عجاج نويهض في «رجال من فلسطين كما عرفتهم»: يكشف الجذور التاريخية للقومية العربية
الأردن العربي – الأحد 20/8/2023 م …
هل تتواجد جذور القومية العربية المناهضة للاستعمار في بلد عربي محدد أو في أكثر من قطر عربي؟
هذا سؤال يُطرح هذه الأيام بشكل خاص، ليس فقط بسبب انعقاد جلسة هذا العام لـ«المؤتمر القومي العربي» في الأسبوع الأخير من شهر تموز (يوليو) 2023 في بيروت، الذي حضره ممثلون من بلدان إقليمية وعالمية لحركات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل لأنه يتبين من الدراسات والمذكرات التي نُشرت في السنوات والعقود الأخيرة أن القومية العربية انطلقت في فلسطين في مطلع القرن العشرين بفضل مجهود وتضحيات شخصيات عربية ـ فلسطينية كرست نفسها لمنع استيلاء الصهاينة على أرض فلسطين ولاستقطاب الدعم والمجهود العربي في سائر الأقطار العربية في المشروع المقاوم لـ«وعد بلفور» و«اتفاقية سايكس بيكو» منذ مطلع القرن الماضي ولمقاومة المنخرطين في تنفيذهما: الاستعماران البريطاني والفرنسي الناكثين والمتراجعين عن وعودهما واتفاقياتهما مع الجهات القيادية العربية التي انخدعت بتلك الوعود.
في كتاب للمناضل الراحل عجاج نويهض، صديق ورفيق درب بعض كبار قادة النضال العربي ضد استعمار فلسطين جمعته ابنته بيان نويهض الحوت (رفيقة حياة أحد المسؤولين القياديين الفلسطينيين، الراحل شفيق الحوت) ونشرته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» في لبنان بعنوان: «رجال من فلسطين كما عرفتهم» تبرز حقيقة هوية أبطال نشوء القومية العربية بين القادة من أبناء الشعب الفلسطيني منذ عشرينيات القرن الماضي وقبل ذلك.
في طليعتهم، حسب عجاج نويهض، كان موسى كاظم باشا الحسيني ونجله المناضل الشهيد عبد القادر الحسيني الذي استشهد في «معركة القسطل» في عام 1948.
فقد «أشرف موسى كاظم باشا الحسيني على المظاهرات الضخمة التي دعت إليها (اللجنة التنفيذية) في عام 1933 في القدس وبعد ذلك في يافا، والتي قمعتها حكومة الانتداب الإنكليزي بالقوة حائلة دون استمرارها في كل مدينة في فلسطين كل يوم جمعة» وأصيب الشيخ موسى في تظاهرة يافا بهراوة الشرطة ومات بعد ذلك في منزله في السنة التالية 1934 تاركاً فراغاً كبيراً. (ص 187).
موسى كاظم باشا الحسيني (حسب الكتاب) ترأس الحركة الوطنية في فلسطين لمدة 15 سنة وتوفي بعدها وعمره 84 سنة، وهو أحد أربعة دُفنوا بجوار المسجد الأقصى وهم بالإضافة إليه محمد علي، رفيق غاندي ونهرو، والشريف حسين بن علي، وعبد القادر الحسيني، نجل موسى كاظم، الذي استشهد في «موقعة القسطل» المشهورة وكان قد مضى على مثوى أبيه 14 سنة، فدفن عبد القادر الشهيد إلى جانب والده الشيخ الجليل الزعيم ولم يكن عمره أكثر من 42 سنة. (ص 191).
موسى كاظم الحسيني كان شيخ القضية الفلسطينية بلا منازع من 1918 إلى 1934 (بنظر نويهض) فلما اشتعلت التظاهرات العربية في فلسطين ابّان تدفق هجرة يهود ألمانيا إلى فلسطين كان يخرج من بيته في القدس ويافا ويسير على رأس الحشود المتراصة مواجهاً بنادق الإنكليز ورشاشاتهم وهراوي شرطتهم الشرسة وخيولهم ويتحداهم بشجاعة، هذا هو موسى كاظم. (ص 192).
كان موسى كاظم (حسب نويهض) شخصية عربية ممتازة بالإجماع «فهو لم ينشط في فلسطين بل دعم ثورة سلطان الأطرش في سوريا والانتفاضات العربية في سائر الأقطار، ولم يكن زعيم عرب فلسطين فحسب، بل كان زعيماً للأمة والوطن العربي في كل مكان». (ص 199). وذلك برغم الانقسامات بين المؤيدين للمجلس الشرعي الإسلامي ورئيسه الحاج أمين الحسيني ومعارضوه راغب النشاشيبي وأخوانه. وقد كانت حركة فلسطين جزءاً من الحركة العربية في دمشق في عام 1920 «فالحركة الوطنية المنبثقة عن المؤتمرات الوطنية في فلسطين التي رأسها موسى كاظم لم يكن هناك الخلاف على رئاستها ولم يتحزب موسى أو يتجنح إلى فئة من الناس دون أخرى». (ص 201). واستقبل موسى عنف الإنكليز بصدره الفولاذي عندما قامت البلاد تستنكر طغيان الهجرة اليهودية في عهد هتلر. (ص 202). وبعد ذلك ارتفع أحد أبناء موسى كاظم الشهيد البطل عبد القادر الحسيني (1907 إلى 1948) في منزلة البطولة إلى حد كاد أن يكون اسطورياً، وكان استشهاده في «يوم القسطل» في 8 نيسان (ابريل) 1948 في غربي القدس على طريق يافا التي كانت قيمتها استراتيجية من ناحيتي العرب واليهود من وراء الإنكليز فمن يستولي على القسطل يستولي على القدس.
ويقول الكاتب إن استشهاد عبد القادر الحسيني كان استبسالاً للموت بثمن الحياة كاستشهاد يوسف العظمة في ميسلون سنة 1920. (ص 240).
ويعتبر نويهض أن ما سمي بـ«عصبة الأمم» في جنيف آنذاك وركناها بريطانيا وفرنسا مثل دور (حاميها حراميها) فانتشرت في البلاد العربية روح جديدة معارضة لها وكارهة للأجنبي المحتل وذيوله في مدارس فلسطين ودول عربية أخرى، وتجسدت هذه الروح خصوصاً في مصر.
وعندما عاد عبد القادر إلى مصر، كانت فلسطين تواجه أطوافاً من الهجرة اليهودية فنمت في حمى عقيدته نزعة الثورة على «المغتصب الإنكليزي المنتدب وجروه اليهودي «اللجنة الملكية البريطانية» أن التقسيم هو الحل (عام 1937) اعتبر قياديون فلسطينيون أن بريطانيا تخدع العرب وتمهد للتوصل إلى ما كان اليهود يعملون له في فلسطين ولندن وواشنطن. فهب عبد القادر الحسيني بمعاونة القائد العروبي القاوقجي الذي جاء من العراق لمواجهة ذلك المشروع التقسيمي وسقط شهداء عديدون في معارك قادها عبد القادر الحسيني في هذا المجال حيث استبسل فيها وجرح وعولج في دمشق، ولكنه لم يتمكن من العودة إلى وطنه برغم انه أدرك «مكر الإنكليز وازدواجية معاييرهم» فقضى سنوات في عدة بلدان عربية ثم ذهب إلى بغداد حيث شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني واعتُقل وأُبعد منفياً إلى تركيا ثم إلى السعودية وبعدها إلى ألمانيا حيث تدرب هناك على صنع المتفجرات والألغام وعاد إلى القاهرة عام 1946 متحضراً للعودة إلى فلسطين والمقاومة ضد الاستعمار.
وعندما اُعلن التقسيم في فلسطين في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 تمكن من التسلل عبر سيناء عائداً إلى وطنه، وأصبح قائداً لمنطقة القدس بينما فوزي القاوقجي قائداً في الشمال وانتشرت شهرته في الأرجاء العربية وتعلقت ثقة الشعب بعبد القادر، وخصوصاً في المنطقة الوسطى، وكان يحصل على السلاح من دمشق لمنازلة اليهود الصهاينة ودحرهم إلى ان استشهد في معركة القسطل وكان له مأتم كبير كيوم أبيه ودُفن إلى جواره بجوار المسجد الأقصى. (ص 247).
يضم كتاب نويهض فصولاً عديدة عن شخصيات عرفها الكاتب وكتبَ عنها وجمعتها ابنته ووضعتها في القسم الثاني من الكتاب وعنوانه «هؤلاء كما عرفتهم» وقد اخترنا الأهم بينهم بالنسبة إلى موضوع القومية العربية، وفي طليعتهم الفصلان عن موسى الحسيني ونجله عبد القادر الحسيني.
في الفصل الرابع من هذا القسم، يتحدث الكتاب عن جورج انطونيوس بعد اكتشافه حقيقة الغطرسة البريطانية وتحوله إلى المنطق القومي العربي بعدما عمل سابقاً مع الإنكليز واكتشف مساوئ الاستعمار الإنكليزي ـ الفرنسي. وكان انطونيوس (حسب الكتاب) على اتصال بالمستر كرين «ذلك الأمريكي الطيب الخيّر المجواد الذي كان يرأس لجنة الاستفتاء في سوريا ولبنان وفلسطين سنة 1919 المسماة (لجنة كرين) والتي ساعدت جورج انطونيوس في أبحاثه بالإضافة إلى رحلاته الكثيرة إلى مصر وسوريا والعراق ولبنان وإلى الأردن وعمله البحثي في المكتبات العامة فيها وفي الكتب والسجلات القنصلية، علماً ان انطونيوس كان قبل ذلك يعمل في إدارة المعارف في منصب عالٍ يلي فيه مدير المعارف البريطاني في فلسطين وبالتالي تعرّف على عمل البريطانيين عن كثب. ومع انه وُلد في دير القمر في لبنان فإنه قضى حياته في فلسطين وتوفي فيها خلال الحرب العالمية الثانية ودُفن في القدس.
وعن الشيخ المجاهد عز الدين القسام (1871ـ1935) يقول نويهض إن أصله من جبلة قرب اللاذقية في الإقليم الشمالي (سوريا) وهو صاحب الثورة التي قام بها سنة 1935 في فلسطين وعُرفت باسمه وخلّدت ذكره، والتي يعرفُ أي عربي من فلسطين الشيء الكثير عنها.
وقد تخرّج الشيخ القسام من الأزهر الشريف في مصر، ولما دهمت فرنسا سوريا اشترك في الثورات الوطنية المناهضة لفرنسا ثم استقر في حيفا عام 1925 حيث كان يسمع عن (مشروع الوطن القومي اليهودي) ورآه ينمو، وأتته الفرصة عندما نمت «حركة الشبان المسلمين» (فرع حيفا) فوسّع صلاته بالناس وكان من أبرز رجال الجمعية، واشترط على أعضاء الجمعية اقتناء السلاح من مالهم الخاص «ولم يكن يعلم الإنس ولا الجن من أمرها شيئا حتى سنة 1929». (ص 215). فيما كان الصهاينة يستوردون الأسلحة بمقادير كبيرة من بلجيكا في براميل الأسمنت تحت أنظار المندوب السامي البريطاني!
استشهد الشيخ القسام ورفاقه في العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1935 في معركة طاحنة مع جند الحكومة الذين فاقوهم عدداً والذين لاحقوهم براً وجواً فقاوموهم ببسالة. «وشكلت حركة القسام هزة عنيفة للعرب أجمعين، فالرجل المجاهد استطاع أن يدل العرب على الطريق (طريق القوة) وقد ذهب وواجه الخصوم المستعمرين بعدد قليل من الرجال ومقدار يسير من السلاح برغم الفرق بين قوته وقوة بريطانيا. ولكنه آثر الاستشهاد عن يقين وعقيده ليحين في النفوس روح المقاومة أحياءً عملياً لا نظرياً فقط… فاستيقظت فلسطين». (ص 223).
وفي الفصل الختامي 21 يتحدث نويهض عن إنجازات الحاج محمد أمين الحسيني (1897 إلى 1974) بالتفصيل. وهذا الفصل يحتاج إلى مراجعة بحد ذاته وخصوصاً الجزء المتعلق ببناء المسجد الأقصى المبارك والمتبرعين الكبار للمشروع والهندسة المعمارية الخارقة له وطلب المندوب السامي هربرت صامويل دخول الحرم الشريف برفقة اللورد آرثر بلفور ورفض المفتي الشيخ الحسيني لهذا الطلب. (ص 452) بالإضافة إلى تنقلات المفتي وإشرافه على المؤتمرات والنشاطات الوطنية.
عجاج نويهض:
«رجال من فلسطين كما عرفتهم».
(جمعت مواده بيان نويهض الحوت)
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2023
558 صفحة.
التعليقات مغلقة.