موقع منظمات البيئة من النظام الرأسمالي العالمي / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 25/8/2023 م …




 

سبق أن نشرت مقالا من جزأَيْن بعنوان “الإستعمار الأخضر”، بنهاية شهر حزيران 2023، وهذه الفقرات في نفس المَعْنى والإتجاه.

كان الناس منذ القِدَم يعشقون الطبيعةَ وكثيرًا ما تَغَنّى الشُّعراء بجمالها، قبل أن تنشأ حركات محلية وعالمية مُتجانسة سياسيًّا وعقائديا،لتستحوذ على مواضيع الطبيعة والبيئة، وتجعله حكرًا عليها، بذريعة حماية البيئة والدّفاع عنها (وليس عن الإنسان)، في ظل النظام الرّأسمالي القائم، ووفّر الإعلام السّائد حيّزًا هامّا لهذه الحركات، خصوصًا منذ عقد السّبعينيات من القرن العشرين، لمّا عَلا صوت الأمم المُضْطَهَدَة الدّاعي إلى الإستقلال عن الإمبريالية واختيار سبيل مستقل للتنمية (راجع خطاب الرئيس الجزائري هواري بومدينن، نيسان/ابريل 1974، بالإمم المتحدة، باسم مجموعة السَّبْع والسّبْعِين، حول النظام الإقتصادي العالمي الجديد )، وأَقَرّت بعض الحكومات تأميم الثروات، ومنها المناجم (تشيلي، ما تسبب في اغتيال الرئيس سلفادور أليندي وتنصيب دكاتاتورية عسكرية، لفترة عِقْدَيْن) والنّفط (ليبيا والجزائر والعراق وغيرها) واستغلت منظمات الدّفاع عن البيئة قضية حق أُرِيدَ بها باطل، وهي التّلوث الذي يُسبّبه استخراج وتصفية واستخدام النّفط أو بعض المعادن الأخرى، وتستغل الشركات العابرة للقارات هذه الثروات في البلدان الواقعة تحت الهيمنة، لتبيعها بأضعاف ثمن تكلفتها، بعد معالجتها وتكريرها في الدّول الرأسمالية المتقدّمة…

كان موضوع استخدام موارد البلدان الفقيرة من أجل التنمية سائدًا في العديد من بلدان “الجنوب” أو “الأَطْراف”، ولو تحقق ذلك لتمكّنت الشعوب الواقعة تحت الهيمنة من تحقيق الإستقلال الإقتصادي من خلال السيطرة على على مواردها واستخدام عائدات المعادن والثروات المنجمية لتنمية الإقتصاد والمجتمع…

في هذه الظروف بدأت منظمات الدفاع عن البيئة تظْهَر في بلدان شمال أوروبا وهولندا وألمانيا، والبلدان التي “تستضيف” قواعد أمريكية ضخمة والتي لا توجد بها أحزاب شيوعية، أو توجد بها أحزاب ضعيفة جدًّا، وهي حركات ذات قدر كبير من التّجانس على نطاق عالمي، ورَحَّبت بها وسائل الإعلام، لأنها لا تتبنّى نضالات المزارعين اليابانيين التي بدأت منذ منتصف ستينيات القرن العشرين، ضد بناء مطار سانريزوكا ومطار ناريتا، أو احتجاجات الشعوب الأصلية بالأمريكِيّتَيْن، ضد شق الطرقات وقطع أشجار الغابات، من أجل توسيع مساحة المزارع الكبرى أو استغلال الموارد الباطنية أو الخشب، أو احتجاجات مُزارعي جنوب وشرق آسيا أو إفريقيا، ما أثار الشّبُهات عن علاقات بعضها (وليس كلها لأن هذه الحركات متنوعة، رغم القواسم المُشتركة العديدة) بالإحتكارات الدولية الكبرى التي عملت على استخدام “حماية البيئة” لإدامة تخلّف بعض البلدان واستمرار دورها في توفير المواد الخام والعمالة الرخيصة للقوى العظمى، وإنشاء بعض المحميات الطبيعية كمتنزهات في مناطق عيش السكان الأصليين وبعض فئات السُّكّان في كينيا أو أمريكا الشمالية أو أستراليا أو فلسطين المحتلة، برعاية منظمات دولية مثل المنتدى العالمي للحياة البرية ( WWF ) الذي يُرَوِّجُ لتحويل بعض الدول الفقيرة إلى وجهة سياحية للاستمتاع برحلات “السّفاري” ( Safari )، بالغابات والبُحيْرات وبالحياة البرية، واستغلال طيبَة وسذاجةَ السّكّان المَحَلِّيِّين، حيث تكون الطبيعة جميلة والإنسان كائن حقير، غير ذي قيمة، وتَجاهلت هذه المنظمات التّأثير السّلبي للسياحة على البيئة وعلى حياة السّكّان…

رَوّجت هذه المنظمات للمسؤولية الفردية عن حماية الطبيعة، متجاهلةً المسؤولين الرئيسيين عن التلوث والدّمار، وهي شركات النفط والمعادن وصناعة البلاستيك والمواد الكيماوية والشركات الزراعية وشركات تحويل الأغذية، أو صناعة وتسويق المبيدات والأسمدة والبذور المُعدّلة وراثيا وما إلى ذلك، ونجحت في بث وهم حماية البيئة عبر رفع أسعار المياه الصالحة للشرب أو الكهرباء أو المحروقات والنّقل، وتستمر الشركات العابرة للقارات في جَنْيِ مزيد من الأرباح عبر تلويث المحيط وتعريض صحة البشر للخطر

يُرَوِّجُ قِسْمٌ من الحركات البيئية نظرية الانفجار الديموغرافي، أو وُجُود فائض في عدد السكان في العالم (أي في الدّول الفقيرة)، وهو تبرير بشكل غير مباشر للتعقيم الإجباري، وللسياسات المنهاضة للإنجاب التي تم تجريبها في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، دون علم النساء المعنيات أحيانًا، وتُشكل الحُرُوب وسيلة لخفض العديد الفائض من السكان، في العراق حيث بررت مادلين أولبريت الوزيرة الصهيونية لخارجية الإمبريالية الأمريكية قَتْلَ نصف مليون طفل عراقي، وحيث كانت منظمات الدفاع عن البيئة تتباكى على نفط آبار الكويت الذي احترقت، وتجاهلت تدمير الطبيعة والمباني والبشر في العراق، أو كما حصل أفغانستان ويحصل في فلسطين واليمن وسوريا وغيرها، تمامًا كما حصل مع السكّان الأصليين في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندة…

إن معيار تقييم الأحزاب والتيارات “الخضراء” هو الموقف من الإنسان، أول ضحايا التّلوث والكوارث، والذي يُعاني من ظروف العمل السيئة في المناجم والمصانع والحُقُول، والذي يُعاني من الفقر والبطالة والقَمع والإضطهاد والإستعمار، وكذلك النضال من أجل المساواة والعدالة الإجتماعية، ليشمل شعار “انقذوا الكوكب” سُكّان هذا الكوكب الذين تضرّروا من هيمنة الرأسمالية المُعولمة والشركات متعددة الجنسيات وحلف شمال الأطلسي، وكل المسؤولين الحقيقيين عن عملية تلويث البيئة والمحيط وإنتاج ثاني أكسيد الكربون، حيث كان أسطول التجارة البحرية الدّولية سنة 2022 مسؤولا عن أكثر من ثلاثة أرباع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالنقل البحري، فضلا عن الشاحنات، وهذه الشركات مسؤولة تدرجة أولى عن نهب الغابات والمياه والموارد والإنتاج الزراعي لأمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا …
أمّا المواطن الفرد فهو غير مسؤول عن تدمير الكوكب لأن الأثرياء أكثر استهلاكا للوقود وللغذاء وللمياه من الفُقراء، ولذا فإن المسؤولية ليست مشتركة بين الفقير والغني، أما شركات الأغذية الزراعية والكيماويات والأسمنت والمحروقات أو شركات النقل فهي المسؤولة الرئيسية عن التلوث ولا يمكن أن يكون الأفراد وهذه الشركات مُتساوِيَيْن في المسؤولية عن التلوث، ومن المتوقع أن تصل التكاليف الاقتصادية التي تتحملها البلدان النامية نتيجة الخسائر والأضرار البيئية إلى نحو 250 مليار دولار بحلول سنة 2030، وتم بتهجير أكثر من 21,5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم بسبب تغير المناخ، ومع ذلك فإن دول أوروبا وأمريكا الشمالية ارفض الإعتراف بلاجئي المناخ الذين فقدوا الأرض والمأوى وسبل الحصول على الغذاء والضروريات الأساسية، بفعل النهب الذي تُسببه مصالح الدول المتقدمة وشركاتها العابرة للقارات…

لما بدأت عمليات الإحتلال العسكري لبلدان آسيا وإفريقيا وبعض مناطق أمريكا الجنوبية (بعد الإحتلال الإسباني) كانت البعثات العلمية والأنثروبولوجية وعلماء الحفريات والآثار والتاريخ واللغة والحضارة والعلوم الإجتماعية، تُرافق القوات العسكرية لتيْسير عملية احتواء السكان المحليين ولاستخدام العلوم والمعارف المحلية التقليدية إلى جانب العلوم الحديثة في إنجاز المشاريع الإستعمارية والإستيطانية، ومنها دراسة طبيعة الأرض والمياه والمناخ الطبيعي لدعم عملية إنتاج المزارع التي يستولي عليها المُستَعْمِرُون والمُسْتَوْطِنُون، وتعزيز نهب الموارد المحلية وتراكم الثروة لإعادة توزيعها على فئات من مجتمع المُسْتَعْمِرِين…

استمر الإستغلال بعد الإستقلال الشكلي، حيث لا تزال دول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية تستورد الآليات والتجهيزات والتكنولوجيا والعلوم والمعارف من أقطاب النظام الرأسمالي، وتستورد معها أساليب الزراعة والبذور المُعَدّلة وراثيا وتستورد معها الأضرار التي تلحق بالأرض والمياه والنبات وبالإنسان ومحيطه، واستفحل الأمر منذ انهيار الإتحاد السوفييتي (تغيير موازين القوى العالمية) وإنشاء منظمة التّجارة العالمية، وبعد فَرْضِ الدول الرأسمالية الإمبريالية اتفاقيات دولية بشأن المناخ والحفاظ على البيئة، بما يناسب الإيديولوجية السائدة التي تُخضع علوم المناخ والبيئة لصالح الشركات العابرة للقارات وشركات الزراعات الكُبْرى، واستخدام هذه الإتفاقيات من أجل الهيمنة (بالقُوّة النّاعمة أو بقوّة السّلاح) وليس من أجل مكافحة تلوُّث المناخ أو من أجل القضاء على الجوع وسوء التغذية أو الأمراض المرتبطة بتلوث البيئة، وجميعها ناتجة عن المضاربة بالغذاء وعن استغلال العوامل الطبيعية (ومعظمها ناتجة عن نشاط الإنسان والمصانع والمزارع) والجفاف والعواصف والفيضانات وما تَجُرُّهُ من مجاعات وهجرة قَسْرِيّة لصغار الفلاحين ومُربِّي الماشية وصيادي السّمك، وهي الفئات التي تُوفِّرُ غذاء نحو 80% من سُكّان العالم، لتستحوذ الشركات الإحتكارية على الأراضي الزراعية الخصبة في البلدان الفقيرة، ونهب مواردها (المياه والتربة والموارد الطبيعية) لإنتاج سلع غذائية مُعَدّة للتصدير نحو أسواق الدّول الإمبريالية، ثم تزعم نفس هذه الأطراف الإستعمارية الريادة في مجال المحافظة على البيئة، وبذلك يكون تدمير البيئة جزءًا من مخطط امبريالي شامل يهدف إدامة التّبَعِيّة الغذائية، في زمن ازدهار التبادل التجاري الدّولي وفتح الأسواق، واغتنمت الشركات الإحتكارية وبعض الدّول الجفاف والكوارث الطبيعية للإستحواذ على الأراضي الزراعية الخصبة في البلدان الفقيرة، ونهب مواردها (المياه والتربة والموارد الطبيعية) لإنتاج سلع غذائية مُعَدّة للتصدير نحو أسواق الدّول الإمبريالية، ثم تزعم نفس هذه الأطراف الإستعمارية الريادة في مجال المحافظة على البيئة
أحدث تغيير الإستعمار لأشكال استغلال الأرض والموارد أضْرارًا كبيرة ودَمَّرَ حياة أهل البلاد من السكان المحليين، وإبادة النباتات والزراعة المحلية وتغيير خصائص أديم الأرض والمحاصيل واختلال التوازن الغذائي والبيئي، ضمن مخطط للإستعمار الاقتصادي والإستيطاني بدأ بأمريكا، شمالها وجنوبها، وأستراليا ونيوزيلدة ثم الجزائر وكاليدونيا (كَناكِي) وإيرلندا وفلسطين…
بعد قُرُون من التخريب والنهب والإبادة وإقصاء السّكّان الأصليين،أطلقت أبواق الدّعاية الإمبريالية وجامعاتها ومؤسساتها البحثية والعلمية خطاب “العدالة البيئية”، لتغليف الخطاب الإستعماري بغشاء “أخلاقي”، بمباركة الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة التي تُرَكِّزُ على المسؤولية الفردية والتغاضي عن مسؤولية الشركات العابرة للقارات في تدمير البيئة ونشر المواد المُلَوّثة للمحيط والقاتلة للإنسان وللأشجار والكائنات الحَيّة، ويُساوي خطاب المحافظة على البيئة بين الفضلات المنزلية والنفايات الصناعية السّامّة، بين الفقراء الذين لا فضلات لهم والأثرياء القادرين على الإستهلاك وعلى تبذير المياه في المسابح الخاصة والفنادق التي تحتكر جزءًا من الشواطئ والفضاء العام الخ
تُدمِّرُ الولايات المتحدة وكندا حاليا (سنة 2023) ما تبقّى من تراث وأراضي ومياه ومحيط السّكّان الأصليين، لتمرير خط أنابيب الغاز بين الدّولَتَيْن، ولا تتم محاسبة المسؤولين عن هذا الدّمار كما لم تتم محاسبة الساسة والضُّبّاط الأمريكيين الذي قصفوا اليابان بالقنابل النّوَوِيّة وفيتنام ب”العنصر البرتقالي” والنابالم، وقصفوا لعراق باليورانيوم المنضب، أما من يُندّد بجرائم الكيان الصهيوني من تجريف الأرض الزراعية، وحرق غابات وأحراج جنوب لبنان، وإلقاء النفايات السامة وقنابل الفوسفور الأبيض على أبناء وبنات الشعب الفلسطيني فقد يتعرّض إلى الإتهام ب”مُعاداة السّامية”، لتجنب أي نقاش لجوهر تهمة تدمير البيئة وقتل أصحاب الوطن والإنسان صاحب الأرض، من قِبَل الكيان الصهيوني…
ازدهر النظام الإقتصادي الرأسمالي بفضل نهب موارد البلدان الأخرى، وسرقة ثروات الشّعُوب، وإزالة الغابات وتدمير الأراضي الصالحة للزراعة ومنابع المياه وتلويث المحيط وباطن الأرض، وما ينجر عن النهب من بطالة وفقر، وتعميق الفجوة بين الدول الإمبريالية والدّول المُصدِّرَة للمواد الأولية، فضلا عن استخدام المُسْتعمَرات للقيام بالتجارب النووية حيث لا يزال الشعب الجزائري يعاني من آثار التجارب النووية الفرنسية، ولا يزال الشعب الفلسطيني يعاني من أضرار الأسلحة الفتاكة والإشعاعات والمواد السّامة التي أضرّت بصحّة الإنسان وبالأرض والمياه والهواء، وكذلك الشعب الفيتنامي وشعوب أخرى عديدة…
لقد فقدت الحركات والمنظمات والأحزاب التي جعلت من “الدفاع عن البيئة” شعارها الرئيسي، مصداقيتها عندما دعمت حلف شمال الأطلسي ( أحزاب البيئة في ألمانيا، على سبيل المثال) والكيان الصهيوني، ولم يبق لشعار “العدالة البيئية” أي معنى إذا لم يقترن بالمطالبة بوقف التسلح وخفض ميزانية الحرب وإغلاق مصانع الأسلحة الفتاكة، وما ينطبق على أحزاب “الخُضْر” ينطبق كذلك على أصحاب الخُطب الرنانة التي تُلْقَى في الأمم المتحدة وفي مختلف المؤتمرات حول “اتفاقية المناخ” وجميع الإتفاقيات الدّولية.

إن أزمة المناخ ليست مجرد أزمة بيئية فحسب، بل هي قضية تتعلق بالاستعمار والإمبريالية والفقر، ووجب أن تتحمل الدّول الرأسمالية المتقدمة (أي الدّول الإستعمارية وأعضاء حلف شمال الأطلسي) تحمل مسؤولية أزمة المناخ من خلال دفع تعويضات للبلدان النامية، لأن البلدان الأكثر عرضة للخطر تحتاج إلى الدعم المالي للتعافي من الكوارث التي لا يمكن تجنبها، ومن المتوقع أن تصل التكاليف الاقتصادية التي تتحملها البلدان النامية نتيجة هذه الخسائر والأضرار إلى نحو 250 مليار دولار بحلول سنة 2030، وأن تُؤَدِّي إلى تهجير أكثر من 21,5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم بسبب تغير المناخ، ويتوجب على دول أوروبا وأمريكا الشمالية الإعتراف بلاجئي المناخ الذين فقدوا الأرض والمأوى وسبل الحصول على الغذاء والضروريات الأساسية، بفعل النهب الذي تُسببه مصالح الدول المتقدمة وشركاتها العابرة للقارات…

لا يكفي إعلان الإستقلال الشّكلي ليصبح تحرّر الأرض والإنسان واقعًا يوميا، لأن الإستعمار لا يزال مُهيمنًا اقتصاديا وإيديولوجيًّا وبواسطة احتكار العلوم والدراسات والبُحوث وتطبيقاتها، وترويج مفاهيم مثل “التنمية المستدامة” و”الحُكم الرشيد” و”الشفافية” وهي مفاهيم أُفْرِغت من مَضْمُونها لتصبح أدوات هيمنة للرأسمالية النيوليبرالية التي تُهَمِّشُ الشُّعوب الفقيرة والفئات الكادحة وتراثها وثقافتها ونمط عيشها، وأصبحت هذه المفاهيم أداةً لإقامة حواجز جمركية تخنق صغار الفلاحين عبر مَنْعِ دخول سلع البلدان الفقيرة، بذريعة عدم احترامها معايير “البُعْد الإيكولوجي” وسلامة المُحيط، و”التنمية المستدامة التي تحترم البيئة”، ويتم ذلك بدعم منظمات المحافظة على البيئة وأحزاب “الخُضْر” أو بتجاهل كامل لمشاغل صغار الفلاحين في البلدان الفقيرة.
تُساهم الأمم المتحدة (وهي انعكاس لميزان القوى الدّولي) في تكريس الهيمنة الإمبريالية في جميع المجالات، بما فيها مجال “المحافظة على البيئة”، فقد عقدت الأمم المتحدة قِمّةً حول البيئة، سنة 1972، في ستوكهولم، ونشرت توصيات غير ملزمة عن “ضرورة الترابط بين التنمية الاقتصادية والبيئة “، وأصدَر برنامج الأمم المتحدة للبيئة، سنة 1982، تقريرًا عن حالة البيئة العالمية، تضمّن العديد من الوثائق والبيانات الهامّة والإحصائيات عن خطر انقراض عشرات الآلاف من النباتات والحيوانات والكائنات الحية، وعلقت بعض مراكز البحث في دول “الأطراف” على هذه التقارير بضرورة إدماج مشاغل الشعوب الواقعة تحت الهيمنة، ومن هذه المشاغل تعويض الشعوب على الأضرار التي سبّبها الإستعمار، وإنشاء صندوق تنمية لتضييق الفجوة بين الدول الغنية والدّول الفقيرة، وقدمت اللجنة الدولية للبيئة والتنمية التابعة للأمم المتحدة في نيسان/ابريل 1987، تقريرا عُرِفَ باسم “تقرير بورتلاند” بعنوان:”مستقبلنا المشترك” يدعو إلى ضرورة توخي “التنمية المستدامة، بدل مُواصَلَةَ استنزاف الموارد بشكل غير قابل للإستمرار”، فيما طالبت منظمات المجتمعات المحلية والفلاحين الفُقراء بأمريكا الجنوبية، منذ سنة 1992 أثناء مؤتمر قمة المناخ ب”ري ودي جنيرو” (البرازيل)، استخلاص التجارب من طريقة تعامل اﻟﻤﺠتمعات المحلية مع مشكلات البيئة، ودعم السكان المحليين لحماية البيئة ولمواجهة تغير المناخ، ومكافحة النتائج الوخيمة لانبعاث الغازات الدفيئة، وأعادت منظمات السكان المحليين وصغار الفلاحين والفلاحين المحرومين من الأرض تأكيد هذه المطالب، في كل المناسبات، منها مؤتمر كيوتو( اليابان) لتغير المناخ سنة 1997، وتتميز مؤتمرات الأمم المتحدة والتي تكون الكلمة الفصل فيها للدول الرأسمالية المُهيمنة، بعدم اتخاذ قرارات عملية، مثل مساعدة مادية ملموسة للبلدان الفقيرة ومساعدتها على الإشراف بنفسها على برامج مكافحة التغير المناخي…
إن تغير المناخ هو شكل من أشكال الإبادة البشرية والبيئية والثقافية التي تحدث في أعقاب التدمير الاستعماري لأراضي الأجداد من التاريخ والثقافة والعادات … القد خلقت البلدان المتقدمة هذه الكارثة المناخية، وهي مُلْزَمَة حاليا بإصلاح آثارها، خصوصًا وإن الأثرياء مسؤولون عن التلوث وعن تدمير المحيط وهدر المياه والغذاء.
يُؤَكِّدُ “هيرفي كيمبف”، مؤلف كتاب بعنوان “كيف يدمر الأثرياء الكوكب”، الذي نُشر سنة 2007 (Hervé Kempf « Comment les riches détruisent la planète , 2007 ) ، أن حل الأزمة البيئية يتطلب معالجة الأزمة الاجتماعية المصاحبة لها، لأن الإرتباط وثيق بين الأزْمَتَيْن اللّتَيْن خلقهما الأغنياء بفعل التوسُّع الرأسمالي الذي يحقق لهم المزيد من الأرباح…
إن العمال والفقراء غير مسؤولين عن نهب البيئة وتدميرها، بينما تتصف الطبقة الرأسمالية الحاكمة، بالجشع وهدر الموارد واستغلال السلطة لكي يستمر نمط الإنتاج المُدَمِّر، وَفَرْضِ الرأسمالية الأيديولوجية النيوليبرالية كملاذ أخير للبشرية (نهاية التاريخ) بدعوى استحالة وجود أي بديل لهذا المسار، وبالإضافة إلى الظلم الطبقي والقومي، يتضَمّنُ برنامج الرأسمالية تسميم المحيط الحيوي للإنسان، وتقليص الحريات العامة، وقمع الحركات الإجتماعية وتدهور الوضع المعيشي للأجيال الحالية والقادمة.

أشارت بعض الصحف الإفريقية (من أنغولا ونيجيريا والكونغو والسينغال وموريتانيا) إلى التناقض بين ادّعاء أوروبا خفض استخدام الوقود الأحفوري لتحقيق أهداف المناخ العالمي للأمم المتحدة، والمطالبة بزيادة إنتاج الوقود الأحفوري في إفريقيا (لتعويض الغاز الرّوسي)، والتّنكُّر في ذات الوقت، لوعود الإتحاد الأوروبي باستثمار 100 مليار دولارا لتمويل مشاريع صديقة للبيئة في إفريقيا، وصرح الرئيس النيجيري محمد بوخاري: “نحن بحاجة إلى شراكة طويلة الأمد، تساعد على تأمين الطاقة وعلى تحقيق التنمية في إفريقيا ومعالجة تلوث البيئة بالكربون وتسربات الميثان…”، وتمارس الدّول الأوروبية سياسات “الإستعمار الأخضر” وفق تصريح كارلوس لوبيز، الرئيس السابق للجنة الإقتصادية لإفريقيا التابعة لألمم المتحدة…

لا تتطرق منظمات الدفاع عن سلامة البيئة وأحزاب الخضر إلى مظاهر ونتائج الإستعمار الإستيطاني الصّهيوني لفلسطين، ويقتضي هذا النوع من الإستعمار اقتلاع السّكّان الأصليين من وطنهم بالقُوّة، وتوزيع الأرض على مُستوطنين جاؤوا من مائة دولة، وتحويل القُرى المُهدّمة إلى “مناطق خضراء” ومَحْمِيّات طبيعية تُسمّى باسم البلدان التي مَوّلت تأسيسها (كندا أو جنوب إفريقيا أو أقاليم ألمانية أو ولايات أمريكية…)، وبذلك يُقدّم الإحتلال نفسه كحامي للبيئة، فضلاً عن احتكار تصدير بعض أنواع الحمضيات والورود إلى أوروبا وتقديمها للمُستهلك الأوروبي على إنها منتجات طبيعية تحترم سلامة البيئة، ووجب فضح هذه المغالطات كجزء من حركة المُقاطعة ومقاومة الإحتلال، بالتوازي مع دعمنا الحركات التقدمية لصغار الفلاحين والفلاحين بدون أرض والمنظمات الدّاعية إلى تحقيق السيادة الغذائية…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.