ناجي العلي.. تفاصيل تروى لأول مرة عن حياته ونضاله واغتياله مع صديقه عبد الملك سكرية
الأردن العربي – الثلاثاء 29/8/2023 م …
في ذكرى اغتياله الـسادسة والثلاثين، أجرى الميادين نت مقابلة مصوّرة مع عبد الملك سكرية، صديق ناجي العلي، والذي كان من أبرز المقربين منه خلال إقامته في لندن، وعايش عن قرب تفاصيل مرتبطة بحياته ونضاله وأفكاره وشخصيته، حتى اغتياله ودفنه، يتحدث عنها لأول مرة.
يعدّ ناجي العلي، رسام الكاريكاتور الشهير، شخصية فلسطينية وعربية مثيرة للاهتمام ويصعب تجاوزها، لأنها تركت بصمة خاصة في مسيرة النضال الفلسطيني التحرري ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواءٌ في حياته من خلال نضاله وفكره الثوري، وبعد استشهاده، من خلال إرثه الذي استمرّ ملهماً لقسم كبير من الشباب العربي.
وقد تلقّى ناجي رصاصات غادرة، في 22 تموز/يوليو 1987، خلال وجوده في بريطانيا، أدّت إلى دخوله في غيبوبة استمرت نحو شهر قبل إعلان نبأ وفاته في 29 آب/أغسطس من العام ذاته، الذي صدم الجمهور الفلسطيني والعالم العربي ومتابعيه الذين كان لهم امتداد على مستوى العالم.
وفي ذكرى اغتياله الـسادسة والثلاثين، أجرى الميادين نت مقابلة مصوّرة مع عبد الملك سكرية، صديق ناجي العلي وأحد الناشطين الفاعلين في حركات دعم الشعب والمقاومة الفلسطينية منذ عقود، والذي كان من أبرز المقرّبين من العلي خلال إقامته في لندن، وعايش عن قرب تفاصيل مرتبطة بحياته ونضاله واغتياله، يتحدّث عنها لأول مرة.
في ما يلي نص لمقاطع مختارة من المقابلة مع سكرية، وللعودة إلى المقابلة كاملة يمكن مشاهدة مقاطع الفيديو.
بداية العلاقة مع ناجي العلي وأبرز المحطات المشتركة حتى شهادته
تعرّفت إلى ناجي العلي في عام 1983 في جريدة السفير حيث كان يعمل، وكان ذلك خلال فترة قصيرة قبل تركه لبنان نتيجة ظروف أمنية خلال فترة حكم أمين الجميل وبعد رسائل تهديد عديدة، فاضطر إلى ترك بيروت التي كان يعشقها وهو في أوج عطائه، وذهب إلى الكويت والتحق بجريدة القبس.
كنا نبدأ قراءة جريدة السفير من الصفحة الأخيرة، لنطلع على رسمة ناجي اليومية، ثم نكمل الجريدة من الصفحة الأولى. وعندما التقينا في لقاء مؤثر وعاطفي جداً، شعرنا أننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل، وأهداني يومها كتابه الذي صدر حديثاً، مع إمضائه الشهير “الأشجار تموت واقفة”.
والتقينا مرات معدودة قبل أن ينتقل إلى الكويت، لكنّ مصداقيته وثوريته وتمسّكه بالنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي مهما كان الثمن، سبّبت له مشاكل كبرى مع العديد من الجهات، وتبعته المشاكل إلى الكويت وبقيت التهديدات ضده تزداد بشكل كبير.
وكان يميّز العلي وضوح الرؤية لديه وبصيرته النافذة، فهو كان ذكياً جداً ومبدعاً، بل عبقرياً، مع العلم أنه لم يكمل تعليمه الثانوي حتى، بل ذهب إلى المدرسة المهنية في عمر مبكر لتعلّم الميكانيك، ثم تعلّم الرسم بشكل بسيط، وطوّر قدراته مع الوقت ونمت موهبته على جدران مخيم عين الحلوة وثم على صفحات الجرائد.
جريدة القبس كان لديها مكتب في لندن، واقترحت عليه الابتعاد عن المضايقات والتهديدات والانتقال للعمل في مكتبها في لندن، ومعه عائلته.
عودة اللقاءات في لندن
مطلع عام 1987 سافرت إلى لندن لمتابعة دراستي العليا، وكنت على علم أن ناجي أصبح هناك، وفور وصولي طلبت جريدة القبس وأخذت منها رقم الهاتف الخاص بالجريدة، واتصلت بالجريدة وأجاب أحدهم على الهاتف، فقلت له أريد التكلم مع ناجي العلي، فسألني “من يريده”، فأجبته: عبد الملك سكرية، وكان الجواب بصوت صادق وصادح “أهلاااً”، وسرّ جداً بقدومي إلى لندن، وطلب عنواني ليمرّ ونلتقي، وصرنا نجتمع في منزل ناجي في السهرات بشكل شبه يومي.
وفي يوم 22 تموز/يوليو 1987، وهو اليوم المشؤوم الذي اغتيل فيه ناجي، تلقّينا النبأ بغضب شديد واستثنائي، وكان وقع الخبر عليّ شخصياً قاسياً جداً جداً.
وقد استمرت زياراتي إلى المستشفى طوال فترة غيبوبته، وبالطبع لم نكن قادرين على الدخول إلى غرفة العناية، ولكننا كنا نلتقي عائلته والأصدقاء، حتى آخر يوم، عندما خرج الطبيب وقال لنا إذا كان بإمكان أحدهم الدخول للتكلم مع ناجي باللغة العربية، لعل ذلك يؤدي إلى رد فعل من قبل ناجي يبني عليه الطبيب.
كانت قناعتي أن الطبيب لم يكن يريد إخبارنا بأن ناجي توفي، فلم أدخل. كان معنا صديقنا المشترك الشاعر أحمد مطر، الذي دخل إلى الغرفة، وخاطب ناجي بكلام مؤثر وعاطفي، ولكن ناجي لم يستجب لأي كلام، لأنه كان بالفعل فارق الحياة، في 29 آب/أغسطس 1987.
’’اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت.‘‘ – ناجي العلي
كيف أثّرت عمليات المقاومة في جنوب لبنان على ناجي العلي؟
استشهد ناجي قبيل انطلاق انتفاضة الحجارة بفترة بسيطة، ولكنه كان من المتنبّئين بشكل متكرر باندلاع هذه الانتفاضة، وكان يركّز في العديد من رسوماته على الطفل الفلسطيني الذي يحمل حجراً ويواجه المحتل الإسرائيلي.
وفي ذلك الوقت، بدأت كذلك عمليات المقاومة المتصاعدة ضد الاحتلال في جنوب لبنان تفرض نفسها على الرأي العام العالمي، وكان ناجي العلي يتابع بشكل منبهر أخبار وتفاصيل هذه العلميات، وكانت العلميات نوعية بمعظمها وكان عدد من الجنود الصهاينة يقتل في كل عملية.
وقد كانت هذه العمليات بمثابة الدواء لناجي، وكان يتابع تفاصيلها بدقة ويراهن عليها، وأتذكّر في إحدى العمليات النوعية التي قتل فيها عدد من الجنود المحتلين، كنا في سهرة بعدها عنده، وعبّر ناجي بوضوح عن رأيه بأنّ هذه العمليات هي مستقبل النضال، وهي التي تعطي الأمل بهزيمة الاحتلال والعودة إلى فلسطين، وأنّ لغة العمليات العسكرية ضد الاحتلال بهذه الطريقة وهذا الزخم يجب نقلها إلى الداخل الفلسطيني بشكل فعال.
ولا سيما أن ذلك جاء بعد خروج منظمة التحرير من بيروت ولبنان، والذي أدّى إلى شعور باليأس والتيه عند معظم الشعب الفلسطيني، وناجي كان متأسفاً جداً وغاضباً من خسارة المقاومة الفلسطينية لساحة لبنان ومميزاتها، ولا سيما قربها من فلسطين جغرافياً.
انتقاداته لم تتعارض مع التزامه بالمقاومة
وكل ذلك على الرغم من انتقاد ناجي للعديد من المشاكل التي شابت عمل المقاومة الفلسطينية في لبنان، ولا سيما الثراء الفاحش الذي بدا على بعض القيادات والمتنفّذين، والذي اعتبره ناجي خيانة للمقاومة وأن ذلك يمهّد لهزيمة أسوأ من هزيمة 1967.
وقد تجلت عبقرية ناجي في تجريد هؤلاء، ومن خلفهم بعض الأنظمة العربية التي تساوم على فلسطين، عبر رسوماته، من مصداقيتهم وقدسيتهم عند الجماهير. كانت هذه الرسومات تساوي عند الجماهير قراءة كتب عن القضية، لأنها كانت واضحة ومباشرة وحادة، لا توارب ولا تساوم على الحقيقة.
ولذلك، كان الجميع يتابعه، ولا سيما أعداؤه وخصومه ومن ينتقدهم، وحتى إعلام الأنظمة العربية، كانوا يخشون من ريشته ورسوماته، وكانوا يعلمون أن فيها تهديداً لصورتهم ومكانتهم لدى الرأي العام. ولم يكن أحد من هؤلاء يتجرأ على محاولة رشوة ناجي أو شراء صمته، لأنه كان يعلم أن الرد سيكون في الجريدة في اليوم التالي، وأن ناجي قادر على إرساله إلى مزبلة التاريخ، لأن آخر همه كان المال والثروة.
’’الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة.‘‘ – ناجي العلي
الشهادة ومكان الدفن.. لماذا لندن؟
بعد الوفاة طرح سؤال أين يدفن ناجي، وكان الرأي الغالب أن يدفن في عين الحلوة، وأنا كنت الوحيد الذي اقترحت لندن، لأسباب عديدة. فالأجواء في عين الحلوة لم تكن آمنة، كما أنّ العائلة لم تكن تمتلك تكاليف نقل جثمان ناجي إلى لبنان، وانتقال كلّ العائلة إلى هناك.
وإضافة إلى تكاليف الدفن، لم تكن العائلة قادرة على السفر لزيارة قبره بشكل متكرر سنوياً، كما أنّ عين الحلوة ليست فلسطين، ويوجد مقبرة للمسلمين في لندن، وهي قريبة من عائلته التي بإمكانها زيارة قبره متى شاءت. فدفناه في مقبرة بعد الصلاة عليه في مسجد ريجن بارك في لندن، وقبره هو الوحيد الذي ليس عليه شاهد قبر يحمل اسماً، بل علم لفلسطين.
الشباب الفلسطيني والعربي حمل إرث ناجي
ما زال الشباب حتى اليوم متأثراً بإرث ناجي العلي، وما زلت أدعى دورياً إلى نشاطات ومعارض فنية لشباب وطلاب جامعات، تتمحور حول رسومات ناجي وأفكاره وتجربته النضالية الفنية. وبعد وفاته، تسلّط الضوء أكثر على أعماله وإرثه، وقد يندر أن تجد أحداً من أبناء جيل الثمانينيات والتسعينيات لا يعرف ناجي ورسوماته وشخصياته حنظلة وفاطمة، أو صورة الزعيم المنتفخ والجندي ذي الأنف الطويل.
رسالة إلى ناجي
أقول لناجي في الختام، اطمئن يا ناجي، فلسطين اليوم أقرب من أي وقت مضى، وهذا الكيان اليوم أضعف من أي وقت مضى، والعودة اليوم أقرب من أي وقت مضى، وما ناضلت من أجله وقدّمت حياتك في طريقه، لن تذهب دماؤك فيه هدراً، ورفاتك ستنقل من لندن إلى قرية الشجرة وستدفن هناك. اطمئن يا ناجي. وناجي سيكون سعيداً جداً جداً لأن هذا كان حلمه الوحيد في حياته، أن تعود فلسطين من البحر إلى النهر، وأن يعود ويدفن في مسقط رأسه بلدة الشجرة قرب مدينة الناصرة.
’’أنا منحاز لمن هم «تحت».‘‘ – ناجي العلي
التعليقات مغلقة.