المفكر العربي الأردني الياس فاخوري يكتب: “أوبنهايمر” من “طرفة بن العبد” الى “كريستوفر نولان” .. ويأتيك بالاخبار “كريستوفر نولان” رغم انك لم تزود، ولم تبع له بتاتاً، ولم تضرب له وقت موعد!
الياس فاخوري ( الأردن ) – الأحد 27/8/2023 م …
(==) حيثما وردت كلمة ” ديانا ” في مقالات الكاتب، فهي تعني تحديدا زوجته الراحلة الكبيرة والمفكرة القومية ، شهيدة الكلمة الحرة والموقف الوطني ” ديانا فاخوري “… والصورة أعلاه لهما معا …
كم تحدثت “ديانا فاخوري” وكررتُ ما قالته عن “وكالة الدفاع السيكولوجي – The
Swedish Psychological Defence Agency” وعن “مجموعة لينكولن – Lincoln Group، وكم اشرنا لى الغزو من الداخل واستراتيجية “الإلهاء”.. مَن الـمـسـتعمر الــسـرّي؟ مِن عبدالله البردوني الى نعوم تشومسكي حيث يسكب الرأسماليون واصحاب النفوذ ثروات هائلة للتلاعب التجميلي باللوحة السياسية الإعلامية خدمةً لمصالحهم ليس الا!
ولا بد هنا من التذكير ان السينما لطالما كانت احدى أهم الأدوات التي توظفها الولايات المتحدة (سمِّها الويلات المحتدة او المعتدة بأمنها القومي) الأميركية للسيطرة على التاريخ والتلاعب بسرديّاته، وبالتالي اعتقال ذهن وثقافة المستهلك محلياً وعالمياً. ولا تُخْفي وزارة الدفاع (البنتاغون)، وقطاعات الجيش الأميركي، ووزارة الخارجيّة، ووكالة المخابرات المركزيّة، ومكتب التحقيقات الفيدرالي امتلاكها مكاتب ارتباط مع صناعة الترفيه لتشرف بكل دقة على هندسة واحتواء مضمون الأفلام السينمائيّة والمسلسلات والبرامج التلفزيونية فلا تخرج هذه عن المسار المرسوم .. هذا غيض من فيض لِيُلهِنا إعلامهم ووسائل الترفيه عن المسائل الحقيقية والقضايا الهامة غزواً داخلياً ومستعمِرّاً سرّياً كما أسهب البردوني، ومن بعده تشومسكي .. اما ايمان “ديانا” المطلق: ”اسرائيل الى زوال” فيبقى منقوشاً على ظهر الدهر لتهزم الموت روحا نقيّا كالسَّنا .. نعم، “ديانا”، ما زلنا نصغي لصدى خطواتِكِ فى أرض فلسطين، ونردد مٓعٓكِ:
“الدائم هو الله، ودائم هو الأردن العربي، ودائمة هي فلسطين ..
نصركم دائم .. الا أنكم أنتم المفلحون الغالبون” ..
وفي سياق مكاتب الارتباط هذه، تناقلت MEO والعديد من المواقع والمنصات قصة القنبلة الذرية كما يحكيها “أوبنهايمر” على طريقة كريستوفر نولان الذي يخوض من خلال هذا الفيلم غمار أفلام السيرة، على طريقته الخاصة، متناولاً بإمكانات إنتاجية ضخمة كعادته، قصة الأميركي الذي اخترع القنبلة الذرية!
اقتباس: “ويتناول الفيلم الذي تبلغ مدته ثلاث ساعات المحطات الرئيسية في حياة الفيزيائي روبرت أوبنهايمر (1904-1967) الذي طبع تاريخ الولايات المتحدة والقرن العشرين، وساهم في إدخال العالم عصراً جديداً هو العصر النووي.
وجرياً على عادته، يخصص مخرج شريط الحركة الذي حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً “تينيت”، وقصة “دانكيرك” عن الحرب العالمية الثانية، وفيلم الفضاء “إنترستيلار”، إمكانات ضخمة لفيلمه، ويعتمد التصوير بأنماط جديدة من بينها “آي ماكس” بالأبيض والأسود، سعياً إلى عمل ضخم بصرياً يستقطب الجمهور بكثافة.
ويؤدي دور البطولة الايرلندي كيليان مورفي الذي اشتهر في مسلسل “بيكي بلايندرز” ويشارك باستمرار في أفلام نولان. وتجسّد إميلي بلانت دور زوجته كيتي، فيما يتولى مات دايمون دور الجنرال المسؤول عن الإشراف على تصنيع القنبلة ليسلي غروفز، وروبرت داوني جونيور دور السياسي لويس ستراوس الذي عجّل في سقوط عالِم الفيزياء.
ويتمحور الفيلم على ملحمة سباق الذرة العلمية في القاعدة السرية في لوس ألاموس (ولاية نيو مكسيكو)، حيث انكبّ علماء وعسكريون أعضاء في “مشروع مانهاتن” في خضمّ الحرب العالمية الثانية على الانتهاء من القنبلة قبل النازيين.
ومن أبرز لحظات الفيلم تلك المتعلقة بالاختبار الأول للقنبلة الذي أطلقت عليه تسمية “ترينيتي”. وصوّر مشهد مطابق لهذا الاختبار في صحراء نيو مكسيكو من دون الاستعانة بأية مؤثرات رقمية، بل بمؤثرات خاصة على الطريقة القديمة، وهو أمر درج عليه كريستوفر نولان ويشكّل إحدى علاماته الفارقة.
وقال كريستوفر نولان لوكالة فرانس برس خلال مقابلة في باريس أن المشاهد التي يتم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر “يصعب أن تُحدِث شعوراً بالخوف”، وهو ما دفع المخرج إلى أن يضع فريقه أمام تحدّي إنتاج المناخ المطلوب “بواسطة العالم الحقيقي، التناظري”. وأضاف المخرج البالغ 52 عاماً “ما كنا نحتاج إليه هو محاولة إعطاء جمهورنا فكرة عما كان الوضع ليبدو عليه” لمن شهد الانفجار النووي الأول.
ودور “أوبنهايمر” غنيّ وشديد التعقيد إذ أن الفيلم المقتبس من كتاب لكاي بيرد ومارتن ج.شيروين عن سيرة الفيزيائي بعنوان “انتصار روبرت أوبنهايمر ومأساته” (The Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer)، يسعى إلى استكشاف ما واجهه هذا الرجل الذي بقي الغموض يلفّ حياته، من معضلات، وما عاشه من تناقضات .. انتهى الاقتباس.
وهكذا ترون ان “أوبنهايمر” الفيلم يُعدُّ إنجازاً فنياً ضخماً يضاف لسجل نولان، ولا شك انه يحقّق عوائد فلكيّة ويحوز العديد من ألجوائز – لكن يعوزه الكثير الكثير على المستوى الفكري والجدلي ..
فهل يٓخرج فيلمٌ بضخامة إنتاجه (أكثر من 100 مليون دولار)، ومفصلية محتواه عما تجيزه مكاتب ارتباط صناعة الترفيه المشار اليها اعلاه!؟ وهل تغطي روعة التقنيات، وجمالية الصورة، وملحمية الفيلم على تجاهل الضحايا وتناسي الدوافع ليجرنا الخيال السينمائي في نزهة ساذجة في حديقة التاريخ!؟ افلا يستدعي هذا التلاعب بالتاريخ والاحتفاء بالقتلة نهج مخرجين اخرين أمثال روبرتو روسوليني (أخرج بين 1941 و1943 ثلاثية في تمجيد الفاشية الإيطالية)، كاثرين بيغلو (المتخصصة في إنتاج أفلام تمجّد بطولات الجيش الأميركيّ)، ال جانب ليني ريفنستال (مجدت النازية الألمانية في فيلمها «انتصار الإرادة»/ 1935)!؟
الم يكن أوبنهايمر شريكاً في العمل على اقتراف جرائم الإبادة الشاملة التي تعرضت لها مدينتا هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في آب (أغسطس) 1945!؟ الم يُسهم في التأسيس لنهج استخدام الولايات المتحدة أسلحة الدّمار الشامل كأداة لفرض هيمنتها العسكرية والاقتصاديّة والثقافيّة على العالم (قبل أن يتمكن الاتحاد السوفياتي من بناء قنبلته النووية كأداة ردع بعد أربع سنوات)!؟ .. ثم الم يتكلف دافع الضرائب الأميركي 2.2 مليار دولار (في ذلك الزمن) بالاضافة لجهود 130 ألفاً من المستخدمين!؟ ومرة اخرى، ماذا عن التغاضي الكارثي (ربما المكارثي) عندما يتعلق الامر بالرعب والارتياع الذي خلقته وخلّفته القنابل الأميركية حيث تم القتل الفوري لربع مليون شخص غالبيتهم الساحقة من المدنيين، إلى جانب 400 ألف آخرين تعرضوا للإشعاعات المسرطنة مقابل تعظيم شخص أوبنهايمر النرجسي المنفصم، ومعه تعظيم آلة الحرب الأميركيّة وإضفاء جمالية على السلاح النووي.!؟ وهل تم تقزيم مساهمة البريطانيين في إنجاز أول تفجير نووي لمصلحة نفخ مساهمة أوبنهايمر والافتتان الأميركي بأسلحة الدمار الشامل!؟ وهل نجحوا في الاحتفاء المبتذل بالقتلة، وبالاعيب العمليّة السياسيّة، وبانتاج أدوات الإبادة، والقرار بالإبادة، وبالشخص الذي مكّن لتلك الإبادة فتتحول حملة واشنطن الآثمة لتسخير القوة التدميرية للتفجير النووي إلى رواية بطولية بنفس هوليوودي في السباق ضد الزمن، وتحدي كل الصعاب!؟
اما مشروع مانهاتن الفعلي فقد تأسس عام 1942 أثناء الحرب العالميّة الثانية بهدف معلن هو التصدي للسلاح النازي النووي الأمر الذي لم يتحقق لتسقط برلين نفسها في أيار (مايو) 1945 .. اما المشروع النووي الياباني فكان جنيناً غير ذي خطر .. الا ان الجنرال ليزلي غروفز طلب الاستمرار حتى تنفيذ أول اختبار لتفجير نووي أطلق عليه اسم «ترينيتي» في 16 تموز (يوليو) 1945 .. وأُعلن عن توافر السلاح النووي كأمر واقع في مؤتمر الحلفاء بحضور الاتحاد السوفياتي .. ورغم توجّه اليابان نحو الاستسلام بالفعل (وفق رسائل متعددة تبادلها القادة اليابانيون اعترضتها وفكت شيفرتها المخابرات الأميركيّة حيث أظهرت قناعتهم بأنهم قد خسروا الحرب وعزمهم السعي للحصول على شروط تسليم مقبولة)، الا ان أوبنهايمر (المدير العلميّ للمشروع) أصرّ على استمرار العمل تحضيراً لحسم الحرب مع اليابان نزولاً عند الرغبة العسكريّة التي هيأت له ان التفجيرات النووية وحدها ستدفع الإمبراطور هيروهيتو للاستسلام، وتُجنيب الجميع غزواً أميركيا لليابان قد ينقذ أرواح الملايين من الطرفين .. اما ما استفز الأميركيين واقلقهم حينها (15 آب) فتهديد الجيش الأحمر السوفياتي لليابان بإعلان الحرب إذا لم يوافق الإمبراطور على الاستسلام حيث كانت القوات السّوفياتية علو قاب قوس واحد او أدنى من اقتحام الجزر اليابانية بعد تّقدمها السريع في منشوريا (الصين) ومنغوليا، بينما لم تكن لدى الأميركيين قوات بريّة كافية لتسبق السوفييت في اجتياح اليابان. ولذلك قررت إدارة الرئيس ترومان تلقين موسكو درساً في الدمار الذي يمكن أن يحدثه السلاح الأميركي المحدث فتم استخدام القنابل النووية لفرض استسلام ياباني عاجل للقوات الأميركية على نحو يمنع تحوّل ذلك البلد إلى منطقة نفوذ سوفييتية! وزد على ذلك ان سبب رمي القنبلة الذريّة الثانية بعد هيروشيما كان تجريبيّاً محضاً لدراسة وقع التدمير بالمقارنة بين القنبلة المصنّعة عبر نظائر اليورانيوم والقنبلة المصنعة عبر نظائر البلوتونيوم.
وهكذا يتبين غياب التبربر المنطقي العسكري (لتسود البربرية) عن الجريمة الأميركية التي تم اقترافها يومي 6 و9 آب 1945 استكمالاً لمذابح سابقة عبر قصف الأحياء المدنية في طوكيو وسقوط ما لا يقل عن مئة ألف، كما مسحت القنابل الحارقة مدينة توباما كليّاً، ودمرت مدينة دريسدن في ألمانيا ليسقط 25 ألف من سكانها بدون أيّ داع عسكري أو استراتيجي (فقط لاستعراض القدرات البربرية الأميركية على التدمير). وبعد، فهذه حقائق تاريخية موثّقة (مذكرات الجنرال دوايت أيزنهاور، مثلاً) لا تُجدي معها الأكاذيب الهائلة او التقليل من عدد ضحايا هيروشيما وناغازاكي وقصرها على 100 ألف نسمة فقط. اما المخرج فلم يأبه لذلك كله (كما لَمْ ولن تكترث هوليوود بتكريس فيلمٍ لضحايا هيروشيما وناكازاكي، فهذا يخدش صورة الإمبراطورية “المحتدة”)، وهدر ثلاث ساعات في المراوحة بين المراحل الزمنية، وبين الألوان (الذاتي) والأسود/أبيض (الموضوعي)،الى جانب الأصوات المتكرّرة لوقع الأقدام وهي تضرب في الأرض وكأنها خبطات أقدام جنود النازيّة (أراد المخرج أن نرى عمليّة صنع ورمي القنابل الذريّة الأميركيّة من منظور الخطر النازي الداهم بعيداً عن القرار الأميركي المتفلّت من القوانين والاخلاق)، ولم يبخل المخرج في استدعاء نساء أوبنهايمر والعشيقات مع مشاهد عري وجنس استعراضي أحياناً، ولا لزوم لها إطلاقاً! لم يُظهر الفيلم مشهداً واحداً للضحايا في اليابان، وصٓوّر الانفجار بشكل مُبهر – ألوان وغيْمة من النيران. لم يقبل المخرج بنأي أوبنهايمر نفسه عن اليهوديّة وأظهره كنموذج للإنسان الأميركي وهو يلقي وبحماس، ولكن بحزن أيضاً، قنابل ذريّة على الآمنين في اليابان .. الا يكفي ذلك كي تُبرّأ ساحته وضميره خاصةً وأنه استعار نصاً هندوسياً أمام الكاميرات في ما بعد، علٌه يبدو رومانسياً.
نعم لم ينشد المخرج – كما فعل “طرفة بن العبد”، بل “أغفِل حَمولَةَ مَعبَدِ”، وفشل في نقل الرعب الكارثي للقنابل الأميركية ليُجمع الفيلم على أن حيازة أميركا للسلاح النووي يشكِّل أمناً للبشريّة جمعاء .. فهل غدا إنتاج أسلحة الدمار الشامل من أصول العلم؟! وغاب عن نولان ان ذلك دفع عدداً من العلماء إلى مدّ الاتحاد السوفياتي بالمعلومات نتيجة الخوف من افتتان الحكومة الأميركيّة بهذه الأسلحة!
ثم ماذا عن “توماس هيل”، العالم الذي غادر أميركا إلى بريطانيا بعد الحرب؟! رفض المشاركة في حفلة الرقص المجنونة التي تلت التفجير، وقام بتسريب معلومات إلى الاتحاد السوفياتي لأنه خاف من وحدانية السيطرة الأميركيّة .. لم يندم على ذلك كما يبدو من فيلم وثائقي جديد تمحور حوله وحول زوجته الشيوعية، ولم يأتنا “أوبنهايمر” و”كريستوفر نولان” بهكذا اخبار!
وفي لحظة تتكون خارج معطيات الزمن واللغة والرسم والإشارة، رَأينا بنات “معبد” (شقيق طرفة) يُشقِّقن الجَيْوب على “ديانا” وقد رأٓيْنٓها تسلك طريق “الجدارية” لتعود فتقهر الموت بالموت وتنقش ذاتها في ذاكرة الزمن وتنتصر عليه، ويكتب الناس فوق القبر: لم تمُتْ!
* الياس فاخوري
كاتب عربي أردني
التعليقات مغلقة.