من “العصر الإسرائيليّ” إلى العصر الحجريّ.. دلالات نَفسيّة / محمد هلسة

محمد هلسة – الإثنين 21/8/2023 م …




ميزان الردع الذي نشأ بين حزب الله و”إسرائيل” هو نتيجة تطوير قواعد اللعبة التي تمّ ترسيخها على مدى سنوات عديدة، ويبدو أن حزب الله يسعى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتحدّي “إسرائيل” وتوسيع حدود معادلة الردع.

ما زال خطاب السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، يثير، كعادته، سيلاً من الردود والتفاعلات داخل المجتمع الإسرائيلي، بعد أن هدّدَ في إحياء الذكرى الـ 17 لانتصار تموز 2006، بإعادة “إسرائيل” إلى العصر الحجريّ، وذلك في معرض ردّه على تهديداتٍ مشابهة لوزير حرب العدو “يوئاف غالانت”. وهذه بالمناسبة، ليست المرة الأولى التي يُعبّر فيها “غالانت” عن نفسه بهذه الطريقة، وبالتأكيد فهو ليس الوحيد، ففي السنوات القليلة الماضية هدّدَ عدد غير قليل من السياسيين والعسكريين الإسرائيليين في مناسباتٍ مختلفة “بإعادة لبنان إلى العصر الحجري”. 

وتكفي عودةٌ سريعة إلى الأرشيف الإسرائيلي لتبيّن عدد التهديدات الشبيهة الجوفاء التي أُطلقت ضد حزب الله ولبنان. ففي العام 2018 قال الوزير الصهيوني “يسرائيل كاتس” إن “إسرائيل”: “ستعيد لبنان إلى عصر الكهوف”، وفي العام ذاته، قال “يوئاف غالانت”، الذي شَغَل حينها منصب وزير الإسكان: “لا نريد الحرب، ولكن إذا اضطررنا إليها سنعيد لبنان إلى العصر الحجريّ”، وهي العبارة ذاتها التي استخدمها كذلك، في العام نفسه المتحدث باسم “الجيش الإسرائيلي”، رونان مانيليس. 

أما في العام 2019 فقد توعّد بيني غانتس، عضو الكنيست الصهيوني ووزير الحرب الأسبق، لبنان قائلاً: “لا تجعلوا الجيش الإسرائيلي يعيدكم إلى العصر الحجريّ”. تهديد مشابه أطلقه، في العام ذاته، وزير التربية والتعليم رافي بيرتس، متوعّداً: “كلّ إطلاق نار على إسرائيل يُقرّب لبنان من العصر الحجريّ”. وإذا ما عُدنا إلى الوراء قليلاً أبعد من ذلك، إلى العام 2014، ومرةً أخرى مع الوزير كاتس، فإننا سنقرأ له قوله:” بأننا سوف ندمّر لبنان حتى النخاع”. 

ولو افترضنا أن نوايا الوزير الصهيوني “غالانت” الحالية جادة، في محاولة لمنع حزب الله من الوصول إلى استنتاج مفاده “أن لديه فرصة كبيرة لشنّ هجوم لاعتقاده أن الجيش الإسرائيلي أضعف من أي وقت مضى”، فإن المسار الذي اختاره “الوزير” يشير إلى قدر كبير من المحنة وليس القوة لدى الجيش الإسرائيلي. فبعد عقد من تكرار التهديدات ذاتها لم يتحقّق منها شيء، وفهِمَ الإسرائيليون قبل اللبنانيين أن هذه تهديدات جوفاء، فالسيد نصر الله وحزبه تعلّموا جيداً كيفية التعامل مع الأضرار والأوضاع الصعبة، حتى في ظروف البنية التحتية المُدمّرة.

وفقاً للتقديرات الإسرائيلية فإن الوضع الداخلي اللبناني الصعب لن يمنع حزب الله من الدخول في صراع مع “إسرائيل” فحسب، بل إن الحرب ستعزّز مكانته عبر ترسيخ مكانته كـ “حامي لبنان”، الأمر الذي يدفعه إلى الاحتكاك المباشر مع “إسرائيل” والمخاطرة بإشعال المواجهة معها، وهو ما أوصل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى الاستنتاج أن أيام المواجهة، وربما الحرب الشاملة، هي مسألة وقت. 

يتحدّث “الجيش الإسرائيلي” منذ فترة طويلة عن المواجهة مع حزب الله، لكنهم يدركون جيداً أن أي قتال يندلع مع لبنان سيؤدي على الأرجح إلى حرب شاملة، ولن يكون من السهل وقف المواجهة حال اندلاعها، وبالتأكيد لن يحدث ذلك إذا قصفت “إسرائيل” البنية التحتية في لبنان ودمّرتها بالكامل. 

تدرك “إسرائيل” أن حزب الله يخوض حرباً نفسية ضدها، في إطار الحرب النفسية “متعددة الجبهات” التي تُشن عليها في ظل تقدير خصومها أن الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي، والتوتر بينها وبين الولايات المتحدة، وفتور مسار أبراهام التطبيعيّ، وخطوات المصالحة التي بدأتها بعض الدول العربية مع إيران، أضعفتها كثيراً. 

تشير تصريحات وأفعال قادة محور المقاومة إلى تنامي “الثقة بالنفس” في القدرة على إلحاق الأذى الشديد بـ “إسرائيل”، وربما هزيمتها كما أشار السيد نصر الله في خطابه المذكور، أنه “إذا تطوّرت المعركة إلى معركة مع محور المقاومة فلن يكون هناك شيء اسمه إسرائيل”، وهم، أي قادة المحور، يختبرون إمكانية القيام بحملة متعدّدة الأوجه والمسارات ضدها. 

تهدف استراتيجية الحرب النفسية هذه إلى تمهيد الأرض لحرب فعلية أو ربما لمنع الحرب، فيما تهدف تصريحات قادة “إسرائيل” وتحذيراتهم المختلفة في المقابل، إلى تصحيح الانطباع لدى الأعداء وعلى رأسهم حزب الله، بشأن “ضعف إسرائيل الاجتماعي والأمني ​​واستعادة الردع ضدها”. 

 والواقع أن المتتبّع لا يجد صعوبة في قراءة الحرب النفسية التي تدور في الإقليم، وهي مليئة بالتهديدات والمشاهد المصوّرة بل والأفعال الاستفزازية على الأرض، فالجميع يُحذّر الجميع من أخطاء في “التقييم والتقدير” قد تقود لحرب إقليمية شاملة، لا يبدو أن أحداً مهتمٌ بها، على الأقل، في الوقت الحالي، وهي أجواءٌ تهدّد بتقويض معادلة “الوضوح” التي سمحت لكل طرف بتَوقُّعِ تصرّفات الطرف الآخر.

نَصَب حزب الله خيمتين، وأجرى تدريبات ومناورات، ونشر مقاتلين، وأنشأ مؤخّراً سلسلة طويلة من المواقع ونقاط المراقبة القريبة جداً من حدود فلسطين، وينفّذ يومياً سلسلة من الأنشطة اللوجستية، كحركة المركبات والإمدادات والدوريات والمراقبة، وهو يصمّم كل ذلك لتعويد “الجيش الإسرائيلي” على وجوده على مسافة قريبة من الحدود. 

“إسرائيل” بدورها أطلقت تهديدات عديدة، وأجرى “جيشها” تدريبات خاصة تحاكي حرباً مع حزب الله رداً على مناورة الحزب في جنوب لبنان. أما إيران فقد نفّذت مناورة عسكرية بحرية كبيرة في مياه الخليج، فدخلت الولايات المتحدة أيضاً ساحة “الحرب النفسية” الدائرة في محاولة للجمع بين التحذيرات والتحركات العسكرية بهدف الوصول إلى تسوية نووية مؤقتة وجزئية مع طهران. 

يشعر حزب الله تحديداً أن هذه “الاستراتيجية النفسية” تعمل لصالحه، وربما لهذا السبب يبدو السيد نصر الله واثقاً في خطاباته العامة التي تُعبّر عن عقيدته فيما يتعلق “بالإعلام” والجوانب المعرفية والنفسية للصراع بين المقاومة و”إسرائيل”. فالمقاومة تُحقّق النصر أو تُهزم، لا قدّر الله، ليس بالقتال في ساحة المعركة على الأرض، بل في ساحة المعركة “الإعلامية والنفسية”، فالدعاية في “معركة الوعي” هي التي تصنع الانتصار، ولأنها كذلك يجب أن تُدار بطريقة ذكية لتثمر أفضل النتائج. 

وفي هذا السياق يُشكّل فهم العدو عوناً كبيراً في التعرّف إلى نقاط ضعفه أو قوته، بما يُمَكّنُ من ممارسة الضغط عليه بشدة، من خلال وسائل الإعلام والخطابات العامة التي لها وقعها على الجمهور الإسرائيلي وإعلامه، الذي يستمر في “إبراز إنجازات المقاومة ومواقفها الحازمة”.

يستند حزب الله في فعله هذا إلى الحفاظ على توازن الردع بينه وبين “إسرائيل”، وهي معادلة لها جذورها العميقة التي جرى تطويرها التدريجي على مدار سنوات طويلة من الصراع بينه وبين “إسرائيل”، وهي تستند على المزج بين النشاط العسكري و”حرب الوعي”. 

في الآونة الأخيرة، أظهر حزب الله ثقة متزايدة بنفسه وأظهر جرأة متزايدة ضد “إسرائيل”، وقد تجلّى ذلك في الحملة التي قادها مع إنجاز اتفاقية الغاز بين لبنان و”إسرائيل”، وفي ما تنسبه “إسرائيل” إليه من محاولة الهجوم على مفترق مجدو في آذار/مارس 2023، وإتاحة إطلاق صواريخ كاتيوشا من قبل التنظيمات الفلسطينية من جنوب لبنان تجاه “إسرائيل”، وزيادة الاحتكاك مع “الجيش الإسرائيلي” على طول الحدود الفلسطينية اللبنانية. ويبدو أن حزب الله يرى فرصة سانحة لتغيير ميزان الردع بينه وبين “إسرائيل” لصالحه، ويسعى لفرضها. 

تنظر “إسرائيل” إلى حزب الله اليوم بوصفه رأس حربة “محور المقاومة” الممتد، الذي يسعى لخلق واقع تتحقّق فيه “وحدة الساحات” في ظروف المواجهة المباشرة مع “إسرائيل”، أي أن اندلاع المواجهة على إحدى الجبهات سيقود إلى هجوم على “إسرائيل” من ساحات أخرى مختلفة، أو ما يمكن تسميته “التحرّك المتكامل متعدّد الجبهات” ضدها. تجَنَّبَ حزب الله، منذ انتصار تموز 2006، استخدام قُدراته العسكرية الكاملة، أو القوة النارية الموجودة تحت تصرّفه التي تُغطي العمق “الإسرائيلي” بأكمله، لكنه يُظهِرُ مؤخراً جرأة أكبر في إرساء معادلة “المعاملة بالمثل” التي نشأت بينه وبين “إسرائيل” منذ بداية مسيرته.

استخدام حزب الله للوسائل العسكرية القتالية جنباً إلى جنب مع “حرب الوعي”، هو الذي طوّرَ معادلة الردع بينه وبين “إسرائيل” والتي تجمع بين التطور في بناء القوة العسكرية، وإثبات القدرة والرد في مواجهة النشاط العسكري الإسرائيلي، وبين معركته المستمرة والمتطورة في جبهة الوعي. 

على مرّ السنين، تغيّرت العلاقة بين هذين العنصرين، (القتالي – والواعي)، فكلما تمسّك حزب الله، إلى جانب قوته العسكرية، بـ “العامل النفسي”، كلما تطوّر المكوّن الواعي وشكّل بدوره “داعماً قتالياً” للقوة العسكرية ضد “إسرائيل” بهدف إرساء الردع تجاهها. ومع ذلك يدرك حزب الله أنه إذا لم يردّ على أي انتهاك إسرائيلي لمعادلة الردع، فإن ذلك سيؤدي إلى تأكّلها والسماح لـ “إسرائيل” بمواصلة تقويضها.

إن سلوك حزب الله تجاه “إسرائيل” ديناميكي ويستجيب للسياق الذي أوجدته السياسة الإسرائيلية، ومن أجل التعامل معها، يعمل حزب الله وفقاً لثلاثة مبادئ: الأول هو “رد الفعل”، أي أنّ أي عمل يقوم به يأتي رداً على تصرفات “إسرائيل”. والثاني هو “التناسب”، فالثمن الذي يجبيه من “إسرائيل” يتناسب مع نتائج أفعالها. والثالث هو “الوضوح” الذي يسعى من خلاله لتثبيت واقعٍ يمنع “إسرائيل” من التصعيد والاعتداء.

يفحص السيد نصر الله كمتابع حثيث للإعلام والمجتمع الإسرائيلي، بانتظام نقاط القوة والضعف في “إسرائيل”، ويمكن بكل سهولة أن نقرأ ذلك في خطاباته التي يتناول فيها القدرات العسكرية لـ “إسرائيل”، تصوّرها للأمن، وضعها المالي وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وموقعها على الساحة الدولية، سياستها الإقليمية، إلخ… وهو يخصّص في خطاباته مساحة كبيرة للحديث عن ضعف “إسرائيل” كجزءٍ من حملة الوعي التي يقودها ضدها عبر مفهوم “بيت العنكبوت”، الذي يفترض أن المجتمع الإسرائيلي واهنٌ ولن يصمد أمام المزيد من هجمات المقاومة، ولن يكون قادراً على استيعاب الضحايا وسرعان ما ينهار. 

يمكن القول إنّ معادلة الردع بين حزب الله و”إسرائيل” مكّنته من إجبارها على التصرّف وفق القواعد التي حدّدها، ومَنعِها من استغلال تفوّقها العسكري ضده، وينبع جزء كبير من نجاح الحزب في إقامة معادلة ردع ضد “إسرائيل”، على الرغم من تفوّقها العسكري، من فهمه لحدود قوته وأهمية وفعالية الحملة النفسية التي يقودها ضدها. 

يؤكد الحزب إلى حد كبير أهمية “الوسيلة المرئية”، التي يستند إليها في “نظريته القتالية”، والتي تؤثر على آلاف الإسرائيليين. لذلك يحرص الحزب على تصوير أفعاله وبثّها في جميع وسائله الإعلامية المتاحة، مصحوبة بالسرد أو موسيقى النصر أو التعليقات المؤثّرة الموجّهة، فصورة علم الحزب الذي يرفرف فوق البؤر الاستيطانية، التي يستمرّ الحزب في بثّها، لها أهمية نفسية أكبر من “الإنجاز القتالي”، وكذلك الحال في استمرار بثّ الجولات التي ينفّذها مقاتلو الحزب بمحاذاة الحدود الفلسطينية، والتي تستمر كذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية ببثّها. 

ساهمت قوة حزب الله العسكرية في تعزيز توازن الرعب بينه وبين “إسرائيل”، فالقوة التدميرية الثقيلة التي راكمها الحزب منذ انتصار تموز، فيها ما يكفي لردع “إسرائيل” وجعلها متردّدة في استخدام القوة ضده. وهي قوة نيران تعتمد بشكل أساسي على الصواريخ والقذائف من جميع الأنواع، بما في ذلك الصواريخ الدقيقة، آلاف الطائرات من دون طيار، قدرات دفاع جوي، وقدرات إلكترونية، وهي بمجملها قادرة على تغطية العمق “الإسرائيلي” بأكمله. 

ولا يفوتنا التذكير بتطوير القدرة القتالية على الأرض، وخاصة وحدة الرضوان التي يبلغ عددها عدة آلاف من المقاتلين المدرّبين تدريباً جيداً. ولا يُفوّتُ السيد نصر الله تكرار الإشارة إلى هذه القدرات في خطاباته المختلفة، التي تحظى بتغطية واسعة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، كجزء من الحملة النفسية، وتعزيز معادلة الردع ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي وصُنّاع القرار والجمهور في “إسرائيل”.

إن ميزان الردع الذي نشأ بين حزب الله و”إسرائيل” هو نتيجة تطوير قواعد اللعبة التي تمّ ترسيخها على مدى سنوات عديدة، ويبدو أن حزب الله يسعى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتحدّي “إسرائيل” وتوسيع حدود معادلة الردع. واستعداد الحزب للاحتكاك العسكري اليومي مع “إسرائيل” يزيد من ثقته في قوته وقدرته على إحداث دمار وإضرار استراتيجي بـ “إسرائيل”، وهو ما نلمسه من تهديد السيد نصر الله بإعادتها إلى العصر الحجري. 

لقد تمّ بالفعل تحدّي الردع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، لكن مصلحة كلا الجانبين في الحفاظ على “الوضوح الاستراتيجي” فيما يتعلق بقواعد اللعبة والردع المتبادل بينهما لا تزال قائمة، لكن من شبه المؤكد أن أي صراع في المستقبل سيكون متعدّد الساحات بالفعل، وستكشف الأيام المقبلة ما إذا كانت التحذيرات الإسرائيلية قد حقّقت هدفها، أم أن الحدود الشمالية لفلسطين ستصبح مرة أخرى ساحة نزاع نشطة، وربما يكون حزب الله على حقّ في قراءته لضعف “إسرائيل” وتصاعد قوة محور المقاومة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.