سورية والخيارات الصعبة / أحمد الدرزي

احمد الدرزي ( سورية ) – الخميس 24/8/2023 م …




تفاقمت الأوضاع الاقتصادية للسوريّين، بعد زيادة رواتب العاملين في الدولة، بنسبة 100%، المترافقة مع ارتفاع أسعار حوامل الطاقة الأساسية بنسبة 60%، مما أدى لارتفاع مستويات التضخّم بشكل لا مثيل له من قبل، وخاصةً مع استمرار انخفاض سعر الصرف لليرة السورية أمام العملات الصعبة، مما ولَّد حالة اللايقين والمزيد من الإحباط والقلق بقدرتهم على تجاوز المرحلة الأصعب من الحرب في سوريا، وهذا يقودنا للسؤال الصعب عن خيارات السوريين خلال المرحلة المقبلة؟
أصبحت المسألة السورية شديدة التعقيد، بعد اثني عشر عاماً ونيف من الحرب، وأفرزت نتائج غير متوقّعة على مستوى الداخل السوري، وعلى المستوى الإقليمي في غرب آسيا بشكل أساسي، عدا عن انعكاسها على المستوى الدولي، في دول الاتحاد الأوروبي بشكل خاص. ويعود السبب الأساسي لهذه النتائج إلى ارتباط الحرب السورية بالصراع الدولي المحتدم، بين الشرق الصاعد والغرب القلق، بعد انطلاق ثورات “الربيع العربيّ” الملوّنة.
جغرافيّاً
على الرغم من انقلاب عجلة السيطرة على الجغرافيا السورية، بعد الدخول الروسي المباشر المتآزر مع حليفيه الإيراني والسوري، مما أدّى لارتفاع مساحة السيطرة الرسمية من 17% إلى 65 %، فإن واقع الحال يشير إلى حدوث خمس مناطق جغرافية منفصلة عن بعضها البعض، هي مناطق سيطرة الجيش السوري في الغرب والوسط والشرق، وشمال شرق سوريا، وشمال غرب سوريا، ومنطقتا الجنوب السوري المتناقضتان في درعا والسويداء، رغم السيطرة الرسمية نسبياً عليهما، إضافة إلى المنطقة السادسة، التي تسيطر عليها الولايات المتحدة بشكل كامل، وهي ما تُعرف بمنطقة التنف، أو منطقة الـ 55 كم، في المثلّث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن.
سكانيّاً
شهدت الحرب انزياحاً سكانيّاً قسرياً على مستوى الجغرافيا السورية، بفعل الانقسام السياسي والحرب، حيث تحوّل شمال غرب سوريا إلى مركز تسوية سياسية عسكرية، بين أطراف الصراع المحلي والإقليمي والدولي، للسوريين الذين رفضوا نتائج المعارك في حلب وريف دمشق وحمص ودرعا، مقابل تهجير واسع للكرد السوريين في منطقة عفرين، إضافة إلى نزوح طوعيّ لقسم من السوريين، نحو الحسكة والقامشلي، في مناطق شمال شرق سوريا، بحثاً عن الاستقرار الاقتصادي والأمني، ومن قبله نزوح من إدلب إلى وسط وغرب سوريا.
وتأتي مشكلة اللجوء السوري نحو دول الجوار في تركيا ولبنان والأردن، لدوافع سياسية أو اقتصادية، كمشكلة حقيقية تواجه الخيارات السورية المقبلة، وعددهم تجاوز الـ 7 ملايين سوري، عدا عن اللجوء السوري نحو دول الاتحاد الأوروبي، الذين قارب عددهم المليون سوري، والرقم مرشح للزيادة، بحكم استمرار تدفّقهم من الداخل السوري، ومن دول اللجوء المحيطة بسوريا، بعد تفاقم الأوضاع الاقتصادية، وغياب آفاق للحلول، التي تدفعهم للتشبّث بالبقاء.
سياسيّاً
تمخّضت عن الانقسام الجغرافي والسكاني تجارب سياسية متناقضة، غير قابلة لإيجاد حالة توافقية فيما بينها، بحكم تناقض التجارب الثلاث في مناطق السيطرة الرسمية وشمال شرق سوريا وشمال غرب سوريا، حيث بقيت دمشق على نهج الحكم المركزي الشديد، بالهوية القومية العربية، بينما استطاع الكرد السوريون إنشاء إدارة ذاتية، تعتمد اللامركزية الإدارية الواسعة، مع عمل سياسي مفتوح لقوى كردية وعربية وسريانية وآشورية، وهي ذات طابع علماني، منضبط بالخط العام لحركة المجتمع الديمقراطي في جبل قنديل.
وذلك على العكس من التجربة السياسية في شمال غرب سوريا، التي يغلب عليها الطابع الإسلامي المتشدّد، عدا عن تبعيتها للسياسات التركية أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وهي ليست واحدة، فهناك تنازع بين حكومة الإنقاذ، تحت وصاية هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً”، وبين الحكومة المؤقتة تحت وصاية الائتلاف المعارض، وكلا الحكومتين تخضعان لسياسة المصالح الاستراتيجية لتركيا.
وفي منطقتي السويداء ودرعا، تستمر الطموحات بتحقيق مكاسب سياسية خاصة، رغم الانقسام الواضح في توجّهات كلا المجتمعين، حيث تحاول بعض القوى السياسية في السويداء، العمل على إقرار ما يشبه الإدارة الذاتية، على غرار تجربة شمال وشرق الفرات، بينما تستمر قوى إسلامية في درعا، بالعمل على إنشاء كيانية إسلامية، قادرة على إعادة طموحات التمدّد والسيطرة على دمشق، بالرغم من المصالحة الجزئية فيها.
تُولّد هذه الوقائع السياسية الخمسة، إشكالات صعبة الحل في المستقبل السياسي لسوري، التي يؤدي عنصر تطاول زمن الحل، دوراً مهماً في ترسيخ الانقسامية السورية، عدا عن تجربة اللجوء السوري الكبير إلى تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، بما تضفيه من تجارب سياسية خاصة، مختلفة عن الحياة السياسية السورية، وتجعل من الصعب عليهم العودة للحياة في سوريا، وفقاً للصيغة السياسية الممتدة منذ عام 1963 حتى الآن.
اقتصاديّاً
على الرغم من الوضع الاقتصادي الضاغط على مجمل السوريين في المناطق الخمس، وفي مناطق اللجوء في دول الجوار، فإن هناك تبايناً غير قليل بمستوى الحياة الاقتصادية، وخاصةً في شمال شرق سوريا وشمال غرب سوريا، بالمقارنة مع مناطق سيطرة الجيش السوري، وهذا ما دفع بقسم من السوريّين في الداخل للانتقال إلى مناطق شمال شرق سوريا، التي توجد فيها الثروات النفطية والغازية والزراعية.
هذا إضافة إلى توفّر الكهرباء واحتياجات الحياة الأساسية، عدا عن صِغر مستوى تدخّل اقتصاد الظِلّْ في الدورة الاقتصادية، حيث يرتفع مستوى الدخل أكثر من أربعة أضعاف في بعض الوظائف، وانخفاض سعر البضائع والاحتياجات بنسبة أكثر من 40% من الداخل السوري، عدا عن استمرار الدعم الكبير لمشتقات الطاقة.
مما دفع بعدد ليس بقليل من سكان حلب ودمشق وبقية المناطق الداخلية، للانتقال إلى الحسكة والقامشلي، وتأسيس أعمال بظروف أفضل بما لا يقارن مع الداخل، مقابل استمرار تدفّق الكرد السوريين نحو بلاد اللجوء، في دول الاتحاد الأوروبي، بسبب القلق العميق، وفقدان الأمل بإمكانية استمرار تجربة الإدارة الذاتية.
الأمر مختلف بعض الشيء في شمال غرب سوريا، حيث يتمتع السوريون بمستوى اقتصادي أفضل نسبياً، بحكم السياسات المالية القطرية المساعدة لهم، وانفتاح السوق التركية والأوروبية أمامهم، استيراداً وتصديراً، واستمرار تدفّق المساعدات الأممية عبر الحدود مع تركيا، مما يوفّر سلعاً أرخص من الداخل السوري، بما في ذلك السيارات المستعملة المستوردة، التي توفّر لأغلب الشرائح إمكانية اقتناء سيارة، بمبلغ لا يساوي 10% من أسعار السيارات في الداخل، والأمر ينطبق على منطقة شرق الفرات.
عسكريّاً
لكلّ منطقة من المناطق الأساسية الثلاث في الوسط والشمال جيشها الخاص، ففي الشرق والوسط والغرب، يوجد الجيش السوري الذي يُعتبر الجيش الشرعي الوحيد وفق القانون الدولي والأمم المتحدة، مثلما هي السلطة السورية في دمشق، ومعه حلفاؤه من الجيش الروسي والحرس الثوري الإيراني وحزب الله.

وفي الشمال الشرقي توجد قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكّل فيها الكرد العمود الفقري لها قيادةً وتسليحاً، إضافة إلى القوات الأميركية، التي جاءت كقوى محتلة، بحجة مكافحة إرهاب تنظيم، من غير إذن شرعي وقانوني، وفقاً للقانون الدولي، الذي ما زال يعتبر دمشق مركزاً للسلطة الشرعية.
وفي الشمال الغربي، وفي جزء واسع من الشمال الشرقي، الممتد من تل أبيض إلى رأس العين، وبعمق 30 كم، تتنازع عدة فصائل عسكرية السيطرة على هذه المناطق بعنوان “الجيش الوطني”، إضافة إلى أحرار الشام وهيئة تحرير الشام في إدلب، عدا عن تنظيم القاعدة، وحركات جهادية من الإيغور والشيشان والأوزبك.

وكلّ هذه القوى العسكرية تخضع للقوات والاستخبارات التركية، التي بدأت باجتياح مناطق واسعة في الشمال السوري، ابتداءً من جرابلس في شهر آب/أغسطس من عام 2016، مروراً بمنطقة عفرين في شهر آذار/مارس 2018، وانتهاءً باجتياح تشرين الأول/أكتوبر 2019، لمناطق في شمال شرق الفرات.
تشابكت القوى العسكرية، بين ثلاث قوى عسكرية أساسية سورية داخلية، مع خمسة جيوش إقليمية ودولية، هي روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة و”إسرائيل”، والثلاث الأخيرة تُعتبر قوى احتلال وفقاً للقانون الدولي.
تُعتبر العناصر الخمسة السابقة الذِكر، الأساس الذي يرسم المشهد السوري العام، بتعقيداته، إضافة إلى عناصر أقل أهمية، وتكفي هذه العناصر لطرح عدد من الأسئلة.

مع استمرار عامل الزمن، وما ينتجه من تباينات في السلوك العام والطبائع والأمزجة والمصالح، هل يمكن الاستمرار بالصيغة السياسية نفسها لما قبل عام 2011؟
هل يمكن للطرفين الأساسيين في الشمال السوري، أن يفرضا نموذجيهما السياسيّين أيضاً؟ هل يمكن البحث عن حل سياسي بمعزل عن مصالح القوى الإقليمية والدولية، التي تتدخّل وترعى قوى وازنة من السوريين في الصراع الداخلي؟ وهل تستطيع العودة للمواجهات العسكرية الكبرى، أن تغيّر من المعادلات الداخلية المانعة لعودة السوريين؟
طبيعة الإجابات على هذه الأسئلة هي التي تحدّد خيارات الخروج من الكارثة، بديلاً عن الاستمرار نحو الهاوية، التي لا يبدو قاعها حتى الآن.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.