هوامش قمة مجموعة “بريكس” / الطاهر المُعز

الطاهر المُعز ( تونس ) – الثلاثاء 29/8/2023 م …

أصبحت مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) جاذبة بفعل التّطَرُّف الأمريكي المُتَمثّل في فَرْض حَظْرٍ و”عُقُوبات” تجارية واقتصادية ومالية على مجموعة من الدّول، بدأت بكوريا الشمالية وكوبا ثم توسّعت إلى إيران وفنزويلا والصين وروسيا وسوريا وغيرها، وعلى كل من يتعامل مع هذه الدّوَل بالدّولار أو يقوم بتحويلات مالية عبر مصارف أمريكية أو لها فُرُوع بالولايات المتحدة ومُستعمراتها، وأدّى هذا “التّطرّف” الأمريكي، خصوصًا منذ 2001، إلى “تَمَرُّد” بعض الأنظمة الواقعة تحت النّفُوذ الأمريكي، قد تقدمت نحو أربعين دولة بطلبات الإنتماء إلى مجموعة “بريكس”، ولذلك عَبَّرَ الرّئيس الصّيني “شي جين بينغ” عن غِبْطَتِهِ من خلال التّصريح، في اختتام القمة الخامسة عشرة لمجموعة “بريكس” يوم الرابع والعشرين من آب/أغسطس 2023 بعاصمة جنوب إفريقيا “جوهانسبرغ” “لقد تم  تحقيق جميع الأهداف التي حدّدتها الصّين… إنها لحظة تاريخية، وبداية جديدة للتعاون بين البلدان النامية””، إذْ توسّعت المجموعة، لأول مرة منذ سنة 2010 (سنة دُخُول جنوب إفريقيا)، بدخول أعضاء جدد، وخصوصًا الدّول المنتجة للنفط التي سوف تبيع النفط بعملات أخرى غير الدّولار، وبذلك يقع فكّ الإرتباط مع البترودولار، بإرساء أنظمة الدفع البديلة، في ظل الحصار التجاري الأمريكي للصين وروسيا وإيران، غير إن دخول الدّوَل العربية الثّلاث، مصر والسعودية والإمارات، سوف يزيد من اختلال التوازن الدّاخلي للمجموعة التي كانت تتكون من بلدان مُنتجة للسلع، في حين لا تُنتِجُ هذه الدّول العربية الثلاث سوى سلعًا خامة وبقي اقتصادها ريعيًّا، ويحق للرئيس الصيني الإبتهاج لأن الأعضاء الجدد (الأرجنتين ومصر والحبشة والسعودية والإمارات وإيران، بداية من الأول من كانون الثاني/يناير 2023 ) مُهِمّة للصين ولمشاريعها مثل “الحزام والطّريق” ولتوفير المحروقات ( رغم رفض عُضْوِيّة الجزائر لأنها لم تُحقّق إجماعًا، بسبب اعتراض الهند)، خصوصا بعد أن تمكّنت من الإشراف على المُصالحة بين النّظاميْن النّفْطِيَّيْن المُتخاصمَيْن (السعودية وإيران) وللتبادل بغيْر الدّولار، ومُهِمّة كذلك لروسيا، بدرجة ثانية، وهي مُنْتِج كبير للنفط الخام، وتحاول روسيا الإستفادة من توسيع شبكة التبادل بالعملات المَحَلِّيّة، أي بِغَيْر الدّولار، وكانت الصّين والهند قد وقّعتا عُقُودًا مع روسيا ومع الدّول النفطية لشراء المحروقات بالعُملات المحلية، وقد تكون تلك العُقُود بداية مرحلة جديدة قد تَضَعُ حدًّا، على مدى مُتوسّط، لهيمنة الدّولار الذي مَكّن الولايات المتحدة من فَرْضِ قوانينها وأنظمتها ومن عَسْكَرَةِ العلاقات الدّولية، لحماية مصالحها بالقُوّة، حتى أصبح “رُبُعُ الاقتصادِ العالميِّ خاضعاً للعقوبات والتهديد بإمكانية استخدام العقوبات ضد أي بلد في أي وقت، فأصبحت جميع البلدان النامية مُهَدَّدَة، وتبحث عن بدائل للدّولار ولمنظومة سويفت للتحويلات المالية”، وأكّدَ الرئيس الصّيني على ضرورة إيجاد سبل لتأمين الإستثمارات والمشاريع الإقتصادية المُشتركة والتبادل التّجاري، بعيدًا عن سيطرة الولايات المتحدة، وعن الدولار واليورو، واستعداد دول حلف شمال الأطلسي وحلفائها لاستخدام كل الوسائل من أجل استمرار هيمنتها العسكرية والمالية والإعلامية… وفق صحيفة “فايننشال تايمز” (24 آب/أغسطس 2023)، وكانت الصين قد استبقت الحَظْر الأمريكي بإنشاء مِنَصّةٍ للتبادل والمقاصّة، بهدف الإستغناء عن منظومة “سويفت” على مدى متوسّط، وارتفع حجم المعاملات عبر هذه المنَصّة، منذ فرض العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا، وبذلك تكون الصّين – بفضل قوة اقتصادها، وبفضل التخطيط المسبق، المُستفيد الأول من توسيع مَجال التجارة بغَيْر الدولار، لأن ذلك من شأنه زيادة حِصّة العُمْلَة الصِّينِيّة (اليُوَانْ) كعملة احتياطية دولية إلى جانب الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري، وعلى سبيل المثال، سددت الأرجنتين (العضو الجديد في مجموعة بريكس)، لصندوق النّقد الدّولي، خلال شهر تموز/يوليو 2023، قسطاً باليُوَانْ بقيمة 2،7 مليار دولار من قرض كانت الحكومة السابقة قد حصلت عليه كجزء من خطة الإنقاذ الضخمة، بقيمة 57 مليار دولارا.




فَرَضت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا منذ انهيار المُنافس السوفييتي، سنة 1991، نظامًا ظالمًا، مَكّنها من تنظيم الإنقلابات والعدوانات العديدة في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا، والتجسّس على المنافسين وحتى على الحُلَفاء، ومحاولة إخماد أي نفس تحرّري وطَمْس الخلافات واستنكار المطالب المشروعة للدول وللشعوب، بما فيها فئات عريضة من الشعب الأمريكي، وأفْرَطَتْ في استخدام القُوّة العسكرية والمالية، وحَوّلت المنافسين والخُصُوم إلى أعداء، ولذلك أصبحت سمعة الولايات المتحدة سيئة، ومرتبطة بالدّكتاتوريات العسكرية في جميع أنحاء العالم، ما يُفَسِّرُ نجاح الصّين (النِّسْبِي) في استقطاب دول من مختلف القارات، عبر ترويج شعارات مثل “من أجل عالم متعدد الأقطاب” كبديل عن القطب الواحد الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة، وإن كان مشروع الصّين رأسماليا واستغلاليا، ولكنه يدعو إلى التعاون التجاري والإقتصادي بين بلدان يختلف نظامها الإقتصادي والسياسي، وهو أمر يبدو إيجابيا للوهلة الأولى لكنه يحمل مخاطر الإنفجار التي واجهتها حركة عدم الانحياز أو مجموعة السّبع والسّبعين أو مجموعة الخمسة عشر…

إن التطور الطبيعي للإقتصاد الرأسمالي يُؤدِّي إلى مرحلة الإحتكار وسيطرة رأس المال المالي والتّوسع في الأسواق الدّولية، وهي من خصائص الإمبريالية، ولا يُتَوقّع أن تحيد الصين عن هذا المَسار، وإن كانت تسير بحذر وبخطى بطيئة، وعلى سبيل المثال دعمت الصين عضوية الحبشة ومصر، وهما دولتان مُثقَلتان بالدّيون، فضلاً عن دخول إيران والسعودية والإمارات، وجميعها واقعة على مسار “الحزام والطريق”، ومن نفس المنطقة المُحيطة بالقرن الإفريقي والبحر الأحمر والقرن وقناة السويس وبالخليج الذي يُطل على المحيط الهندي، الذي تعمل الولايات المتحدة على استخدامه (مع المحيط الهادئ) لِخَنْق تجارة الصّين البحرية، وبذلك تُهَيِّئ الصين سُبُل مقاومة محاولات الحصار الأمريكية.  

تحاول الصين أن تُبعِدَ عنها شُبهة الدولة المهيمنة الجديدة، وأن تظهر في صورة الدّولة التي تَسْعَى إلى بناء نظام للتعاون والمنفعة أو المساعدة المتبادلة التي يستفيد منها جميع الشُّرَكاء، وعلى أي حال تُؤدِّي مجمل هذه الخطوات التي بادرت بها الصين ودول مجموعة بريكس إلى تخفيف أَثَر “سلاح العقوبات” الذي تُشهِره الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد أي نظام تعتبره مُعاد لها، أو أي حكومة لا تخضع للتعليمات الأمريكية…

يُمكن لمجموعة بريكس أن تُصبح قوة اقتصادية لو كانت لها خطّة أو أهدافًا مُشتركة، أو بعض التّجانس السياسي أو العقائدي، حيث تُشكّل حصّة مجموعة الدّول السّبع الأغنى عالميا بنحو 32% من إجمالي الناتج العالمي، بينما يُقدَّر النتاج الإجمالي لدول مجموعة بريكس، بعد التحاق الأعضاء السّتّة الجُدُد بمحو 36,6% من الناتج العالمي، ويتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي لأعضاء مجموعة بريكس نظيره لدول مجموعة السبع (أقوى 7 دول)، وقد يكون حجم القوة الإقتصادية الإجمالية أحَد عوامل ترجيح كفة موازين القوى، رغم القوة العسكرية الأمريكية، والأطلسية، الضخمة ورغم هيمنة “الحِلْف الأمريكي” على المُؤسّسات المالية الدّولية، وقَد يُشكّل تعزيز مجموعة “بريكس” بأعضاء جُدُد، خطوةً نحو بناء “عالم متعدد الأقطاب” (غير واضح المعالم، لحد الآن)، ونحو تغيير قواعد العلاقات بين الدّول، وكانت روسيا قد أعربت عن “مساعدة الدّول الإفريقية الفقيرة، من خلال إرسال كميات من القمح مجانًا، وإنشاء اعتمادات من دون أسعار فائدة للدول التي تواجه صعوبات، على عكس ما يمارسه البنك العالمي”، وفق كلمة الرئيس الرُّوسي فلاديمير بوتين المُسجّلة على شريط فيديو، خصِّيصًا لقمة دول مجموعة بريكس، والمُترجمة إلى عدّة لُغات، منها العربية…

تهدف مجموعة بريكس “الإنتقال نحو عالم متعدد الأقطاب” أو نحو “نظام اقتصادي دولي جديد متعدد الأطراف” من شأنه أن يضع حدا، على المدى الطويل، لهيمنة الولايات المتحدة والدولار الأمريكي على المعاملات الدولية، وذلك من خلال إنشاء عملة مشتركة مستقبلية لتسهيل التجارة بين الدول الأعضاء، وهو برنامج فضفاض وغير واضح الملامح والأهداف، ولا يشترط القَطْع مع الأحْلاف التي أنشأتها الولايات المتحدة، وقد تكون هذه الضّبابية واحدة من أسباب اجتذاب الدول “النامية” أو تلك التي تسعى إلى قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي، ولذلك أعلنت العديد من الدّوَل (والعديد منها محكومة بعُملاء الإمبريالية الأمريكية) اعتزامها الإنتساب لمجموعة بريكس،  من بينها الجزائر التي نشطت سابقًا في النضال من أجل نظام اقتصادي دولي جديد جسّده خطاب الرئيس هواري بومدين في نيسان/أبريل 1974، وكان أول خطاب باللغة العربية في الأمم المتحدة، لكن تَغَيَّرَ المشهد الدولي منذ ذلك الحين، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واندثَرَ المحتوى النضالي المُناهض للإمبريالية الذي كان يحتويه مفهوم “العالم الثالث” أو حركة عدم الانحياز، لِيُفْسِحَ المجال لعبارة “الجنوب العالمي” أو “الدّول النامية”، كما كانت الجزائر أحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة الـ 15، في بلغراد (عاصمة يوغوسلافيا السابقة) سنة 1989، إلى جانب البرازيل والمكسيك والهند وفنزويلا ودول أخرى، وكان هذا التجمع يَهْدِفُ إنشاءَ قوةٍ يُمْكِنُها موازنة مجموعة السبع، لكن اندثرت مجموعة الـ 15 خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

أنشأت مجموعة بريكس مصرف التنمية الجديد (NBD) ومقره شنغهاي، كأداة مالية في خدمة “العالم الجديد متعدد الأقطاب”، ورحّبَ هذا المصرف الذي يطمح مُؤَسِّسُوه أن يكون بديلاً للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، بضَمِّ الإمارات خلال خريف سنة 2021 ومصر سنة 2023.

لقد فشلت المحاولات السّابقة لإصلاح النظام الدولي لأنها تهدف إلى إصلاح النظام الرأسمالي من الداخل، بنفس قواعد الرأسمالية، كما تقتصر طموحات أعضاء مجموعة بريكس على إيجاد مكان لها في منظومة العولمة الرأسمالية وليس تغييرها أو خلق بديل لها أو إطلاق عملية “فك الارتباط” مع النظام الرأسمالي الدولار، وتحمل مجموعة بريكس تناقضات في داخلها، فهي لا تشكل كتلة متجانسة أو ذات قواسم مُشتركة أو قاعدة مُشْتَرَكة صَلْبَة، باستثناء محاولة تجاوز النظام الدولي الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة منذ قرابة ثمانية عقود، بل توجد خلافات عميقة وتاريخية بين بعض الأعضاء المُؤَسِّسِين، مقل الصّين والهند، أو بين المُلْتَحِقين الجُدُد مثل مصر والحَبَشَة، بشأن حصص مياه نهر النّيل، ويُقَوّض دخول دول تحكمها أنظمة سياسية عميلة للولايات المتحدة كمصر ودُوَيْلات الخليج، جِدّيّة ونجاعة ومصداقية مجموعة بريكس التي لم تُبْدِ اهتمامًا (لحدّ الآن) بمسائل التطور والتبادل غير المتكافِئَيْن…

إن الأهم من ذلك كله هو إقرار مخططات تنموية إنتاجية، تُغَيِّرُ حياة الشّعوب والفئات المُستَغَلّة والمُضْطَهَدَة نحو الأَفْضَل، ولم تُبْدِ بيانات مجموعة بريكس أي اهتمام بالتنمية وبالإستثمار في القطاعات المُنتجة ( الفلاحة والصّناعة وتحويل المواد الخام إلى مواد مُصنّعة) وفي البحث العلمي والتعليم والصّحة والتكنولوجيا، ولا اهتمام بالقضاء على الفقر (والفَقْر وَلِيد التفاوت الطّبَقِي) أو بتحسين ظروف عيش الشُّعُوب والكادحين الذين يُنتجون الثروة التي يحتكرها غيرهم…

وردت معظم البيانات في برقية لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) وتحليلَيْن لوكالة “بلومبرغ” ووكالة “رويترز” وتعليق بصحيفة “فاينانشال تايمز” 24 و 25 آب/أغسطس 2023

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.