“جمول” بين الأمس واليوم بعيون أبطالها المقاومة الوطنية خيارٌ مستمرٌ للتغيير

 

كاترين ضاهر ( لبنان ) الأحد 18/9/2016 م …

سمع الكثيرون عن الملاحم البطولية التي سطرها أبطال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)؛ من قيادييها وشهدائها وجرحاها وأسراها… ورفاق كثر مجهولون (مراسلون، طباخون…) وأناس عاديون احتضنوا المناضلين، فكانوا سنداً لحاملي السلاح.

أن تلتقي بعض أولئك المناضلين، ولاسيما من كان منهم مسؤولاً ومخططاً ومنفذاً للعمليات العسكرية، وتدفع تواضعهم المتشابه للحديث، ترى حرصهم على إعطاء الكثيرين من رفاق الدرب حقهم بالنصر، وهنا تدرك كيف انتصرت المقاومة الوطنية.

نقل بعض هذه الحوارات مسؤولية كبرى، خاصة ان الرفاق بدوا كالمتواطئين سراً على سمفونية واحدة “طب مين قلك عني… ليه ما بتشوفي فلان أهم بكتير بالعمل المقاوم”. ولأني أحمل في إصراري إرث “جمّول”، بالمواجهة وعدم اليأس، لتحقيق النصر ورثته من والدي رفيق دربهم “وليم”، الذي سألني بعضهم عنه، تواجهنا في العناد، وقد يكون الفائز في هذا النزال هو القارئ.

أبو شاكر: المقاومة عملية مستمرة

“أبو شاكر” مناضل شيوعي، من أبرز قياديي “جمول”، شارك في العمل العسكري منذ العام 1975.

يقول أبو شاكر، عن خيار الانتماء إلى المقاومة الوطنية وتشكيل مجموعاتها، إن المقاومة تأسست مباشرة كرد فعل على الاحتلال الإسرائيلي، وهي عملية مستمرة وليست وليدة لحظة ما، مشيراً إلى أن “العمل المقاوم بدأ قبل 16 أيلول 1982 واستمر، والبيان التأسيسي لجمول كان بمثابة إعلان رسمي، تأكيداً على استمرار مقاومتنا لهذا الاحتلال”.

ويضيف “المقاومة هي الحزب الشيوعي اللبناني ككل، وهي ليست عملية الضغط على الزناد فحسب، بل قضية تبدأ بالبيئة الحاضنة والمناخ التعبوي الذي كان الحزب الشيوعي يدعو إليه بالمشاركة مع الأحزاب الوطنية الأخرى، مروراً بتوفير الضرورات التي يحتاجها العمل المقاوم من تأمين السلاح ونقله، والاستطلاع، وإيواء المقاتلين، وعلاج الجرحى… كل هذا يكمن ضمن أطر المقاومة، فالمقاوم هو كل من قدم خدمة في سبيل إنجاز العمل المقاوم”.

وعن تنظيم مجموعات المقاومين، يذكر”أبو شاكر” أنه تم تشكيل العديد منها منذ انطلاقة “جمول” حتى أواخر الثمانينيات، إذ “كان يوجد رفد دائم لعناصر المقاومين، تبعاً للظروف، كالاستشهاد، الاعتقال، أو الإصابة، التي انعكست على تغيير المجموعات. وعملياً حتى المجموعات التي شكلت قبل إطلاق المقاومة كي تقوم بالعمل، قام به غيرها تبعاً للأحداث، والذين بدأوا غير الذين انتهوا، والذي حصل أن العمليات التي جرت في بيروت نفذت بطريقة مختلفة عمّا كان مخطط لها سابقاً، وإلى حد ما كان هناك مبادرات فردية، فعندما دخلت إسرائيل إلى بيروت فُقدت الصلة بمن كان مكلفاً من قبل الحزب بمتابعة المجموعات، ونفذها غيره، أي ان التخطيط الذي كان منظماً قبل الاحتلال مباشرة شيء، والتنفيذ أثناء الاحتلال شيء آخر”.

العدو الذي يقهر

“في بداية احتلال بيروت كانت تسود حالة شديدة من الرعب، لاسيما بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، عدا الخوف العام من الإسرائيلي عند كافة الشعوب العربية، فتاريخنا مع العدو هزائمي، لذا كان وضع الناس لا يشجع أبداً على العمل المقاوم، فكانوا في حالة استسلام أدى إلى رمي كل الأسلحة خوفاً من معرفة العدو بها، ولاسيما من اللبنانيين العملاء لإسرائيل، حيث استقبل البعض العدو في الجنوب بالأرز بسبب الخوف. وفي ما بعد بدأت هذه الحالة تنكسر شيئأً فشيئاً، عندما رأت الناس أن هذا الإسرائيلي يضرب ويهزم. وأصبح هناك كسر على الاحتلال، فمشهد الطفل الفلسطيني الذي رأيناه يرمي دبابة بحجر، لم يكن موجوداً قبل العام 1982، فالجيل القديم كان مرعوباً من إسرائيل، ولكن بعد العام 1982 تغيرت النظرة ولم يعد الإسرائيلي العدو الذي لا يقهر”.

وعن تراجع “جمول”، يقول “المقاومة هي ردة فعل على الاحتلال قام بها الشعب في ظل غياب دور الدولة، وقامت الأحزاب بتنظيمها، وتغيرت قياداتها تبعاً للظروف. الفلسطينيون خرجوا بالاجتياح، والحزب الشيوعي تراجع دوره لأسباب عدة، ومنها ما هو مسؤول عنها، وأنا ضد الكلام أنهم أبعدونا. نحن نتحمل جزءاً أساسياً من مسؤولية تراجع دور الشيوعيين في المقاومة الوطنية. والمؤتمر الخامس الوطني للحزب (1987) مسؤول بشكل أساسي على الجانب الذاتي”.

ويرى أن “الحزب الشيوعي اتخذ، في العام 1987، خياراً سياسياً وتنظيمياً خاطئاً، فمن الخطأ تكبير هيئاتنا الحزبية، ونشر مراكزنا، فالحزب فتح جسمه، في الوقت الذي كان ينبغي فيه اعتماد السرية في إطار المواجهة مع العدو الإسرائيلي، والدليل على ذلك ما حصل حين ضرب العدو مركزنا في منطقة الرميلة”.

ويضيف أن “البعض في القيادة كان يعمل ضمن إطار العمل الاستعراضي، ومثال على ذلك عملية سهى بشارة، حيث كان يمكن تكليف شخص آخر باغتيال أنطوان لحد، والاستفادة من تقرب سهى من عائلته للحصول على أكبر قدر من المعلومات”.

من جهة أخرى، يرى “أبو شاكر” أنه “مهما كانت خلافتنا مع السوريين وملاحظاتنا على النظام وأدائه، كان يجب علينا أن نسعى أكثر لتحسين علاقتنا معهم، سوريا كانت الظهر الحامي لنا، في علاج الجرحى وتأمين دخول الأسلحة، ومن دون الدعم السوري ثمة استحالة في استمرار المقاومة”.

أمين: توقيف “جمول” خطأ كبيراً…

“أمين”من أبرز قادة “جمول” الأساسيين أيضاً في بيروت، وعن خيار بدء العمليات العسكرية يروي: “عكس ما هو متعارف، فإنّ قرار المقاومة اتخذ في اليوم الذي وصل فيه العدو الصهيوني إلى جسر الليطاني، وكان هناك إدراك لدى الحزب الشيوعي بأنّ الاجتياح سيصل إلى بيروت، فانطلقنا لتحضير أنفسنا للمرحلة المقبلة والتدريب على العمل القتالي والسري وحماية الحزب، وطلب من مجموعة منذ اليوم الأول، حتى قبل وصول العدو إلى صيدا، الاستعداد للمرحلة المقبلة، وكانت هناك أساساً مجموعات أنشئت في العام 1978، وهي إرث لما قبلها، أي لمجموعات قوات الأنصار، ومنذ اللحظة الأولى الذي بدأ فيها الاجتياح بدأ تحضير المجموعات لمهام مختلفة”.

ويتابع “وقع الاجتياح، كان المشهد أسوداً، فالعدو دخل العاصمة، والفلسطينيون خرجوا، وكانت الأخبار تتوالى عن مجازر صبرا وشاتيلا، والناس في حالة هلع، ترمي الأسلحة وترفع الرايات البيضاء. وقد أتى نداء جمول في هذا المناخ”.

ويضيف “كان من الممكن إطلاق نداء ويندثر، فالمهم من ينفذ هذا النداء، وخاصة في ظل المشهد المرافق بالخوف والانهيار من حجم ردة فعل العدو الإسرائيلي حيال تنفيذ عمليات ضده، والهاجس الأكبر كان تكرار مشهد مجزرة صبرا وشاتيلا في أية منطقة أخرى يتعرض فيها العدو للضربات أولاً. وثانياً، توفير من يتجاوز خوفه لينفذ العمليات. وثالثاً، إحضار السلاح وتجهيز الأشخاص لتنفيذ العمليات”.

ويتابع “كانت هناك جرأة من أشخاص لاحقوا وتابعوا وأمنوا مستلزمات القتال، فكانت أول عملية لجمول وبعدها الثانية والثالثة… قوبلت المقاومة بالبدايات برفض من الناس بداعي الخوف، ثم بدأ التعاطف معنا تدريجياً، بعد أن كرت سبحة العمليات بوقت قصير، وانكسر حاجز الخوف عند الأهالي فباشروا بمعاملة العدو كمحتل يجب طرده، وخاصة بعد عملية الويمبي”.

تنفيذ العمليات

يروي “أمين” تفاصيل البدايات، التي كانت فيها العمليات منظمة جداً، وتخرج أحياناً عن إطار التنظيم، كأن تتآمر المجموعات ضمنياً في ما بينها وتنفذ العمليات ثم تخبر القيادة لاحقاً، أو تخبر بأنها ستقوم بعملية، وكانت كل مجموعة تشكل بدورها مجموعات وخلايا:

“كان لدينا حرص شديد على الحد الأدنى من المخاطر، وممنوع علينا الانتحار حفاظاً على جسمنا المقاوم، فإذا أسرنا أو استشهدنا قد ينعكس الأمر سلباً علينا من خلال معرفة صلات الرفيق بغيره، وكنا نلغي أحياناً عمليات إذا شعرنا أن هناك مخاطرة على أحد الرفاق”.

ويتابع “كانت العمليات في العاصمة تحمل الكثير من المخاطرة، بسبب الاحتكاك المباشر بالعدو، حتى أنه يكون وجهه بوجهنا وفيها صعوبة قصوى، وعكس ما يجري في الحروب. كان لدينا حرصاً أيضاً عند تنفيذ أي عملية عدم إصابة أي مدني بجرح، وكنا نلغي العديد من العمليات خوفاً على حياة المدنيين، حتى لو كانت على قدر من الأهمية، وقد أوقفنا احدى أكبر العمليات التي كانت تستهدف ضابطاً إسرائيلياً كبيراً في منطقة غاليري سمعان، بسبب بائع سمك وضع بسطته مكان العبوة التي زرعت ليلاً، وكانت هناك مخاطرة باستشهاد الرفاق لأن البطاريات انتهت وانتظروا البائع ليرحل”.

وأضاف “الصعوبة أن المجموعات كانت تتألف من ثلاثة أشخاص كحد أقصى؛ يقومون بالتنفيذ، والاستطلاع وقيادة السيارة.. ولا توجد حماية. وكان هناك رفاق تدربوا في العمليات للمرة الأولى، وفي إحدى العمليات في النبطية بقي أحد الرفاق الجدد قابضاً على القنبلة في يده للوهلة الأولى، انصدم قبل رميها وتنفيذ العملية”.

ويذكر أنه “عند خروج الإسرائيليين من بيروت، بقي شعور الاحتلال موجوداً خاصة بوجود الأجهزة ومجموعة السلطة التي لا فرق بينها وبين الإسرائيلي، ولكن خروجه مهزوماً واعلان انسحابه أعطاناً دفعاً معنوياً”.

يروي “أمين” صراع المقاوم الداخلي عند تنفيذ العملية: “كان هناك خوف ولكن الإحساس بعد تنفيذ العملية شعور لا يوصف، لاسيما نشوة النصر”.

تراجع جمول

يتابع حديثه عن انكفاء الحزب الشيوعي عن المقاومة قائلاً: “شخصياً كنت أحبذ استمرار “جمول”، برغم كل الظروف الصعبة التي بسببها أوقفت، فالظروف التي انطلقت فيها “جمول” كانت أصعب مئة مرة من الظروف الأخيرة التي بسببها توقفت. كان يجب الاستمرار حتى النهاية والفصل بين العمل المقاوم وغيره وأن نبقى حذرين لحماية المقاومة، وللأسف هناك أشخاص صدقوا بعض القائلين بأن المقاومة قد انتهت، وكان رأيهم استثمارها بالسياسة، وهذا خطأ، فغيرنا تابع وقطف ولم تكن ظروفهم أفضل منّا. طبعاً بغض النظر عن الدعم هناك الظروف الموضوعية للاتحاد السوفياتي والتركيبة السياسية التي أوجدت بالبلد والأدوار الإقليمية التي حبذت قوى على حساب قوى أخرى، ولكن هذا كله لا يعني ألغاء دورنا، بل كان يجب الاستمرار”.

يؤكد “أمين” أن توقيف “جمول” خطأ كبير، وأنها اليوم أصبحت ذكرى جميلة، موضحاً “هي رصيد بدأ يستهلك بالكلام يجب أن نعتمد قضية نضالية لبناء رصيد نضالياً جديداً. والبلد مليء بالمشاكل والفساد ويستحق تضحيات من نوع آخر كي يحرر من الظلم، وهو في حاجة لنضال جديد غير المقاومة بالسلاح، تأسيساً لنوع آخراً من المقاومة السلمية النضالية أو النقابية”.

مطلقي الرصاصات الأولى

“مازن” و“فهد” يتعازمان على الكلام بعكس ما حصل في تنفيذ عملية بسترس، أولى عمليات “جمول” في بيروت. أن تدفع “مازن” إلى الكلام مهمة أكثر من مستحيلة، بل معجزة، تحققت بعد سنوات من الإصرار. مناضل من مناضلي جمول ومطلق رصاصتها الأولى في بيروت وصيدا أيضاً. هو العنيد بتواضعه المثالي إلى أبعد الحدود، لا يفترق عن رفيقيه في درب النضال “فهد” و”عمار”… وحتى في تحقيق مهمة الحوار الصعبة، يحرص على ذكرهما.  

بداية، رفض مازن الحديث عن العمليات “ما كنت لوحدي، خلي الحزب يحكي… أمين ما حكى؟”. أخبرته ما ذكره “أمين” عنه ورفيقيه “فهد” و”عمار”، “الثلاثي المتآمر” دائماً معاً في تنفيذ العمليات مهما كان الثمن. يبتسم لما سمعه من حديث عن لسان قائده في المقاومة “أمين”، ويحاول التملص مجدداً، مشترطاً الحديث في السياسة فقط.

عن دور المقاومة الوطنية يقول “جمول دربها طويل وله عدة أشكال، لا شك أن البداية كانت بسبب وجود الاحتلال وكيفية مواجهته ودحره بشكل أساسي، فالوجه الأساسي كان تحرير الإنسان من ظلم استعباد الاحتلال وتحرير الأرض. ولكن حالياً شكلها يختلف، وهذا لا يعني التخلي عن جمول المقاومة العسكرية، بل يجب أن نكون جاهزين لمواجهة أي احتلال، ولكن هناك القضايا الأساسية المركزية الآن التي تعاني منها الناس، ونحن كنا نستند على قاعدة تحرير الأرض والإنسان في نفس الوقت”.

ويتابع “لا شك أن دور جمول في تلك الفترة  كان مهماً جداً، إذ بدأت عملياتنا العسكرية منذ وصول الاحتلال إلى بيروت، واستطعنا تحرير حوالي 73 في المئة من الأراضي اللبنانية. وبالرغم من هذا الإنجاز خف دور جمول لمعطيات مختلفة؛ ولا أوافق الرأي إن انهيار الاتحاد السوفياتي السبب، بل كان للتحالف الاستراتيجي الذي وضعه حافظ الأسد مع إيران جزءاً من إيقاف الجبهة وعدم استمرار عملياتها، ورفض الحزب إشراف الآخر على مقاومتنا، فلا يمكن أن تكون هناك مقاومة مرتبطة بغرفة عمليات مشتركة لإحدى المخابرات أو أجهزتها، والدليل أن هناك عمليات كثيرة دفعنا ثمنها بسبب هذا الشكل. لذا أصر الحزب على استقلالية جمول ورفض هذا المنطق، فكان عدم التنسيق ثمناً دفعه الحزب أوقف استمرار مقاومتنا”.

ويتابع مازن حديثه بنبرة المعاتب، محملاً حزبه جزءاً من مسؤولية إيقاف “جمول” بسبب قرار انتشاره سياسياً، “فالانتقال إلى الشكل العلني الذي اتبعناه في بعض الأماكن أدى إلى تراجع أسلوبنا بتطوير العمليات، وضرب العدو مقر الحزب بمنطقة الرميلة. وكان أفضل بقاءنا مربوطين بالناس، فالجماهير هي التي كانت الحامية للمقاومة، وهذا جزء من نجاحها”.

تطيّف المقاومة لم يمنع مازن من توجيه التحية لكل من استمر في مواجهة العدو، مشيراً إلى إرث جمول، الذي ارتبط تاريخه منذ الثلاثينيات، والأنصار والحرس الشعبي وسقوط العديد من الشهداء ومنهم علي أيوب. “مشكور حزب الله في تحرير ما تبقى من الـ 73 في المئة من الأرض، ولكن الشكل الطائفي والمذهبي هو المشكلة الكبرى بغض النظر عن عقلية سلفية أو غير سلفية نواجهها، فبإصرارهم على هذا التطييف هم كالدمى بأيدي لعبة إقليمية دولية. وإذا كانوا فعلاً حريصون على إنقاذ مصلحة الوطن، عليهم التخلي عن الشكل الطائفي المذهبي، لأن هذا الشكل لن يخدم المقاومة، سواء كانت وطنية أو إسلامية”.

ويرى أن المقاومة لا ينحصر دورها بحمل السلاح، “علينا استكمال انجاز عملية التحرير بالتغيير”، شارحاً أن “المشروع الحقيقي لإنقاذ الوطن والمنطقة يأخذ اتجاهين أساسيين؛ الأول على المستوى الداخلي علينا اتخاذ قراراً صادقاً بجعل المقاومة الوطنية هي المقاومة التي تحقق حماية وبناء الإنسان والأرض والوطن. والثاني على مستوى المنطقة بغض النظر عن كافة المعتقدات السياسية إن كانت إسلامية أو علمانية أو وطنية أو قومية أن تأخذ طابعاً توحيدياً ضمن إطار مفهوم عربي، لمجابهة الهجمة الأميركية الصهيونية على المنطقة، لضرب مصالحهما”.

حصار بيروت

لا يعقل أن تكون مع مازن ولا تحاول كسر صمته وتدفعه ليروي عن حصار بيروت وتنفيذ العمليات الأولى، وللمصادفة نجحت في هذه المهمة بمساعدة صورة للوحة تخلد عملية بسترس معلقة على جدار غرفة مكتبي.

كانت بيروت قد سقطت بالكامل عند اغتيال بشير الجميل، توجه مازن، بطلب من أحد المسؤولين، إلى محور جامعة بيروت العربية الوحيد،وانضم إلى مجموعة من رفاقه، ومنهم فهد وعمار، ليدافعوا عن المنطقة الوحيدة التي لم تسقط بعد، وبدأ الإسرائيليون بإزالة السواتر الترابية للدخول إليها.

يقول مازن “في الخامسة صباحاُ وجدنا عدداً من الصهاينة قرب حلويات الهواري يرتاحون، فبدأت مواجهات الكر والفر على كلية الهندسة وحاولنا منع دخول الإسرائيليين إليها، ووزعنا أنا وعمار مجموعات الرفاق بين نقاط مراقبة، واضعين خطة لبدء القتال”.

ويروي “فهد” كيفية بدأ القتال باستخدام قذائف “إنيرغا” و”بي 7″ ورشاشات “بيكاسيه” و”كلاشينكوف” وقنابل يدوية: “نفذنا11 عملية كر وفر أولها ضرب ضابط وتسعة جنود، وأرسل لنا الإسرائيليين مدنيين طلبوا منا التوقف عن القصف لأنهم لا يقصدوننا نحن اللبنانيين، بل هدفهم الفلسطينيين. فحذرناهم عبر مكبرات الصوت هذه أرضنا انسحبوا منها وإلا ستكون مقبرة لكم”.

صمد هذا المحور 24 ساعة، وتقدم العدو من اتجاه المتحف نحو البربير، ومن جهة ثكنة الحلو باتجاه كورنيش المزرعة، فلم يبقَ إلاّ متنفساً وحيداً ـ نزلة أبو شاكر، لكن الاتصال بالقيادة كان قد انقطع، وهناك مسؤولية أكثر من خمسين مقاتل عسكري. فقرر مازن وعمار بعد التفكير، سحب المجموعات الشيوعيةتفادياً لتعرض الرفاق لمجزرة. انسحبت المجموعات، وبقي “فهد” ورفيقه ينتظران وصول الإسرائيليين. وتمّ إحضار “لاندين” عسكريين ووضعت الذخائر المتبقية فيهما من أجل أن يتم تفجيرهما بالعدو عندما يقترب. ركن “اللاند” الأول قرب مسجد عبد الناصر على كورنيش المزرعة، وركن الآخر قرب أحد المقرات العسكرية للحركة الوطنية، لجهة بربور، من الناحية الأخرى. حمل الرفيقان قاذفة “بي 7” وانتظرا، وعندما وصل الإسرائيليون على مقربة من اللاندين، وفي مرمى نيرانهما، قصفوهما.

 اتجه “فهد” ورفيقه إلى منطقة الغبيري، ووجدا مقاتلين لحركة أمل، فطلبا الإنضمام إليهم لمقاتلة العدو، إلاّ ان عناصر أمل رفضت القتال خوفاً على المنطقة، فطردوهما.

أما مازن وعمار فقصداأحد الملاجئ بمنطقة البسطة، وعندما خرجا التقيا بأحد الرفاق، الذي سألهما عن هيئتهما الملطخة بالشحم.فصعدا معه إلى منزله، حيث جهزت لهم والدته العجوز المياه الساخنة، فاستحما وحلقا لحيتيهما وبدلا ملابسهما وغادرا، وتوجها إلى حيث كان يجب أن يلتقوا بباقي الرفاق، في أحد المنازل بمنطقة الظريف. وهناك تم الاتصال بهما عبر مراسل من قبل الرفيق أبو محسن، ودار نقاش كيف قطعت صلة الاتصال، ثم تقرر تأجيله للمحاكمة حزبية.

واتخذ قرار بدء العمليات فقام مازن وعمار وأبو محسن، ليل 17 أيلول، بعملية استطلاع في منطقة مار الياس حيث كانت توجد دبابتين إسرائيليتين. وعندما ذهب مازن وعمار إلى مركز الحزب في الزيدانية، من أجل إحضار السلاح لتنفيذ العملية، وجداه خاوياً، فغادرا.ثم أمنا قنبلتين من بلسم وأخذ الحزب قرار تنفيذ العمليات وأعلن بيان تأسيس “جمول” من الرفيق جورج حاوي ومحسن إبراهيم. واتجها إلى منزل “فهد” الذي لم يكن يعرف بقرار الحزب، فأخبراه بمخططهما بتنفيذ عملية، فأقفل الباب بوجهما أولاً، ثم أدخلهما ودار النقاش.

بسترس

يروي “فهد” كيفية تنفيذ العملية مساء الاثنين ـ الثلاثاء (20ـ21 أيلول 1982): “حصل مازن على قنبلتين يدويتين عن طريق الرفيقة بلسم. ثم توجهت أنا ومازن وعمار إلى تنفيذ مهمة استطلاع، فوجدنا مجموعة إسرائيلية قرب صيدلية بسترس تتدفأ. وعند نقطة الصفر، كانت الساعة تشير إلى الثامنة تقريباً. ارتدينا قميصين للتمويه وجوارب نايلون في رؤوسنا، وكان الخوف يتربص بنا ولكن أصرينا تنفيذ العملية، وبما أنه على كل شخص أن يرمي قنبلة واحدة، أخذ عمار قنبلة واختلفت أنا ومازن على من يرمي الأخرى. وأقنعني بعد جدال بأن الضربة في العملية التالية، ستكون من نصيبي. وتم الاتفاق أن يرميا القنبلتين وأن أقوم بالاستطلاع. نفذ الرفيقان العملية ورميا القنبلتين. أربك العدو، علا الصراخ.. ثم انطلقنا بالركض نحو شارع الملا.وبدأت الإسعافات تتوافد، وأقر العدو بسقوط تسعة من عناصره بين قتيل وجريح، فكسر خوفنا وبدأنا نحتفل بالشارع. ثم توجهنا إلى منزل الرفيقة بلسم وشربنا كأس النصر”.

ويضيف “إثر العملية وصلت إلينا الجملة التالية على قصاصة من الورق أرسلها الأمين العام:إنه لشرف عظيم لكم أن تكونوا أنتم من أطلق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”.

عملية محطة أيوب

في اليوم التالي 21 أيلول، بدأ الرفاق الثلاثة التحضير للعملية التالية وكان هدفها مجموعة من ثلاث ملالات إسرائيلية عند برج المر. أبلغوا القيادة عبر “أمين” بالمهمة التي ينوون تنفيذها.

عندما ذهبوا إلى الموقع لم يجدوا الملالات. كانوا أمام خيارين، إلغاء المهمة أو البحث عن هدف آخر. قال مازن لرفيقيه “أصبح عند القيادة معلومات بأننا سننفذ عملية، معنى هذا أننا يجب أن ننفذ العملية”. وكان الإسرائيليون يتواجدون في محطة أيوب، وكان الرفاق بحاجة إلى سيارة لنقل سلاح العملية. فقصد مازن وعمار صديقاً من أجل استعارة سيارته. وأخبره أن صديقاً له يريد أن يخطف فتاة من أجل أن يتزوجها وطلب منه أن يعيرهما سيارته، فوافق.

طلب مازن من عمار وفهد استطلاع نقطة محطة أيوب، وعلى أن يمر وحده بالسيارة على الحاجز الإسرائيلي، وقال “إذا تخطيت الحاجز نتابع العملية، وفي حال تم القبض علي ترونني وتغادرون”. لم يكن هناك من خيار لتنفيذ العملية سوى المرور على الحاجز الإسرائيلي، الذي كان على زاوية منزل السفير البريطاني سابقاً، المقابل تماماً لمحطة أيوب، في منطقة زقاق البلاط.
نجح مازن في عبور الحاجز ومعه قاذفات “بي 7” و”كلاشينكوف”، توجه إلى ناحية بسطة خضار قريبة حيث لاقاه رفيقاه قربها وأدعى الثلاثة أنهم يقومون بشراء الخضار. وعندما تحضر الرفاق للتنفيذ، ظهر ما يهدد العملية كلها، إذ كان الجنود الإسرائيليون يلاعبون ثلاثة أولاد صغار. فانتظروا مغادرة الأطفال. وكان دور فهد إطلاق النار هذه المرة.بعدما غادر الصغار صعد الجنود على متن الملالتين فتح الرفاق صندوق السيارة بحجة وضع الخضار. أسرع فهد وعمار وتناولا قاذفتي “بي 7”. وهنا، حاول بائع الخضار أن يصرخ  فما كان من مازن إلا أن نهره بقسوة. تفحمت الملالتان بالكامل. صعد الثلاثة إلى السيارة وانطلقوا، ثم خلع كل منهم القميص الإضافي الذي كان يرتديه فوق قميصه الأصلي للتمويه ورموها. وبعدما وصلوا إلى المنزل ركنوا السيارة واحتفلوا للمرة ثانية. وأعاد مازن السيارة لصاحبها وطلب منه ألا يتجول فيها.

وبعد هاتين العمليتين كرت سبحة العمليات في مناطق بيروت. الحمراء. منظمة التحرير (المزرعة). الرملة البيضاء. “الويمبي”. عائشة بكار. الجناح. الكونكورد..

ويروي “فهد” أن عملية “الويمبي” “خطط لها الرفيق شربل عبود، ولكن على مقهى المودكا، ثم أخبرنا أن القومي يريد المشاركة بالعمليات، فنفذ العملية خالد علوان، ووقف شربل عند بائع يناصيب على مقربة منه يراقب تنفيذ المهمة”.


وقبل مرور عشرة أيام أو أكثر بقليل على احتلال العاصمة، بدأ الإسرائيليون ينادون عبر مكبرات الصوت: “يا أهالي بيروت. لا تطلقوا النار على جيش الدفاع. نحن منسحبون من بيروت”.

طلب الانتساب لـ “جمول”

انتقل “فهد” لتنفيذ العمليات في منطقة الشويفات التي شهدت أكثر من 70 عملية، وأتخذ الرفاق “أمين” و”أبو شاكر” و”عمار” قراراً أن يكون طلب الانتساب إلى “جمول” عبر تنفيذ الرفيق عملية، وفي 1-1-83 أخذ”فهد” و”عمار”رفيقهما (م. ح.) وكلفاه بعملية الاستطلاع، ونجح في المهمة وتكبد العدو أربعةقتلى برتب عسكرية.


أول عملية في صيدا

أيضاً كان “مازن” مطلق الرصاصة الأولى في صيدا، فبعد تنفيذ عدة عمليات استطلاع في المدينة، دار نقاش بينه و”أمين” بضرورة تنفيذ العمليات فيها لأهميتها سياسياً، فقصد مازن ورفيقان صيدا للاستطلاع، وأخبر أمين أنه “إذا صح لي أضرب سأضرب”، وكان المخطط ضرب جيش سعد حداد، ولم يتوفق بمهمة الاستطلاع وعند العودة إلى ساحة النجمة مرت قافلة للعدو الإسرائيلي وتوقف منها لاند عسكري نزل جنديين وبقي اثنين باللاند. فتشاور مازن ورفيقه ع. وطلب منه أن يقف بعيداً لأنه لم يكن معه سلاح، واتفقا أن يلتقيا في بيروت.

يروي مازن: “كان معي بندقية رشاشة.. اقتربت من الإسرائيلي وضربته على رقبته، ثم ضربت السائق وفرغت فيهما 20 طلقة، وركضت عندما بدأ أطلاق النار، ثم اضطررت للعودة لأن الرفيق (ع.) ركض خلفي وسقط بالأرض، وعندما وقف الرصاص استقلينا التي تنتظرنا، فارتبك السائق لرؤية (ع.) جريحاً”.

عندما رفضت أحد المستوصفات علاج (ع.) قرر مازن الذهاب إلى قريته. وتعرضت السيارة لحادث، ولكنهم تابعوا الطريق. وعند وصوله خلع باب بيت أهله، وذهبلإيجاد طبيب، واقنعه بأن رفيقه جريح صيد، وعند وصوله إلى المنزل، كان الرفاق يسمعون إذاعة خبر العملية، واكتشف الطبيب أن الإصابة برصاص حقيقي، واعتقدت الناس أن العملية تمت بذبح الإسرائيلي، وقد جسدها الفنان ناجي العلي، بكاريكاتور “المعبر الوحيد لفلسطين ذبح الإسرائيلي بخنجر”.

بقي الإسرائيليون 48 ساعة منتشرون في صيدا، واستأجر مازن ورفاقه سيارة أجرة، وأرسلوا السائق إلى منطقة الأولي للاستطلاع، ثم عادا إلى موقع العملية واستقلوا سيارة اجرة ثانية نحو بيروت.

جمول استمرارية

وعن عروسهما “جمول” يؤكد الرفيقان استمراريتها، ويشير “فهد” أن “جمول” بدأ دورها الآن، “ليس بالمعنى العسكري، وخاصة مع الانتفاضة التي شهدها الحزب بمؤتمره الأخير. والذي رأيناه في تشييع الرفيق كمال البقاعي كان بكاءً على الناس والحزب، وحافزاً لاستنهاض الحزب”.

ويرى “مازن” أن “لجمول اليوم دور أكبر بكثير، فقراءة هذه المرحلة أصعب، ولا شك أن العدو شخصاً واحداً ونفس العقلية التي تريد استبداد الشعوب واستغلال أرضها وخيراتها؛ إن كان صاحب فكر سلفي أو صهيوني، فالمشروع واحد، غير منفصل، لذلك على حزب الله محاولة الاستفادة من مكونات المجتمع الوطني لاستنهاض مرحلة جديدة للمقاومة في مواجهة هذا المشروع الصهيوني، فليس كافياً إبراز نفسي، ولا المطلوب أن يبرز الشيوعي أو القومي.. بل يجب على مكونات المقاومة التي تؤمن بتحرير الأرض والحفاظ على خيرات شعوبها وتحريرها من الاستبداد، أن تضع اتفاق شامل يتخطى مرحلة تفرد كل واحد بمكتسباته على الأرض، والتخلي عن حالة الـ “أنا” من كافة القوى، للوصول إلى بناء وطن حقيقي تتلاقى فيه كافة القوى ومقاومتها الإسلامية والوطنية”.

ويختم مازن : “جمول بدأت منذ 1924 ومستمرة حتى اليوم من أجل الحياة مع الأجيال الجديدة وخاصة قيادة الحزب المنتخبة مؤخراً”.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.