المقاومة… ضرورة حتمية / سلام أبو مجاهد
سلام أبو مجاهد ( الأحد ) 18/9/2016 م …
“إلى السلاح… تنظيماً للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال وتحريراً لأرض الوطن من رجسه على امتداد هذه الأرض من أقصى الوطن إلى أقصاه”.
يشكل هذا النداء جزءاً من بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، الذي وقّعه الأمين العام الأسبق لحزبنا، الرفيق الشهيد جورج حاوي، إلى جانب الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي الرفيق محسن إبراهيم، والذي وزّع بعد ساعات قليلة على بدء الغزو الصهيوني بتدنيس أرض بيروت، العاصمة التي حوصرت ثمانية وثمانين يوماً، وصمدت في وجه أعنف أنواع القصف الجوي والبحري والبرّي، التي اختبرت خلالها كلّ الأسلحة المحرّمة دولياً، من القنابل الفراغية والعنقودية والانشطارية، إلى الصواريخ الأكثر تطوراً وفتكاً ودماراً.
أتت الخطوة الأخيرة من الغزو الصهيوني في الدخول إلى بيروت، بهدف إحكام القبضة الصهيونية على المدينة المستعصية الصامدة، وللانتقام منها ومن المقاتلين الوطنيين اللبنانيين، من الشيوعيين، إلى الناصريين والقوميين، الذين استبسلوا في الدفاع عنها، وتحقيقاً للأهداف السياسية من غزو لبنان عقب خروج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من بيروت، و”تنظيف” المدينة من “المخرّبين” بعدما أزيلت الألغام والتحصينات والعوائق، ما سهّل للعدو تحقيق مهمته.
الحرس الشعبي
لم تنطلق جبهة المقاومة الوطنية مع دخول الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت فحسب، ولم يكن قرار الحزب الشيوعي اللبناني بالتصدي لمقاومة الاحتلال في العام 1982 عفوياً، أو ردة فعل على وصول العدو إلى بيروت، فبيان الانطلاقة كان ترجمة ثورية واعية لحزب تمرّس كل أشكال النضال النقابي والديمقراطي والسياسي، وحتى المسلح منه، على مدى سنوات نضاله منذ نشأته في العام 1924. وقد أرسى المؤتمر الوطني الثاني في العام 1968 الأسس الفكرية والسياسية التي ربطت النضال الطبقي من أجل التحرر الاجتماعي بالنضال الوطني والقومي، مؤكداً موقع الطبقة العاملة وحزبها في هذا الصراع، محدّداً بوضوح مخاطر المشروع الصهيوني واستهدافاته اللبنانية والعربية، ومشدّداً في برنامجه النضالي على موقعه الطليعي في التصدي للمهام النضالية التي أقرّها، فأتى قرار تأسيس الحرس الشعبي في العام 1969 ليشكل بدايات المقاومة الوطنية ضد العدو الصهيوني وخطره المحدق على لبنان والمنطقة.
الحرب الأهلية
المحطة الثانية التي لا بدّ من التوقف عندها، ترتبط بظروف الحرب الأهلية اللبنانية، والعنف الذي اختارته البرجوازية اللبنانية سبيلاً لقطع الطريق أمام أي تغيير ديمقراطي كادت تفرضه الحركة الشعبية والطلابية والعمالية الناهضة آنذاك، من أجل التغيير الديمقراطي في البلاد، ما فرض على حزبنا والقوى الوطنية اللبنانية حمل السلاح دفاعاً عن وحدة لبنان وهويته العربية وتطوره الديمقراطي.
في هذا السياق، أتى المؤتمر الوطني الرابع لحزبنا في العام 1979 – الذي يحلو للبعض إغفال أهميته التاريخية في التحضير لانطلاقة المقاومة – قبل ثلاث سنوات من الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ليحدّد طبيعة الصراع وتناقضاته على مختلف الصعد الدولية والإقليمية، مشدّداً على مخاطر استسلام مصر للعدو، بتوقيعها اتفاقية “كامب ديفيد” وخروجها من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، ما وضع لبنان وقواه الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الثورة الفلسطينية وسوريا أنذاك في دائرة الاستهداف المباشر للمشروع الأميركي الصهيوني الرجعي العربي، لما شكّله هذا التحالف من عقبة رئيسية أمام تمدّد نهج الاستسلام وتعميمه.
واقتبس من مقدمة وثائق المؤتمر الوطني الرابع ما يوضح المسار الطبيعي للمشروع الأميركي – الصهيوني القديم المتجدّد، والذي يقارب التطورات الراهنة وطبيعة الصراع وجوهره الحاصل، مؤكداً ترابط أهداف هذا المشروع واستمراره في ثوابته الاستراتيجية الهادفة إلى تقسيم وتفتيت المنطقة مذهبياً وعرقياً وأثنياً، سعياً منه لتأمين هيمنة الكيان الصهيوني (اليهودي) على المنطقة وتأمين أمنها القومي الاستراتيجي، والسيطرة على ثروات المنطقة ونهب خيراتها:
“لقد شكلت الساحة اللبنانية، ولا تزال تشكل هدفاً رئيسياً من أهداف المخطّط الأميركي لفرض الحلّ الاستسلامي لأزمة الشرق الأوسط، وقد تجلّى هذا المخطط فوق الساحة اللبنانية عبر هدفين شديدي الترابط والتداخل رغم تميّز كل منهما ببعض الخصوصيات والعوامل المستقلة أحياناً:
الهدف الأول: تصفية العقبات الرئيسية التي انتصبت فوق الساحة لتعيق مرور الحلّ الاستسلامي الأميركي – الصهيوني – الرجعي العربي، وبشكل خاص الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية والمعارضة السورية لهذا الحلّ.
الهدف الثاني: ترتيب أوضاع الساحة اللبنانية، بما يجعلها الحلقة الثانية من حلقات هذا الحلّ الأميركي – الصهيوني المستهدف في أفقه الاستراتيجي إحكام السيطرة الإمبريالية على المنطقة وإحاطة الكيان الصهيوني العنصري التوسعي فوق أرض فلسطين العربية بكيانات عنصرية على صورته ومثاله، تتساند معه وتشكل له الحدود الآمنة”.
(الساحة اللبنانية عشية الاجتياح: المؤتمر الوطني الرابع – صفحة 41)
الحزب الشيوعي الجماهيري المقاتل
في ضوء بعض ما تقدم، شكلت مقرّرات المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي محطة أساسية في تحضير الحزب للقيام بدوره الوطني في التصدّي لمهمة الدفاع عن الوطن، رافعاً شعار “نحو حزب شيوعي جماهيري مقاتل”… وتحقيقاً لهذه المهام اتخذت اللجنة المركزية للحزب في دورة اجتماعاتها في العام 1980 قرار التعبئة العامة، وفتحت المعسكرات التي طالت آلاف الشيوعيين وأصدقائهم، لإعداد الحزب كله ليكون قادراً على الإسهام بكامل طاقته في المعركة المرتقبة، وقد شمل هذا الإعداد: التدريب، والتنظيم، وتهيئة القيادات الكفؤة لمختلف أشكال التشكيلات القتالية لجعلها تضمّ كل القادرين على حمل السلاح، بالإضافة إلى مسألة تنظيم المعركة وإدارتها وتأمين موجباتها الاجتماعية والصحية والتموينية والأمنية والإدارية الأخرى، بحيث كان لكلّ من أعضاء الحزب وأصدقائه دوراً محدداً ضمن إمكانياته وقدراته.
من جانب آخر، أتى البيان الصادر عن اللجنة المركزية في أواخر آذار العام 1982 واضحاً في تحذيره من عدوان إسرائيلي واسع، متوقعاً وصوله إلى بيروت بهدف تنصيب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، إلا أن جميع “الحلفاء”، ومنذ بدء الإجتياح البرّي وحتى لحظة تخطّي الدبابات الإسرائيلية لجسر الأولي وتوغلها باتجاه السعديات والدامور، ركنوا إلى التطمينات الدولية والعربية التي تحدثت عن عملية محدودة لا يتعدّى نطاقها 40 كليومتراً.
هكذا بدأت معركة بيروت من مداخل خلدة والمطار وصحراء الشويفات إلى كلية العلوم والسان تيريز والكفاءات والليلكي وصفير وغاليري سمعان والطيونة والمتحف وسباق الخيل والمرفأ، وبدأت التحضيرات المباشرة لمرحلة ما بعد الحصار، أي مرحلة قتال العدو على امتداد أرضنا المحتلة، فكان النداء الصادر عن الاجتماع الطارىء للجنة المركزية المنعقدة تحت الحصار في 4 تموز العام 1982: “ننقذ الوطن بمقاومة الغزاة ونصنع بدمائنا الأمل العربي الجديد”، واستمر القتال تحت أقصى الظروف وأصعبها وبقيت بيروت شامخة بشعبها، صامدة بمقاتليها الوطنيين.
بعيداً عن التحليل والاستنتاجات، ودّعت بيروت، في 21 آب العام 1982، القافلة الأولى من المقاتلين الفلسطينيين المغادرين على متن سفينة يونانية إلى تونس، والمبعدين “قسراً” عن ساحة الصراع، لتبدأ رحلة البحث عن مكان ما في التسوية السلمية، ولترسو السفينة بعد 11 عاماً عند شاطئ “أوسلو”.
في المقابل، وقبل خروج الدفعة الأخيرة من المقاتلين الفلسطينيين، دعت قيادة الحزب الشيوعي الكادرات العسكرية إلى اجتماع عقد في الطابق السفلي الرابع من مبنى “موسكو مارودني بنك” في منطقة الصنائع، وبعد انتظام الحضور، دخل أبو أنيس وحيداً حاملاً بيده وثيقة المؤتمر الرابع للحزب، ليبدأ تقريره السياسي بما أوردته الوثيقة من توقعات تحققت، ومن تحليل لعمق الصراع وآفاقه والمهام الجديدة التي تنتظر حزبنا، موجهاً حديثه للحضور: “إحلقوا ذقونكم، إخلعوا بذاتكم العسكرية، احتموا بين صفوف شعبكم وفي قراكم وفي أحيائكم، إحملوا قنابلكم اليدوية، ومسدساتكم، وسكاكينكم، ولاحقوا العدو المغتصب لأرضكم في كل مكان وفي أي زمان، يجب أن لا يستقرّوا، وسيتم تنظيم صفوفكم، أنتم على قدر المسؤولية، كونوا أهلاً للثقة التي وضعها حزبكم وشعبكم بكم”.
خيار المقاومة
في هذا السياق، أتى بيان الانطلاقة تتويجاً لمسار سياسي نضالي مارسه الشيوعيون بأرقى أشكاله الكفاحية، وأبحرت سفينة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عكس التيّار، حيث لم تأخذ في حساباتها موازين القوى القائمة، ولم تتوقف عند حالة الانقسام الداخلي السياسي أو الطائفي، كما لم تطلب إذناً أو سماحاً من نظام سياسي، ولم تتوسل الدعم من أي جهة بعيدة أو قريبة، ولم ترهبها الأصوات الداعية إلى محاكاة المرحلة بالمرونة، ولم تقف عند اتهام حزبنا بالمغامر، بل أعطت المقاومة الوطنية حركة التحرّر الوطني العربية بُعدها الثوري والطبقي وفتحت أمام اليسار العربي أبواباً لم يقاربها حتى الآن، لا في غزو العراق في العام 2003 ولا في الغزو التركي لسوريا منذ اسابيع، إلا أننا سنبقى متمسكين في خيارها ما دام خطر العدوان قائم، وما دامت منطقتنا قابعة على فالق المشروع الأميركي الصهيوني الرجعي العربي.
إن عدم الشروع في إطلاق مشروع المقاومة العربية الشاملة والعمل على ولادتها في ظلّ الظروف الموضوعية المؤاتية والتي ما زالت تفتقد إلى العنصر الذاتي في حراك تنظيمي ثوري عربي مقاوم لكل المخاطر الوجودية التي تتعرض لها منطقتنا، يضع وظيفتها التاريخية أمام المحكّ، وبالتالي يفقدها مبرّر وجودها. إن طبيعة المشروع الأميركي وأدواته وشموليته للمنطقة، تفرض على القوى الحيّة وفي “مقدمتها” اليسارية منها التصدّي لهذه المهمة التاريخية وايجاد الإطار الجبهوي التقدمي العربي الموحد لمختلف الطاقات الوطنية والقومية والشعبية لتشكل البديل الثوري أمام كل المشاريع التفتيتية المطروحة راهناً، أن تأتي متأخرة خير من أن لا تأتي أبداً.
التعليقات مغلقة.