في صبرا وشاتيلا.. الحياة إلى حد الاختناق / نبيلة غصين
نبيلة غصين ( الأحد ) 18/9/2016 م …
الزمان: 15 أيلول 1982. المكان: مخيّم صبرا وشاتيلا، أول حي الرحاب. الأطفال والنساء والرجال يُقتلون بالسلاح الابيض بهدوء، لا أنين، ارتُكبت المجزرة بصمت وروية، البعض شعر «بشيء غريب يحدث» لكثرة القنابل المضيئة التي أطلقت على المنطقة، والبعض الآخر هرب.. بعد ثلاثة أيام، بانت معالم جريمة العصر: إنها مجزرة صبرا وشاتيلا. لا إحصاءات دقيقة عن عدد الضحايا، ولكن معظم الشهداء كانوا من اللبنانيين لا من الفلسطينيين، كما يُقال.
الزمان: 15 أيلول 2016. المكان: صبرا وشاتيلا. ما إن تطأ قدماك مدخل منطقة الرحاب (المنطقة المحاذية للسفارة الكويتية)، حتى يختلف الأمر عليك، فتصبح وكأنك سافرت إلى بلد آخر.
يأتي هذا الشعور ربما من سماع اللهجات المتعددة الجنسيات للباعة، فتجد السوري، الفلسطيني، المصري واللبناني، أو ربما بسبب وجوه المارة والقاطنين الأجانب ومعظمهم من الآسيويين. تدلّ طبيعة تنظيم المكان العشوائية على فقر المنطقة وحرمانها المدقع: المنازل مشيدة بعضها فوق بعض، تحجب الخيم المنصوبة في الطرق أشعة الشمس، البسطات منتشرة على جانبي الطريق وفي وسطه تحوي كل البضائع، الأدوات المنزلية والألبسة المعلقة، الخضار والفاكهة وحتى اللحوم معلقة في الهواء الطلق. تعج المنطقة بالحياة.. إلى حدّ الاختناق.
هذا هو الشارع الذي يظهر في الصور والفيديوهات وفي روايات شهود العيان، شارع لم يخرج منه في حينها إلا قلّة قليلة لتخبر ما حدث، شارع تكدست فيه الجثث. كان الدم يسيل أمام هذه المنازل ربما، وفي الطرق نفسها.
المقبرة.. تصبح حديقة
.. وبعد مضي 34 عاماً، لا شيء يشي اليوم بحدوث مجزرة هنا.
عند الطرف الشرقي للشارع ترتفع أشجار الكينا المعمرة، حيث تمتد مساحة ترابية استطاعت الصمود أمام الهجوم العمراني، لتكون الفسحة الوحيدة المتبقية. كيف صمدت هذه الأشجار من الاجتثاث. هل يعقل أن أهل الحي اتفقوا على تحييدها لتبقى كحديقة عامة للأطفال؟
على الدرج الضيق، تجلس فتاة في الثالثة عشرة من عمرها. تضحك بتول ببراءة حينما تُسأل عمّا إذا كان هذا المكان هو حديقة عامّة، لتجيب: «لا هون مقبرة للفلسطينيين يلي ماتوا بالمجزرة».
وبرغم حرص بعض سكان المنازل المجاورة للمقبرة بالحفاظ على قدسيتها، إلا أن واقع الحال يظهر عكس ذلك. على جنبات الدرج تتكدس أعمدة حديدية وخزانات مياه. قرّر بعض السكان الاستفادة من المكان من دون التسبب بأضرار جسيمة، فمنهم من ارتأى تربية الدجاج والبط فيها، ومنهم من حوّل جزءا منها إلى متنزه صيفي حيث مسبح الأطفال الاصطناعي و «الأراكيل». وحده النصب الباطوني المرتفع في وسط الباحة والذي كتب عليه «شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا»، شاهد على دفن ضحايا المجزرة في هذه البقعة.
للمقبرة وحشتها وللأموات حرمتهم، وما هو مباح للبعض هو مقدس ومحرم للبعض الآخر. تقول ابتسام: «كان الأولاد يلعبون دائماً في المقبرة، لكنّهم تعرّضوا للكثير من الأمور الغريبة وإصابات قوية، فخافوا من وجود «أرواح». لذلك امتنعوا عن اللعب فيها».
أما «سكنة» التي جاءت إلى المنطقة بعد حدوث المجزرة، فتحمد الله لوجود المقبرة: «على القليلة عنا شجر حد بيتنا وعنا شكل جنينة ولو هي مقبرة بالحقيقة، وما حدا بيجي عالمكان إلا بالمناسبات».
ماذا يقول الناجون؟
لم تندمل آثار المجزرة. لا تزال حاضرة في عقول الناجين الذي فقدوا أولاداً وأطفالاً وأزواجاً ومحبين.
في أزقة مخيم شاتيلا يسكن مروان وهو أحد الناجين من المجزرة. يذكر كيف اختبأ وهو في عمر الـ13 في «المتخت» لثلاثة أيام من دون أكل أو مياه. حينها، دخل المسلحون المنزل أكثر من مرة فيما هو قابع دون حركة.
لم يعلم مروان، الذي كان أهله في زيارة لسوريا آنذاك، أن المجزرة انتهت إلا بعد أن جاء الجيران لتفقده. في هذه اللحظة فقط، تجرأ الصبي على الخروج من مخبئه. الجثث في الشوارع. يروي كيف شاهد بأم العين صور القتلى مكدسة ومقطّعة الرؤوس بالبلطات. ولاحظ من إحدى المقابر الجماعية أن هناك أشخاصا دفنوا أحياء، ليتم نقل الجثث لاحقا من الشوارع والمنازل والمقابر الجماعية، وحصرها في المقبرة الحالية.
تعلق أم علي صور أولادها الأربعة على حيطان منزلها في مخيم شاتيلا. لم يبق لها سوى ابتسامات خجولة وبريق عيون خافت ووجوه معلقة لا تكبر مع مرور الأيام. تروي كيف خبأت طفلها وهو بعمر 13 عاماً في برميل المازوت ليلة كاملة، لتجده في الصباح الباكر مختنقاً قبل أن تتمكّن من إنقاذه بصعوبة.
بصوتٍ مختنق، تردّد أم علي: «أربعة شباب أخذوهم أو طلعوهم بالشاحنات، أخذوهم بلا ثياب، واحد عمره 22 سنة كان رايح يجيب حليب لابنته». بحثت الأمّ عن جثث أولادها بين الموتى، قلبت معظم الجثث ودققت في الوجوه، إلا أنها لم تجد لهم أي أثر.
لماذا صبرا وشاتيلا؟
يطرح المسؤول المحلي لحركة «فتح» في مخيم شاتيلا كاظم حسن، وهو أحد الناجين من المجزرة، السؤال الآتي: «لماذا لم يتم ارتكاب هذه الجريمة في مخيم المية ومية أو مخيم عين الحلوة؟ لماذا ارتكبت في قلب بيروت تحديدا؟».
يعتبر حسن أن هذه المجزرة كانت حلقة من حلقات مخطط تهجير الفلسطينيين وإلغاء حق العودة. فبعد المجزرة بدأت حرب المخيمات ومن بعدها بدأت هجرة الفلسطينيين من لبنان إلى دول العالم، مشيراً إلى أنّ إسرائيل أرادت توجيه رسالة إلى العالم بأنها هي من تضع القوانين. فبعد خروج المقاتلين الفلسطينيين وترك النساء والأطفال في المخيمات من دون حماية، قامت إسرائيل بالتعاون مع اليمين اللبناني بتنفيذ العملية.
في هذه المناسبة السنوية، تعجّ المقبرة بالوفود الأجنبية. هؤلاء قد لا يتحمّلون التنقّل داخل أحياء المخيّم لأكثر من ربع ساعة. لا رائحة للجثث، إلا أن رائحة النفايات والفقر والحرمان تحاصر الأموات والأحياء والضيوف. هنا تتكدّس المنازل بعضها فوق بعض من دون مياه ولا كهرباء ولا صرفٍ صحي.
بالطّبع لا يحتاج قاطنو صبرا وشاتيلا إلى بكاء على الشهداء، ما دام الأحياء محرومين من العيش متمتعين بأبسط حقوقهم الإنسانيّة.
التعليقات مغلقة.