمالي اشتراكي عن طريق تجميع الحلقات الماركسية، و أظهر لينين أن الطبقة العاملة في تحالف مع الفلاحين ستسقط القيصرية، ثم إن البروليتاريا الروسية المتحالفة مع الجماهير الكادحة و المستغلة ستأخذ إلى جانب بروليتاريا بلدانا أخرى الطريق المباشر للنضال السياسي المفتوح نحو انتصار الثورة الشيوعية.
لقد كانت نتائج معركة لينين في صالح لينين، حيث انتهى الأمر بالشعبويين إلى الإفلاس الإيديولوجي النهائي.
إن المعركة الثانية التي خاضها لينين كانت ضد ما كان يسمى ب “الماركسية الشرعية”، و هو ما يطلق على ما سمي ب “رفاق الطريق”، اللذين يلتصقون في بعض الأحيان بالحركات الاجتماعية الكبيرة، فعندما تطورت الماركسية في روسيا بدأ العديد من المثقفين البورجوازيين يلبسون لباس الماركسية، و كانوا يطبعون و ينشرون مقالاتهم في المجلات و الجرائد القانونية، و لذلك سموا بالماركسيين الشرعيين، لقد كانوا على طريقتهم الخاصة يناضلون ضد الشعبوية، لكنهم كانوا يريدون توظيف هذا النضال و علم الماركسية لاستعماله في ربط الحركة العمالية بالمصالح البورجوازية .و فيما يخص تعاملهم مع الماركسية فقد رفضوا ما هو أساسي فيها أي نظرية الثورة البروليتارية و دكتاتورية البروليتاريا، و قد كان أشهر زعمائهم هو بيوتر ستروفي يمدح البورجوازية، و بدل الدعوة إلى النضال الثوري ضد الرأسمالية كان يدعو إلى “الاعتراف بالنقص في الثقافة و التعلم من مدرسة الرأسمالية”.
أمام هذين الخصمين أي الشعبويين والماركسيين الشرعيين، استعمل لينين الماركسيين الشرعيين في مواجهة الشعبويين، ولكن في نفس الوقت وجه لهم نقدا صارما يفضح عمق لبراليتهم البورجوازية.
سيصبح الكثير من رفاق الطريق هؤلاء في حزب الكاديت، الحزب الرئيسي للبورجوازية الروسية، وخلال الحرب الأهلية كانوا أعضاء في الحرس الأبيض. و من نتائج هذه المعركة اللينينية ستظهر تطورات جديدة، فبالإضافة إلى “اتحادات النضال ..” في بترسبورغ و موسكو و كييف، تشكلت منظمات اشتراكية ديموقراطية في المناطق القومية النائية في غرب روسيا، و حوالي 1900، تشكلت المنظمات الاشتراكية الليتوانية، و في أكتوبر 1897 تشكل في الأقاليم الغربية في روسيا “الاتحاد العام الاشتراكي الديموقراطي اليهودي” (البوند). و في سنة 1898 ستقوم العديد من “اتحادات النضال” في بترسبورغ و موسكو و كييف و إيكاترينو سلاف، إضافة إلى البوند بمحاولة أولى للتجمع في حزب عمالي اشتراكي ديموقراطي، و لأجل ذلك نظموا في مدينة منسك في مارس 1898 أول مؤتمر للحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي الروسي، و قد حضر هذا المؤتمر تسعة أعضاء. لم يشارك لينين في المؤتمر لأنه كان منفيا في سيبيريا، أما اللجنة المركزية المنتخبة في المؤتمر فقد تم اعتقالها مباشرة بعد المؤتمر، و قد أصدر المؤتمر بيانا ناقصا من عدة أوجه، فلم يشر إلى ضرورة أن تأخذ البروليتاريا السلطة السياسية، و لم يقل شيئا حول هيمنة البروليتاريا، و لم يتكلم عن حلفاء البروليتاريا في نضالها ضد القيصرية و البورجوازية، و الحسنة الوحيدة للمؤتمر هو إعلانه عن تأسيس الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي لروسيا، و هو شيء مهم بالنسبة للدعاية الثورية، و في حقيقة الأمر، فرغم هذا المؤتمر لم يتشكل بعد الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، فلم يقم بتجميع الحلقات و المنظمات الماركسية، و لم يجمعهم في روابط تنظيمية. لم يكن هناك خط واحد في المنظمات المحلية، ولا برنامج ولا قوانين الحزب، ولم تكن هناك قيادة منبثقة من مركز واحد، ولهذه الأسباب وأخرى ازداد الغموض الإيديولوجي في المنظمات المحلية، مما ساعد على انتشار التيار الانتهازي الاقتصادوي وسط الحركة العمالية، وهنا سيظهر العمل الجبار والمكثف الذي قام به لينين وجريدة الإسكرا، التي أسسها في هزم تذبذبات الانتهازية، وإعداد الظروف من أجل تشكيل الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي الروسي.
5- الأرضية الخامسة: نضال لينين ضد الاقتصادوية. لينين يؤسس جريدة الإسكرا
رغم التواجد في المنفى والاعتقال واصل لينين نضاله المستميت، فهناك كتب كتابه العلمي “تطور الرأسمالية في روسيا” الكتاب الذي ساهم في القضاء المبرم على الشعبوية، وأضاف لينين كراسته الشهيرة “مهام الاشتراكيين الديموقراطيين الروس”، ومما كان يشغل باله كثيرا مسألة الاقتصادويين، فقد كانت الاقتصادوية بالنسبة له تشكل نواة مركزية لسياسة التصالح والانتهازية، وان انتصارها وسط الحركة العمالية يعني دمار الحركة الثورية للبروليتاريا وهزيمة الماركسية.
* وفيما يلي أهم أفكار الاقتصادويين:
يزعم الاقتصادويون أن على العمال فقط أن يخوضوا النضال الاقتصادي (النقابي) أما النضال السياسي فيجب تركه للبورجوازية اللبرالية، وعلى العمال أن يساندوها، وقد اعتبر لينين هذه الدعاية إنكارا للماركسية، ولضرورة أن يكون للطبقة العاملة حزبها السياسي المستقل، بمعنى آخر، تحويل الطبقة العاملة إلى ملحق للبورجوازية.
في سنة 1899، أصدر الاقتصادويون بيانا يعلنون فيه ضرورة التخلي عن بناء الحزب البروليتاري المستقل، والتخلي عن المطالب السياسية المستقلة للطبقة العاملة. وبمجرد أن سمع لينين بالبيان حتى قام بالدعوة إلى ندوة للمبعدين الماركسيين، خاصة القريبين من مكان تواجده، وذلك لصياغة احتجاج ضد ذلك البيان الشهير، هذا الاحتجاج الذي وقعه لينين و17 رفيقا، إن هذا الاحتجاج تم توزيعه داخل المنظمات الماركسية في كل روسيا، الشيء الذي كان له دور كبير في تطور الفكر الماركسي والحزب في روسيا، لقد ناضل لينين ضد الاقتصادويين، في نفس الوقت، خاض نضالا ضد الانتهازية الدولية، التي يمثلها بيرشتاين.
في بداية 1900، عاد لينين والأعضاء الآخرون ب “اتحاد النضال …” إلى روسيا عائدين من سيبيريا. لقد كان لينين قد قام ببلورة مشروع جريدة غير شرعية لكل روسيا، فالعديد من الحلقات الصغيرة والمنظمات الماركسية الموجودة آنذاك لم يكن يجمعها شيء، ومن ثمة، فوحدها الجريدة بإمكانها ربط المنظمات الماركسية، وتهيئ خلق حزب حقيقي، ولاستحالة إنشاء جريدة داخل روسيا القيصرية، قرر لينين إصدارها في الخارج، حيث يتم طبعها في ورق رقيق وصلب يتم إدخالها إلى روسيا، ثم يتم إعادة طبعها في مطابع سرية في باكو و كشنيف وفي سيبيريا.
في خريف 1900، توجه لينين إلى الخارج للتفاهم مع جماعة “تحرير العمل” حول إصدار الجريدة السياسية، حيث سيتم التفاهم حول ذلك. قبل وصوله إلى الخارج، قام لينين بإنضاج أفكاره حول الجريدة، و درس تفاصيل ذلك، هكذا نظم سلسلة ندوات في أوقاو بيسكوف و موسكو و بترسبورغ، و تفاهم لينين مع رفاقه في موضوع الكود من أجل استعماله في المراسلة السرية، و كذلك في موضوع العناوين لإرسال أدبيات الحزب، كما هيأ رفاقه لفهم مخطط النضال المستقبلي، و منذ ذلك الحين أدركت الحكومة القيصرية أن أمامها شخص خطير جدا و هو لينين، لقد كتب زوباطوف عميل الأوخرانا القيصرية في مراسلة سرية : “اليوم ليس هناك من هو أكبر من أوليانوف في الثورة”، و من تم اعتبر أنه من المناسب تنظيم اغتياله، و في الخارج حصل تفاهم مع جماعة “تحرير العمل” أي بليخانوف، أكسلرود، فيرازاسوليتش لإصدار مشترك لجريدة “إسكرا”، أما مخطط النشر فقد أنجزه لينين بالكامل. هكذا، في دجنبر 1900، ظهر العدد الأول لجريدة “إسكرا” (الشرارة) الذي كتب تحت عنوانه هذا الشعار: “من الشرارة يولد اللهيب”، ذلك الشعار الذي استوحاه لينين من جواب الدسمبريين (ثوريون روس انبثقوا من النبالة، قاموا في دجنبر 1825 بالتمرد ضد الأوتوقراطية و القنانة، و جوابا على الشاعر بوشكين، الذي وجه لهم رسالة يحييهم و هم في سيبيريا حيث كانوا يقبعون).
بطبيعة الحال أيقظت “إسكرا” اللهيب الثوري الكبير، الذي التهم الملكية القيصرية والنبلاء وكبار الملاكين العقاريين، بالإضافة إلى سلطة البورجوازية.
6- الأرضية السادسة: تشكل الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي لروسيا. ظهور التيارين المنشفي والبلشفي داخل الحزب 1901 – 1904
1-انطلاق الحركة الثورية في روسيا 1901 – 1904:
في نهاية القرن 19، انفجرت في أوروبا أزمة صناعية ستنعكس مبكرا على روسيا، ففي سنوات الأزمة من 1900 إلى 1903، حوالي 3000 مؤسسة كبيرة وصغيرة أغلقت أبوابها، فوجد أكثر من 100 ألف عامل أنفسهم بدون عمل، بينما الباقون في العمل عرفوا انخفاضا كبيرا في أجورهم، كما انتزعت البورجوازية من العمال تلك المكتسبات التي تحققت عبر إضرابات اقتصادية عنيدة. و رغم الأزمة الصناعية و البطالة لم تضعف الحركة العمالية، فتطورت نضالات العمال، التي أخذت أكثر فأكثر طابعا ثوريا، فانتقلوا من الإضرابات الاقتصادية إلى الإضرابات السياسية، ثم خرجوا في المظاهرات مبلورين مطالب سياسية من أجل الحريات الديموقراطية، ثم أطلقوا شعار “لتسقط الأوتوقراطية القيصرية” و تطورت المواجهات بين العمال و الفرق العسكرية للنظام القيصري، حيث استعمل العمال الحجارة و القضبان الحديدية للدفاع عن أنفسهم، لكن سيتم تكسير مقاومتهم، فتبع ذلك اعتقال 800 عامل، جزء كبير منهم ألقي به في السجون و المعتقلات. لكن كل ذلك ترك تعاطفا كبيرا وسط العمال. وفي سنة 1902، انطلق إضراب كبير في روستوف – سوغ- دون، وكان المضربون الأوائل هم عمال السكك الحديدية، والتحق بهم مباشرة عمال العديد من المعامل، وخلال أيام عديدة انعقدت خارج المدينة تجمعات ضمت حوالي 30 ألف عامل، وفي هذه التجمعات أخذ الخطباء الكلمة، وقرئت بيانات وإعلانات الاشتراكيين الديموقراطيين، ولم تكف قوات الشرطة و الكوزاك في تفريق آلاف العمال، و قتلت الشرطة العديد من العمال، و تلا ذلك مظاهرات جماهيرية كبيرة خلال جنازاتهم، و لم يكسر الإضراب إلا بعد دخول القوات المسلحة القيصرية. إن إضراب عمال روستوف قادته لجنة الحزب العمالي الاشتراكي الديموقراطي لروسيا في منطقة الدون.
انتشرت الإضرابات أيضا سنة 1903، ففي خلال هذه السنة انفجرت إضرابات سياسية جماهيرية في الجنوب و وصلت إلى كرانسكوكازيا في مدن باكو و تيفليس و باتوم، و في المدن الكبرى في أوكرانيا مثل أوديسا و كييف، و نجد الآن أنه أصبحت أكثر فأكثر اللجان الاشتراكية الديموقراطية هي التي تقود النضال السياسي للعمال. هكذا، وقفت الطبقة العاملة في روسيا من أجل النضال الثوري ضد النظام القيصري، وانتقلت عدوى النضالات والإضرابات إلى الفلاحين، ففي ربيع وصيف 1902 في أوكرانيا، مناطق مولطافا و خاركوف، و في أماكن أخرى، أطلق الفلاحون حركة واسعة أحرقوا فيها أراضي الملاكين العقاريين و استولوا على أراضيهم و قتلوا منهم العديد. لقد تم قمع الحركة عبر إطلاق النار والاعتقالات وإلقاء القادة المنظمين في السجون.
لقد أظهرت الحركة الثورية للعمال والفلاحين أن الثورة نضجت، وأنها قريبة، وتحت تأثير هذه الأحداث، انفجرت الحركة الطلابية الروسية، وتم إغلاق الجامعات ورمي مئات الطلبة في السجون، وهكذا، كجواب على ذلك، أغلقت مؤسسات التعليم العالي أبوابها، ونظم إضراب عام ضم 30 ألف طالب، وقد كان للقمع الذي تعرض له الطلبة تأثيره على البورجوازيين الليبيراليين وحتى بعض النبلاء، فتصاعدت الاحتجاجات ضد الحكومة القيصرية. إن هذه الحركة اللبرالية ستؤدي إلى تأسيس جماعة “التحرير”، التي ستشكل النواة الرئيسية الأساسية للحزب البورجوازي في روسيا أي الحزب الدستوري الديموقراطي (الكاديت).
ظلت حركة العمال في تطور مستمر، و تعرضت لقمع شرس من المؤسسات القمعية للنظام، و حاولت الأوخرانا تأسيس منظمات عمالية تحت وصاية الدرك و البوليس، أطلق عليها المناضلون اسم “المنظمات الاشتراكية البوليسية” و كذلك منظمات زوباطوف، وقد كان الهدف من هذا التأسيس إقناع العمال بعدم التعاطي للسياسة و لا القيام بالثورة، بل أن القيصر في جانب العمال، و أن الحكومة مستعدة لمساعدتهم من أجل تحقيق مطالبهم الاقتصادية، و اقتداء بالنموذج الزوباطوفي، تم في سنة 1904 تأسيس من طرف البوب غابون المنظمة المسماة “اتحاد عمال المعامل الروسية في بترسبورغ”، لكن هذه المحاولات كلها ستفشل أمام زخم الحركة العمالية التي كنست هذه المنظمات البوليسية.
2-مخطط لينين من أجل بناء حزب ماركسي. انتهازية الاقتصادويين. نضال “إسكرا” من أجل مخطط لينين. كتاب لينين “ما العمل؟”: الأسس الإيديولوجية للحزب الماركسي
رغم المحاولة الأولى لبناء الحزب، فلم يتشكل حزب اشتراكي ديموقراطي في روسيا، والحال أنه بينما عرفت سنوات 1884 – 1894 انتصارا على الشعبوية وإعدادا إيديولوجيا للاشتراكية الديموقراطية، بل وأنه في سنوات 1894 كانت هناك محاولة لتشكيل حزب اشتراكي ديموقراطي، أما في الفترة الممتدة من 1898 فقد عرفت تزايدا في الغموض الإيديولوجي والتنظيمي.
إن انتصار الماركسية على الشعبوية، إضافة إلى تزايد النضال الثوري للطبقة العاملة، أعطيا الحق للماركسيين فازداد تعاطف الشبيبة الثورية مع الماركسية، فأصبحت الماركسية موضة، والنتيجة أنه داخل المنظمات الماركسية وصلت أعداد كبيرة من الشباب المثقفين الثوريين غير ملمين بالنظرية، وبدون خبرة في الميدان السياسي والتنظيمي ذوي ماركسية سطحية استمدوها من الكتابات الانتهازية للماركسيين الشرعيين، التي كانت تملأ الصحافة. كل هذا ساهم في تخفيض المستوى النظري والسياسي للمنظمات الماركسية، وأدخل إليها العقلية الانتهازية للماركسيين الشرعيين، فانتشر التذبذب الإيديولوجي والسياسي والغموض في مجال التنظيم.
إن تصاعد الحركة العمالية وظهور ملامح الثورة، أصبح يفرض ضرورة بناء حزب واحد للطبقة العاملة، حزب ممركز قادر على قيادة الحركة الثورية، لكن التنظيمات المحلية واللجان والمجموعات والحلقات المحلية، كانت في وضع مأساوي، فعدم اتفاقهم و وحدتهم في الميدان التنظيمي، و خلافاتهم الإيديولوجية، جعلت من مهمة خلق الحزب مهمة صعبة بشكل كبير. إن المشكلة لم تكن في الأساس تعود إلى القمع، بل لكون جزء كبير من اللجان المحلية ومناضلوها لم يكونوا مستعدين لمعرفة أي شيء يخرج عن نطاق عملهم المحلي، فقد ألفوا الشتات والتجزئة والغموض الإيديولوجي، وكانوا يعتقدون أنه بالإمكان التخلي عن فكرة الحزب الواحد الممركز.
هكذا، ولخلق حزب ممركز، كان لزاما هزم هذا التأخر وهذا المستوى من الوعي والتنظيم، بل الأخطر من هذا، كانت هناك جماعة لا باس بها تمتلك جرائد مثل “رابوتشايا ميسل” (الفكر العمال) في روسيا، و “رابوتسي – ديلو” (القضية العمالية) في الخارج. هؤلاء وأولئك، كانوا يبررون نظريا التفتيت التنظيمي والغموض الإيديولوجي للحزب، و بل واعتبروا أن بناء حزب واحد ممركز للطبقة العاملة هو أمر غير مفيد.
-لأجل خلق حزب سياسي واحد للبروليتاريا، كان لابد من هزم الاقتصادويين، ومرة أخرى ألقى التاريخ على لينين مهمة القيام بذلك.
كانت الخلافات كثيرة حول معرفة من أين نبدأ من أجل بناء حزب واحد للطبقة العاملة:
-كان البعض يعتقد أنه لبناء الحزب، يكفي أن يعقد المؤتمر الثاني، الذي سيجمع المنظمات المحلية فيتأسس الحزب.
-أما رأي لينين فقد كان يعارض ذلك، لكونه، كان يرى أنه قبل جمع المؤتمر، كان لازما أن يتم تحديد الأهداف ومهام الحزب بوضوح، أي معرفة أي حزب نريد، أي أنه يجب التميز إيديولوجيا عن الاقتصادويين، وكذلك القول بالحزب بصدق وصراحة أن هناك رأيان مختلفان حول أهداف ومهام الحزب:
*رأي الاقتصادويين ورأي الاشتراكيين- الديموقراطيين.
كان على الاشتراكيين الديموقراطيين الثوريين أن يقوموا بدعاية واسعة لمواقفهم كما يفعل الاقتصادويون للدفاع عن آرائهم. كان يجب كذلك السماح للمنظمات المحلية بالاختيار بشكل واضح بين الموقفين، ويقول لينين في هذا الصدد:
“قبل أن نتحد، ومن أجل أن نتحد، علينا أولا أن نميز أنفسنا بشكل حازم وحر”.
*أفكار لينين حول الجريدة:
يرى لينين أنه من أجل خلق حزب سياسي للطبقة العاملة، يجب البدء بتأسيس جريدة كفاحية لعموم روسيا، تقوم بالدعاية والتحريض لصالح المفاهيم والتصورات الاشتراكية- الديموقراطية: خلق الجريدة هو الخطوة الأولى. ويقول لينين في مقالته الشهيرة “من أين نبدأ؟”، حيث سطر خطوة دقيقة لبناء الحزب، خطة سيطورها في كتابه الشهير “ما العمل؟”.
“من أجل خلق حزب الطبقة العاملة، يجب أن يكون الانطلاق لنشاطنا والخطوة العملية الأولى نحو خلق التنظيم المرغوب فيه، فإن الخيط الأساسي الرابط، الذي نستطيع عن طريق الإمساك به، تطوير وتعميق وتوسيع هذا التنظيم بدون توقف: يجب أن يكون تأسيس جريدة سياسية لعامة روسيا، فبدون هذه الجريدة، فكل دعاية وتحريض منهجي متنوع ومخلص للمبادئ هو أمر مستحيل”.
إن فكرة لينين إذن، هي أن الجريدة لا تقوم بالتجميع الإيديولوجي للحزب، بل كذلك تجميع المنظمات المحلية داخل الحزب. إن شبكة المتعاونين ومراسلي الجريدة ممثلي التنظيمات المحلية، ستكون العمود الفقري، الذي على أساسه يتجمع الحزب، ويرى لينين أن:
“ليست الجريدة داعية، محرض جماعي فقط، بل كذلك منظم جماعي. إن شبكة العملاء هذه، ستكون بمثابة الهيكل العظمي للتنظيم الذي نحتاجه بالضبط : كبيرة بما يكفي لتعم البلد كله، واسعة بما يكفي و متنوعة، لتحقيق تقسيم عمل دقيق و مفصل، حازمة بما يكفي لتعرف، في كل الظروف ، و مهما كانت المنعطفات و المفاجآت كيف تفعل عملها بدون خلل ، مرنة بما يكفي لتعرف، من جهة، تلافي المعركة في ميدان مفتوح ضد عدو متفوق قام بتجميع كل قواه في نقطة واحدة، و من جهة أخرى، معرفة كيفية الاستفادة من غياب المرونة لدى هذا العدو ، و مهاجمته في المكان و اللحظة التي لا ينتظرها” (لينين، مجلد 4، ص 12، الطبعة الروسية) (“ما العمل؟”) .
لقد قامت “إسكرا” بهذا الدور، عندما أصبحت الجريدة السياسية الموجهة لعامة روسيا، وقامت بتهيئة وإعداد تجمع الحزب في الميدان الإيديولوجي والتنظيمي.
فيما يخص بنية الحزب نفسه وتكوينه، اعتبر لينين أنه يجب أن يتشكل من عنصرين تكوينيين:
ا- إطار محدود وضيق، من مناضلين قارين، يتشكلون أساسا من المحترفين الثوريين، بمعنى آخر من مناضلين أحرار من كل انشغالات تهم عملهم داخل الحزب، يتوفرون على الحد الأدنى الضروري من المعارف النظرية والتجربة السياسية وعادة التنظيم، وفن النضال ضد البوليس القيصري، أي فن الإفلات من متابعاته.
ب- من شبكة واسعة من التنظيمات المحيطة بالحزب، تضم عدد كبيرا من المنتسبين، محاطين بتعاطف ودعم مئات الآلاف من العمال.
يقول لينين:
“أؤكد:
1- لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية صلبة بدون تنظيم للقادة قار، ويضمن استمرارية العمل.
2- وبقدر ما يتم جر الجماهير بعدد كبير وعفوي في النضال … يكون ملزما أكثر وضروريا أن تكون منظمة من ذلك النوع، بقدر ما تكون هذه الأخيرة صلبة.
3- يجب أن تتشكل هذه المنظمة بشكل رئيسي من أناس مهنتهم النشاط الثوري.
4- بأنه، وفي بلد أوتوقراطي، وبقدر ما نحد من أعداد هذا التنظيم، لحد ألا نقبل إلا ثوريين محترفين، تعلموا النضال ضد البوليس السياسي، بقدر ما يكون من الصعب الإمساك بمثل هذه المنظمة و
5- بقدر ما يكون العدد كبيرا يضم العمال وعناصر من طبقات اجتماعية أخرى، اللذين سيساهمون في الحركة، ويناضلون بشكل نشيط.
(لينين، الأعمال المختارة، مجلد 1، ص 276)
وفيما يخص طابع الحزب، الذي يجب خلقه، ودوره تجاه الطبقة العاملة، وكذلك أهدافه ومهامه، اعتبر لينين أن الحزب يجب أن يكون طليعة الطبقة العاملة، وأن يكون القوة القائدة للحركة العمالية، قوة موحدة (بكسر الحاء)، وموجهة لنضال طبقة البروليتاريا.
الهدف النهائي للحزب:
القضاء على الرأسمالية وبناء الاشتراكية.
الهدف المباشر:
قلب النظام القيصري وبناء نظام ديموقراطي، وبما أنه من المستحيل قلب الرأسمالية بدون قلب مسبق للقيصرية، فإن المهمة الأساسية للحزب في هذه اللحظة هو دفع الطبقة العاملة والشعب بكامله من أجل النضال ضد القيصرية، أي إطلاق الحركة الثورية للشعب ضد النظام القيصري وإسقاطه، باعتباره عائقا أوليا وجادا في طريق الاشتراكية.
يقول لينين:
“لقد ألقى التاريخ على عاتقنا الآن مهمة مباشرة، الأكثر ثورية من كل المهام المباشرة للبروليتاريا في كل البلدان.
إن إنجاز هذه المهمة وتحطيم هذا الحصن الأكثر قوة، ليس فقط بالنسبة للرجعية الأوروبية، بل بالنسبة كذلك للرجعية الأسيوية. إن هذا يجعل من البروليتاريا الروسية طليعة البروليتارية الثورية العالمية” (نفس المرجع السابق، ص 195).
كان هذا هو مخطط لينين من أجل خلق حزب الطبقة العاملة في ظروف روسيا القيصرية الأوتوقراطية.
في المعركة الحاسمة ضد الاقتصادوية سيلعب كتاب “ما العمل؟” دورا كبيرا في هزم هذا التيار إلى الحد الذي بعد نشره في مارس 1902، وصولا إلى المؤتمر الثاني للحزب، لم يعد هناك مواقف إيديولوجية للاقتصادويين، لحد أن كلمة اقتصادوي أصبحت سبة داخل الحزب. لقد كانت هزيمة إيديولوجية شاملة للاقتصادوية، هزيمة للإيديولوجية الانتهازية والذيلية والعفوية.
إن قيمة هذا الكتاب لا تعود فقط إلى دوره في هزم الاقتصادوية، بل كذلك لإسهامه الكبير في تطوير الفكر الماركسي:
1- لينين هو الأول في تاريخ الفكر الماركسي الذي قام بتعرية جدور وأصول الإيديولوجية الانتهازية، حيث بين أنها تعود قبل كل شيء إلى الانبطاح أمام عفوية الحركة العمالية، والتنقيص من أهمية الوعي الاشتراكي في هذه الحركة.
2- لقد رفع لينين عاليا من أهمية النظرية والعنصر الواعي داخل الحزب، الذي، باعتباره قوة، يقود الحركة العمالية العفوية ويبصمها بالروح الثورية.
3- لقد قام لينين بتقديم المبررات الضرورية لقيام الحزب الماركسي، باعتباره اندماجا بين الاشتراكية والحركة العمالية.
4- قدم لينين بشكل عبقري تحليلا للأسس الإيديولوجية للحزب الماركسي:
← إن المبادئ النظرية التي تم تطويرها في كتاب “ما العمل؟” هي التي شكلت لاحقا أساس إيديولوجية الحزب البلشفي.
لقد كانت المهمة الأساسية ل “إسكرا” هي بلورة مشروع برنامج الحزب (برنامج الحزب العمالي)، وعموما عرض مركز ومختصر علمي للأهداف والمهام التي يطرحها نضال الطبقة العاملة.
إن البرنامج يحدد الهدف النهائي للحركة الثورية للبروليتاريا، كما يحدد المطالب التي يناضل الحزب من أجلها في طريقه نحو هذا الهدف.
خلال النقاش من أجل صياغة هذا المشروع، ظهرت خلافات داخل هيئة تحرير “إسكرا” بين لينين و بليخانوف و باقي أعضاء الهيئة، استطاعت الهيئة التغلب عليه مؤقتا، ذلك أن لينين استطاع أن يدخل نقطة هامة في البرنامج حول دكتاتورية البروليتاريا، و حول الدور القائد للطبقة العاملة في الثورة.
وفيما يخص البرنامج الزراعي، كان لينين هو من قام بصياغته بالكامل، وظهر خلاف كذلك في مسألة تأميم الأرض بين لينين و بليخانوف.
7- الأرضية السابعة: المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي – الديموقراطي لروسيا. تبني البرنامج والقانون الأساسي للحزب. خلق حزب واحد. الخلافات في المؤتمر وظهور تيارين: البلاشفة و المناشفة داخل الحزب
في الفترة الممتدة من تأسيس الجريدة إلى حدود انعقاد المؤتمر الثاني، انتصرت المبادئ اللينينية ومشروع “إسكرا” التنظيمي، واستطاع توجه “إسكرا” أن ينتصر داخل المنظمات الاشتراكية – الديموقراطية في روسيا. هكذا إذن، تهيأت ظروف انعقاد المؤتمر الثاني.
في 17 (30) يوليوز 1903، افتتح المؤتمر الثاني للحزب “العمالي الاشتراكي – الديموقراطي لروسيا”، الذي انعقد في الخارج في ظروف السرية، وابتدأ المؤتمر في بروكسيل، لكن البوليس والشرطة البلجيكية دعت المندوبين إلى مغادرة بلجيكا، فانتقل المؤتمر إلى لندن، وقد حضر المؤتمر 43 مندوبا يمثلون 26 منظمة، فكل لجنة كان لها الحق في إرسال مندوبين، وبعضها أرسل واحدا فقط. هكذا، كان 43 مندوبا يتوفرون على 51 صوتا معدودا. لقد كانت مهمة المؤتمر الأساسية خلق حزب حقيقي على أساس مبادئ وأسس التنظيم التي بلورتها “إسكرا”.
لقد كان تركيب المؤتمر متنافرا، فرغم هزيمتهم، استطاع الاقتصادويون، بلباس جديد، أن يسربوا بعضا من مندوبيهم، بينما لم يكن “البونديون” يتميزون عن الاقتصادويين إلا في الكلام، وكانوا اقتصادويين في الحقيقة.
هكذا ضم المؤتمر كلا من أنصار “إسكرا” وخصومها، وكان أنصار “إسكرا” يشكلون 33 مندوبا، أي الأغلبية، إضافة إلى أن كل من كانوا يسمون بالإسكريين، كان بعضهم ليس بإسكري حقيقي، وانقسم المؤتمر إلى عدة مجموعات. أنصار لينين أو اللذين كانوا يسمون بالإسكريين الحازمين، وكان لهم 24 صوتا، بينما كان لدى مارتوف، أو ما يسمون بالإسكريين غير المستقرين تسعة أصوات، وجزء من المندوبين كان يتأرجح بين “إسكرا” وخصومها، ويضم 10 أصوات مشكلا الوسط، أما خصوم “إسكرا” فكان لهم 8 صوتا، 3 للاقتصادوين و 5 للبونديين.
لقد قام لينين بدور كبير من أجل انتصار خط “إسكرا”، وكان النقاش حادا حول مسألة تبني البرنامج، وقد أثارت مسألة دكتاتورية البروليتاريا معارضة الاتجاه الانتهازي في المؤتمر، كما قضايا أخرى في البرنامج. وقد برر الانتهازيون رفضهم لدكتاتورية البروليتاريا باعتبار أن العديد من الأحزاب الاشتراكية – الديموقراطية في الخارج لا يستعملون هذا المصطلح في برنامجهم، كما رفضوا إدخال المطالب المتعلقة بالمسألة الفلاحية. لقد كان الانتهازيون لا يريدون الثورة، ومن هنا إبعادهم لحليف الطبقة العاملة: الفلاحون، التي كانوا يكنون لها العداء، أما مندوبو البند والاشتراكيون – الديموقراطيون البولونيون فقد ناهضوا حق الأمم في تقرير مصيرها، وبالنسبة للينين، فإن رفض هذا المبدأ كان يعني القطيعة مع الأممية البروليتارية، وفي الأخير صادق المؤتمر على برنامج “إسكرا”.
لقد تضمن البرنامج جزءان: برنامج للحد الأقصى وبرنامجا للحد الأدنى:
-برنامج الحد الأقصى: الثورة الاشتراكية، إسقاط سلطة الرأسماليين، إقامة دكتاتورية البروليتاريا.
-برنامج الحد الأدنى: حدد المهام المباشرة للحزب، أي التي تسبق دكتاتورية البروليتاريا، وإسقاط النظام الرأسمالي، وهي إسقاط النظام الأوتوقراطي القيصري، وبناء نظام جمهوري ديموقراطي، تحديد ساعات العمل في ثماني ساعات، القضاء على بقايا القنانة في البادية، إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين التي انتزعت منهم من طرف الملاكين العقاريين. غير البلاشفة لاحقا مطلب إعادة توزيع الأراضي بمطلب انتزاع كل الأراضي الإقطاعية، وسيظل هذا البرنامج إلى حدود المؤتمر الثامن، بعد انتصار الثورة البروليتارية فتم تبني برنامجا جديدا.
*الخلاف حول قوانين الحزب.
أثار الفصل الأول من القوانين حول عضوية الحزب خلافات عنيفة. من يكون عضوا في الحزب، وكيف يكون تكوين الحزب، وماذا يكون الحزب في مجال التنظيم:
كل منظم أو شيء ما بدون شكل.
كانت هذه هي الأسئلة التي أثارها الفصل الأول من القوانين.
لقد تصارعت فرمولتان، فرمولة لينين التي ساندها بليخانوف و الإسكريون الحازمون، و فرمولة مارتوف التي ساندها أكسلرود و زاسوليتش و الإسكريون غير المستقرين و تروتسكي، وكل العناصر الانتهازية في الحزب.
1- كانت فرمولة مارتوف تعتبر الاعتراف ببرنامج الحزب والمساندة المادية كذلك كشروط ضرورية للانتماء للحزب، لكنها ترفض شرط الانتماء إلى إحدى تنظيماته من أجل الانتماء للحزب، وبالتالي بإمكان عضو الحزب ألا يكون عضوا في إحدى تنظيماته.
2- كان لينين ينظر إلى الحزب كفصيل منظم، حيث لا يعطي الأعضاء لأنفسهم العضوية فيه، بل يقبلون في الحزب عن طريق إحدى تنظيماته، وبالتالي يخضعون لانضباط الحزب، وكان مارتوف ينظر بعكس ذلك.
يفتح تصور مارتوف الباب واسعا للعناصر المتذبذبة غير البروليتارية.
عشية الثورة الديموقراطية البورجوازية كان العديد من المثقفين البورجوازيين يظهرون تعاطفهم مع الثورة، بل وفي بعض الأحيان يقدمون بعض الخدمات للحزب، لكن هؤلاء لا ينتمون إلى أي تنظيم حزبي (اشتراكي – ديموقراطي) ولا يخضعون لانضباط الحزب، ولا ينجزون المهام المحددة من طرف هذا الأخير، وبالتالي لا يعرضون أنفسهم إلى المخاطر التي تنتج عن إنجاز هذه المهام. إن هؤلاء هم من يريد مارتوف وأصدقاؤه أن يكونوا أعضاء في الحزب، وبالتالي إعطاؤهم الحق وإمكانية التأثير على الحزب، وذهب المناشفة بعيدا في طرحهم حتى أعطوا صفة عضو الحزب لكل من يخوض إضرابا.
الخلاصة، فبدل حزب مونولوتيكي مكافح وذو أشكال تنظيمية واضحة، يريد أنصار مارتوف حزبا غامض الملامح والحدود، وبدون شكل ليس بإمكانه أن يكون حزبا مكافحا، وفي هذه النقطة تخلى الإسكريون غير المستقرين عن الإسكريين الحازمين وتحالفوا مع الوسط مما أعطى الأغلبية لمارتوف في هذا الموضوع، وجاء التصويت على الشكل التالي: 28 صوتا ضد 22 صوتا وامتناع واحد.
تبنى المؤتمر الفصل الأول للقوانين كما بلوره مارتوف، ثم جاءت مرحلة انتخاب الأجهزة القيادية للحزب وأعضاء هيئة تحرير الجريدة المركزية للحزب “إسكرا” وأعضاء اللجنة المركزية.
قبل المرور إلى التصويت على الهيئات القيادية دخل المؤتمر في نقاش موضوع “البوند”، الذي كان يدعو إلى إعطائه وضعية خاصة داخل الحزب، أي الاعتراف بكونه الممثل الوحيد لليهود في روسيا. إن إعطاء مثل هذا الحق كان يعني تقسيم الحزب حسب الانتماء القومي والطائفي، وبالتالي التخلي عن وحدة الطبقة العاملة وتنظيماتها على أساس مبدأ ترابي. رفض المؤتمر قومية البوند في المسألة التنظيمية، وهنا غادر البونديون المؤتمر، وفعل مندوبان اقتصادويان نفس الشيء عندما رفض المؤتمر اعتبار اتحادهم في الخارج كممثل للحزب في الخارج، وسيغير مغادرة سبعة من الانتهازيين ميزان القوى لصالح اللينينيين.
أعطى لينين أهمية قصوى لتكوين الهيئات المركزية للحزب، بمعنى آخر، انتخاب محترفين ثوريين صلب إلى اللجنة المركزية، بينما أراد أنصار مارتوف ملأ اللجنة المركزية بالعناصر غير الثابتة و الانتهازية ، و تبعت لينين الأغلبية في المؤتمر ، فانتخب أنصار لينين في اللجنة المركزية، و باقتراح من لينين تم انتخاب هيئة تحرير “إسكرا”، فضمت إلى جانب لينين بليخانوف و مارتوف، و اقترح مارتوف أن يعاد انتخاب الأعضاء القدامى لهيئة التحرير، اللذين أصبحوا من أنصار مارتوف، لكن المؤتمر رفض مقترح مارتوف، فبعد التصويت على مقترح لينين أعلن مارتوف بأنه لن يكون عضوا في هيئة تحرير الجريدة، و بهذا التصويت انقسم الحزب إلى أغلبية و أقلية، فسميت الأغلبية بالبولشفيك نسبة للكلمة الروسية بول شين س تفو (الأغلبية بالروسية) و الأقلية سموا بالمنشفيك نسبة للكلمة الروسية من شين تس فو (تعني الأقلية).
حصيلة المؤتمر الثاني
1-كرس المؤتمر الثاني انتصار الماركسية على الانتهازية المعلنة (الاقتصادوية).
2-صادق المؤتمر الثاني على البرنامج والقوانين، فخلق حزبا اشتراكيا – ديموقراطيا، أي حزبا واحدا.
3-أظهر المؤتمر الثاني في ميدان التنظيم خلافات خطيرة قسمت الحزب إلى منشفيك و بولشفيك. دافع البلاشفة عن المبادئ التنظيمية للاشتراكية – الديموقراطية الثورية، بينما سقط المنشفيك في البرك الآسنة للانتهازية.
4-أظهر المؤتمر الثاني أنه بعد سقوط الاقتصادويين أخذ مكانهم انتهازيون جدد هم المنشفيك.
5-تردد المؤتمر الثاني، فلم يكن في مستوى القضايا التي يطرحها التنظيم بإعطائه الأغلبية للمناشفة في مسألة البند الأول، كما لم يستطع فضح انتهازية المناشفة في مجال التنظيم، وبالتالي عزلهم داخل الحزب مما ساعد على استمرار الصراع إلى غاية 1912.
8-الأرضية الثامنة: الأعمال الانشقاقية للزعماء المناشفة وتفاقم الصراع داخل الحزب بعد المؤتمر الثاني. انتهازية المناشفة. كتاب لينين “خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء”. مبادئ الحزب الماركسي في مجال التنظيم.
بعد المؤتمر الثاني تفاقم الصراع بين البلاشفة و المناشفة، فقد بدأ المناشفة يعملون على ضرب قرارات المؤتمر الثاني، و الاستيلاء على مراكز الحزب، مطالبين أن يكون ممثلوهم أغلبية في لجن التحرير و متساوين مع البلاشفة في اللجنة المركزية، الشيء الذي رفضه البلاشفة، فقام المناشفة بتكوين تنظيمهم التكتلي داخل الحزب، و كان مارتوف و تروتسكي و إكسلرود زعماء لهم، و كما قال مارتوف :”لقد فجرنا انتفاضة ضد اللينينية”. وتمركزوا كذلك في الخارج داخل العصبة، حيث كان التسعة أعشار يتشكلون من المثقفين المهاجرين المنفصلين عن العمل في روسيا، و من هنا أطلقوا النار على الحزب و لينين و اللينينيين، و بليخانوف، الذي كان في المؤتمر الثاني إلى جانب لينين تحول إلى مساندة المناشفة، لقد أخافه المناشفة بتهديدهم حول الانشقاق، فأراد أن يصالحهم مهما كان الثمن، وهنا سقط بليخانوف ضحية لأخطائه الانتهازية القديمة، و من داعية، إلى التصالح مع المناشفة الانتهازيين، أصبح بليخانوف نفسه منشفيا، وأصبح يدعو إلى عودة قدامى هيئة التحرير من المناشفة، ولم يقبل لينين هذا الشرط، فانسحب من هيئة التحرير من أجل دعم مواقفه داخل اللجنة المركزية للحزب، ومن هنا هزم الانتهازيين، و بمبادرة من تلقاء نفسه، عين بليخانوف هيئة تحرير “إسكرا” جديدة تضم قدامى المناشفة. هكذا، وابتداء من العدد رقم 52 ل “إسكرا، حول المناشفة الجريدة إلى جريدة ناطقة باسمهم، ومن ثمة نشر تصوراتهم الانتهازية، ومن هنا أصبح الحديث عما يسمى ب “إسكرا” القديمة، “إسكرا” اللينينية البلشفية، و “إسكرا” الجديدة “إسكرا” المنشفية الانتهازية. هكذا أصبحت “إسكرا” جريدة للنضال ضد لينين وضد البلاشفة، وجريدة للدعاية للانتهازية المنشفية في الميدان التنظيمي، وبتحالف مع الاقتصادويين و البونديين، تصاعدت الحملة ضد لينين و البلاشفة، وانضم إليها بليخانوف، الذي انكشف كمنشفي انتهازي. وهكذا وقع ما كان في الحسبان ومنطق الأشياء، فكل من يؤكد على التصالح مع الانتهازيين سقط هو نفسه في الانتهازية، وسار خط “إسكرا” الجديدة على نقيض قرارات المؤتمر الثاني، وتم الإعلان على أن مطالبة الأعضاء القادة أو المنتسبون إلى نفس الانضباط من الحزب باعتباره قنانة، وأن ما يصلح للحزب ليس المركزية، بل الاستقلالوية، التي تعطي للأعضاء ومنظمات الحزب الحق في عدم تنفيذ قراراته. كان هذا تدميرا لروح الحزب وانضباط الحزب، ونفخا ومدحا لفردانية المثقف، وتبريرا لروح اللانضباط الفوضوي.
هكذا أصبح المناشفة بعد المؤتمر الثاني يجرون الحزب إلى الوراء، نحو التشتت التنظيمي وروح الحلقات الصغيرة، ونحو طرق الحرفية في العمل، وأصبح من اللازم خوض معركة جديدة والقيام برد حاسم ضد المناشفة، وهنا جاء دور كتاب لينين “خطوة إلى الأمام خطوتين إلى الوراء” الذي صدر في ماي 1904، وإذا كان كتاب ما العمل؟ قد وضع الأسس الإيديولوجية للحزب الماركسي، فإن الأسس التنظيمية للحزب سيضعها لينين في كتابه هذا.
*فما هي المبادئ التي ستصبح مبادئ التنظيم في الحزب البلشفي؟
1)الحزب الماركسي هو حزب لا يتجزأ من الطبقة العاملة، إنه فصيل، لكن داخل الطبقة العاملة هناك العديد من الفصائل، فلا يمكن إطلاق فصيل الطبقة العاملة أو حزبها على أي فصيل كيفما شاء، ذلك أن الحزب يتميز عن الفصائل الأخرى في الطبقة العاملة، إنه الفصيل الطليعي، الفصيل الواعي، الفصيل الماركسي للطبقة العاملة، الفصيل المسلح بمعرفة الحياة الاجتماعية، و معرفة قوانين التطور الاجتماعي، و معرفة قوانين صراع الطبقات، و بالتالي قادر على إرشاد الطبقة العاملة و قيادتها في نضالها، و بالتالي لا يجب الخلط بين الحزب و الطبقة العاملة، و لا خلط الجزء مع الكل، فمثلا، لا يمكن أن نعتبر أن كل مضرب هو عضو في الحزب، لأن من يخلط الحزب مع الطبقة ينزل بمستوى وعي الحزب إلى مستوى كل مضرب، و من ثمة يحطم الحزب كطليعة واعية للطبقة العاملة . إن مهمة الحزب ليست النزول بالحزب إلى مستوى كل مضرب، بل هو الرفع من مستوى الجماهير العمالية، وكل مضرب إلى مستوى الحزب.
2)ليس الحزب طليعة فقط، طليعة واعية للطبقة العاملة، بل كذلك طليعة منظمة للطبقة العاملة، تعمل بانضباط إلزامي لأعضائها، ومن ثمة فهناك ضرورة لأعضاء الحزب أن يشاركوا في إحدى منظماته. لو لم يكن الحزب فصيلا منظما للطبقة العاملة ولا نظام للتنظيم، بل مجرد مجموعة من الأفراد يعلنون أنفسهم أعضاءا في الحزب بدون الانتماء إلى إحدى منظماته، أي غير منظمين، وبالتالي غير ملزمين بالانضباط إلى قرارات الحزب، فلن تكون هناك في الحزب إرادة واحدة، ولن يستطيع تحقيق وحدة أعضائه، ومن ثمة عدم قدرته على قيادة نضال الطبقة العاملة. يؤكد لينين هنا، على أهمية وحدة الإرادة، وحدة العمل و وحدة الانضباط.
يقول لينين:
“قولا، تدافع فرمولة مارتوف عن مصالح أوسع الفئات البروليتارية، و في الواقع ستخدم هذه الفرمولة مصالح المثقفين البورجوازيين، اللذين يخشون الانضباط و التنظيم البروليتاريين. لن يجرأ أحد على إنكار أن ما يميز بصفة عامة المثقفين باعتبارهم فئة خاصة في مجتمعات الرأسمالية المعاصرة هو بالضبط الفردانية وعدم القابلية للانضباط والتنظيم” (المرجع السابق، ص 360).
3)من بين كل تنظيمات الطبقة العاملة الأخريات، فالحزب ليس فقط فصيلا منظما، بل هو “الشكل الأعلى للتنظيم” المطالب بقيادة كل الآخرين.
إن الحزب باعتباره الشكل الأعلى للتنظيم، والذي يضم نخبة الطبقة، المسلحة بالنظرية المتقدمة، وبمعرفة قوانين صراع الطبقات، وبتجربة الحركة الثورية، له كل الإمكانيات من أجل أن يقود، بل عليه واجب القيادة لكل المنظمات الأخرى للطبقة العاملة، ويقول لينين:
“ليس للبروليتاريا من سلاح في نضالها من أجل السلطة سوى التنظيم” (نفس المرجع، ص 414).
4)إن الحزب يجسد ارتباط طليعة الطبقة العاملة مع الجماهير العديدة من هذه الطبقة، ولا يستطيع أن يحيى ويتطور بدون أن يرتبط بالجماهير غير الحزبية، وبدون أن تتعدد هذه الروابط وتتعزز.
يقول لينين:
“من أجل أن يكون حزب اشتراكي ديموقراطي، عليه أن يكسب دعم الطبقة” (لينين، مجلد 6، ص 208، الطبعة الروسية).
5)وحتى يستطيع الحزب أن يرشد الجماهير ويقودها، يجب أن يتنظم حسب مبادئ المركزية، أن يكون له قانون واحد، انضباط واحد، وهيئة قيادية واحدة، يمثلها مؤتمر الحزب، وبين مؤتمرين اللجنة المركزية للحزب، وعلى الأقلية أن تنضبط للأغلبية، ومختلف التنظيمات، والمنظمات الدنيا إلى التنظيمات العليا. بدون كل هذا، ليس هناك إمكانية لتشكل حزب ثوري للطبقة العاملة يستطيع قيادة نضالاتها.
بطبيعة الحال، في التجربة الروسية، حيث كان الحزب في وضعية اللاشرعية، فإن منظمات الحزب لا تستطيع أن تعتمد على مبدأ الانتخاب في القاعدة، فالحزب يجب أن يكون سريا بشكل حازم، وبطبيعة الحال فهذا الشرط ينعدم مع تغير الأوضاع.
6)للحفاظ على وحدة صفوفه، فالحزب في نشاطه العملي عليه تطبيق انضباط بروليتاري واحد ملزم لكل الأعضاء، للقادة، كما للأعضاء العاديين، فليس هناك أعضاء من النخبة وأعضاء ليسوا في النخبة، فعند المناشفة ولدى فردانية المثقف، يعتبر كل تنظيم، وكل انضباط بروليتاري نوعا من القنانة.
وينهي لينين كتابه قائلا:
“أن البروليتاريا ليس لها من سلاح في نضالها من أجل السلطة سوى التنظيم، مقسمة من خلال المنافسة الفوضوية التي تسود في العالم البورجوازي، مثقلة بعمل عبودي من أجل الرأسمال، ملقى بها باستمرار في قاع البؤس الأسود بدون ثقافة، و في ظل الانحلال، يمكن للبروليتاريا أن تصبح، و ستصبح حتما، قوة لا تهزم لهذا السبب الوحيد، و هو أن وحدتها الإيديولوجية، المعتمدة على مبادئ الماركسية، و الملتحمة عن طريق الوحدة المادية للتنظيم، الذي يجمع ملايين العمال في جيش واحد للطبقة العاملة، أمام هذا الجيش، لا يمكن أن تقاومه السلطة المنحلة للأوتوقراطية الروسية، و لا السلطة المتدهورة للرأسمال العالمي، (نفس المرجع، ص414).
← تلكم هي المبادئ الأساسية للتنظيم، التي بلورها لينين في كتابه “خطوة إلى الأمام خطوتان للوراء”.
يكتسي الكتاب أهميته من كونه الأول الذي بلور نظرية التنظيم، كتنظيم قائد للبروليتاريا، بدونه يستحيل النضال من أجل دكتاتورية البروليتاريا، وبصدوره جعل أغلبية مناضلي الحزب يلتفون حول لينين، مما زاد من حقد المناشفة.
وفي سنة 1904، وبمساعدة بليخانوف وخيانة عضوين من البلاشفة هما كراسين و روسكوف، استطاع المناشفة أن يستولوا على اللجنة المركزية للحزب. هكذا، وبعد فقدان “إسكرا” واللجنة المركزية، أصبح البلاشفة في وضع أصعب، فأصبح من الضروري إنشاء جريدة بلشفية وتنظيم مؤتمر جديد، المؤتمر الثالث، من أجل تشكيل لجنة مركزية جديدة، وتصفية الحساب مع المناشفة.
هكذا، وفي غشت 1904 انعقدت في سويسرا تحت قيادة لينين ندوة للبلاشفة أو ندوة 22 بلشفي، وجهت نداء إلى الحزب، الذي سيصبح برنامجا للنضال من أجل عقد المؤتمر الثالث للحزب. وهكذا، وخلال ثلاث ندوات إقليمية للبلاشفة في الجنوب والقوقاز والشمال، تشكل مكتب للجان الأغلبية، الذي بدأ يشتغل من أجل الإعداد للمؤتمر الثالث. وفي 4 يناير 1905 ظهر العدد الأول من الجريدة البلشفية “إلى الأمام” (فبريود). هكذا تشكل داخل الحزب جناحان، بلشفي ومنشفي لكل منهما مركزه وجرائده الخاصة.
الملحق الأول:
*أهم الأعمال عند لينين قبل 1902
-“الحركات الاقتصادية الجديدة في حياة الفلاحين”، كتب سنة 1893.
-“حول ما يسمى بمسالة الأسواق”.
-“من هم أصدقاء الشعب و كيف يحاربون الاشتراكيين- الديموقراطيين” (دور بارز لهذا الكتاب في الهزيمة التاريخية للشعبويين، و آرائهم الاقتصادية، و نهجهم السياسي و تكتيكهم، كما أن لينين في هذا الكتاب قد ابرز الدور التاريخي للبروليتاريا في روسيا، باعتبارها الزعيم السياسي للشعب، و بين الضرورة الموضوعية للاتحاد الثوري بين الطبقة العاملة و الفلاحين، مع تأكيد زعامة البروليتاريا في هذا الاتحاد، باعتبار ذلك شرطا رئيسيا و حاسما في انتصار الثورة الديموقراطية والاشتراكية، كما أنه لأول مرة يفصح لينين عن فكرته القاضية بحتمية وجود حزب ماركسي للبروليتاريا، يأخذ على عاتقه مهمة توجيه الحركة العمالية و تنظيمها.
-“مشروع البرنامج”، نهاية سنة 1895 أثناء مكوثه في السجن.
-“تفسير البرنامج”، صيف 1896.
(هذان الكتابان الأخيران كتبا بالحليب، حيث وضعت سطورهما بين كتاب علني كان في حوزته. سيتم إخراج هذين الكتابين من السجن وتوزيعهما. في “المشروع الأول للبرنامج” عمل لينين على بلورة الهدف النهائي للبروليتاريا، وهو الاستيلاء على السلطة والقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتكوين المجتمع الاشتراكي، كما ضم هذا المشروع المطالب الديموقراطية العامة للاشتراكيين – الديموقراطيين على صعيد الدولة ومطالب العمال والفلاحين).
-مهام الاشتراكيين الديموقراطيين الروس
كتبه لينين في المنفى في سيبيريا أواخر 1897، وأصدرته مجموعة “تحرير العمل” لأول مرة في كراس على حدى في جنيف سنة 1898. أما الطبعة الثانية التي كتب لها لينين هذه المقدمة، فقد صدرت سنة 1902. (لينين، المؤلفات، الطبعة الروسية الخامسة، المجلد 2، ص 454 -470.
-“تطور الرأسمالية في روسيا”، صدر في مارس 1899، و قد صدر بشكل علني و ب 2400 نسخة .لعب هذا الكتاب دورا هاما من الناحية النظرية لفهم طرق نمو الرأسمالية و الصراع الطبقي، ثم إن التحليل يقدم تعليلا سياسيا و اقتصاديا للضرورة الموضوعية و التحالف الطبيعي بين البروليتاريا الثورية و الفلاحين ، و قد شكل هذا ضربة قاضية للانتهازية العالمية، التي طالما أكدت على أن البروليتاريا ليس بمقدورها، بل و لا يتطلب منها النضال في سبيل الاستيلاء على السلطة، ما دام عددها لا يشكل الأغلبية من سكان البلاد، و على قاعدة هذا التحليل العلمي، سيتم بناء تكتيك البلاشفة في ثورة 1905 – 1907.
-“اعتراض الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس”، كتب في أواخر سنة 1899، و تم إخراجه سرا من السجن إلى الخارج، حيث تم طبعه في دجنبر من نفس السنة، و كان سبب ظهور هذا الكتاب هو بروز ما يسمى ب “الكريدو” (العقيدة)، و هو بيان أصدره فريق من الاقتصاديين الروس المشهورين، و قد وقف الاقتصاديون ضد الماركسية الثورية و ضد إنشاء حزب ثوري موحد للطبقة العاملة، و طالبوا بالامتناع عن المطالب السياسية المستقلة للطبقة العاملة، و هنا ندد لينين بتراجعهم عن المبادئ الثورية للماركسية، و لروحهم الانتهازية و خيانتهم لقضية الطبقة العاملة، و تنكرهم لضرورة وجود حزب سياسي بروليتاري مستقل. كما أكد لينين بأن البروليتاريا، من أجل تكوين حزب سياسي خاص بها، هدفه الرئيسي الاستيلاء على السلطة السياسية، إضافة إلى ضرورة مشاركة البروليتاريا في مجالات الحياة السياسية و الاقتصادية و مساعدة الطبقات و الأحزاب التقدمية في نضالها ضد الطبقات و الأحزاب الرجعية، و الوقوف بجانب كل حركة ثورية تكافح ضد النظام القائم، بالإضافة كذلك إلى الدفاع عن كل قومية وجنس يتعرض للاضطهاد، وفي هذا الكتاب، أكد لينين من جديد على الأسس النظرية المتعلقة بالدور القيادي، الذي تلعبه الطبقة العاملة وتحالف هذه الطبقة مع الفلاحين، و وجه لينين نداء إلى الماركسيين الروس للحفاظ على نقاوة النظرية الماركسية، وتجنب تلوثها بأي شكل من أشكال الانتهازية، وبين لينين أن الاقتصادوية ما هي إلا شكل من أشكال الانتهازية العالمية على الأرض الروسية. لقد لعب هذا الكتاب دورا كبيرا في النضال ضد الاقتصادوية، وساهم في تنمية الفكر الماركسي في روسيا، وساعد على التكاتف المنظم للقوى الثورية للحركة الاشتراكية – الديموقراطية الروسية.
-“من أين نبدأ؟”: أجاب لينين بأنه يجب البدء من تنظيم جريدة سياسية روسية عامة، فالجريدة تضمن الهزيمة الفكرية للأعداء داخل الحركة العمالية، كما أنها تشكل قالب الوحدة الفكرية للحزب، فالجريدة هي الوسيلة الجبارة لتوحيد المنظمات المحلية لحزب واحد موحد.
-“ما العمل؟”، ساورت فكرة الكتاب ذهن لينين منذ ربيع 1901، إلا أنه لم يقم بصياغته بشكل جاد إلا في خريف تلك السنة، وسيصدر الكتاب في مارس 1902 في مدينة شتوتغارت الألمانية.
-“المسألة الزراعية والنقد الماركسي”، صدر في دجنبر 1902 في مجلة “زاريا”.
-“حزب العمال والفلاحين”، كتب في فبراير 1901، وكان لينين هو أول ماركسي يضع المبادئ السياسية للبروليتاريا بالنسبة للفلاحين. في ظروف نضوج الثورة الاجتماعية، أدرج لينين النقط الرئيسية من برنامج الحزب بالنسبة لقضية الفلاحين.
-“البرنامج الزراعي للاشتراكية الديموقراطية الروسية”، صدرت المقالة في مارس 1902، وهنا أعطى لينين تحليلا عميقا للفحوى الطبقية والشروط التاريخية لمطالب الماركسيين على صعيد القضية الفلاحية.
-“إلى الفلاحين الفقراء”، شرح للفلاحين، هذا ما يريده الاشتراكيون –الديموقراطيون، صدر سنة 1903، ويقول لينين في هذا النص مخاطبا الفلاحين:
“إننا نريد التوصل إلى تركيب جديد وأفضل للمجتمع، وفي هذا المجتمع الأفضل يجب ألا يوجد أغنياء ولا فقراء، فالجميع عليه المشاركة في العمل، فليس زمرة الأغنياء وحدها، بل على كافة الكادحين الاستفادة من ثمار عملهم المشترك … إن هذا المجتمع الجديد والأفضل يسمى المجتمع الاشتراكي”.
-“رسالة إلى رفيق حول مهامنا التنظيمية”، صدر في شتنبر 1902، وقدم فيه لينين مخططا للبناء التنظيمي للحزب.
-“مشروع برنامج الحزب العمالي الاشتراكي – الديموقراطي الروسي”، صدر بين فبراير ومارس 1902، وقد عرف نقاشا واسعا بين الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس.
-“جواب على نقد مشروع برنامجنا” يونيو 1902. قبيل المؤتمر الثاني للحزب الذي انعقد بين يوليوز وغشت 1903. وضع لينين نظام وجدول أعمال المؤتمر، كما وضع مشروع النظام الداخلي للحزب، وكتب رؤوس نقاط تقريره إلى المؤتمر، بالإضافة إلى مشاريع القرارات المتعلقة بمسائل عديدة، وقد أشار لينين إلى أن المهمة الرئيسية للمؤتمر تكمن في خلق حزب أممي ثوري حقيقي.
الملحق الثاني:
*تلخيص ستالين لمراحل تطور الحزب البلشفي قبل 1917:
في نص شهير لستالين تحت عنوان: “الاستراتيجية والتكتيك السياسي للشيوعيين الروس”، لخص أهم مراحل تطور الحزب البلشفي قبل 1917.
-المرحلة الأولى: تميزت بتكوين نواة رئيسية، خاصة مجموعة “إسكرا”، والصراع ضد الاقتصادوية، أو ما يسمى بمجموعة الكريدو، وهو بيان مجموعة الاقتصادويين، الذي رد عليه لينين بمقالة “احتجاج الاشتراكيين- الديموقراطيين بروسيا”، المجلد الرابع.
-المرحلة الثانية: ركزت على تكوين أطر الحزب كقاعدة للحزب العمالي المقبل، وذلك على نطاق روسيا بكاملها (الفترة المعينة هي 1895- 1903) التي اختتمت بالمؤتمر الثاني.
-المرحلة الثالثة: خاصيتها توزيع أطر الحزب وتشكلها كحزب عمالي، وتعزيز هذا الأخير بمناضلين تمت تعبئتهم بارتباط مع “تطور الحركة العمالية” (1903- 1904) وانتهت الفترة بالمؤتمر الثالث للحزب.
-المرحلة الرابعة: تميزت بصراع المناشفة ضد أطر الحزب من أجل تذويب الحزب وسط الجماهير اللاحزبية، ونضال البلاشفة من أجل الحفاظ على أطر الحزب، اللذين يحافظون على روح الحزب، وانتهت الفترة بانعقاد مؤتمر لندن 1905 وهزيمة أنصار مؤتمر عمالي.
المرحلة الخامسة: تتمثل خاصيتها الأساسية في ظهور التصفويين وصراعهم ضد الحزب، وانتهت المعركة بهزيمة التصفويين 1908- 1910 (انظر في هذا الصدد كتاب لينين الشهير “المادية والمذهب النقدي التجريببي”).
المرحلة السادسة: تمتد بين 1906- 1916، فيها تأسس الحزب البلشفي سنة 1912 كتنظيم مستقل، عرفت هذه المرحلة تطورا في أشكال النضال الحزبي، التي جمعت بين النضال الشرعي والنضال اللاشرعي، وكذلك نمو منظمات الحزب في كل المجالات.

يتبع بحلقة ثانية

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.