كيف زادت صورة الولايات المتحدة قُبحاً؟ / د. حسن نافعة

د. حسن نافعة ( مصر ) – الخميس 24/8/2023 م …




تسبّب التنافس على المستعمرات بين الدول الأوروبية الكبرى في اندلاع حربين عالميتين أفضتا، ضمن أمور أخرى كثيرة، إلى إضعاف مكانة القارّة الأوروبية ككل، وإلى وضع حد للسيطرة التي مارستها على النظام العالمي قرونا، امتدت منذ ظهور الدولة القومية في منتصف القرن السابع عشر وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية بالقرب من منتصف القرن العشرين. وفي سياق الزخم الناجم عن التراجع الأوروبي، ظهر نظام دولي جديد تتنافس للسيطرة على مقاليده قوتان عظميان من خارج القارّة الأوروبية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبرزت حركات تحرّر وطني تناضل من أجل الحصول على الاستقلال السياسي والتحرّر من إسار التبعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ربطت شعوبها بالنظام الاستعماري القديم. لذا بدا واضحا، ومنذ اللحظة الأولى التي اندلع فيها الصراع على قيادة نظام دولي جديد ثنائي القطبية، أن حسم هذا الصراع سيتوقف، في نهاية المطاف، على طبيعة العلاقة التي ستربط كلا منهما مستقبلا بشعوب المستعمرات التي أصبحت تُعرف باسم “الجنوب العالمي”.

حين ظهر القطبان الأميركي والسوفييتي على مسرح السياسة العالمية في حقبة ما بعد الحرب الثانية، بدت الولايات المتحدة في موقفٍ يتيح لها مد نفوذها بسهولة أكبر نسبيا إلى المناطق التي تحرّرت حديثا من نير الاستعمار الأوروبي، لأسباب متعدّدة، في مقدّمتها خلو تاريخها من ماض استعماري يحول دون مدّ الجسور مع شعوب المستعمرات القديمة. ولأنها عانت من استعمار أوروبي خضعت له قرونا، فقد اعتقدت نخبٌ عديدة حاكمة في الدول المستقلة حديثا أن الولايات المتحدة ستكون أكثر قدرة على تفهم مشكلاتها، وعلى مد يد العون والمساعدة لشعوبها.

إذا أضفنا إلى ما تقدّم أن الولايات المتحدة خرجت من الحرب العالمية الثانية أقوى وأغنى دولة عرفها تاريخ البشرية، وأن نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بدا أكثر نماذج النظم المعاصرة حيوية وجاذبية وقدرة على تحقيق النمو وضمان أوسع مشاركة سياسية ممكنة، لتبيّن لنا على الفور أن كفّة الولايات المتحدة بدت هي الأرجح في ذلك الوقت والأقدر على حسم الصراع الدولي على النفوذ لصالحها. صحيحٌ أن تاريخ الاتحاد السوفييتي خلا بدوره من أي ماض استعماري، لكن نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي بدا في ذلك الوقت أقلّ جاذبيةً وقدرةً على التأثير خارج نطاق المعسكر الاشتراكي، غير أن الولايات المتحدة ما لبثت أن ارتكبت أخطاء كبرى في تعاملها مع حركات التحرّر الوطني في دول الجنوب، الأمر الذي أتاح أمام الاتحاد السوفييتي فرصا ذهبية لمدّ نفوذه بسهولة خارج نطاق المعسكر الاشتراكي، وتمكّن من الوصول إلى مناطق لم يكن يحلم بالوصول إليها من قبل. فبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، تبنّت الولايات المتحدة سياسة تهدف إلى ردع الاتحاد السوفييتي واحتوائه، من خلال محاصرته بسلسلة من الأحلاف العسكرية القادرة على الحيلولة دون تمكينه من مدّ نفوذه خارج نطاق القارّة الأوروبية، وخصوصا أنه كان قد تمكّن إبان الحرب العالمية الثانية من السيطرة على عددٍ لا يستهان به من دول أوروبا الشرقية. وبدلا من أن تسعى الولايات المتحدة إلى استمالة حركات التحرّر الوطني التي اندلعت في المستعمرات الأوروبية القديمة، والعمل على تفهم احتياجات شعوبها، راحت تنغمس في الشؤون الداخلية لدول الجنوب، وتسعى إلى إجهاض أي ثورات أو حركات اجتماعية تهدف إلى النهوض بهذه الدول على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وعلى سبيل المثال، أطاحت المخابرات المركزية الأميركية عام 1952 بحكومة محمد مصدق في إيران، وأصرت على إعادة الشاه المخلوع إلى السلطة هناك، كما أطاحت عام 1954 الحكومة الوطنية في غواتيمالا، ونصّبت بدلا منها حكومة موالية لها.

باختفاء الاتحاد السوفييتي من مسرح السياسة الدولية، تقلص الهامش المتاح أمام دول الجنوب للتأثير على قواعد النظام الدولي وقيمه

 

وحين تأسّست حركة عدم الانحياز في ما بعد، وهي التي تم غرس بذورها في مؤتمر باندونغ الذي انعقد عام 1955، كانت تلك الحركة بمثابة معمل اختبار حقيقي قادر على قياس مدى قدرة كل من القوّتين العظميين المتنافستين على قيادة النظام الدولي على التعامل مع تطلّعات حركات التحرّر الوطني في دول الجنوب، فبينما رأت الولايات المتحدة في مبدأ “عدم الانحياز” منحىً “غير أخلاقي”، دفعت إليه رغبة خبيثة في الابتعاد عن معسكر “الخير” الذي يمثله الغرب الديمقراطي والاقتراب من معسكر “الشر” الذي يمثله الشرق الاستبدادي، بدا الاتحاد السوفييتي أكثر قدرة على تفهم مشكلات الحركة ومطالبها، وتعامل مع دولها بقدر أكبر من المرونة، وبدا مقدّرا مواقفها المعادية للاستعمار، وحريصا على دعم طموحاتها في تحقيق الاستقلال الوطني والاستجابة لتطلّعات شعوبها في التنمية والعدالة الاجتماعية.

صحيحٌ أن الاتحاد السوفييتي كان واعيا أن دعمه حركات التحرّر الوطني في دول الجنوب سيؤدّي تلقائيا إلى إضعاف المعسكر الغربي، وصحيح أيضا أن الولايات المتحدة بدت حريصةً، في الوقت نفسه، على أن تتبنّى مواقف مختلفة ومتميّزة عن مواقف القوى الاستعمارية التقليدية، وهو ما بدا واضحا إبّان أزمة السويس التي اتخذت الولايات المتحدة خلالها موقفا معاديا للعدوان الثلاثي على مصر، غير أنه سرعان ما تبيّن أن هذا الموقف كان مدفوعا بالرغبة في وراثة تركة الاستعمار الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط البالغة الأهمية والحساسية، بأكثر مما كان مدفوعا بالحرص على مصالح دول الجنوب. لذا يمكن القول، من دون تردّد، إن أزمة السويس كانت كاشفة للبعد “الإمبريالي” للقوة الأميركية الصاعدة، ولتطلع الولايات المتحدة للسيطرة على العالم بوسائل أخرى غير الاستعمار المباشر أو الاحتلال العسكري. كان هذا هو السياق الذي راح فيه صراع النفوذ على دول الجنوب يشتدّ بين القوتين العظميين المتنافسين على قيادة النظام الدولي، إلى أن تمكّنت الولايات المتحدّة من حسم هذا الصراع لصالحها، حين انهار الاتحاد السوفييتي وتفكّك في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.

في أثناء احتلالها العراق ارتكبت الولايات المتحدة جرائم ضد الإنسانية وجرائم تعذيب وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان

 

باختفاء الاتحاد السوفييتي من مسرح السياسة الدولية، تقلص الهامش المتاح أمام دول الجنوب للتأثير على قواعد النظام الدولي وقيمه، ومن ثم أصبحت علاقة دول الجنوب بالولايات المتحدة ليس مباشرة فحسب، وإنما غير متوازنة أيضا، وخصوصا أن الولايات المتحدة أرادت لهذه العلاقة أن تبنى على قاعدتي الخنوع والتبعية، وليس على مبادئ الشراكة والتعاون وتبادل المصالح والمنافع، كما تطلعت إلى ذلك دول الجنوب. لذا يمكن القول إن سقوط الاتحاد السوفييتي أدّى، في الوقت نفسه، إلى سقوط كل الأقنعة الأميركية، حيث راحت الولايات المتحدة تظهر على حقيقتها بدون أي مساحيق تجميلية، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن وقعت أحداث “11 سبتمبر” في العام 2001، والتي اتخذت منها الولايات المتحدة ذريعة لإطلاق “حربٍ كونيةٍ على الإرهاب”، استخدمتها أداةً لفرض هيمنتها على دول الجنوب بالقوة المسلحة. ورغم أن كل التصرّفات الأميركية في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر، خصوصا تجاه دول الجنوب، كشفت عن انحطاط أخلاقي لا مثيل له، إلا أن هذا الانحطاط تجلى على أبشع صوره قبيل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وفي أثنائه، فقد أقدمت الولايات المتحدة على هذا الغزو رغم أنف مجلس الأمن، في تحدّ سافر للشرعية الدولية وانتهاك فاضح ومتعمّد للقانون الدولي، وكذبت على المجتمع الدولي كله، حين برّرت عدوانها على العراق بادّعاء أنه يُخفي أسلحة دمار شامل، ثم أسقطت نظام صدّام حسين بقوة السلاح، بدعوى أنه نظامٌ مستبدّ، وأن العراق سيكون أفضل بدونه، لكنها أسّست لنظام طائفي لا يمتّ للديمقراطية بصلة. وفي أثناء احتلالها العراق ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم تعذيب وأقدمت على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، كشفت عنها أحداث سجن أبو غريب على وجه الخصوص. ولأن ما ارتكبته الولايات المتحدة من فظائع في العراق تكرّر بأشكال مختلفة في مناطق كثيرة من العالم، يمكن القول إن فترة الهيمنة الأميركية المنفردة كانت وبالا على العالم كله، خصوصا على كل دول الجنوب، وهو ما يفسّر بوضوح لماذا تبدو دول الجنوب بالذات متحمّسة لإنهاء عصر القطبية الأحادية رغم تحفّظها الواضح على الأسلوب الذي استخدمته روسيا، خصوصا في أوكرانيا، لإجبار الولايات المتحدة على القبول بضرورة إقامة نظام دولي جديد متعدّد القطبية.

تدرك دول “الجنوب العالمي” أن النظام الدولي الجديد متعدّد القطبية قد لا يحقق بالضرورة كل طموحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصا إذا اقتصرت قيادته على الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن المعاناة التي تكبّدتها هذه الدول إبان فترة الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي، والتي جسّدت القبح الأميركي في أكثر صوره بشاعة، تجعلها حريصة بدورها على التخلص من هذه الهيمنة بأي ثمن، وهو ما تبيّن بوضوح إبّان القمة الروسية الأفريقية التي انعقدت في سانت بطرسبورغ في نهاية يوليو/ تموز الماضي، وشارك فيها كل رؤساء الدول الأفريقية تقريبا. صحيحٌ أن دول “الجنوب العالمي” لم تتمكّن بعد من توحيد صفوفها حول رؤية موحّدة لطبيعة النظام العالمي الجديد الذي ينبغي العمل على تأسيسه، والذي يجب أن يقوم على مبدأ “المصالح الإنسانية المشتركة” بدلا من مبدأ “توازن القوى” التقليدي، غير أنها تبدو متفقة على شيء واحد، أن عصر الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام العالمي يجب أن يسقط إلى غير رجعة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.