الصراع على السلطة في إسرائيل.. “عرب فلسطين” والاحتقان الاستعماري / احمد اشقر

احمد اشقر – الخميس 24/8/2023 م …




بعد خمس جولات انتخابية، خلال ثلاث سنوات وسبعة أشهر، من التاسع من نيسان 2019 حتى الثلاثين كانون الثاني 2023، بدلاً من 20 سنة، لو كانت الإدارة السياسية في الكيان سليمة ومستقرة، تمكنت إسرائيل الاستعمارية اليهودية والمتطرفة من تثبيت شرعيتها كمنافسة لإسرائيل الاستعماريّة اليهوديّة والليبراليّة وشريكة لها في المشهد السياسي الإستعماري، بعد أن سنّت قانون إلغاء حجّة المعلوليّة أو التجاوز، الذي يُعتبر من أهم القوانين قي تثبيت شرعيتها ومحاولة تجاوز ما سبقها من منهج قانوني وقضائي. فإسرائيل نشأت وتتواجد ضمن متلازمة اليهودية والإستعمار، أما نسبة التطرف والليبراليّة فهي تحصيل حاصل، وجوهر وجودها، ولا فرق بينهما في السياق الاستعماري، فكلا الطرفين مع مشروع “أرض الميعاد” وضد حقّ العرب في فلسطين. كما يمكن القول أن تحوّل إسرائيل إلى يهوديّة متطرفة، هو تعبير عن احتقان استعماري لعدم قدرتها على حسم الصراع مع العرب. سيقوم هذا المقال بتسليط الضوء على التغيّرات الديموغرافية، والمتظاهرين والطغمة المالية المعلوماتية العسكريّة والتعديلات القضائية.

التغيّرات الديموغرافيّة

مثلما أدلجت إسرائيل القضية الديموغرافيةً وحوّلتها إلى سلاحٍ يهوديّ خالصٍ في مواجهة العرب، كذلك فعل اليهود الحريديم والمتدينون الذين يتناسلون بنسب أعلى من الأشكناز (والعرب)، في ديموغرافيتهم تجاه اليهود الأشكناز. فقد تمكن هؤلاء وحلفائهم من الأشكناز الفاشنازيين من الفوز بـ64 عضواً في الكنيست- مقابل 46 عضواً من الأشكناز الليبراليين (لا قيمة تذكر لأعضاء الكنيست العرب العشرة). أي أن غلبة الديموقراطية “الإجرائيّة” (التي ترفضها المعارضة) باتت لصالح التيارات التي تشكل الحكومة الحالية والمستقبليّة- على ما يبدو- حتى لو تم قبول توسلات (توصيات) القوائم العربيّة في الكنيست على (جانتس) أو تؤأمه السيامي من أية قائمة أخرى، ومشاركة حركة الإسلام الإسرائيلي في أية حكومة قادمة. ومن أجل الحؤول دون تحوّل المصوتين العرب إلى ضاغط ومناصر للأشكناز الليبراليين في مواجهة الفاشنازيين، قد تقوم الحكومة الحالية برفع نسبة الحسم لخفض انتخاب أعضاء عرب للكنيست، أو منع قطاعات معينة منهم أو كلهم من التصويت.

بما يخصّ الحريديم، فقد كتبت أكثر من مرّة في الماضي عن أسباب المكانة الخاصة التي منحتها دولة (بن جوريون) لهم في السنوات الأولى لإنشاء الكيان، فقد أفردتهم للعمل لإنتاج الشرعيّة الدينيّة للكيان، وتحويلهم إلى “كتائب ديموغرافيّة” في مواجهة عرب فلسطين، لذا منحتهم الأوتونوميا والموارد اللازمة. هكذا تحولت المجموعات الحريدية والمتدينة إلى قوى ضاربة، دينيّاً وديموغرافيّاً، في السيطرة على فلسطين التاريخيّة. وبما أنهم أصبحوا جزءا من عملية اتخاذ القرار، فإن عدوانيتهم تجاه العرب ستتصاعد خاصة وأن تفكيرهم محصور بالثنائية المانويّة (اليهود- الجوييم/ العرب).

أما المتدينون الصهاينة، فقد كثفّوا حضورهم في الجيش بالوحدات الميدانية “القتالية” منذ تسعينيات القرن الماضي حتى باتوا يشكلون وفق التقديرات شبه الرسمية أكثر من نصف الجنود والضباط الصغار والمتوسطين. لذا أصبح عنف الجيش في الضفة والقطاع أشدّ وأمَرّ، وتوطدت علاقتهم مع المستوطنين الذين أصبحوا جيشاَ رديفاً وكتيبة متقدمة في القمع، مثل محاولتهم حرق بلدة حوّارة لتهجير أهاليها. في المحصلة، أصبح الجيش عقبة جديّة أمام أية محاولة لإيجاد تسوية مع العرب.

المتظاهرون اليهود

كان عميد بنك إسرائيل أول من أعلن رفض مؤسسته التعديلات القضائية، ثم تبعه مستثمرو قطاع المعلوماتية، وتبعهما فيما بعد قادة الأجهزة الأمنية والعسكريّة الاحتياطيّة، ثم لحقت بهم قطاعات أخرى مثل الخدمات المختلفة. ينحدر غالبيّة هؤلاء من خلفيات أشكنازية؛ ورثة الأجيال المؤسسة للكيان، وأكاديميون يمتهنون مهناً ثابتة برواتب مرتفعة جدا (سنشرحها لاحقاً)، ويسكنون في “دولة تل أبيب”، العاصمة الاقتصاديّة للكيان وأحياء الميسورين والأغنياء في مستعمرات أخرى، وهم غالباً ليبراليون في المسلكيات المعيشيّة ويتظاهرون “خوفا” على الدولة من الإنهيار إذا ما تم إجراء التعديلات القضائيّة، التي تهدف إلى فتح ملف الثروات المادية والقيميّة (الشرعيّة وغير الشرعيّة)، وإعادة توزيعها بحيث لا تبقى حكراً على هذه المجموعات التي يُقال عنها “إسرائيل الأولى”- مقابل “إسرائيل الثانية” التي بدأت تتشكل بعد الإنقلاب الإنتخابي سنة 1977.

يمكن القول إن تحالف قطاعات المال، المعلوماتيّة والعسكرية الأمنيّة من أجل الدولة، منطقي للغاية ومصلحة عليا لها. فهذه القطاعات نشأت متزامنة مع نشأة الدولة وفي حضنها، ضمن تقاطعات بنيوية لا يمكن الفصل بينها. فقد شكل كل من الجيش، و(الشباك) و(الموساد)، واستثمارات قطاعات المال والمصارف حواضن نشأة وتطور المعلوماتيّة العسكريّة والأمنيّة. يعمل هذا التحالف على تطوير وإنتاج تطبيقات المعلوماتيّة والأسلحة فائقة القمع والقتل وبيعها في السوق المحلي والأسواق العالمية. فقد بلغت صادرات المعلوماتية، الأمنيّة والعسكرية 25% من صادرات إسرائيل البالغة 160 مليار دولار سنة 2022. بناءً على ما تقدم يمكن القول أن هذا التحالف بات يشكل ‘الطغمة الماليّة العسكريّة’، يستأثر فيها القطاع المالي على مجاري سريان تدفق الأموال في مفاصل الكيان كلّها، في الانتاج، والزراعة.. والتربية، ويقوم هو بتحديد قوانينه بنفسه، لاستمرار ديمومة مصالحه. يتجلى ذلك في ارتفاع الخدمات المصرفيّة، وقروض الإسكان، والخدمات المختلفة والأغذية دون أن يتمكن أي طرف في الدولة أو المجتمع من الحدّ من تأثيره. أما القطاع العسكري- الأمني فيستأثر هو الآخر على حوالي 14% من ميزانية الدولة التي تصل إلى 480 مليار دولار سنة 2023. كانت النائبة عايدة توما قد ادعت أن ميزانية الجيش والمستوطنات تبلغ 40% من ميزانية الدولة (جْلوبْس 10. 7. 2021). هذا ناهيك عن التوترات التي ينتجها هذا القطاع مع الجوار العربي والعالم بواسطة شركاته ومستشاريه الأمنيين. فما من فضيحة تجسس، أو حرف نتائج انتخابات بواسطة تقنيات المعلوماتية، أو العمل على إطاحة بنظام دولة في أفريقيا إلا ويبرز دور اليهود وإسرائيل- هذا ما كشفه “تقرير خورخي” الموسع الذي نشرت عنه (هآرتس) و(ذي ماركر) وبعض الصحف الأوروبيّة في أواخر شباط الفائت. بالمناسبة، ما من أحد يعرف شيئاً عن ميزانيتي (الشباك) و(الموساد).

كي ندرك حجم الأموال والخدمات التي يجبيها الأفراد (الرجال والنساء) الذين يحتجون ويتظاهرون ضد التعديلات القضائية، نبدأ من التالي: بلغ معدل دخل العاملين في المعلوماتية في شهر تموز الفائت أكثر من 32 ألف شاقل بقليل- بينما بلغ متوسط الدخل المتوسط للأجيرين حوالي 12 ألف شاقل. وقد تصل رواتب الطيّارين، والعسكريين والأمنيين إلى ضعفي معدل المعلوماتيين. فهذه المبالغ رغم ارتفاعها بالنسبة للموظفين والعاملين العاديين، ليست كافية لكشف حجم الأرباح التي يجنيها البعض والتأثير الذي تقوم به هذه المجموعات. سأقوم بشرح هذه الفكرة بالمعطيات التالية: بلغت ميزانية الكيان سنة 2022، 452 مليار شاقل؛ وبلغت حصة وزارة الحرب والعدوان 60 ملياراً، تم تخصيص 8.3 مليار منها لتقاعد العسكريين البالغ عددهم 108 آلاف عنصر، الذين تعاقدوا مع الجيش بعد آداء خدمتهم الإلزامية التي تستمر ثلاث سنوات (للنساء سنتان)، وخدموا فيه حتى تقاعدهم في سِنّ 42 سنة (النساء 39 سنة). يٌشكل هؤلاء غالبيية المتظاهرين وفقاً لمعطيات 2023 سيتقاضى الفرد منهم راتبا تقاعديّا يترواح ما بين 18.5- 23 ألف شاقل شهريّاً. يكلف الضابط المتقاعد ميزانية الدولة 8.7 مليون شاقل، أي 5.6 أضعاف تكلفة المتقاعد العادي. أما الجنرالات فسيتقاضون رواتب تقاعديّة بحدود 45 ألف شاقل شهريّاً. يواصل 76% من هؤلاء المتقاعدين العمل براتب شهري مقداره المتوسط 21400 شاقل. بهذا يكون معدل راتب العسكري المتقاعد- العامل ما بين 40- 45 الف شاقل شهريّا، علماً أن معدل الراتب التقاعدي في الكيان بحدود 6 آلاف شاقل فقط، وأن سنّ التقاعد هو 67 للرجال و63 للنساء (كلكليست وجلوبس)! هنا، في هذه النقطة يبدأ الحديث عن تقاطع المعلوماتيّة والمعلوماتيين بالعسكريين المتقاعدين، والجيش النظامي وقطاع المال. في هذه النقطة يبدأ المتقاعدون العسكريون بناء الشراكات مع المعلوماتيين بتمويل قطاع المال والمصارف، لتطوير برامج، وتقنيات وأسلحة متطورة لبيعها للقطاعات المدنيّة والعسكريّة في الكيان والعالم. لنا أن نتخيّل حجم الأرباح، والرشاوى والفساد إذا ما تم بيع هذه المنتجات إلى دول أخرى بطرق سواءً كانت شرعية، أو نصف شرعيّة أم غير شرعيّة. تتضخم هذه المبالغ كلما كانت رتبة العسكري المتقاعد أعلى أو من اختصاص مطلوب في المنتجات المعلوماتية والعسكريّة، مثل برمجيات التجسس والمسيّرات. مثلاً كُتب أكثر من مرّة عن (إيهود براك) الذي كان قائد أركان ووزيرا في عدة وزارات، أنه من أغنى الأشخاص في البلاد، فعلاوة على راتبه التقاعدي الضخم جداً، يتقاضى مبلغ 250 ألف دولار من ‘شركة’ ما لتعريفها على قائد فاسد في أي مكان في العالم. وأنه يعتصم ساعة بـ135 ألف دولار. ومثله الكثيرون! هذه الطغمة تعيش في بحر من الأموال والعطايا والمكافآت المختلفة. فإلى جانبها يتموضع “المتعاونين/ [العملاء]”: النخب الإعلامية، والأدبية، والفكريّة والأكاديمية التي تقوم على إنتاج القيم التي تناسبهم. والمتعاونون / [العملاء] مصطلح أطلقه كل من (شمشون بيخلر) و(يهونتان نيتسان).

يعتقد البعض أن القطاع الصناعي الإنتاجي يغيب عن المشهد السياسي الحالي. هذا غير دقيق لسبيين، الأول- تتمفصل مصالح هذا القطاع مع مصالح الطغمة المذكورة ويثق بها للدفاع عن مصالحهم المشتركة؛ الثاني- يفضل هذا القطاع عدم الاستقرار السياسي ليضغط على المُشرعين لتعديل التشريعات والتعليمات لصالحه ورفع الأسعار، كما حدث في قطاع استيراد الأغذية على سبيل المثال، وكل القطاعات تقريباً.

يعتقد كل من (شمشون بيخلر) و(يهونتان نيتسان) أن الطغمة الماليّة التي تحدثت عنها هي التي تُنتج الحرب والسلام وفقاً لمصالحها. يُساندها في هذا “العملاء” المذكورون. هؤلاء كانوا القاطرات التي دفعت باتجاه مؤتمر مدريد، اتفاقيّة أوسلو وما تلاها من إنهاء المقاطعة العربية (كتابهما من أرباح الحرب إلى عائدات السلام 2011، و2007).

التعديلات القضائيّة

يعمل هذا الجهاز، ليس على تحقيق العدالة كما يُشاع، بل على الحفاظ على ديمومة مصالح النُخب التي أنتجته وترعاه، مع الحفاظ على حيّز يتسعّ أو يضيق لعدم انتهاك صارخ لمصالح البقيّة من الناس خوفاً من انفجارهم. ضمن هذا المنهج- المصلحة عملت النخب الاستعماريّة اليهودية في فلسطين على، 1) الحفاظ على ديمومة مصالح المستعمرين اليهود الأشكناز الذين هاجروا إلى فلسطين قبل النكبة وبعدها بقليل، ويقال عنهم في الأدبيات الصهيونية أنهم مؤسسو وبُناة الكيان؛ 2) الحدّ من منافسة وتأثير المُستجلبين من اليهود الشرقيّين. يجب التأكيد هنا على أن مشاركة هذه الطوائف في المشروع الاستعماري لم يكن في الحسبان، لولا ما حصل ليهود أوروبا في الحرب العالميّة الثانية؛ 3) تجريد عرب فلسطين من مصادر ثرواتهم، الأرض والمياه والوعي- من جهة؛ ومن جهة أخرى- منحهم هامش من الإمكانيات كي لا ينخرطوا في أي مشروع تحرري عربي في المستقبل، وهذا ما حدث بالفعل. على هذه الخلفيّة نشأت القوى التي تتكون من اليهود الشرقيين المتدينين والتقليديين، والحريديم والمستوطنين في الضفة الغربيّة. فهدفهم من إجراء تعديلات تكبلّ يد محكمة العدل العليا في قضايا خلافيّة، إطلاق يد القضاء بعد التعديلات في السيطرة على ما تبقى من أراض للعرب في فلسطين وحجز تطوّرهم.

كي نفهم حدّة الصراع- وليس الخلاف فقط- دعونا نستنطق البروفيسور (ماني ماوطنر) العميد السابق لكليّة الحقوق في جامعة (تل أبيب)، الذي يعتبر المؤشر اليميني في الدراسات القضائية في الأكاديميا الإسرائيليّة ويدعو إلى تعديلات قضائيّة. يقول: “لقد اعتاد اليسار [الذين يعارضون التعديلات] على تصحيح السياسة من خلال المحكمة العليا، […] إنه في الحقيقة لا يعمل” (هآرتس 1. 3. 2023). لكنه بعد أربعة أشهر ونصف ومع تصاعد حدّة إصرار هذه الحكومة على سن قانون علّة المعلوليّة أو التجاوز، اعتدل بجلسته وقال أمراً غاية في الصراحة والأهميّة والخطورة: “هناك نهجان في الديمقراطية- هناك نهج إجرائي، والذي بموجبه تكون الديمقراطية إجراءً لخلق أغلبية سياسية من أجل إدارة مؤسسات الدولة. وهناك نهج جوهري، لا يوجد بموجبه شيء اسمه “ديمقراطية”، ولكن دائمًا “ديمقراطية ليبراليّة”… “يهيمن اقتران “الديمقراطية” و”الليبرالية” على الأدب [القانوني]” (كلكليست 20. 7. 2023). بكلمات أخرى، ما يقوله (ماوطنر) عبارة عن نهاية التاريخ في منهج وجهاز القضاء، وأن الديموقراطية وتبادل السلطة بين قوى من خلفيات ومصالح مختلفة، لا قيمة لها، لأن الليبراليّة ثابتة وجوهريّة، وهي النهج الوحيد الذي يملك الشرعيّة في الحياة الديموقراطيّة للناس في الدولة. من هنا نفهم إصرار الحكومة الفاشنازيّة بعدم قبول أية تسوية ومشاركة المعارضة في التعديلات القضائية التي تقوم بها. ونفهم من هذا (أيضاً) أن الليبرالية القضائية التي أنتجت وترعى وتمنح الشرعية لوزراء وأعضاء كنيست مدانين بالإرهاب والاحتيال، وحركات فاشنازيّة- كما يعترف رؤوس الهرم فيها. هذا ما علّمنا إياه جهاز القضاء الليبرالي في الكيان، لن تتوقف عن إنتاج أمثالهم. أليس كذلك؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.