عن زكريا محمد.. المثقف العضوي بامتياز / فيحاء عبد الهادي

فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) – الخميس 24/8/2023 م …

كيف نقرأ زكريا محمد «داوود محمد عيد»؟ كيف نقرأ ما كتب، مذ بدأ يكتب، وكيف نقرأ مسيرة حياته؟




هل يكفي أن نصفه بأنه كان شاعراً؟
وهل يكفي أن نصفه بأنه كان مناضلاً سياسياً؟
هل نصفه بأنه كان كاتباً؟ نحّاتاً؟ فناناً تشكيلياً؟ كاتب مقالة؟ كاتب قصص للأطفال؟ صحافياً؟ باحثاً في التاريخ القديم؟
أم نصفه بالشاعر والكاتب والباحث والفنان المبدع والمناضل المبدئي؛ العصيّ على التصنيف؟
*****
أذكر ولا أنسى المحطات السياسية والنقابية والأدبية، التي جمعتني بالصديق والرفيق، منذ الانتماء إلى التنظيمات السياسية، مروراً بمعاناة التوقيف والملاحقة والإبعاد؛ إلى الاستقلال التام عن أي انتماء حزبي، والتفرّغ للكتابة، في الثقافة والسياسة والتاريخ، بارتباطها بالشعب الفلسطيني، ونضاله التحرّري على الصعيد السياسي والاجتماعي.
*****
أخلص زكريا للشعر؛ بعد أن حسم سؤال جدوى الشعر؛ فاستحق لقب الشاعر.
وأخلص الشاعر للكتابة وللفنون؛ فاستحق لقب الكاتب الروائي، والصحافي، والكاتب التاريخي، والكاتب السياسي، والفنان المبدع.
وأخلص الشاعر والروائي والصحافي والفنان لمبادئه السياسية؛ فالتحق بالتنظيمات السياسية شاباً، حتى أحسّ باللاجدوى من الانتماء إليها؛ فاستقلّ عنها.
لم يكن مثقفاً تقليدياً؛ خرج عن التفكير السائد، وأعمل الفكر النقدي. لم يهادن، ورفض أن يكون ضمن أي قطيع، كان صاحب فكر حرّ، لا يخشى الاختلاف؛ بل ويجهر به، لأنه آمن أن حرية الفكر تتيح الحوار دون قيود، وتتيح مساحة واسعة للإبداع.
وعبَّر بوعي مبدع وفكر خلاّق عن مجتمعه وتحوّلاته، وعن المهمّشين والمضطّهدين.
وبالإضافة إلى اشتباكه المتواصل مع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني؛ اشتبك مع الفاسدين الذين يمتصّون دماء شعبهم، ومع المنافقين والمطبِّلين والمزمّرين، دون أن يلتفت إلى الحصول على تأييد شعبي أو مكسب شخصي؛ أراد التغيير على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية؛ فاستحقّ أن يكون المثقف العضوي بامتياز.
*****
فتنته الطبيعة، وألهمته. أنصت لحديثها. أصغى لحديث النباتات والأشجار والأحجار، والحيوانات والطيور والأزهار؛ فرأى وسمع وتعلّم – أنصت لحديث شجرة الجكرندا، وقول النخلة، ونواح الفاختة، وشرح طائر النُّحام، ونشيد اليمامات، وصياح الغراب، وتفتح عود العنصل –  ورغم ذلك لم تكن علاقته بالطبيعة رومانسية، آمن بقدرة الطبيعة على التجديد والابتكار، وقدرتها على العصف والدمار. «أردت أن أغني الكون كلّه. أن أعيّن نفسي ناطقاً باسمه. باسم الزهرة والكلبة والحجر. باسم شيرين، وباسم طائر الطنان كليهما، ولم يكن هذا حنيناً للمحبة، بل كان خفقاً بالأقدام في الطين».
كما أصاخ السمع لهموم الناس، المرتبطة بتفاصيل اللحظة السياسية، وعبّر عن تطلعاتهم وآمالهم وخيبات أملهم وصمتهم، بشكل صريح ونقدي، على وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل فني حين كتب الشعر والأدب، ولكنه لم يقحم الشعر في السياسة، في إيمان راسخ لديه أن لكلّ حقل أدواته، وأن إنتاج أدب جيد هو مشاركة في الصراع مع العدو: «أكتب مقالات في السياسة، شغّال في السياسة دون توقف؛ ولكن حين أكتب الشعر أسكّر موضوع السياسة».
التقط العادي الذي يعيشه الناس كل يوم، والذي يراه الناس في طريقهم، ورفعه إلى مصافّ الشعر؛ ليصبح غير عادي. قفز عن الواقع ليعيد صياغته بشكل إبداعي. «الزهور حيرة كبيرة. فالحجارة زهور، وفقاعات الصابون زهور».
افترض حضور الآخر، مؤمناً أن القصيدة تمتدّ بالآخر وتغتني به، ولذا كان يحرص على كتابتها على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتيح التفاعل الفوري مع القرّاء «لا توجد كتابة إلاّ بقارئ/ يظلّ بعقلك وأنت تكتب/ الكتابة محاولة طرد القارئ المفترض».
عشق اللغة؛ جمالها وكنوزها وأسرارها ولهيبها وقلقها وسعتها. عانقها وداعبها ليروّضها، وليخلخل بنيتها، وليحرّرها من الرومانسية والسطحية والمقولات المبتذلة المكرورة، ويجدِّدها، مضيفاً إليها بعداً فلسفياً حيناً، وميثولوجيا حيناً، ويبني حياة جديدة لها؛ لغة لها أسنان وأظافر؛ حادة، ومكثفة، وغامضة، وقوية، وساخرة، ومزلزلة، لا تكتمل إلاّ بذاتها.
*****
أعلن زكريا محمد أنه عاش على خيوط النور، وأنه شقيق الريح «ليس للريح أخ غيري»، وأن عصاه في كفّه، والشمس على كتفه، وأن قمحه من حواصل الطيور، وصفيره من حناجرها، وشعره حرب بالسيف والرمح والقوس والنشّاب، وحياته «خيط حرير وخيط نجوم طويل. وبالخيطان أصنع مطالعي». وأعلن: «ليس لديّ إجابة على أي سؤال، الريش فوق رأسي، والبرق على فأسي. لم آكل زرع أحد، ولا كسرت غصن أحد».
تتبع نصوص الموت في الأدب العربي – مالك بن الريب، وبدر شاكر السيّاب، وأمل دنقل، وفوزي كريم-، ووقف طويلاً أمام نصّ سعد الله ونوس الرائع «رحلة في مجاهل موت عابر»؛ ليحاور الموت، عبر كتاباته بأشكالها، ولا يعترف به: «أنا عنيد، ولا أعترف بالموت».
ونحن بدورنا لا نعترف بغيابك زكريا وإن رحل الجسد، توقف نبض القلب، ولم يتوقف نبض الشعر.
وهل يغيب من كان وفياً للشجر والحجر والإنسان، من كان يروي الأشياء ويحوِّلها إلى لغة؟ من كانت النخلة عَمّته والشمس عِمّته؟!
زكريا محمد؛ بقيت صرختك في الحلق، وطلقتك في بيت النار.
[email protected]
www.faihaab.com

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.